الفصل العشرون20
بقلم امينه محمد
العد التنازلي»
الحياةُ ليستْ كما نرجو ونشتهي
لكنّها دَرْبُ أحلامٍ بلا أملِ
تمضي بثقلٍ كأثقالٍ معذّبةٍ
تهوي على الصّدر كالأسقامِ والعللِ
تغدو علينا كأنّ الحزنَ يُثقلها
تعبًا يدقُّ عظامَ الروحِ في عجلِ
كم من قلوبٍ على أشواكِها مُلقتْ
كأنّها زهراتٌ ماتَ من خجلِ
تسري بنا في دروبٍ لا ضياء بها
إلا ومضٌ غريبٌ شاحبُ الطّللِ
نسعى فنحملُ آمالًا مُثقّلةً
لكنّها كغمامِ الوهمِ في الوحلِ
نفنى، ونحسبُ أنّا قد ملكْنا غدًا
والموتُ أقربُ من مرمى يد الأملِ
يا من تعاني ثِقَلَ الدهرِ في كَبِدٍ
اعلمْ بأنّك لستَ الوحيدَ في العللِ
فتلك دنيا أبت أن تستقر لنا
كأنها قد خُلِقَت للصدِّ والزّللِ
عاد «زين» إلى المنزل بخطواته المتثاقلة، كأنما يحمل على كاهله جبالًا من الهواجس التي أثقلته، كانت عيناه غارقتين في بحر من الصمت القاسي، ذاك الصمت الذي يشبه الغيوم السوداء قبل أن تنهمر بالأمطار.
شق طريقه إلى غرفته، كمن يبحث عن ملاذ من دوامة تدور بداخله، يحاول أن يغسل عن جسده آثار يومه المرهق، لكن عبثًا يحاول غسل أفكاره التي التصقت بذاكرته كظلٍ ثقيلٍ لا يفارقه.
وقف أمام المرآة بعد حمامه، قطرت الماء تتساقط ببطء من خصلات شعره إلى حافة وجهه، نظر إلى انعكاسه، إلى ذلك الوجه الذي لطالما كان يرى فيه ظل والده؛ عينين واثقتين، وجبهة متماسكة تُشبهه تمامًا، لكن اليوم… بدا له انعكاسه وكأنه شخص غريب، وجهٌ غابت عنه ملامحه الحقيقية وأصبح يرى نفسه يشبه شخصًا آخر..
أخذ يتفحص الخطوط التي كانت سابقًا مجرد تشابه، لكنها الآن باتت أشبه بخطوط مرسومة بلا معنى، شبح ماضٍ يفتقد الحياة.
حاول البحث في عينيه عن بقايا من ذكريات أبيه، عن تلك القوة التي كان يستمدها منه، لكنه وجد غموضًا لم يعهده؛ كما لو أن المرآة تعكس وجهًا آخر، لشخصٍ لم يلتقِ به من قبل...
لم تعد تلك التفاصيل جزءًا من عائلة اعتبرها عائلته، العائلة التي وهبته كل معاني الانتماء، لم يستطع أن يطرد صوت أمه التي كانت تحتضنه في ليالي خوفه، أو ينسى دفء يد والده الذي كان يسنده في كل خطوة، أو حتى ابتسامة أخته التي كانت كنزًا لأسراره.
وفيما هو غارق في تأملاته، أتت أمه واقفة أمامه، بنظرة قلقة، قطعت عليه سلسلة أفكاره العاصفة.
قالت بصوت خافت يحمل قلقًا عميقًا:
_كنت فين طول الليل ومبتردش ليه، أنت كويس؟
لم يستطع زين أن يجيب، وقف جامدًا، محاولًا كبح مشاعره، كأنما الكلمات تآمرت مع قلبه على عدم الخروج، عيناه تجولتا في وجهها، تلك العينين اللتين طالما نظر فيهما بحثًا عن الأمان، لكنه الآن يشعر وكأنه غريب عنها.
