الفصل الثاني عشر12
بقلم امينة محمد
«وقع في الفخ»
وبكل أسفٍ أعلن أن الخذلان والرصاصات القاتلة السامة، تأتيني من أقرب الأشخاص لي، وعند ذكر تلك الكلمة التي أقولها «أقرب الأشخاص» يصيبني غصة مؤلمة في قلبي لا تزول.
_أنا هعرف أوصل لحل، طالما مش أخوات ولا توأم زي ما شكينا، وأنا هحاول أوصل لكام حاجة كدا ابعتهالكم تعملوها تحاليل DNA.
هكذا قال كلماته بثباتٍ وأغلق الإتصال شاردًا في عدة أمور لا تخرج من باله، أولها شكوكه التي ساورته في هذين الشابين «مُهاب» وأيضًا رفيقه «زين» الذي يملك الكثير ضده هو ووالده العديد والعديد.
أغلق عينيه يستنشق بعض الهواء النقي لداخل رئتيه لعل ما بداخله أيضًا من أوجاع تزول، أمه المقتولة أمامه، ووالده أيضًا..
هروبه من ذلك البيت مُخدر الجسد من قِبل تلك العصابة التي تعمدت أن تقتله هو الآخر، وعاد هاربًا منهم مجددًا لمنزله ليجد الحريق أكله بأكمله ووالديه بالداخل.
وهكذا أُغلقت الستائر عند صدمته الكبيرة التي تعرض لها ولم يتخطاها حتى اليوم، تلك الكلمات التي رددتها والدته بأن يهرب، صراخها، أنينها المتوجع، والده الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة بتوجعٍ.
الحياة قيدته، وكتمت أصواته، كتمت صراخه، ولم يستطع أن يعبر عمّا يشعر، كتم بداخله وكَبُر الوجع به وزادت رغبة الانتقام واضعًا الجميع أمام عينيه، دون استثناء.
تحرك نحو ذلك المكان المخبأ أسفل ذلك المصنع المهجور والذي لا يمر من عنده أي حد حتى لا يثيروا الشكوك حولهم، أشعل سيجارته ووقف يتنفس منها بدلًا من الهواء الطلق، يتابع مرور الأطفال أمامه مُقيدين الأيادي نحو الأطباء المتواجدين هُنا لفحصهم، وطالعهم بسخرية:
_هو الباشا بتاعكم جاي امتى!
رد واحدًا منهم بجمودٍ:
_وأنت عاوز الباشا في إيه، كل الأمور هتتم وهو مش فاضي يجي، الدكاترة هتفحص العيال اللي مش هينفع نسفرهم ونستفيد بأعضائهم، والباقيين معاد خروجهم على السفينة من هنا يوم 15/10.
تابع الأطفال بتنهيدة قوية من داخله ثم رفع هاتفه الذي أعلن وصول رسالة له من «مُـهاب» بأنه وصل عند المكان المنشود، فتحرك تاركًا إياهم نحو الآخر واضعًا يديه بجيبه بهموم كبيرة فوق أكتافه.
وصل ليجد كلًا منهما أمامه بانتظاره، تابعهما للحظاتٍ وابتسم بتشفي:
_منوريــن!
_أبويا فين؟ وإيه حصل!
سأله «مُـهاب» بترقبٍ دون حتى أن يسأل عمّا يوده «يامـن» منهما، فأجابه الآخر بينما يوزع عليهم سجائر ليشعل كل واحدٍ خاصته:
_أبوك العصابة اتفقت معاه يخطف عيلين من الحارة، وهياخد مقابلهم 100 ألف جنية، واللي حصل إنه «شِحتة» قاله إنك متفق معاه تعالجه!
اسودت عينيه بظلامٍ حالك وفارت الدماء في كامل جسده، إعتقد أن والده تهجم على والدته كما العادة ولكنه لم يكن يتوقع أن الأمر وصل لذلك الحدّ!
