رواية حجر الشيطان
الفصل السابع7والثامن8
بقلم شاهنده
اقتحمت زينة حجرة المكتب الخاصة بمروان دون استئذان مما جعله يعقد حاجبيه وهو يرفع إليها عينين متسائلتين..كادت من تلك النظرة المتجهمة والتى اعتلت ملامحه أن تتراجع عن الحديث وان تخرج على الفور من الغرفة..الا أنها صممت على إبلاغه بقرارها فلم تعد تحتمل هذا الفراغ الذى تشعر به ولم يمضى على وجودها فى هذا المكان يومان..لذا تقدمت باتجاهه وتوقفت أمام مكتبه قائلة فى تصميم:
أنا عايزة أشتغل.
نظر اليها لحظات يحدق بعينيها فى صمت وقد تجمدت ملامحه..أصابها القلق من صمته ولكنها تمسكت بذلك القناع الزائف من الثبات الذى تصدع تماما ما إن نهض مروان بهدوء والتف حول مكتبه ليقترب منها..حتى توقف أمامها تماما..ومال عليها قائلا بحروف كالصقيع:
للأسف الخدمات اللى بتقدميها مش محتاجينها هنا.
تغاضت زينة عن وجع قلبها الدامى من كلماته الجارحة وهى تنظر الى عمق عينيه قائلة فى برود:
وانا متعودتش أقعد كدة من غير ما أعمل حاجة..ولو خدماتى مش مطلوبة هنا أكيد هتكون مطلوبة فى حتة تانية.
ضم مروان قبضته بقوة وهو يجز على أسنانه حتى لا يتهور ويصفعها لوقاحتها ولكنه تمالك نفسه وهو يقترب بوجهه منها تضرب أنفاسه الغاضبة الساخنة صفحة وجهها وهو يقول بصوت كالفحيح:
مفيش شغل تانى يازينة ..و ياريت متستفزنيش ..انتى لسة متعرفيش أنا ممكن أعمل فيكى ايه؟
ابتسمت بسخرية قائلة:
صدقنى عارفة.
عقد حاجبيه من لهجتها الساخرة والتى تقطر بالمرارة دون أن تدرى ..كاد أن يسألها ماذا تقصد بكلماتها ..ولكن تاهت منه الكلمات وهو يرى شفتيها تنفرجان لتغيم عينيه وهو يتذكر مذاقهما الذى حرمه النوم لسنوات..شعرت بأنفاسها تضطرب من نظراته وقلبها تتسارع دقاته وهي تراه يقترب من شفتيها يكاد أن يقبلها..أغمضت عينيها رغما عنها تنتظر قبلة اشتاقت إليها..قبلة لطالما راودت ذكراها أحلامها ..لتشعر بالفعل بشفتيه تلامس شفتيها بتردد فى بادئ الأمر وكأن مروان يستكشفها لأول مرة.. أو ربما يخشى شيئا ما لتتعمق قبلته بعدها وتصبح متطلبة لتجد نفسها تمد يدها على طول ذراعيه حتى وصلت إلى رأسه لتضمه إليها تبادله قبلته بإشتياق عجزت عن كبحه..كادت أنفاسهم أن تزهق ليتركها مروان كي يتنفسا وهو يضع جبهته على جبهتها مغمض العينين بدوره..ابتعد بوجهه عنها يفتح عينيه ببطئ ينظر إلى عينيها التى انفلجتا ببطئ بدورهما تنظر إليه نظرات تائهة ليذوب فى عمق عينيها رافضا كل ما يدور برأسه يمنعه عن قبلة الحياة والتى أعادت إليه روحه..ومنحته شعورا افتقده بشدة ..ليقترب مجددا من شفتيها المنفلجتين ينوى أن يروى روحه الظمآنة إليها لكن نحنحة رجولية قاطعته ليلتفتا سويا الى باب المكتب ..وجدت زينة رجلا فى مثل عمر مروان تقريبا يقف على الباب ينقل نظراته بينهما فى فضول بينما تنحنح مروان وهو يبتعد عن زينة التى تركته على الفور وهي تشعر بالخجل ..اتجه مروان الى مقعد مكتبه قائلا :
تعالى ياياسين ..