_أنا كويس ياحبيبتي، كنت في مشوار كدا وماشي تاني دلوقتي
كانت أناملها الرقيقة تلامس وجنته بحنان كأنها نسيم بارد يربّت على روح عطشى، وذلك الشعور الأثيري الذي يتسلل إليها كلما اقتربت منه، استسلمت يدها لملامح وجهه، وبدفء لا يملّه قلبها، نبست بصوتٍ كاد يفتت طبقات الجمود حوله:
_لا أنت مش كويس يا«زين» أنت بتخبي عليا ولا إيه، مالك ياحبيبي احكيلي؟
أغمض عينيه وكأنما يعانق لحظة هاربة، يسكنها بضع ثوانٍ وكأن في لمساتهما الشافية طوق النجاة، تجمّدت كلماته على شفتيه، وقلبه كاد يتمرد على صدره؛ تلك الأوجاع القاسية التي صادفته الآن كسهام مسمومة، ومع ذلك، تماسك بنبرةٍ حملت مزيجًا من الصبر والوداع:
_أنا كويس يا ماما، متقلقيش، همشي دلوقتي عشان عندي شغل.. ادعيلي بس كتير
أومأت برأسها وهي تخفي خلف ابتسامتها الوادعة شلالًا من قلقٍ لا ينضب، تعلم، بحدسها الذي لم يخذلها أبدًا، أن وراء "بخير" هذا بحور من التعب، لكنه أبى إلا أن يبتعد محمّلًا بما يُثقل روحه
وما إن خرج من بابها، حتى كانت وجهته ثابتة نحو الفندق، حيث دفن نفسه بين أوراق العمل المتراكمة، باحثًا عن لحظات يتوارى فيها خلف جدية المهام، لكنه وسط تيار فوضوي من أفكاره قرر المغادرة نحوها ليرمي همومه رفقة همومها فقادته خطواته إلى المستشفى.
اقترب من جناحها وذهنه مفعم بالتساؤلات، حتى قطع عليه شروده الممرضة بصوتٍ هادئ، يحمل في طياته غيمة من صدمة قادمة:
_استاذ «زين».. الآنسة «ماسة» مشيت من المستشفى الصبح..
توسّعت حدقتاه في لحظةٍ انفجرت فيها الصدمة كبركانٍ خامدٍ استفاق، ليصرخ في وجه الممرضة وكأنما يحاول الإمساك بخيط وهميّ:
_أنتِ بتقولي إيه، إزاي تسمحولها تمشي كدا؟
بادرت الممرضة برفع حاجبيها بدهشة، وقوست شفتيها بلامبالاة مفرغة من المشاعر، وهزت كتفيها كمن يتنفض عن عباءة الأسئلة قائلة:
_معرفش حضرتك، هي مشيت يعني.. عن اذنك.
تركته وابتعدت وهي تتمتم بكلماتٍ لم تصل سوى على هيئة هسيسٍ مزعج، بينما تحرك هو بخطواتٍ حثيثةٍ نحو سيارته، يملأه العجز والغضب، يقودها بقبضةٍ متوترة كأن عجلة القيادة بين يديه قطعة زجاج على وشك التفتت.
كان الهاتف في يده يتصل بها بلهفةٍ تائهة، وكأنه يرتجي إجابة من صمتها، لكنه واجه فراغًا يبتلع صوته بلا رجعة، أعاد الاتصال مرارًا حتى قرر اللجوء لأخته، تلك الوحيدة التي كان أملُه أن تساعده على كسر هذه الدائرة المفرغة، حتى أتى صوتها عبر الهاتف، فسألها مضطربًا:
_متعرفيش «ماسة» فين؟
أجابته بصوتٍ قلق:
_لا حتى بتصل عليها بقالي ساعة مبتردش، هي كويسة ولا هي فين؟
تنهد بعمق كأنما يفرغ ثقله في زفيره، مجولًا بنظره في الطرقات التي بدت وكأنها تتلاشى من حوله، وصوتها يردد في ذهنه بلا نهاية.
حاول استجماع رباطة جأشه، وتنهد بصعوبة لثقل الأوجاع فوقه، مجيبًا بصوتٍ مشحون بالتوتر الخافت:
_معرفش يا «وتين»، هشوفها واكلمك تاني.
_طب بص، أنا وهي موصلين تليفوناتنا ببعض بأبليكشن بنعرف أماكن بعض بيها، هشوف وأرد عليك
قالتها مستذكرة سريعًا فأجابها بتلبكٍ:
_طيب يلا بسرعة
رمى الهاتف على الكرسي الذي يجاوره بعدما أنهى الإتصال مع أخته وعقله الذي كاد أن ينفجر من كثرة تلك الصدمات التي تعرض لها مؤخرًا تتعبه..
****
وعلى الجانب الآخر حيث كانت تقف تلك التي تشغل عقله عن مكان تواجدها الآن وكيف حالها..
كانت «ماسة» تقف فوق الصخور العاتية، تحدق في البحر الغاضب الممتد أمامها، وكأنها تواجه عواصف الحياة بكل ما بها من أوجاع.
