رواية ابني ابنك الفصل الثالث عشر13بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك

 الفصل الثالث عشر13

بقلم امينة محمد
 

من نحن

حينما شردت في سؤالٍ لم أجد له إجابة إلا بعد فترات بعيدة ولم يكن سوى؛ «من نحن؟»

نحن الذين نعيش في ظلال المشاعر الخافتة التي تجعلنا في ظلام لن ننجو منه، نخبئ خيبات الأمل في قلوبنا على أمل أن نجد من يحولها لانتصارات، ونُعاني في صمت حتى نجد يد العون تنقذنا، نبتلع الكآبة وكأنها سم لا ترياق له، ثم نستمر في السير، متضخمين كبالونٍ مملوء بالهواء، في انتظار لحظة الانفجار.
كان السبب في إيقاع نفسه في تلك المصائب،
كان الأمر بيده واختار الهلاك، وأنه لمن المخيف أن تجد نفسك في ظلامٍ حالك كان سببه أنت.
صوت صفارات سيارات الشرطة صدحت في أرجاء المكان ووقعت على أذنيه بصدمة كبيرة، تراجع للخلف قليلًا يطالع يديه المملوءة بالدماء، نعم هو بلا شك وقع في تلك الكارثة التي ستحل عليه ولن ينجو منها بكل تأكيد.
كانت الصدمة أقوى من إعطاء رد فعل قوي بأن يهرب من المكان، بل ظل حتى حاصرته الشرطة ورفع رأسه بترقبٍ نحو الضابط يتابعه ولم ينطق بكلمة واحدة، هو الآن محصور بين ضجيج عقله الذي فتّك به دون رحمة ورأفة، كيف وقع بهذا الحال بين ليلة وضحاها!
وبعد قليلٍ من الوقت وما بين الغفلة والحقيقة المُرة لم يجد نفسه سوى بقسم الشرطة أمام المحقق في تلك الغرفة المعزولة، رفع عينيه الحمراء كما الدماء تمامًا يطالعه بصمتٍ رهيب.
يشعر بالتيه وبالعجز، وبأي حق وُضع هو في هذه الورطة التي لم يكن يومًا يتخيل أن يقع بها، كان رجلًا يشهد الجميع بهيبته وبوقاره وبكلمته المسموعة.. والآن هو مُتهم في جريمة قتل رفيقه!
_قتلته ليه؟
_مقتلتوش!
سأله فأجاب بثباتٍ، ولكن المحقق كان حادًا في كلماته هادئ في حركته:
_اومال كنت جنبه وهو بيموت ليه؟ مبلغتش ليه لو أنت مقتلتوش.
_عشان أنا كنت رايح عنده أكلمه في موضوع، لقيت الدنيا هادية وهو في العادي بيكون عنده علطول ناس، دخلت بنادي عليه لقيته مرمي ومطعون في بطنه.
أجاب بصدقٍ وبإتزان برغم الحريق الذي يشعر به بداخله، فسأله المحقق:
_كنت رايح عنده تعمل إيه؟
صمت لبرهة ولكنه قرر الإجابة بصدقٍ:
_كنت متفق معاه إنه لما أبويا يروح له ياخد منه مخدرات يديهاله مضروبة عشان كنت بحاول أعالج أبويا برا المصحة، بس هو راح قال لأبويا عالاتفاق اللي بينا!
_فقتلته!
حاول المحقق استفزازه بحديثه ليهز الآخر رأسه بنفي سريعًا:
_قولت لحضرتك.. وصلت لقيته غرقان فدمه، جريت عليه أحاول أعمل حاجة بس هو كان خلاص بيموت.
همهم المحقق واستند بظهره يتسائل:
_ديلر.. مبلغتش عنه ليه؟
سأله ذلك السؤال الخبيث الذي سيوقعه في المشاكل العديدة ولكن عقله لا يترجم أي شيء الآن فكانت النتيجة هي الصدق في كلماته:
_كان صاحبي.
شاردٌ فيما حدث وسيحدث،
شاردٌ في ورطة أسقطته من سماءٍ سابعة دون هوادة.