ثم وجه حديثه إلى زينة التى مازالت واقفة مكانها لاتدرى ماذا تفعل؟ليقول بصوت رغما عنه خرج حادا وكأنه يشعر بالغضب من نفسه لاستسلامه لمشاعره:
اتفضلى انتى دلوقتى.. هنكمل كلامنا بعدين.
أحست زينة بأنها تود أن تدفن مكانها الآن لشدة خجلها.. فأسرعت بالمغادرة دون أن تنبت بحرف بينما تابعها ياسين حتى اختفت عن الأنظار ليدلف الى الغرفة قائلا:
هي دى بقى زينة؟
أومأ مروان برأسه فى هدوء..جلس ياسين قائلا:
مقلتليش يعنى انها حلوة أوى كدة.
زمجر مروان قائلا :
ياسين.
رفع ياسين يديه استسلاما وهو يقول فى مرح:
خلاص ياسيدى أنا آسف.
لتنقلب ملامحه المازحة الى الجدية وهو يميل قائلا:
بس لازم أحذرك يامروان، اللى انا شفته من شوية ده .. مش قصة حب منتهية زي ما فهمتنى..لأ..الموضوع أكبر من كدة ..كل الشرارات اللى كانت حواليكم بتقول عكس اللى قلتهولى..ده غير....
وترك جملته معلقة وهو ينظر إلى شفاه مروان المنتفخة لينظر اليه مروان قائلا فى استنكار:
ياسين..انت بتخرف بس بتقول ايه؟
قال ياسين بهدوء:
أنا بقول اللى أنا شايفه أدامى يامروان..عموما ..مش ده الموضوع اللى جاي أتكلم فيه معاك.
تراجع مروان فى مقعده قائلا فى حدة:
وايه هو الموضوع ده بقى ياسيدى؟
نظر ياسين اليه قائلا:
شركة السلطانة عايزة تدينا توكيل حصرى لمنتجاتها فى مصر.
أطرق مروان برأسه مفكرا للحظات قبل ان يرفع راسه قائلا:
اختيارهم لشركتنا غريب بس كدة حلو اوى ..تعرف لو ده حصل يبقى هنضرب عدنان فى مقتل ..انت عارف أد ايه كان نفسه ياخد التوكيل ده.
قال ياسين فى توتر:
عارف بس...
عقد مروان حاجبيه عندما صمت ياسين ليقول بهدوء:
بس ايه ياياسين..ما تتكلم؟
قال ياسين وهو ينظر الى مروان مباشرة :
عايزين يدخلوا شريك معانا بالتلت.
عقد مروان حاجبيه قائلا:
غريبة؟ليه عايزين يبقوا شركا معانا..هيستفيدوا ايه؟
قال ياسين:
لما سألتهم أصلا ليه اختاروا شركتنا بالذات قالوا عشان فى فترة قصيرة بقت من أكبر الشركات فى مجالنا..بصراحة رد مقنع وخصوصا لو شركة شريفة أكيد مش هتحب تتعامل مع عدنان لان سمعته معروفة..بس الشراكة ده اللى مش قادر ألاقيلها سببب مقنع أبدا.
قال مروان بعد لحظات من التفكير:
انا شايف ان الموضوع عادى وميستاهلش القلق ده ..شركة السلطانة مشهورة وليها اسمها الكبير ووضعها فى السوق..المفروض هم اللى يقلقوا مش احنا ..ياترى سبب المشكلة اللى حاسسها فى صوتك وملامحك دول بقى ايه؟
قال ياسين بعد لحظة تردد:
الشركة ليها شريكين زينا بالظبط.. نبيل عزام وده معنديش أي اعتراض عليه ..لكن الشريك التانى..فتون سلطان..دى بقى مش هقدر أتعامل معاها ابدا.
عقد مروان حاجبيه قائلا:
ليه ..مالها؟
قال ياسين وهو يطرق برأسه قائلا:
بتفكرنى بميسون يامروان..نفس الروح ..نفس العينين..نفس الابتسامة.
رفع رأسه لتلتقى نظراتهم وهو يستطرد قائلا:
انت عارف أد ايه أنا حاسس بالذنب من ناحية ميسون الله يرحمها..كل ما هشوفها هفتكر كل اللى حصل..هتعذب من جديد..الذنب هيقتلنى.