الرياح تعصف بشعرها القصير فتحركه بشكل عشوائي حول وجهها، كأنه يتمرد على حزنها، بينما عينيها تنساب منها دموع لم تجد سبيلًا لكبحها.
كانت تشعر أنَّ موج البحر يتلاطم مع صخور الكورنيش بنفس القسوة التي صدمتها بها الحياة؛ كل موجة تنكسر عند قدميها وكأنها تحاكي انكسار قلبها.
تذكرت ذلك اليوم الذي هبط عليها ككابوس من السماء، حين وصلها الخبر كطعنة مفاجئة؛ والدها الذي كان يقود حياتها بحكمة وهدوء، كالنجم الذي يهدي السفن، قد رحل فجأة.
أزمة قلبية، قالوا، ولكن «ماسة» شعرت وكأن قلبها هي من توقف حينها، كان والدها عماد حياتها، السور الذي يحميها، واليوم تركها لمواجهة ظلال الخوف ووحشة الفقد بمفردها.
ودخول الغريب لحياتها هي ووالدتها هو وابنه، ذلك الذي حاصرها بكل أنواع العذاب النفسي، تصرفاتهم معها التي أهلكت قلبها وأهلكت روحها..
رفعت بصرها للسماء، وكأنها تبحث عن طيفه بين النجوم، وتساءلت بحزن بينها وبين نفسها لماذا هي الشخص الذي لا تهدأ الحياة بضرب الصفعات في وجهه.
راحت تردد بين قلبها المنكسر ونفسها المتعبة: "لماذا تستحيل السماء غائمة أمامي كلما سعيتُ للنور؟ لماذا تصير الأرض صلبة كالصخر تحت قدمي كلما أردت أن أخطو نحو الأمان؟"
شعرت وكأن الحياة قد جُبلت على اختبار صبرها؛ لم يكن في السماء نجمة واحدة تضيء لها الدرب، بل كان سوادًا ممتدًا، صامتًا، لا يحمل في طياته سوى البرد والوحدة.
أخذت تهمس بين الدموع:"يا أبي، هل تراني؟ هل تعرف ما بي؟ أنا تلك الصغيرة التي كانت تركض إليك كلما تعثرت، أنا ذاتها، لكنك رحلت وتركتني أتعثر وحدي وسط أشواك الدنيا"
أخرجت الهاتف من جيبها، فتحت تلك المحادثة التي كانت في يوم من الأيام ملاذ أحلامها، حديقة غنَّاء رسمت فيها أمانيها الوردية برفقه ذلك الحبيب.
ولكنّها الآن تقف أمام شاشة لن تراها مجددًا، تعكس كوابيسها التي اشتدت سوادًا كظلالٍ ثقيلة تكبل روحها،
تلك الأحلام التي كانت ملاذها الوحيد من قسوة الواقع، أصبحت كالأشواك تنغرس في قلبها كلما حاولت العودة إليها ولجأت لها.
دونت بدموعٍ هبطت على يديها وهاتفها وبقلبٍ منكسر إلى شطرين لا يمكن إصلاحه:
"أنا عارفة إنك كان نفسك تشوفني كويسة في يوم من الأيام، وإنك بتحبني أوي، ودلوقتي أنا أقدر أقولك إني بحبك أكتر ما بتحبني كمان، بحبك في كل مرة شوفتك فيها أكتر من اللي قبلها، حاسة إن كل حاجة في حياتي وقفت ضدي، وإنه مهما حاولت أهرب أو أغير من نفسي، الدنيا بتردني لورا تاني، كل حاجة بقت تقيلة أوي، وأنت.. أنت ملكش ذنب تشيل شيلة زي دي ومن حقك تحب وتتحب من شخص أحسن مني مليون مرة،
لما بتبقى جمبي، بحس بالأمان، وبشوف الدنيا بألوانها، حتى لو للحظة، ضحكتك لوحدها بتهون عليا كل اللي بمر بيه، ووجودك كان بيقولي لسه فيه أمان زي وجود بابا الله يرحمه، سامحني.. يمكن هبان أنانية في قراري.. بس أنا بابا وحشني"
شعرت بثقل العالم يجثم على صدرها كقيدٍ لا يُفك، يجعل التنفس أمرًا شاقًا، تلك اللحظات المظلمة التي عاشتها، ذكريات مُرَّة تلوح في ذهنها ككابوسٍ لا ينتهي، جعلتها تعتقد أنها لا تستحق الحب، لا تستحق «زين»..