في أمه وحبيبته،
في أبيه،
وحتى في صديقه «زين»!
وعندها نطق بثباتٍ:
_أنا عاوز أكلم حد، عشان عاوز محامي وأعتقد ده حقي!
أومأ المحقق وقام من مكانه بهدوءٍ:
_هنخليك تكلم اللي نفسك فيه، ونجيبلك محامي كمان يا «مُـهاب» متقلقش.
ثم تحرك وتركه جالسًا على الكرسي وأمامه الطاولة يسند يده عليها، لم يرى يومًا في حياته سوى الضغط النفسي والجسدي، حتى أن جسده لم يعد يحتمل أكثر.
فتى غلبته الحياة..
أدرك أنه أهلك نفسه بنفسه،
ومر بتجاربٍ عصيبة،
أذى نفسه كثيرًا وذاته،
جلد كيانه جلدًا قويًا،
ولكنه لم يؤذِ يوم أحدًا.
***********
لم تكن الصدمة بالنسبة لهم هينة، بل كانت كبيرة حينما أخبرتهم قبل ساعاتٍ بأن هنالك شخص ما سيأتي ويطلبها للزواج منهم، لم تتلقى سوى صفعة على خدها من أمها عنيفة وهي توبخها لماذا لم تخبرهم من قبل.
وما فاجئهم هو بالفعل وصول عائلة «سليمان رشوان» للمنزل، وكانت هي ثابتة في مكانها مرتدية ذلك الفستان باللون الأسود بسيطًا، لم يعبر عن يومها الذي كان من المفترض أن يكون ملونًا، وعينيها متعبة بشكلٍ واضح، الهالات واضحة أسفلها ومنتفخة، وجهها لم يكن كما العادة.. وصفعة أمها مازال أثرها على خدها!
_أهلا وسهلا بحضراتكم، نورتونا
كان ذلك ترحيب «محمود» بهم ليقابله «سليمان» بابتسامة شاكرة وهو يردف:
_متشكرين.. ده نور صحاب البيت.
تحركوا جميعًا لغرفة الجلوس وبينهم ترحيب وحديث كان عاديًا حتى قرر «سليمان» التفوه الآن بمجرد رؤية «ماسة» تخرج حاملة بين يديها العصير لهم، كانت يديها ترتجف بشكلٍ ملحوظ فتحركت «سلوى» سريعًا تتناولها منها بابتسامة بسيطة بينما هي اقتربت تصافح كلًا من «سامية» وأيضًا «سليمان».. ومرت من أمامه ليلمح الأثر الأحمر على خدها حتى بالرغم من وضعها لمساحيق التجميل البسيطة.
أظلمت عينيه وتابعها حتى جلست وتحركت «وتين» لتجلس جوارها بابتسامة واسعة بينما هي بادلتها بأخرى بسيطة.
_إحنا جايين نطلب إيد بنتكم «ماسة» لابني «زين» على سنة الله ورسوله.
نطق وهو يطالع «محمود» الذي قال بارتباكٍ ولكنه لم يكن ملحوظ لهم:
_ده يشرفنا أكيد يا أستاذ «سليمان»، عيلة زيكم تشرفنا والله، وأكيد الرأي يرجع «لماسة» والمدام «سلوى» يعني وان شاء الله ربنا يقدم اللي فيه الخير.
وجهت «سامية» بصرها نحو «سلوى» التي كانت صامتة، تتابعها في جلستها وحركاتها وهي تتذكر تلك الليلة التي أتت بها «ماسة» باكية بذعرٍ.
_طبعًا يشرفنا وإحنا عارفين حضراتكم من زمان مش محتاجين نسأل ولا حاجة، وأكيد ان شاء الله موافقين ولا إيه يا «ماسة»!
مررت بصرها عليهم ثم وجهته لابنتها التي أومأت برأسها بإيجابٍ وهي تردف بنبرة أشبه بالهمس:
_موافقة.
_يبقى نقرأ الفاتحة..
هكذا قال «سليمان» ليرفعوا جميعهم يديهم المضمومة يقرأون سورة الفاتحة.