_أنت عرفت إزاي إنه «شِحتة» هو اللي قاله؟
سأل بجمودٍ في محاولةٍ تمالك أعصابه ليبتسم الآخر له بسخرية:
_ما أنا قولتلك مش شغلك بقى ومتستقلش بيا تاني، شوف ناوي تعمل إيه دي أمورك حلّها مع نفسك، بالنسبة للي أنا جايبكم عشانه.. العصابة بتدور على بنتين، هيخطفوهم من الحارة كان فيه واحدة منهم مش من الحارة بس دي تخصني وهما بعدوا عنها، ومافيش قدامنا وقت فـ هيخطفوا الاتنين!
هنا تدخل «زين» بحاجبٍ مرفوع وهو يسأله باستفسار:
_أمتى الكلام ده هيتم، وهما ليه عاوزين بنتين بالعدد؟
_عاوزين أعضائهم، والكلام ده هيتم يوم 14/10 عشان الحاجات دي هتتصدر برا مصر يوم 15!
قالها وهو يطالعهما بمكرٍ ورمى كلماته المعهودة:
_يوم عيد ميلادكم أنتو الاتنين!
طالعا بعضهما ثم وجها بصرهما له مجددًا وهو دون هوادة رمى كلماته التي هبطت عليهما:
_مش غريبة.. تتولدوا في نفس اليوم، ونفس الشهر، نفس السنة... حتى نفس المستشفى، وسبحان اللي جمعكم دلوقتي، صُدف صُدف!
_نفس المستشفى؟
هكذا تحدثا سويًا باستنكار، ليضحك الآخر بخفة ساخرًا ومتلاعبًا بخبثٍ كبير بهما:
_مش أنتو الاتنين مولدين في مستشفى خاص.
وأخبرهما باسمها، أومأ «مُـهاب» سريعًا وهو يقول بينما يطالع «زيــن»:
_آه، أنا فعلًا اتولدت فيها وقتها كان أبويا لسه في شغله ومديره قاله ولادة أمي عليه حلاوة أول ابن، ووقتها أمي ولدت في المستشفى دي!
شرح «زين» هو الآخر باستنكار وعقلٍ مشوش وبعينين زائغتين:
_أنا عادي اتولدت فيها ومش لسبب، وكان ليا توأم ومات..
_لا الله يرحمه، أنتو هتحكولي قصة حياتكم، أنا دلوقتي عاوز حل لحوار الخطف ده!
مازحه «يامـن» بسخرية ثم تحولت نبرته بذات اللحظة لأخرى غاضبة، ليزفر «مُـهاب» بضيقٍ:
_ما تنجز أنت وقول حوار الخطف ده هيتم إزاي وإحنا هنتصرف وقتها، وبعدين عندك حوار الجثة دي بما إنك شبح وعارف كل ده، مين اللي باعت الجثة دي فعربية «زين»!
_أنا.
أجاب بكل بساطة وكأنه لم يخبرهما يومها بأن يدفنوها وتفنن في إخراج دور الجاهل الذي لا يفقه شيء، وها هو الآن يعترف أمامهم بأنه هو من وضع لهما الجثة.
_يعني إيه، أنا مبقتش فاهم حاجة!
قالها «زين» بقلة صبرٍ وهو يزفر بقوة لا يحتمل ما يقوله الآن ذلك المتلاعب الخبيث.
_أنا كنت عاوز ادفنه بس مكنش عندي وقت، فقولت نحطه عندكم وتدفنوه بس بصراحة مكنتش رايق أقولكم وأقعد أبرر!
هز كتفيه ببراءة بالغة، ليضحك «مُـهاب» عاليًا ولكنها لم تكن سوى ساخرة ثم بدأت ضحكاته تتقطع بقوله:
_هو أنا ما فيش حد قرطسني بالشكل ده قبل كدا!
_قرطسني؟
قالها «زيـن» متشدقًا باستنكار، ليلوح له الآخر بيده بحنقٍ:
_أنت بتفصلني كل مرة، يعني ضحك عليا!