نقر مروان على المكتب قائلا:
الله يرحمها..بص ياياسين..أنا عايزك تنسى..اللى حصل زمان كان غلطة مش حابب تعيش عمرك تعذب نفسك عشانها..احنا اتفقنا على ايه؟ مش اتفقنا نرمى كل غلطات الماضى ونفكر بس فى الانتقام من اللى كانوا السبب فى كل حاجة وحشة حصلت لينا فى حياتنا..وان مفيش حاجة هتقف أدامنا فى سبيل تحقيق انتقامنا..مش ده كان اتفاقنا؟
قال ياسين فى تردد:
أيوة بس...
قاطعه مروان قائلا:
من غير بس..حياتنا الشخصية لازم تكون بعيدة عن شغلنا اللى هيساعدنا فى انتقامنا ياياسين..مفهوم؟
اومأ ياسين برأسه موافقا وهو يقول:
اللى تشوفه يامروان..انا هقوم امشى بقى عشان اتأخرت على تيتة ودارين.
اومأ مروان برأسه فنهض ياسين مغادرا ولكنه توقف ثم التفت الى مروان قائلا:
ياريت انت كمان تخلى حياتك الشخصية بعيدة عن شغلنا يامروان.
ثم ابتعد مغادرا ليظهر الألم على وجه مروان يدرك ما يلمح اليه ياسين ..فنصيحته لياسين كان أولى أن ينصح بها نفسه ..فهو ينصحه بتنحية مشاعره الشخصية جانبا عن خطتهم للانتقام..وقد آوى زينة وطفلها عنده وهو يعلم كم سيغضب ذلك عدنان إن علم به..وكيف سيؤدى ذلك الى فشل خطتهما..يدرك أن ياسين معه حق..فهما لا يستطيعان تنحية مشاعرهم جانبا فمشاعرهم هي ما أوصلتهم الى هنا..إنها نقطة ضعفهم التى من الممكن أن تودى بحياتهم ان أثرت على عقلهم وأفقدتهم التركيز..ولكن هل يستطيع أيا منهم أن يتخلى عن قلبه ومشاعره؟.......بالتأكيد لا.
********************
دلفت فتون الى حجرة نبيل بعد ان سمح لها بالدخول..وما ان رآها حتى أدرك على الفور ما يعتريها من قلق يظهر على كل ملامحها لينهض قائلا :
مالك بس يافتون؟ قلقانة كدة ليه بس؟
قالت فتون فى عصبية:
مش عارف قلقانة ليه يانبيل؟..الأستاذ مردش علينا لغاية دلوقتى..عارف ده معناه ايه؟
هز نبيل كتفيه فى لامبالاة قائلا:
عادى يافتون..ده طبيعى جدا على فكرة..هو قلق بس مننا ومحتاج ياخد وقته عشان يطمن..وبعدين مش هو قالك انه لازم ياخد رأي شريكه ولا نسيتى؟
قالت فتون فى ضيق:
لأ منستش طبعا..بس برده أخد وقت كبير.. احنا بقالنا يومين.
قال نبيل بهدوء وهو يقترب منها يمسكها من كتفيها قائلا وهو ينظر الى عينيها مباشرة:
قوليلى السبب الحقيقى اللى مخليكى متوترة بالشكل ده؟
حاولت فتون أن تتحاشى نظراته ليترك كتفيها ويمسك ذقنها بيده يجبرها على مواجهة عينيه وهو يقول :
قوليلى يافتون وافتحيلى قلبك.
تنهدت فتون قائلة:
قلقانة يانبيل..قلقانة من ياسين..قبل ما أشوفه مكنش عندى القلق ده ..بس بعد ما شفته قلقت منه ..ذكى أوى ومش سهل والأخطر من كدة بصته لية..لمسته.. معرفش..بتوترتى أوى..مبحسش بالراحة وانا معاه..فاهمنى؟
قال نبيل :
أكيد فاهمك..بس ده احساس طبيعى ..اللى أدامك وبتتعاملى معاه ده مش راجل عادى ..ده اللى قتل أختك وحرمك منها.