اليوم بداية علاقة جديدة،
لم تزرها السعادة يومًا.
بعد مدة تحركا سويًا نحو الشرفة وجلس وهو يطالعها بينما هي نظرها بعيدًا عنه تمامًا، وكأنها تخشى أن تقابله بعينيها تلك التي لاحظت هي مؤخرًا تغيرها، ووجهها الشاحب برغم زينته، ويديها المرتجفة التي تضمها لبعضها وتُلاعب أصابعها ببعضها.
_مين ضاربك؟
كان سؤالًا واحدًا كفيلًا بجعلها توجه بصرها له، عينيها كانت لامعة ولا يوجد بها دموع، كيف لاحظ ذلك وكيف يسأل بتلك الثقة، وحاولت أن تبرر بارتباكٍ كاذب فقاطعها بصرامة وهو يميل بجذعه للأمام قليلًا:
_متحوريش، العلامات على خدك واضحة للأعمى، مين ضاربك؟
_ماما
قالتها بعدما تنهدت، هي لا تود أن تفصح الآن بأي مشاعر حتى لا تظهر كضعيفة أمامه، وما تكرهه هي أن تكون ضعيفة أمام أي شخص مهما كانت مكانته عندها.
أومأ برأسه فقط وبداخله قرر تغيير مجرى الحديث لأنه يعلم أنه سيجعل الأحزان تتقلب على قلبها كتقلبٍ ليلة دافئة لأخرى باردة ممطرة، لذلك أردف بابتسامة:
_شكلك جميل، الأسود يليق بكِ وميلقش على غيرك.
أعادت خصلة شاردة من شعرها القصير لخلف أذنها بخجلٍ وتنهدت، تنهيدة تعبر عن الحريق الذي بقلبها:
_وأنت كمان.. شكلك جميل، جاي لابس فاتح وأنا بقابلك بأسود.
_ما أنا الطرف الأكثر حماسًا فالعلاقة، وهفضل الأكثر.
قالها بضحكة خفيفة لتتنهد بخفة مجددًا تُخرج ذلك الزفير المشتعل بانفاسها الساخنة بقولها متمنية:
_أتمنى متملش في يوم.
مد يده ليمسك يدها المرتجفة ويحاوطها بكلتا كفيه وهو يربت عليها لتغمض عينيها في لحظتها مستشعرة تلك اللمسات التي بثت بداخل قلبها الحنان الذي يسكنه:
_أنا عمري ما أمل منك يا «ماسة»، ولو العالم كله وقف ضدك أنا هكون في صفك وبحارب معاكِ وعشانك.
كادت أن تتحدث ولكن رنين هاتفه قطع حديثهما الفياض بالمشاعر العاطفية المملوءة بالتودد والاهتمام، أخرج هاتفه ليجده رقم «مُهاب» المُسجل بـ «المِتعصب»، وضعه على أذنه يستمع لنبرة الآخر ولم تكن ردة فعله سوى انتفاضة من مكانه بذعرٍ.
_أنا مُتهم بقتل «شحتة» وفي القسم، هات «يامن» وتعالى يا «زين».
هكذا كانت كلماته فقط والتي جعلت دماء الآخر تتجمد واختنقت العبارات في حلقه، بينما قلبه اهتز بين أضلاعه بخوفٍ ورجفة.
وجه بصره لها ثم أغلق الاتصال وهمس بصوتٍ خفيضٍ لا يعلم كيف خرج من أحباله الصوتية:
_أنا لازم أمشي يا «ماسة»، فيه مشكلة في الشغل.
ثم تحرك ناحية الجميع ووجه بصره لوالده يقول:
_بابا فيه مشكلة في الشغل ولازم أمشي!
وقف والده في مكانه بفزعٍ وتسائل بصدمة:
_خير في إيه؟
أومأ له يطمئنه:
_هشوف واكلمك، بالاذن وبعتذر عن الليلة ان شاء الله نعوضها قريب ونتفق على الخطوبة.
ثم تحرك دون أن يقف ليسمع كلمة من شخصٍ ما، متوجهًا بسيارته ناحية المكان الذي سيقابل به «يامن» بعدما أتصل به وأخبره بكل شيء.