زفر «يامـن» بقلة صبرٍ مجددًا وأكمل بحدة:
_مكنتش جثة دفنتوها فيها إيه؟
مرر «مُـهاب» بصره عليهما بشكلٍ متتالٍ متذكرًا أمر تلك الرسالة التي كانت مع الجثة، وحديث «يـامن» الساخر يوضح بأنه لا يعلم شيء عنها، إذًا تلك الرسالة موضوعة من شخصٍ آخر غيره، لذلك طرح سؤاله قبل أن يقول ما بباله:
_هو أنت اللي حطيت الجثة دي في العربية، بإيدك يعني؟
هز رأسه بنفي ليبتسم الآخر ساخرًا لما توقعه وكان صحيحًا، وبدأ يسترسل بقوله:
_معناها فيه لعبة بتتلعب من وراك، الجثة دي كان معاها ورقة مكتوب فيها إن ده الراجل اللي سرق النص مليون اللي أهل «زين» اتهموني إني أنا اللي سرقتهم، وفيه حاجة كمان بما إن الحوار ده اتفتح، فيه حد بيتصل بينا بيكلمنا من رقمين مختلفين بس في نفس الوقت، وبيقولنا إنه عارف مين سرقها، وإنه قدامنا مشوار طويل!
هنا وقعت الكلمات على رأس «يامن» لتصدمه، إذًا ليس هو الوحيد المتلاعب هنا وذلك جرح قلبه، في الحقيقة لم يجرحه أكثر من كونه شعر أن هنالك شيء ما يُحاك خلف ظهره!
هو لا يعرف بالأساس من رئيس تلك العصابة لأنه متخفي عنهم جميعًا، ولكنه هنا ليعرف!
_تابعوا معاهم وشوفوا آخرهم إيه، أنا لازم أمشي!
أومأ «مُـهاب» بضيقٍ واستدار رفقة «زين» ولكنه أوقفه صوت «يامـن» بهدوءٍ يحذره من القادم:
_«مُـهاب».. خلي بالك من «غِنى».
حدقه بتوجسٍ وشعر بانقباض بقلبه وعجز لسانه عن النطق، لماذا يوصيه الآن بأن ينتبه لها وهو في الأساس منتبه، ولكن زيادة ذلك التأكيد تخيفه بشكلٍ أكبر، إن لمسها ضر سيحرق المدينة بأكملها على رؤوسهم..
اكتفى بالايماء وتحرك رفقة «زين» تجاه سيارته الذي قادها يحاول استجماع الكلمات على لسانه ليقولها «لمُـهاب» بشكلٍ مرتب، هو عقله ليس معه منذ أن كان معها في المقابلة الأخيرة، يود أن يشعر بأنه مسنود على الأقل ولو بكلماتٍ فقط دون فعل!
تنحنح بصوتٍ ينظف حنجرته قبل أن يقول بنبرة هادئة:
_هو أنا ممكن أطلب منك طلب؟
نظر نحوه «مُهاب» سريعًا يحدقه باستعجاب وأجابه:
_أطلب!
ابتسم «زيـن» بخفة وعرض عليه كلماته:
_هو أنت ممكن تيجي معايا بليل؟ أنا رايح أتقدم للبنت اللي بحبها، وعاوزك تكون موجود معايا.. ينفع؟
ابتسم «مُـهاب» تلقائيًا على كلماته وأجابه بابتسامة واسعة:
_ألف مبروك ياعم، نيجي وماله وربنا يتمملك على خير يارب هتروح أمتى عشان أنا لازم أروح البيت الأول أشوف أمي وأطمن عليها وبعدين هبقى أقابلك.
توسعت ابتسامة الآخر كفاقد عثر على طريقه بعد مُدة من الضياع، وهذا ما وصف حاله بالفعل، عندما عثر هو على صديقٍ له يواسيه ويسنده في حياته القادمة.
_الله يبارك فيك يارب، هو أنت حوار خطف البنتين هنعمل فيه إيه؟
سأله في نهاية كلامه بتنهيدة قوية لكل تلك الكوارث التي يقعا بها سويًا وكأنهما مكتوب عليهما أن يكونا سويًا بالمصائب فقط لا غير!
_ولا حاجة، زي ما بنعطل كل حاجة في حوار الأطفال، هنعطل كل حاجة في حوار خطف البنتين، وطالما هما من الحارة الموضوع هيكون سهل، بس الفكرة فاللي هو قال إنهم مزروعين بين الناس.