أطرقت فتون برأسها تخفى عنه عيونها فمن المفترض أن يكون ذلك بالفعل احساسها تجاهه فهى تمقته من أجل هذا ولكن هناك شعور غريب بالانجذاب تجاهه أيضا..شعور يقتحم قلبها تحاول أن توأده فى مهده ..أن تذكر نفسها بأن هذا الرجل هو قاتل أختها الحبيبة ..تستدعى كل ذكرى لها مع أختها والتى قد تجعلها تنفر منه أكثر..ويحدث ذلك بالفعل ولكن عندما تغمض عينيها ترى نظرات عينيه العميقة..تتسلل اليها نبرات صوته الرخيمة لتصيبها رغما عنها رعشة فى قلبها..لتنتفض وتفتح عينيها على مصراعيهما تمسح تلك النظرات وتضع يديها على أذنيها تكتم ذلك الصوت..يبدو انها على وشك الجنون..لا تدرى حقا..كل ما تعرفه الآن أنه لسلامتها.. وسلامتها العقلية فقط يجب أن تبتعد عن هذا الياسين والذى تحمل له مشاعر متناقضة للغاية..أفاقت من أفكارها على صوت رنين هاتف نبيل ليبتعد عنها نبيل وهو يبحث عن هاتفه فوجده على الطاولة ليقوم بالرد عليه..ظل يتمتم بكلمات الموافقة وعينيه تلتمعان لتدرك فتون أن هذه المكالمة تخص ياسين..انتظرته حتى أنهى المكالمة لينظر اليها قائلا فى سعادة:
ياسين وافق يافتون..وافق..وطالبنا بكرة فى مكتبه.
ابتسمت فتون تشاركه ظاهريا سعادته الجلية..ولكن قلبها يرتجف تلقائيا تخشى هذا اللقاء الذى يقربها خطوة من انتقامها ويغرقها أكثر فى تفاصيل ذلك الرجل.
الفصل الثامن8
وقفت زينة أمام المرآة تتأمل شفتيها بشرود..مدت يدها تتلمسهما برقة..تتذكر كيف اجتاحهما مروان..والشعور الرائع الذى شعرت به يغمرها مع قبلته لتنفض أفكارها بعنف..ترفض مسارهم والذى يعيدها مجددا لقصة حب دمرت حياتها..فلم تعد قادرة على تحمل تبعات مشاعرها والتى ستودى بها إلى نهايتها..ولكن تلك المرة سيكون على فارس أن يواجه تلك النهاية معها..لذا يجب أن تقسى قلبها وأن لاتستسلم له مجددا..يجب ان تتعامل معه بكل برود..يجب أن تفعل ذلك..وإلا فلن تستطيع وقف طوفان مشاعرها والذى يهدد بالقضاء عليها تلك المرة نهائيا.
**************************
بحث ياسين بعينيه عن فتون فلم يجدها بين الحاضرين الى مكتبه تلبية لدعوته والذى دعا فيها رؤساء الشركة نبيل وفتون الى جانب محاميهم للاتفاق على البنود وتوقيع العقود ..انتبه نبيل لتلك النظرات فابتسم خفية يدرك أن قرار فتون فى اللحظة الأخيرة بعدم الحضور كان صائبا مائة بالمائة وأن عدم وجودها قد يدحض شكوك ياسين حول لهفتهم لإبرام ذلك العقد..ليسرع قائلا:
فتون بتعتذر عن عدم حضورها النهاردة، الحقيقة احنا كنا مرتبطين بميعاد تانى ولما حددت حضرتك الميعاد ده اضطر حد فينا يروح و يعتذر شخصيا عن عدم الحضور..عموما على ما نراجع البنود مع المحاميين ..هتكون هي على وصول عشان تمضى معانا العقد..
أومأ ياسين برأسه يقاوم ذلك الاحساس بالفضول تجاه من ذهبت اليه فتون لتعتذر منه شخصيا..من ياترى قد يكون بهذه الأهمية لديها لتفعل ذلك..أتراه يكون عدنان؟أحرقته النيران فهو يدرك أن عدنان ضعيفا جدا أمام السيدات الجميلات ذوات المكانة الهامة فى المجتمع ..ربما يحاول الآن أن يضمها لقائمة نسائه..ياالله فيم يفكر الآن؟أوهام نسجها عقله وكلها تدور حول فتون؟ماالذى يحدث له ؟لقد جن حتما خاصة وشعور بخيبة الأمل يجتاحه الآن لعدم وجودها فى ذلك الاجتماع وحضورها الذى سيكون لدقائق معدودة فى ختامه كي تمضى العقود..نعم بالتأكيد قد جن تماما.