تذكرت تلك الليالي التي قضتها في صراع مع نفسها، مُحاطة بأفكار قاتلة وجراح لا تشفى، جراح تنزف بلا توقف، جراح استُؤصلت منها البراءة عندما تعرضت للتحرش من ابن زوج أمها، جرح ترك بصماته في عمق روحها وجعلها تسير في الحياة كظلٍّ مكسور.
هي التي تشبه المطر الذي هطل على أرضٍ جافة، سقطت في طريق لا يلتقي بالنجوم،
وأن ضوءه قد يختفي إذا اكتشف عتمتي؟
أنا هنا، أُكافح لأعيش، لكن قلبي لا يزال أسير تلك الليالي السوداء، مكسورًا ومخضبًا بأحلام لم تُكتب لها الحياة.
******
في زقاق الحارة، كان الحزن يخيم على الجميع كغيمة داكنة، كان «مهاب» يقف وسط المعزين في عزاء ابنة الشيخ «حسني»، وعينيه تتأمل الوجوه التي فقدت البهجة، لم يكن بإمكانه أن يخفي شحوب وجهه، بينما كانت التجاعيد تظهر على جبينه مع كل همسة تعزية.
مدّ يده إلى الشيخ حسني، الذي كان واقفًا كجذع شجرة مكسور، يعكس حزنه العميق بملامحه المتجعدة، جاء صوت مهاب هادئًا بعد تنهيدة قوية:
_البقاء لله، ربنا يرحمها ويصبرك يارب، شد حيلك.
تبدلت ملامح الشيخ «حسني» للحظات، أدار وجهه بعيدًا، وكأن كلماته كانت بمثابة طعنة في قلبه، رمق مهاب بنظرة ممتزجة بالألم، ثم أومأ برأسه، عائدًا إلى عالمه المظلم.
بعد انتهاء العزاء، صعد مهاب إلى شقته، خطوةً بخطوة وكأنما يحمل أعباءً لا تُحتمل، دخل إلى غرفته، حيث أمه كانت تجلس على سريره كما اعتادت ، تُراقب وضعه الذي أصبح متدهورًا مؤخرًا، تنهد بعمقٍ وأقترب نحوها ثم أسند رأسه على قدميها، وتنفس بعمقٍ قبل أن يقول بهدوءٍ:
_إيه يا «هاجر» الدنيا الصعبة دي، الواحد تعب أوي فيها ومبقاش عارف يتحرك ولا يستحمل أي حاجة.
تلمست أصابعها شعره الناعم برقة، تتجول فيه كالعصفور الذي يبحث عن مأوى، بينما عينيه كانت شاردة، تائهة في الأفق البعيد، كأنهما تبحثان عن إجابة لسؤال غامض.
_ربنا يعوضك الخير كله يابني، يعوضك بحاجة مكنتش تحلم بيها تنسيك مُر الأيام وتنسيك وجعها، بدعيلك كتير من كل قلبي والله ربنا يهون عليك كل ده، ويعوض صبرك خير
قالتها بكلماتٍ كانت كالدواء لروحه الملكومة، ولن يأتي بعدها كلمات لتُسكن جراحه وآلامه بعد كلمات أمه الحبيبة.
كلمات الأم، كأنها زهور تتفتح في بستان روحه، تنشر عبيرها العذب في أركان قلبه الموجوع، تنساب كنسيم لطيف، تهب على قلبه المكسور، تُطفئ نيران الحزن التي كانت تلتهمه، كانت تطمئنه، وتُعطيه دفعة من الثقة، مُذكرة إياه بأن الحياة رغم قسوتها، تحمل في طياتها أملًا جديدًا.
وللحظة تذكر كلمات «يامن» السامة التي لدغته في قلبه، فابتلع غصته قبل أن يقول بصوتٍ يحمل الكلمات المبهمة:
_لو قالولك إن اللي عايش معاكِ سنين مش ابنك يا ماما هتعملي إيه؟
وكأن الزمن توقف للحظات تفكر في جملته التي نطقها وتفسرها بداخل عقلها بكل كلمة قالها، لم يكن ينطق بمسمى "ماما" إلا حينما تشتد به أوجاعه، وكأن تلك الكلمة تمثل جسرًا يُعيده إلى أحضان الطفولة، وقد تفوه بها مراتٍ قليلة، كمن ينطق بأسرارٍ مدفونة في أعماق نفسه.
وحينما طرح سؤاله الغريب الذي سرّب القلق إلى قلبها، كان الصمت يكتنف المكان، وكأن الغيوم تكتظ فوق رأسهما، تُثقل الأجواء بأثقال الكلمات غير المُقَالة.