لم يجد ما يقوله بل تنهد بقوة، فكل شيء الآن هما به هو بالاجبار فقط، ولا يمكن التراجع او الاستسلام.
_حمدلله عالسلامة، على 8 بليل ان شاء الله
أوصله عند منزله وغادر شاردًا عندما لمح «فادي» رفقة شخص ما قريبٍ من مكان عمله حيث يعمل في إحدى محلات الهواتف المحمول، يأتيه الغريب والقريب، الجيد والسيء، وجده حينها يأخذ منه شيء ما في الخفاء لكنه للآن لا يعلم ما هو، ولذلك يجب أن يبحث خلف ذلك الموضوع بشكلٍ جيد حتى يصل لحلٍ واضح، وحكيم!
********
في شقته المتوسطة كان يجلس رفقة أمه يحاوطها بين ذراعيه هو يربت على ذراعها بأمانٍ ليبثه بقلبها:
_حقك عليا والله يا «هاجر»، قولتلك لو عايزة اجيبله شقة ويقعد فيها ويبعد عنك بس مرضتيش.
تنهدت بثقلٍ ولم تستطع أن تمنع دموعها أن تنهمر ولا أن تقول بقلبٍ مرتجف حزين على حبيبها الذي شاركها العديد والعديد من الأمور بحياتها، وكان نِعم الزوج!
_أبوك يابني صعبان عليا، أبوك بيضيع يا «مُـهاب»، أول ما عرفته كان راجل زيك كدا مسؤول وكان شغال شغله وشاب أي حد يتمناه، بأخلاق وعنده قيم ومبادئ، الكل كان بيتكلم عنه وعن شخصيته، أبوك كويس والله يابني وجواه حد كويس، وعمره ما كان بيرفع أيده عليا وكان يجيبلي كل اللي اتمناه، كان حنين عليا وكنت بفضل أقول لنفسي إني أنا اللي مقصرة في حقه أحيانًا بس يرجع ويقولي أي حاجة تعمليها ليا تكفيني وكل حاجة مني حلوة، يوم ما اتجر غدر من صحابه دول وخدوه في سكة شمال وهو زي ما أنت شايف، من يومها ياحبيبي وهو ماشي في طريق غلط وضيع شبابه وضيع حياته وضيعنا معاه، ميستاهلش والله اللي بيجراله وعندي إستعداد اقدمله بكل اللي عندي والله لو أطول أعمل كدا، عندي إستعداد أفديه بعمري لو يطلب، بس يرجع تاني، مش هاين عليا أسيبه بعد ما شالني سنين، يبقى ده جزاته، جزاته إني سيبته أول ما وقع، أبقى ست مش أصيلة..
ورث عنهما الحب المبالغ والحنان المفرط، ورث عنهما القلب الطيب والمشاعر الفياضة، علم الآن أن حبه «لغِنى» وتمسكه بها هو ناتج من تأثره بعلاقة والديه.
يسمع منها تلك الكلمات التي تقولها من داخل فؤادها المتألم ومن روحها المتعبة، كلماتٍ تصف حال التيه الذي يسكنها والوجع الذي يغلبها، لا هي بصحةِ فتاة يافعة تتحمل، ولا هي بقدرٍ عالٍ من إخفاء المشاعر المؤلمة.
قبّل رأسها بحنية وضمها نحوه أكثر يحتضنها بحبٍ بالغ:
_طب أهدي عشان خاطري، أهدي وأنا هحاول أتصرف أنا كدا كدا مش هحل «شِـحتة» الكلب، هروح أوريه مقامه.
رفعت بصرها له بعينيها الدامعة كالدماء وترجته بقلبٍ متألم يصر على حديثها:
_متسيبش أبوك للهلاك يا «مُـهاب»، متسيبش أبوك بالله عليك..
أومأ لها برأسه يؤكد لها على طلبها وعاد يضمها له لعله يخفف من أحمالها القليل، لعله يهون عليها وعلى قلبها المتعب، هو أيضًا تعب من حمل الأثقال فوق كاهله، زاده الألم وأحتل كيانه.