********************
كان مروان يجلس على كرسي مكتبه يحاول التركيز على خطته الانتقامية والتى لم يفكر فيها منذ وطئت اقدام تلك المرأة منزله..فأصبح كل ما يفكر فيه هو ذكرياتهم سويا..ليس هذا فحسب بل وجودها حوله يفقده تركيزه تماما يجعله دائم التساؤل عما تفعل الآن؟وفيم تفكر ؟وحين يلمحها هنا أو هناك تتنازعه رغبتان ..احداهما الاستسلام لمشاعره الخائنة والهروع اليها يضمها بين ذراعيه يشبع ظمأه اليها..والأخرى رغبته فى الانتقام منها ليشفى غليله فمن المفترض أن تكون بالنسبة اليه كعدنان وسوزى تماما..ولكن فى الواقع هي ليست كذلك ..فهي الوحيدة من بين أعدائه من كان لها مكانة خاصة فى قلبه لم يصل اليها غيرها..
رفع يديه يتلمس شفتيه يتذكر قبلتهما سويا..مازال يشعر بها..يتذوقها.. يشتاق إلى تكرارها مرارا حتى يشعر بأنه اكتفى منها..وأنه شفي من ادمانها..نعم فهي كالإدمان بالنسبة إليه..يعلم أنها سامة..ضارة بالنسبة إليه حد الموت ولكنه لا يستطيع الابتعاد عنها..إلى جانب وجود ذلك الطفل..فارس..لا يدرى كيف احتل هذا الصغير قلبه بتلك السرعة..ربما لأنه طفل رائع حاد الذكاء ..أو ربما لأنه قطعة منها كان يتمنى أن تكون منه ايضا..أغمض عينيه ألما يتساءل ..ترى من أي الرجال فى حياتها أنجبت ذلك الصبي؟
فتح عينيه بسرعة يمسح دمعة تسللت منها حين تناهى الى مسامعه صوت طرقات على الباب..أمر الطارق بالدخول وهو يعتدل..ليتفاجأ بأنها زينة.. كانت تدلف الى الحجرة تمسك بصينية عليها فنجال قهوة تسللت اليه رائحتها على الفور لتذكره بتلك القهوة التى كانت تعدها له خصيصا ..تلك القهوة التى لم يعد يحتسيها بعد أن خرج من المعتقل فمذاق أي فنجال قهوة فى فمه لا يصل أبدا الى ذلك المذاق الذى اعتاد عليه من يديها..اقتربت منه تحت نظراته المتفحصة لها..كانت مطرقة الرأس هادئة على غير طبيعتها..وضعت الصينية على المكتب فى هدوء ثم التفتت تنوى المغادرة حين استوقفها صوته وهو يقول بصرامة:
ممكن أعرف هو ايه ده؟
التفتت اليه تنظر الى عينيه مباشرة فى دهشة قائلة:
هيكون ايه يعنى؟فنجال قهوة .
عقد حاجبيه قائلا فى حدة:
ما أنا عارف انه زفت فنجال قهوة..هو أنا أعمى مثلا؟..
ليأخذ نفسا عميقا يهدئ به انفعاله وهو يقول بهدوء:
أنا مبشربش قهوة ودادة تحية عارفة كدة..وبعدين تجيبيهالى انتى ليه..ها؟
نظرت اليه بارتباك قائلة:
أنا بدأت أساعد دادة تحية فى شغل البيت من النهاردة.. وهي نبهتنى فعلا انك مبتشربش قهوة بس اللى أنا أعرفه انك..يعنى.. كنت بتشربها..فلما طلبت منها شاي قلت من باب التغيير أعملك قهوة..إنت شربت شاي كتير النهاردة.