زادت تلك اللحظة ثقلاً، واستغرقت دقيقة كأنها دهرًا، جعلت قلبها ينبض بالقلق، كخفقان جناحي طائر محبوس في قفص.
نبست في النهاية بنبرة واثقة، كمن يتحدى رياح الشكوك التي تعصف بالروح:
_ولا أي حاجة، هفضل وخداه في حضني، الأم اللي ربت ياض أنت، وبعدين مين عبيط ممكن يعيش معاها عيل ومتحسش إنه مش ابنها يعني.. قلب الأم بيحس.
لكن، في أعماق روحه المنهكة، كان يتردد سؤال مدمّر: كيف لم تلاحظي أمي الحبيبة أنني لست ابنك؟
كان هذا السؤال يطوف في مسامعه كصدى مؤلم، يتردد في زوايا قلبه المُتعب، ليجعل من آلامه تضرب بعمقٍ أكثر من ذي قبل، كل كلمة منها، كانت تُشبه خنجرًا يُدمي روحه، وكأنها تُلقي بظلال من الشك والقلق، تُرسخ الفكرة التي لا تفارق ذهنه، وتُغرقه في دوامة من الحيرة والألم.
أحكم إمساكه بها وهو يتفوه كطفلٍ صغير شريد ود لو يظل في أحضان أمه بعد ضياع طويل:
_متسبنيش يا «هاجر» بالله عليكِ، متسبنيش لحد، ولا لنفسي، ولا لدماغي، أنا عايش وبحارب عشانك أنتِ وبس، موجود هنا عشانك أنتِ وبس، متسبنيش بالله عليكِ
تدفق الكلام من «مُهاب» كسيول عارمة، حيث كان قلبه ينبض كطائر محبوس في قفص من الزجاج، كل لحظة تمر وكأنها طعنة في صدره، كان يتشبث بيد أمه، وكأنه عثر على آخر قشة في بحر عميق، حيث ضاعت منه كل معالم النجاة، خوفًا من أن تضيع هي الأخرى.
لم تدرك لماذا ظنّ أنها قد تتخلى عنه، وهو ركنها الثابت في هذه الحياة العاتية، ولماذا يخشى ذلك، وهي باقية كالجذور الضاربة في الأرض، لكنها تمالكت نفسها، وأخذت على عاتقها طمأنته كما تهدهد الأم طفلها حين يخاف من ظلال الليل الموحشة.
اقتربت منه، ومدت يدها لتمسح على جبينه، كأنما تعيد الحياة إلى روحه المنكسرة، وهمست بصوت ملؤه حنان يغمره دفء الطمأنينة وصدق النذور:
_طب أهدى يابني، مالك يا «مُهاب»، أنا معاك أهو ومش هسيبك أبدًا إلا بموتي، أهدى ياحبيب عيني
كان صوتها ينحدر عليه كالماء البارد فوق الجراح المتقدة، كأنه وعد صادق يعيد إليه شيئًا من الراحة، كأنما يقول له إن الحنان الذي يعرفه في هذا العالم لن يزول، وإن اليد التي تهدئه لن تبتعد ما دامت الروح تسري فيها.
******
غفلتُ عن صدركِ لحظةً واحدةً، فاختار قلبكِ الطفولةَ الأخيرة، ها أنا الآن أتلقّى رسالتكِ المشؤومة كطعنةٍ باردة، حروفكِ المتحشرجة بالنهايات تتمدد أمامي كطيفٍ هائمٍ يرقصُ على شفا الهاوية.
كيف؟
متى؟
ولماذا؟
أسئلة تتناسل بداخلي كوحوشٍ تنهش روحي، أبحث بين السطور عن ذنبٍ لا يغتفر، عن تقصيرٍ لم أدركه، عن ضعفٍ سكن في عينيكِ ولم أقرأه.
أصرخُ وأتحطّم، أضربُ الجدران حتى تكتسي بدماء خيباتي، فلا أجد إلا صدى يأبى التفسير.
كيف أمست الحياةُ لديكِ مشنقةً، وأنا هنا؟
وكيف غدوتِ برحيلكِ قيدًا يلتف حولي، يكسرني، يسلبني بصيرتي، بل حتى قدرتي على التنفس؟
يا لجنون هذه اللحظة، يا لكابوس هذا الانتظار... دقائق تمر كأعوام، أحسبُ أنفاسي وكأنها تسير معي نحوكِ، علني أسبقُ الموت إليكِ، وأنتزعكِ من بين براثنه.