يقود وعقله مذعورًا من القادم، يود الخلاص من هذا المأزق ومعه «مُهاب»، ما الذي حدث وكيف هو لا يعلم الإجابة.
أخذ «يامن» من المكان وقاد سيارته ناحية القسم، بينما الآخر كان يبدو عليه النوم يحرك كفه على وجهه بضيقٍ وهو يزفر:
_هو إيه حصل؟
_هو أنت بتسألني؟ معــرفش! أنت لازم تلاقي حل عشان «مُـهاب» يخرج، أنا وأنت عارفين كويس إنه مقتلش حد ودي لعبة، بس اللعبة دي من مين؟ هو أنت مبتقولش إنك عارف كل حاجة! اشمعنا دي؟
كان منفعلًا والسبب واضح؛ لم يكن سوى خوفًا على «مُـهاب» الذي من الممكن أن تنتهي حياته في طرفة عين، أعصابه تلتهب من شدة الغضب الآن لأن كل شيء انقلب ضدهم.
وهنا تلقى الإجابة من «يـامن» بصوته الحاد الذي يحذره بقوله:
_«زيــن» أهدى كدا عشان نعرف نلاقي أم حل يخرجه من اللي هو فيه، أنا بيتلعب عليا لعبة تانية، وحوار «شِحتة» ده أكيد من اللعبة التانية وإلا كان زماني عارف ونبهت «مُـهاب».
كان هو الآخر عقله يتأرجح بين الشك واليقين في أمرين، الأول أنها لعبة مِمَن يلعب به وكان ذلك الشك، والثاني أن هنالك شخص آخر خارج الدائرة يلعب بهم جميعًا وهنا كان اليقين، اللعبة تكبر.. وهم داخلها.
وصلا للقسم وتحرك «يامن» نحو الداخل بهيبته البادية عليه، وجواره كان «زين» المتوتر لأجل صديقه، طلبا من الضابط السماح برؤية «مُهاب» ليسألهما عن بطاقتهما الشخصية، وبالفعل تم فحصها وكان هنالك نظرة ثاقبة من الضابط تجاه «يامن» الذي مثّل عدم الإهتمام وتحرك حينما أذنوا لهما بالدخول.
تحرك «زين» سريعًا ناحية «مُــهاب» وجذب الكرسي ليجلس عليه مجاورًا له وهو يضع يده على كتفه بقوله بقلقٍ وبذات الوقت يحاول أن يطمئنه:
_متقلقش يا «مُـهاب» كل حاجة هتكون كويسة وهتطلع من هنا والله، أنت مقتلتش حد ومحدش هيقدر يتهمك بكدا ولا يحبسوك ظلم.
طالعه بسخرية والتفت يمرر بصره ريحة وجيئة بينه وبين «يامن» الذي جذب كرسي وجلس عليه هو الآخر بهدوءٍ بالغ:
_شكلها كدا النهاية.. أنا فعلًا مقتلتوش، أنا سيبتك ومشيت وقولت هعدي على «شحتة» أكلمه ولما روحتله لقيته بيموت أصلًا، حاولت أعمل حاجة وشيلت السكينة من بطنه عشان أوقف الدم، بس كان مات، وفجأة جه البوليس وكأن حد مستنيني أروح عشان ويبلغ
ربت «زين» مجددًا على كتفه وقال:
_أنا هكلم محامي العيلة يتولى القضية، وأنت كنت عندي وعندنا كاميرات مراقبة هجيب التسجيل وأسلمه للمحامي يثبت إنك كنت عندي وبعدين مشيت..
أكمل «يامن» على كلماته بتنهيدة:
_الطب الشرعي هيثبت إن الطعنة كانت قبل ما أنت تتواجد متقلقش، هيحققوا في المكان وهيشوفوا كل حاجة بس أنت هتفضل محبوس على ذمة التحقيق لحد ما يثبتوا برائتك.
أومأ بتنهيدة ووجه بصره «لزين» مجددًا يقول بنبرة خائفة على أمه، فهي الآن ستنهار حينما تعلم أن ابنها في السجن متهمٌ بقضية قتل!