«الله يعلمُ ما نشكو من الألم
ومانعانيهِ من ضيقٍ ومن سقمِ
لكن لنا فيهِ ظنٌ لا يخيّبنا
حاشاهُ أن ترجعَ الأيدي بِلا نعمِ»
******
يحتاج المرء منّا بأن يمسك بيده شخص ما ويخبره دومًا وباستمرار بأنه لن يتخلى عنه، سيكون أولوياته ومسؤولياته، سيكون له كل الحياة إن أراد، وسيكون له كل ما يتمنى إن رغب.
_يا«مــروة» ارحمي أمي بقى، يخربيت دي عيشة!
فاض صبره، وانتهى تحمله، واليوم هو يصرخ في وجهها بشكلٍ مُفزع ومقلق، أقلق قلبها وكيانها، هي فقط تود أن تشعر بأنه لن يتخلى عنها أبدًا، تود أن تشعر أن الأمان سيحاوطها دومًا.
كانت نظراتها مُعلقة عليه ببعض العجز في التعبير والكثير من الألم الذي يسيطر على قلبها، هو تحملها كثيرًا في تقلباتها وتعبها المفرط، وتحملها كثيرًا في حديثها المعتاد الذي لا تمل ولا تكل من قوله، نبست بصوتٍ مرتجف:
_أنا غلطانة عشان بقولك يعني، ما أنا كمان تعبت، أنا عايزة أخلف والله وعايزة ألف على دكاترة مصر كلها عشان ألاقي حل للمشكلة.
اعتدل في جلسته يُكمل حديثه بنبرته الصارخة والتي لم تخرج منه سوى لأنه يخاف أن يقتلها الحزن ببطءٍ:
_وأنا قولتلك خلاص، مبقتش عاوز عيال ياستي ارتحتي، مش عاوز أخلف يا «مروة»، كفاية إحنا كل يومين متخانقين عشان أنتِ عاوزة تروحي تودي نفسك في داهية مع دكاترة منهم اللي هيكون ابن حرام وأخسرك، أنا مكتفي بيكِ وأنتِ كدا.
صاحت هي الأخرى فما بها ليس بهينٍ كطبيعة امرأة تود أن تشعر بالأمومة وتود أن ترى لها أولاد، تود أن ترى ذرية لها منها ومنه:
_أنا كل يوم ببص للعيال في المدرسة وأنا متحسرة، ليه معنديش عيل زيهم أجهزه ينزل يروح المدرسة ويرجع أخده في حضني واطبطب عليه، أحافظ عليه، ليه؟ ليه ربنا بيعاقبني بأكتر حاجة كان نفسي فيها من زمان، بأكتر حاجة نفسي أحس بيها، أنا كمان تعبت ومبقتش مستحملة... وأنت! أنت هتزهق مني وتسيبني على فكرة ومش هتكمل معايا، عشان هيجيلك يوم تكون عاوز تخلف فيه وتجيب عيال تسندك لما تكبر ويشيلوا اسمك، وأنا مش هقدر أعمل ده، وهترميني عند أهلي.
القهر تمكن منها والحسرة أيضًا، ولم تجد ما تعبر عنه إلا بكلماتٍ كانت له لاذعة وجعلته يُصدم مما تتفوه، فرمى كل تلك التراهات التي ستشكل كارثة بينهما بالتأكيد، وسألها بنبرة هادئة:
_يعني لو أنا اللي مبخلفش يا «مروة»، هتسبيني؟
هزت رأسها بنفي وحاوطت وجهها بين يديها تبكي بقهرٍ، فغلبه الأسف على حالها، هو قطع لأجلها الكثير ولن يتخلى عنها بسهولة، لذلك حاوطها بذراعيه يعانقها بحنانٍ بالغ:
_طب أهدي، أهدي عشان خاطري وأنا والله هعملك كل اللي نفسك فيه ميهونش عليا دموعك دي، ده أنا سيبت إسكندرية بحالها وجيتلك القاهرة مكفي على وشي عشان اتجوزك وعشان بحبك، فتقوليلي اسيبك، ياستي مش عاوز والله عيال تشيل اسمي ابقوا ادفنوا اسمي معايا وخلاص.