وبعد محاولات عديدة في محاولة العثور عليها بمساعدة أخته التي ذهب لها ليأخذها معه في سيارته ليكونا أسرع في لقط أي إشارة عن مكان تواجدها، انطلقا في رحلةٍ محمومة عبر شوارع المدينة كصاعقةٍ تجوب الأفق، عازمين على العثور عليها.
كأن الزمن قد تجمّد، وأصبح كل لحظةٍ تمرّ كفصلٍ من روايةٍ مأسوية، قلبه مثقلٌ بالهموم، يتلظى تحت ضغطٍ يكاد أن ينفجر.
ضرب المقود بقوة بيده وهو يهدر بصوتٍ غاضب شديد:
_ماشي يا «ماسة» ماشي.. وصلتِ لحاجة؟
كانت الكلمات تتفجر من حنجرته كبركانٍ ثائر، سؤاله يُسقط على عاتق أخته بؤس الانتظار، لكن إجاباتها كانت كالأشواك، تُنغّص عليه كل محاولة للهدوء.
ثم وفجأةً صرخت بسرعة تقول:
_وصلت للمكان، إحنا قراب منها..
قاد سيارته في شغفٍ متسارع، كأنه يحاول أن يتسابق مع الوقت نفسه، صوت المحرك يملأ الأرجاء كصدى قلبه الذي ينبض في صدره بشكلٍ جنوني، وعندما توقفت السيارة، هبط سريعًا منها كالعاصفة، يركض بخطى تتجاوز حدود المعقول، يبحث عنها في كل زاويةٍ وركن، وكأن كل نبضةٍ في قلبه تدفعه نحوها.
أخيرًا لمحها، تلوح كظلالٍ متمردة على الصخور، تتأمل البحر بعيونٍ غارقةٍ في حيرة الحياة، مرت فقط عشر دقائق منذ أن أرسلت له رسالة الوداع، لكنها كانت هناك، ضائعة في عالمها.
تتحدث إلى نفسها بصوتٍ مكتوم، تتساءل:"هل تقفز في البحر لتغرق في أمواج اليأس، أم تعود إلى أحضان الماضي، إلى حيث كان كل شيء يبدو أقل تعقيدًا؟"
بسرعةٍ وبحركةٍ غير محسوبة، جذبها من يدها كمن يستعيد قلبه الذي كاد أن يُفلت من بين أنامله، كانت عينيه تتأجج بشغفٍ يحرق، يتطاير منه شرر الألم والقلق.
أمامه، وقفت كخيطٍ رفيعٍ بين الحياة والموت، تجلس على شفا جرفٍ عميق، تستعد للقفز في غياهب المجهول.
استنشقت بعمق، وكأنها كانت تبحث عن الأوكسجين الذي ينقذها من غمرات القلق، بينما شهقةٌ خرجت من أعماقها كأنينٍ من روحٍ تتعذب.
_«زين!»
تساؤلاته كانت كالسيوف تُشهر في وجه واقعٍ مرير، تتقاطع مع صراخ قلبه الذي يخشى الخسارة:
_أنتِ بتعملي إيه، بجد بتعملي إيه، أنتِ عاوزة تنتحري يا «ماسة»، مفرقتش معاكِ، «وتين» مفرقتش معاكِ، ليه طيب؟ ليه تعملي كدا؟ محدش فينا كان هيسيبك ولا هيتخلى عنك، محدش فينا فكر فيها أصلًا عشان تعاقبينا بالشكل ده!
كانت كلماته تتردد في فضاءٍ خالٍ، تهتزّ كأصداء انفجارٍ بعيد، كيف لها أن تتجاهل كل شيء؟
كيف لها أن تفكر في إنهاء كل شيء وكأنما حياتها ورقةٌ تتلاشى في مهب الريح؟
كان يراها كزهرةٍ تذبل أمام عينيه، يرفض التراجع عن منحها فرصةً جديدة، واستمر في تسائله بينما يديه تهز جسدها الهش أمامه:
_ليــه مكلمتنيش طيــب، أنا مسبتكيش والله، ومفكرتش فيها حتى!
استمر في التساؤل، وكأن الصمت يُقيد الإجابة، ويُغلفها بسدٍ من الهموم، لم يكن يدرك أنها في حالةٍ من الضياع، حيث تلاشى كل شعور بالأمان لتحل محله هالةٌ قاتمة من الخوف.
كانت تخاطب الألم الذي يسكنها، تبحث عن مخرجٍ من قفصٍ من الحزن، بينما هو يقف كجنديٍ محاربٍ يحارب وحشًا لا يراه أحدٌ سواه.