_«هاجر» يا «زين»، أمي في عينك لحد ما أخرج بالله عليك، متسيبهاش ولا تخلي حد يلمسها.
طلب برجاءٍ من صديقه وفاض به كل شيء، التعب احتله واحتل كيانه، ثم وجه بصره ناحية «يامن» يطلب منه هو الآخر بنبرته الهادئة التي لم يشهدها عليه أحد، لم يعرفوه كما هو الآن:
_«غنى»، اوعدني إن «غنى» متكونش ضمن اللي هيختاروها العصابة، اوعدني إنك هتحميها عشان أكمل معاك مشواري للآخر، أنا عندي إستعداد أموت مقابل أنهم يكونوا كويسين.
أومأ له يطمئنه بهدوءٍ:
_متقلقش يا «مُهاب» أنت طالع منها طالع وأنا هتصرف، و«زين» يكلم المحامي وكل حاجة هتنتهي بسهولة.
ثم تحرك تاركًا الاثنين بتلك الغرفة و«زين» يحاول أن يواسيه ويطمئنه:
_طنط في عيني متقلقش، هاجي أشوفك بكرا الصبح برضو مش هسيبك!
كان دوره هو هذه المرة بأن يربت على كتف «زين» وكأنهما يمدان لبعضهما العون وأيضًا المواساة الصادقة، ونبس بتنهيدة:
_أنا حيلي اتهد بدري يا «زين»، من كل حاجة بتحصل، أبويا، أمي، «غنى»، مصايب الحارة، العصابة، «يامن»، كل حاجة هدت حيلي يا صاحبي.
_لو حيلك اتهد يا «مُهاب» يبقى أنا كمان حيلي اتهد معاك، إحنا اتنين بس في نفس الوقت بقينا واحد، اللي هيصيبك هيصيبني، واللي هيوجعك هيوجعني، متتخيلش أنا سيبتهم إزاي في بيت «ماسة» وجيت جري، حتى مش عارف كنت بسوق إزاي عشان اجي الحقك، أنت اثبتلي إنها مش بالسنين، هي بالشخص نفسه اللي هتعرفه.
أردف بمشاعرٍ صادقة لتزين الابتسامة ثغر الآخر، فهو الآخر شعر بالونس والسند رفقة «زين»، أجابه بعدما تنهد بعمقٍ:
_كل مرة كنت بقول إني ندمان إني طلعتك من العربية، أنا آه كنت ندمان من شوية، بس دلوقتي أنا بقول بلساني إن دي أحسن حاجة عملتها في حياتي ياصاحبي.
ابتسم «زين» على تلك الكلمات التي جعلته يشعر بالود للآخر، مشاعر الصداقة والأخوة لا تقدر بثمن، ولا تشرح من مجرد كلماتٍ مكتوبة على سطورٍ، كان له طوق النجاة منذ اللقاء الأول حينما ساعده وأنقذه من الموت، وكان له السند حينما وقعا سويًا في فخٍ ولكنهما الآن يحاولان الخروج منه سويًا.
كان «يامن» يتحدث رفقة شخص ما عبر الهاتف، وانتهى وهو يستمع لحديثهما وتذكر ذلك الحادث المُدبر، نعم كان مدبرًا من اللحظة الأولى التي قررا أن يتم تسليم النقود في الحارة ليأتي «زين»، وحينها تم تدبير اللقاء لهما بمساعدة المقتول «شِحتة» والذي كان يعمل رفقة العصابة... وكل ذلك تحت تدبير الرئيس الواضح لهم «صادق».
«فلاش باك»
كان يقف «صادق» في ذلك المكان المهجور، والذي عاينه بشكلٍ جيد هو ورجاله ليضعوا به الأطفال وكان النصيب وقتها أن تكون حارة «حي شرق» في مدينة الإسكندرية.
_أيوه يا «سليمان» باشا، زي ما عرفت حضرتك المكان في الحارة دي إن شاء الله عشان نكون بعيد عن عين الحكومة، حضرتك عارف كويس إن البضاعة بتيجي بشكل غير شرعي للبلد، فمش حابين إنه يكون علينا الأنظار.