تمسكت به وكأنها وجدت الأمان ومستقرها، هي بالفعل استقرارها النفسي وأمانها رفقته، ونبست بنبرتهة المرتجفة من البكاء المفرط:
_وأنا نفسي أعمل عشانك حاجة، حاجة واحدة يا «مالك»!
_أنتِ عاملة كتير اوي يا «مروة» والله، كفاية إني بصحى على وشك العسول زيك ده، وعيونك القتالة اللي مبترحمش، العيون اللي كانت سبب إني أقع في حبك أصلًا، كفاية إني برجع البيت بلاقيه كله ونس منك وبتستقبليني كل مرة بكل حب، باكل من ايدك أكلة معمولة بكل حب، كفاية كل ده والله وكتير كمان.
هكذا عبّر بمشاعرٍ حقيقية، متغزلًا بعينيها البنية التي جعلته صريعًا في حبها، وحينما أعترف لها بحبه في اليوم الأول قالها بكل صدقٍ لن تنساه أبدًا.
_عيونك يا «مروة»!
_مالها؟
_عيونك سحر، مخلياني منتمي ليكِ وكأني كنت تايه في بلاد ولقيت وطني، عيونك زي الوطن احتوى قلبي وعقلي.
ظلت بين أحضانه تنعم بما تفتقده الآن وكل شعورٍ متعب حاوطها أبتعد عنها حينما فقط أصبح بقربها
********
وجدتْ الجوهرة وبعد عناءٍ طويل متحف يحميها.
كان يرتدي قميصًا من اللون الأبيض وبنطال من اللون البيج، يضع الكثير والكثير من العطر المفضل له كما العادة:
_يابني ده بيترش رشتين، ما تكبه على نفسك أحسن.
كانت تقف جواره «وتين» وهي تختار معه ما سيرتديه ليذهب في موعدٍ ليطلب يد صديقتها المقربة ورفيقة دربها في كل المشاريع وصاحبة الذكريات العديدة التي تشاركاها سويًا.
_والله أكبه لو أحب، البرفيوم بتاعي والأوضة اوضتي، اطلعي أنت برا!
قالها متشدقًا وهو يهندم من ياقته ثم شعره وأخيرًا ساعته وأمسك مجددًا زجاجة العطر وبدأ يرش مرة أخرى وكأنه يزيد التأكيد:
_ريحته تحفة بصراحة.
_بعد ما ساعدتك بتقولي اطلعي، أنت والله متربتش وأنا هقول لبابا.
_قوليله
قالها بلا مبالاة ولكنه سمع صوتًا عند الباب متنحنحًا ليعتدل سريعًا في وقفته بانتباه بينما والده سأله بسخرية:
_تقولي إيه؟
هنا تحدث هو سريعًا من توتره وقال في محاولة لتصليح الموقف بينما هي وقفت جواره تضم شفتيها وتكتم ضحكاتها:
_تقولك إننا جهزنا يا حبيبي وصاحبي جاي دلوقتي أهو عشان نمشي..
همهم والده ثم أقترب نحوه واعتلى ثغره ابتسامة بسيطة:
_ماشي.. مبروك ياحبيبي وعقبال الليلة الكبيرة كدا ان شاء الله.
ابتسم سريعًا لوالده قائلًا بامتنانٍ:
_الله يبارك فيك..
قاطعهم صوت هاتفه الذي صدح بالمكان فأمسكه وتخطاهم يتحدث مع «مُهاب» يشرح له الطريق حتى وصل للمنزل ورحب به «زين» ودلف رفقته «مُهاب» الذي تزين هو الآخر مرتديًا سترة من اللون الأسود وبنطال من الجينز.
_مش ده الحرامي؟
سألت أمه بشهقة ليدير «مُـهاب» وجهه بسخطٍ وهو يرمق «زيـن» بنظرة لو كان لها فعل لقتلته.
تنحنح «زيـن» سريعًا وهو يمرر بصره باستعطاف لصديقه ليغفر لهم، ووجهه ناحية أمه وهو يقول:
_لا يا ماما هو مش حرامي، ده صاحبي عادي.