ولم تدرِ أنها تُلقي بنفسها في نفقٍ مُظلم، وأنه لن يتركها فريسةً للظلام، بل سيظل يُقاتل من أجل إنقاذ ما تبقى من روحها.
لا إجابة منها، فقط دموع انهمرت بغزارة، ولم تتلقاها سوى أحضان صديقتها التي لطالما تلقتها، في عناقٍ دافئ عله يشفي الغليل الذي بداخل الصامتة عن الكلام..
فقط عناق،
دموع، ونظرات منه تؤنبها، وأخرى منها
متألمة!
********
كان يسير في الشارع، متسارع الأنفاس، بعد يومٍ طويل والآن هو في طريقه، وبينما ينظر حوله، لمح ظلًا مألوفًا على جانب الطريق.
اقترب أكثر، وإذ به يلتقي بوالده، شاحب الوجه، عيناه غائرتان وملامحه مرهقة تكاد تنطق بما مرّ به.
اقترب منه بخطوات مترددة، وصوت قلبه يدق كدقّات المطارق، حتى وقف أمامه وأخذ نفسًا عميقًا، بادره قائلًا بحدة:
_بابا... أنتَ هنا؟ ليه كل ده!
رفع الأب عينيه ببطء، وفيهما خجل لم يعتده «مُهاب»؛ نظرة هزمتها الحياة، وغلبتها يد الإدمان الثقيلة.
ابتسم ابتسامة واهنة ثم قال بصوت متعب، أشبه بالأنين:
_معنديش إجابة، أنا دخلت في ده كله... عشان أبعد عنك وعن أمك... كنت خايف آذيكم، أو أعمل فيكم حاجة ميبقاش ليها غفران، كل اللي فكرت فيه وقتها إني ألاقي طريق أسحب نفسي بعيد بيه... وكان الطريق ده هو اللي ودّاني «لشحتة» ويومها شوفتهم عنده، وقولت ليه لا طالما الموضوع هيجي من وراه الزفت اللي بضربه..
صمت الأب لحظة، وكأن الكلمات تتصارع في صدره، ثم واصل قائلاً، وكأنه يسرد تاريخه مع الخزي والانكسار:
_كنت محتاج فلوس... وقلت أشتغل معاهم عشان أقدر أوفر لنفسي الحاجة اللي بقت لعنة عليا... بس... رئيس العصابة هو اللي حطنا في المستنقع ده... هو اللي دلنا، وكأنه عرف إن نهايتنا هتكون هنا
انتفض مهاب، غاضبًا وقلقًا في آنٍ واحد، ورفع صوته، لكن نبرة الاستفهام الممزوجة بالحزن كسرت قسوته: _مين رئيس العصابة، يا بابا؟ قولي اسمه!
أخفض «عادل» رأسه، وكأن أثقال السنين والأخطاء ترهقه من جديد، وهمس، وكلماته تتسرب منه وكأنها ماء ينساب من بين الأصابع:
_والله ما أعرف، يا «مُهاب».. دايمًا كان بعيد عننا، بيظهر كأنه شبح في الضلمة، يحركنا كأننا عرايس في إيده، ومنعرفش عنه غير اسمه بس «ظل العنكبوت».. حتى اسمه مافيش عنه حاجة بتوضح هو مين
ارتعشت ملامح «مُهاب» وهو ينظر إلى والده، كأنه يرى أمامه رجلًا دمرته قسوة الحياة وجرّدته الأيام من ملامحه التي كانت تشع حنانًا يومًا ما..
ثم بنبرة مرتجفة تحمل السخرية والوجع همس:
_مش مسامحك على كل حاجة عملتها في حياتنا، لا أنا ولا أمي، مش مسامحك على لحظات الضياع اللي خلتني فيها، ولا على المسؤولية اللي شيلتهالي من صغري ولا على أي وقت حسستني في بعجز وخليتني مش قادر أتصرف بس قدرت اخرج منها.. مش مسامحك، وهسيبك لحد ما تقع في شر أعمالك وتخلص.. وعند الله تجتمع الخصوم يا .. بابا
ثم أولاه ظهره وغادر سريعًا دون أن يعطيه فرصة ليتحدث، ذهب على دراجته التي سابق بها أحلامه المتحطمة، قلبه المكسور.
**********
استفاقت «غنى» من غيبوبتها، كأنما انتزعتها الأقدار من غياهب الظلام، لتجد نفسها في غرفة بيضاء باهتة، تكتنفها رائحة مطهرة ثقيلة.