كان يقف خلفه «يامن» يتنفس الدخان من سيجارته ويستمع لكلماته بمكرٍ واضح، ها هو الآن سينتقم لوالديه ومِمَن كان له اليد في موتهما.. «سليمان رشوان» صديق والده المقرب...
أغلق «صادق» الإتصال والتفت ليقابل «يامن» قائلًا:
_إحنا عملنا زي ما اتفقنا وهنحشر عيلة «رشوان» في القصة دي عشان تجيب أنت حقك، بس لو حصل مشاكل أنت اللي هتلبس الليلة دي يا «يامن».
رمى ما تبقى من السيجارة أرضًا وضغط عليها بقدمه بقوة وكأنه ينتقم منها هي الأخرى، وقال بثقة:
_متقلقش، اللعبة هتكون حلوة أوي، سيب الباقي عليا.
_أنت هتدخل حد من عياله؟
سأله «صادق» بتوجسٍ ليهز الآخر رأسه بالنفي قائلًا:
_انتقامي مش مع عياله، معاه هو شخصيًا، فعياله برا الموضوع خصوصًا بنته.
منذ البداية وهو يبعدها عن كل شيء، تلك التي أحبها بينه وبين نفسه منذ أن عرفها من الصغر ولكنها كانت منطوية بعيدًا عن الجميع بسبب كثرة مرضها وخوف عائلتها من أن ينتقل لها أي عدوى، كَبُر على حبها له حتى بات مهووسًا بها يراقبها بين الحين والآخر.
_«سليمان» وأبوك كانوا صحاب جدًا، بس للأسف «سليمان» أتخلى عنه وسلمه للعصابة تسليم أهالي، يلا نصيب!
سم بدنه «صادق» الذي علِم تلك القصة من «يامن» وبحث عنها ليعرف كل شيء، طالعه «يامن» بشرودٍ متذكرًا تلك الصداقة الثلاثية التي جمعت بين والده و«سليمان» وأيضًا «فرحات» صديقهم الثالث..
كلماته جعلت الشرار يشتعل بداخله وبعينيه، متذكرًا كل شيء وكأنه مر أمام عينيه، كل شيء بالتفصيل.
«عودة للحاضر»
**********
حل الصباح وأشرقت الشمس بنورها وأشعتها الدافئة على أرجاء مدينة الإسكندرية -عروس البحر المتوسط-.
كانت تضع لعماتها العصير بابتسامة بسيطة زينت ثغرها بعدما رحبت بهنّ رفقة والدها الحبيب، جلست جواره وهي تتابعهن بنظراتها المبتسمة.
_وأنت يا «متولي» خلاص قررت تجوزها للواد «مُهاب» ده؟
سألته إحداهن لتتنهد «غِنى» داخليًا، فهي تعلم أنهن لا يحبونها كما كانوا لا يحبون أمها، وفي الحقيقة هي لا تكنّ لهن أي مشاعر سوى الاحترام والتقدير.
أجاب بابتسامة بسيطة:
_إن شاء الله كتب الكتاب بكرا، أنا جبتكم النهاردة عشان أعرفكم إن كل حاجة حصلت بسرعة بس..
_ليه حصلت بسرعة؟ هي بنتك لسه مريضة!
وصفتها بتلك الكلمة التي تجرحها، ابتلعتها داخل حلقها دون أن تجيب احترامًا لوالدها فقط، ولكنه أجاب هو بدلًا عنها بقوله:
_مالها بنتي، بنتي زي الفل الحمدلله مافيهاش أي حاجة ولا مريضة، بس عشان هو يعرف يدخل ويخرج من البيت براحته وهتبقى مراته على سنة الله ورسوله.