أقتربت والدته له أكثر ووقفت أمام «مُـهاب» تطالعه من أسفله لأعلاه بمعاينة وهي توبخ ابنها بقولها:
_وأنت إيه عرفك، ما يمكن حرامي فعلًا وبيضحك عليكم.
هنا تدخل «مُـهاب» قائلًا بنبرة حادة وعينيه تجوب بينها هي وابنها ولكنها وأخيرًا استقرت على عينيها البنية بأهدابها الكثيفة:
_بقولك إيه يا خالتي أنتِ، أنا لا حرامي ولا زفت، أنا شخص عادي جدًا عايش في الدنيا وأنتو لبستوه مصيبة، هو أنا هفضل كدا أندم عاليوم اللي ساعدت فيه ابنك، أنا جاي عشان هو طلب مني أكون معاه في اليوم ده، أنا معنديش مشكلة أمشي دلوقتي.
عاندته هي بقولها بحدة:
_أمشي!
هنا سقط فكه أرضًا لحديثها ذلك ولكن صوت حاد أتى من خلفهما ولم يكن سوى «لسليمان» الذي اقتحم المكان قبل أن يجيب ابنه حتى عن طريقة تعاملها مع صديقه:
_«ساميــة» إيه الكلام ده في إيـه؟
مرر «مُـهاب» بصره بينها وبينه وابتسم بسخرية والتفت ليغادر المكان ولكن أمسك بيده «زيـن» يخبره بصوتٍ متأسف:
_بالله اصبر، أنا آسف والله عاللي حصل ده، هي أمي مش فاهمة آخر حاجة حصلت وإنك بقيت صاحبي.
_أمك خايفة عليك بس لتصاحب ولاد حرام أو طمعانين فيك، بس قولها إني ابن حلال ومتربي ومعايا اللي يكفيني الحمدلله، وألف مبروك يا «زين»، هحضر معاك خطوبتك ان شاء الله.
هكذا رمى كلماته بشكلٍ حاد وبجمودٍ وجذب يده من «زين»، وقبل أن يتحرك تحدث «سُليمان»:
_أنا بعتذر عن اللي حصل يا «مُـهاب»، وزي ما تحب مش هضغط عليك عشان تكون مرتاح..
أومأ له وضغط على كتف صاحبه بابتسامة بسيطة:
_ربنا يتمملك على خير يا صاحبي.. سلام.
ثم غادر المكان كما أتى ولكنه غادر وهو يحمل الهم أكثر، هل كان يجب أن يرفض من البداية وألا يقف جواره، ولكن من داخله شعر بأنه يود أن يكون هنا معه، يود أن يشاركه كما طلب منه الآخر.
توجه بدراجته النارية كما أتى عليها ناحية «شِحتة» ليأخذ بثأره منه وينهي هذا الأمر الليلة طالما هو متفرغ الآن، وليت كل ما يتمنى المرء يحصل عليه.
وصل بخطى ثابتة وترك دراجته متوجهًا لداخل تلك البقعة التي يتواجد بها «شِحتة»، وبداخله العديد والعديد من الطرق التي يود أن يلكمه بها ويبرحه ضربًا، ولج للمكان ليجده هادئ بشكلٍ غريب، وصوت أنفاس آتية من زاوية ما تصارع الموت.
_«شِــحتة»؟
نادى باسمه بالمكان متعجبًا، ليسمع أنينًا قادمًا فتوجه خلفه ليجد «شِحتة» مطعونًا ببطنه عدة مرات وها هو ينال حتفه.
توجه مسرعًا له وهو يناديه بقلبٍ هلع:
_مالك يالا مين عمل فيك كدا؟
لم يجد طريقة سوى وهو يزيل تلك السكين من بطنه ويحاول أن يكبت الدماء حتى لا ينزف أكثر، وتحدث بصوتٍ مرتجف من الخوف والقلق:
_قوم معايا، اسند عليا يا «شحتة»، مافيــش حد هنا؟
صاح في نهاية جملته لعل شخص ما يساعدهما في هذه الورطة، ولكن.. الموت أتى، وسُحبت روحه وبقى الآخر في مسرح الجريمة ببصامته هنا رفقة الجثة!