نهض مروان واقترب منها بملامح جامدة أثارت اضطرابها وما ان وقف أمامها تماما حتى قال فى برود:
محدش طلب منك تشتغلى فى البيت هنا أو تساعدى حد..ومحدش كان خلاكى وصية علية عشان تقوليلى أشرب ايه ومشربش ايه..منتيش مراتى ولا حتى عشيقتى..انتى يادوب واحدة جبتك بيتى عشان ابنك صعب علية يفضل هربان من عدنان وفى الآخر يلاقيه ويعاقبه بسبب واحدة أنانية زيك.
اطرقت برأسها لثوان تخفى أثر الألم الذى أصابها من جراء كلماته الجارحة ..لتعود وترفع اليه عينان جامدتان خاليتان من المشاعر وهي تقول:
متعودتش حد يكون ليه فضل علية وبما انك مرضيتش أقدملك خدماتى فى مقابل حمايتك لينا ..قلت أدور على حاجة تانية أدفعلك بيها تمن حمايتك..ملقتش أدامى غير الشغلانة اللى عرفتنى وأنا بشتغلها..الخدمة فى البيوت..ويا ترضى أساعد دادة تحية ياهخرج أشوفلى أي شغلانة برة.. واللى يحصل يحصل.
ثم اشارت الى جسدها وهى تستطرد قائلة:
وأظن انى هلاقى ألف مين يشغلنى.
ظهرت ملامح الغضب على وجه مروان وبرزت عروق رقبته من شدة انفعاله..ورفع يده ليصفعها فأغلقت عينيها بشدة تنتظر ألم تلك الصفعة ..ولكنها انتظرت وانتظرت ولم تأتى صفعته لها ..فتحت نصف عين تنظر اليه فوجدته قد عاد الى مكتبه يعطى لها ظهره ويستند بكلتا يديه على المكتب تبدو مفاصل أصابعه بيضاء من قوة ضغطه عليهم وكأنه يسيطر على نفسه بصعوبة..فتحت كلتا عينيها على صوته وهو يقول بصرامة:
روحى اشتغلى مع دادة تحية زي ما انتى عايزة بس ياريت متورنيش وشك اليومين دول والا صدقينى..هتندمى يازينة.
التفتت تغادر بسرعة تدرك مدى غضبه الذى تصلها ذبذباته رغم بعده عنها ولكنها ما لبثت ان توقفت بجمود حين سمعت صوته يقول بصرامة :
استنى.
التفتت ببطئ لتراه ينظر اليها وقد عاد اليه قناع الجمود مجددا وهو يمسك فنجال القهوة يسكب محتوياته فى سلة القمامة المجاورة للمكتب وهو يقول:
زي ما النهاردة برمى القهوة دى فى الزبالة.. فى يوم قريب هرميكى زيها..وده وعد منى يازينة.
أدمعت عيناها رغما عنها..فغامت تلك العينان الرماديتيان الجميلتان.. فتحت فمها لتقول بألم(لن تكون أول مرة تلقينى فى سلة مهملات حياتك ولكننى أعدك أنها ستكون الأخيرة)ولكنها أطبقت شفتيها بقوة والتفتت مغادرة المكان بسرعة ليغمض مروان عينيه بألم ليعود ويفتحهما مجددا ينظر الى فنجال قهوته بضعف..بحنين يغمره ..وجد نفسه رغما عنه يمد يده ويمسكه ..يقربه من أنفه ..يغمض عينيه وهو يشم رائحة القهوة الجميلة بشغف ..ليرفعه الى شفتيه يرتشف آخر رشفة ظلت به..يغلق فمه على مذاقه الذى أعاده سنوات الى الوراء..الى أول فنجال قهوة تذوقه من يديها وقتها استوقفها قبل أن تغادر قائلا:
انتى حطالى ايه فى القهوة دى؟
نظرت اليه ببراءة ودهشة قائلة:
محطيتش حاجة يا مروان بيه..القهوة والمية وبس.
قال بخبث:
يعنى محطتيش حاجة تانية غير القهوة والمية.
قالت فى نفي سريع:
آه والله..أنا عارفة انك بتشربها سادة .