_قصدك عشان ميتكررش اللي حصل مع الاولاني صح؟
قالتها أخرى بنبرة ساخرة وأكملت على كلماتها:
_وقتها محدش قدر ينطق معاها لما عملت نفسها تعبانة نفسيًا وتعمل إنها بيغمى عليها، والله كله من دلعك فيها يا «متولي»
_بس أنا فعلًا كنت تعبانة ياعمتو، ليه حضرتك بتقولي كدا؟
ردت هي هذه المرة بتنهيدة قوية تدافع عن نفسها لتجيبها عمتها متشدقة بسخرية:
_تعبانة مالك، أنتِ مسمية شوية التريقة اللي خدتيهم وأنتِ صغيرة في المدرسة دول تعب؟ ما كلنا كدا وعيالنا كدا ومحدش فيهم طلع قال تعبان.. ولا مريض نفسي!
تابعتها صامتة وهي تخفي داخلها ذلك الانفعال الذي تود أن تخرجه الآن ولكن لأجل والدها، حينما سمعت صوت عمتها الثانية تغني على غناء الأولى بقولها ساخرة:
_كل واحد اتريقنا عليه هيعيط ويعمل نفسه تعبان، بنات آخر هم ده يابنتي دلع بس وبتتمارق على أبوها عشان كل ما تقع في مصيبة تقول لنفسها تعبانة..
وقفت من مكانها وكادت أن تتحرك تاركة تلك الجلسة التي ستُتعب قلبها بلا شك، ولكن صوت عمتها الساخر أتاها مجددًا بقولها:
_على فين ياختي، اقعدي عالأقل مع عماتك شوية.
_جرا إيه ياختي أنتِ وهي، أنتو جايين هنا ماسكين بنتي كدا ليه، محدش فيكم له حق إنه يتكلم عنها كدا نص كلمة، بنتي كويسة ومافيهاش أي حاجة، ولو فيها على قلبي زي العسل، محدش فيكم له حق ولا حد فيكم شايل شيلتها، وطول ما أنا عايش وحتى بعد موتي محدش هيقول على بنتي نص كلمة، أنا جايبكم عشان أعرفكم إن كتب كتابها بكرا، والله حابين تشرفوا أهلًا، مش حابين براحتكم.
ابتسمت لوالدها بامتنانٍ وحبٍ، هو سندها وحبيبها الأول وكانت تعلم بأنه لن يترك حقها هكذا يضيع هباءً.. ولكنها أيضًا أرادت التحدث بقولها:
_معلش يا عمتو لو اللي بيحصل متقل عليكم، مع إني مش شيفاه أي تقل، ولو أنتو مقللين من تعبي النفسي ومن اللي شوفته مع إنها حاجة مينفعش تقللوا منها ولا سوري يعني تدخلوا فيها، بس أنا واحدة كان الكل بيتنمر عليها وهي صغيرة، ولو التريقة دي بالنسبالكم حاجة عادية، فهي مش عادية بالنسبالي عشان أنا عندي عزة نفس ومسمحش لحد يتريق عليا واسكت، استحق إني اتحب حتى بعيوبي، أمي ماتت وأنا لسه صغيرة وفقدت حنانها، جدتي الله يرحمها لما ماتت أكيد حسيتوا بموت الأم وعارفين شعوره عامل إزاي، اتخطبت لواحد مش محترم، وحقي رجعلي وشرفي كمان، كل ده لو بالنسبالكم عادي فبالنسبالي لا، ومافيش بنت من بناتكم هتستحمل كل اللي شوفته ده... وأنا متأكدة من اللي بقوله.. عن اذنكم
ثم تركتهم بعدما رمت قنبلة من الكلام المدفون داخلها بوجوههم واختبأت في غرفتها لتبدأ وصلة جلد الذات التي لا ترحمها، هي عانت كثيرًا وتحملت أكثر، ولكن الطاقة نفذت والقلب دمى..
******
مر من أمام المحل الذي سيقام حفل افتتاح له الليلة، يتابعها بنظراتٍ تحمل الاشتياق مع أنها لا تعلم أنه يراقبها، كانت وحدها هنا تنهي بعض الأعمال حتى تأتيها «ماسة» وبين الحين والآخر تسعل بتعبٍ..
تائه..
يعيش في دوامة من الضياع اللامتناهي..