فتحَت عينيها ببطء، وراحت تتأمل ما حولها بذهول، كأنها تسترجع تفاصيل الحياة التي كادت أن تفقدها، شعورٌ كالصعقة اجتاح جسدها، ووجعٌ لا يرحم استقر في قلبها.
بينما كانت دموعها تنهمر دون توقف، لاحظت والدها «متولي»، يجلس بجوارها ملامحه مفعمة بالحزن، كأن العالم قد انتهى من حوله.
تقدم نحوها سريعًا يسألها بقلقٍ:
_«غنى» انتِ كويسة يا بنتي؟ حاسة بإيه؟
كان يحاول احتضانها وكأن ذراعيه هما فقط ما يمنحها الأمان في هذا الهاجس المظلم.
ثم همس مجددًا بصوت متهدج، يحمل فيه آلام الفراق والخسارة:
_متعيطيش يابنتي، أنا هنا، مش هسيبك..
تسربت منها شهقات متقطعة، كأن كل دمعة تحكي قصة وجعٍ عميق، وبينما كانت تُخفي كلماتها داخل قلبها، كان البكاء يقتلعها من أعماق نفسها، يترك جروحًا مؤلمة في صدغها، شعرت وكأن حزنها يتسرب إلى العالم من حولها، مُعيدًا تشكيل الواقع من جديد، متمردًا على كل لحظة سعيدة مرت بها.
في تلك الأثناء، وقف مهاب عند الباب، متجمدًا كتمثال، عينيه تحملان نظرات مختلطة من الخزي والأسى، كان يشاهد غنى، الفتاة التي عرفها، والتي باتت الآن ضحية قسوة الحياة.
سرت في جسده قشعريرة، وكأنما الحزن قد أطبق عليه، حتى كاد يختنق، كان يدرك أن تلك الفتاة التي كانت تضحك وتلعب قد تحولت إلى ذكرى مُوجعة تحت وطأة الألم، وكانت أسئلته تتخبط في ذهنه:"كيف يمكن للعالم أن يكون بهذا الظلم؟"
بينما هي وسط حزنها المكتوم، كانت تشعر بوجوده، بوجود شخص يعرف كل تفاصيل الألم، كأنه ظلال لا تفارقها.
زادت دموعها، وشعرت أن تلك اللحظة ليست مجرد صدمة، بل هي بداية رحلة جديدة من الألم، وأملٌ ضائع في الأفق.
*****
كان «يامن» يجلس في منزله، شمس الظهيرة تتسلل من خلال النوافذ، تلقي بأشعتها الذهبية على وجهه الشاحب، كان ذهنه مشغولًا بأفكاره وأحزانه، لكن فجأة، اهتزت أركان هدوءه عندما رن هاتفه.
أخرج الهاتف من جيبه، وعيناه تتسعان في دهشة حين قرأ الرسالة: "كل شيء تأجل، لن يتم تصدير الأطفال اليوم." شعورٌ غامض من الإحباط والاستغراب اجتاحه، وكأن عبئًا ثقيلاً قد سقط فوق قلبه.
حسم أمره على الفور حينما شعر بأن هنالك شيء ما يدور خلف ظهره، نهض من مكانه وعقله يعمل كآلة حاسبة، مستعرضًا الخطط في رأسه، لم يكن لديه وقت ليضيعه..
انطلق نحو الباب، متوجهًا إلى المكان المخصص وحينما ولج بخطواتٍ هادئة في المكان كانت المفاجأة الحاسمة
حينما شعر بشيء غريب، ضوء خافت لامس عينيه، وسمع صوتًا يأتي من الظلام:
_انت محاصر، يا حضرة الظابط.
كان الصوت عميقًا، وكأنما جاء من أعماق الأرض نفسها، ليزيد من حدة التوتر الذي يتصاعد في صدره.
تجمد يامن في مكانه، قلبه يتسارع، وعيناه تبحثان عن مصدر الصوت، يملأ قلبه شعور بالخطر، وكأن جميع الطرق قد أُغلقت في وجهه
وداخل رأسه، كانت الأسئلة تتنازع: "من وراء هذا التهديد؟ ولماذا الآن؟"
وحينما ظهر أمامه ذاك، توسعت حدقتاه بصدمة، حاول أن يتمالك نفسه، لكن الصور المروعة تملأ ذهنه.
كل ما كان يسعى إليه قد أصبح في مهب الريح، كان عليه أن يتحرك بسرعة، فخيوط المصير تتشابك حوله، وعليه أن ينقذ من يستطيع إنقاذه قبل فوات الأوان.
وفي ذات الوقت وصلت رسالة لهاتف كلًا من «زين» وأيضًا المسكين «مُهاب»