ابتسم قائلا:
يعنى محطتيش صابعك فيه؟
قالت باستنكار :
لا طبعا..وأحطه ليه بس؟
اقترب منها ليمسك يدها يرفعها أمام ناظريه وهو يتأمل اصابعها الجميلة بعينيه يقول هامسا بشغف:
أصلها مسكرة اوى فقلت أكيد صوابعك الحلوة دى لمستها.
اتسعت عينا زينة وهي تنظر اليه بدهشة فقد كانت تلك هي المرة الأولى التى يعبر فيها مروان عن اعجابه بها ..لتفلت يدها من يده وتسرع مغادرة تتبعها ابتسامته التى اتسعت فى اعجاب.
فتح عينيه ينفض تلك الذكرى بعيدا يشعر بالغضب من نفسه لضعفه تجاهها ..مازالت تنفذ الى أعماقه ..مازالت فى كيانه تقبع..مازالت تؤثر فيه..قذف ذلك الفنجال ليرتطم بالحائط بقوة متحطما الى مئات الشظايا لينظر بحزن الى أجزائه المكسورة كروحه تماما.
******************
رن هاتف سوزى لتنظر الى شاشته فوجدته رقما غريبا ..عقدت حاجبيها المنمقين بتساؤل ثم ما لبثت أن أجابت الهاتف قائلة فى هدوء:
ألوو.
أجابها صوت رخيم يقول بشوق:
وحشتينى ياسوزى.
ازداد انعقاد حاجبيها وهي تقول:
مين معايا؟
قال صاحب الصوت فى هدوء:
تؤ تؤ ..مش معقول يا قطة..نسيتى صوتى؟
التمعت عينا سوزى وهي تقول:
عدنان..مش معقول؟
رنت ضحكاته ليقول من بينهم:
لأ معقول ياقطة..أخبارك ايه؟
ابتسمت سوزى قائلة:
أحسن منك..ايه اللى فكرك بية ياعدنان؟
التمعت عيناه اعجابا وهو يقول:
وأنا من امتى نسيتك بس؟
قالت سوزى فى عتاب:
لأ نسيتنى ياعدنان ..سنتين مشفتكش ولا رفعت التليفون وكلمتنى ..قطعت كل اتصال بينا..تبقى نسيتنى ولا لأ ؟
ابتسم عدنان قائلا:
وانتى مكلمتنيش ليه ياسوزى لما أنا قطعت زي ما بتقولى؟
وضعت سوزى قدما فوق الأخرى وهى تتراجع فى مقعدها قائلة بغرور:
مش سوزى المنشاوى اللى تتصل بحد ياعدنان..انت نسيت انا ابقى مين ولا ايه؟
تعالت ضحكات عدنان ليقول بعدها:
تعرفى اكتر حاجة بحبها فيكى ايه ياسوزى؟
صمتت سوزى ليستطرد هو قائلا:
غير انك حلوة أوى وذكية أوى.. بس ثقتك بنفسك أكتر حاجة بحبها فيكى.
زفرت سوزى قائلة:
عايز ايه ياعدنان؟قول وخلصنى.
ابتسم عدنان قائلا:
عايز أشوفك.
قالت سوزى فى برود:
طب ما تيجى.
اتسعت ابتسامة عدنان قائلا:
مش هينفع اخرج اليومين دول من البيت أصلى مستهدف ياقطة..تعالى انتى فى مكانى السرى .
قالت سوزى فى استنكار:
انت عايزنى آجى جحر الشيطان.
ضحك عدنان ثم قال:
انت عرفتى اسمه كمان.
قالت سوزى بثقة :
مش معنى انى بعيدة يبقى معرفش كل حاجة عن كل حبايبى..أنا برده سوزى ولا نسيت ياعدنان؟
ابتسم عدنان قائلا:
منسيتش ياسوزى بس انا مش واحد من حبايبك ..أنا كنت أعز الحبايب..يظهر انتى اللى نسيتى..عموما أنا مستنيكى ياسوزى عشان أفكرك.
قالت سوزى فى ملل:
خلاص ياعدنان..جاية..سلام
ثم أغلقت الهاتف وألقته على الطاولة لتنظر الى الأمام قائلة فى حيرة:
ياترى ايه اللى فكرك بية ياعدنان؟..عموما ياخبر بفلوس بكرة هيكون ببلاش.