يود أن يعود من تلك الغربة التي سكنت روحه،
ويشتاق بشدة بأن يكون كما السابق دون الحرب التي تسكنه وتؤرقه، وأن يكون في أحسن الأحوال ليكن فقط رفقتها، يود أن يعود للحياة وأن تعود الحياة إلى سابق عهدها، وأن تشفى الجروح، وأن يعثر على قلبه... رفقتها.
تحرك من سيارته ذات النوع الغالي -مرسيدس- بملابسه السوداء التي عبرت بشكلٍ كبير عن شخصيته الغامضة، توجه ناحية المحل ووقف خلفها يقول بصوتٍ أجش:
_ياقطة.
ألتفتت سريعًا نحوه بفزعٍ وصدمة، طالعته من أسفله لأعلاه وسألت بتوجسٍ:
_أنت بتعمل إيه هنا؟
كان صوتها محملًا بأثار التعب البادية على وجهها من المرض الذي احتل جسدها.
_فكراني؟
سألها بأملٍ برغم أنه يعلم الإجابة فهو لا يُنسى، أومأت له برأسها فقط، ابتسم بخفة قائلًا:
_كويس، لو كنتِ نسياني كنت هزعل أوي، ألف سلامة عليكِ..
كانت عينيها البنية تبادل نظرات الثلج الذي بداخل حدقتيه، لتجيبه بصوتٍ خفيضٍ:
_شكرًا، أمشي عشان متعمليش مشاكل..
_بس أنا كنت عاوز نشرب حاجة من المحل بتاعك يا قطة، مبارك عالافتتاح وأتمنى أكون أول واحد باركت..
تلاعب بكلماته على وترها الحساس، ومن داخل جيب معطفه الداخلي أخرج وردة حمراء اللون طبيعية وقدمها لها بابتسامة:
_وتين وحلمها اللي بيتحقق.
تناولت منه الوردة التي حدقت بها للحظاتٍ ثم رفعت بصرها مجددًا تحديدًا لعينيه وقالت:
_شكرًا مرة تانية يا «يامن»، أنا مش فاهمة أنت مين وعاوز مني إيه، بس كل حاجة بتعملها غريبة والأكيد إنها غلط، فأتمنى بجد معدتش تظهرلي..
_يعني لو قولتلك أنا مين وبعمل كدا ليه ممكن تديني فرصة نتعرف؟
سألها ورفع حاجبه الأيمن باستغراب، لتومئ له برأسها فقال بتنهيدة:
_بس لو قولتلك هتخافي يا قطة..
زفرت بقلة صبرٍ وقالت وهي تشيح ببصرها عنه بعيدًا:
_بس أنا دلوقتي خايفة أكتر منك أصلًا..
همهم وهو يطالع حركاتها التي يحاول التمعن بها حتى يعود ليلًا ويرسمها:
_أنا معجب سري لسنين، قرر يظهر ويقولك.. أنا شخص مش هيتخلى عنك ولا هيبعد عنك ولا هيسيب حد يأذيكِ برغم إنه اتأذى من عيلتك، بس أنا مش بشيلك ذنبهم.. فمتقلقيش، قريب كل حاجة هتوضح، قريب أوي أوي يا قطة..
ثم تحرك من أمامها حتى لا يعطيها فرصة لتجيب عليه، فهو لا يود حقًا بأن يستمع لأي إجابة ستخرج منها الآن قد تجعله يثور بالجميع ربما..
*****
وصل للحارة بسيارته وطالع البناية بتنهيدة قوية، هو هنا ليطمئن على والدة صديقه التي وصاه عليها مراتٍ عديدة، وجد «مالك» أمامه يقول باستغراب:
_«زين»؟ أنت هنا لوحدك أومال «مُـهاب» فين بقى؟
وجه «زين» نظره ناحيته يقول بتنهيدة وهو يرمي بوجهه تلك القنبلة التي جعلت حدقتي الآخر تتوسع بصدمة، ولم يكن هو الوحيد المُستمع لكلماته بل أيضًا شخص ما:
_«مُـهاب» في السجن.. متهم بقتل «شِحتة»
تعليقات



<>