رواية تشابك ارواح
الفصل الثامن والثلاثون38
بقلم امينة محمد
تنتهي الشرور دومًا، فلا هذه الدنيا ستنتهي وبها الشر، ولا القلوب ستُكمل وداخلها الحقد، لها نهاية في يومٍ من الأيام.
_"يتقبض علينا ليه ياباشا، بتهمة إيه؟"
قالتها والدة «رنا» بحسرة، بينما الثانية ارتجفت أوصالها جوار والدتها، ليجيبها الضابط بحدة:
"بتهمة فتح المقابر على الموتى، وبتهمة التعرض لآسر الغمري ومحاولة قتل مراته من بنتك، اتفضلوا"
هُنا لم يستوعب عقلها، ولا قلبها، بل وجدت هالة سوداء تحطيها، وأحد ما يقبض روحها، فوقعت في مكانها ميـتة بعد أيامٍ مرت عليها بمرضها الذي تزايد، وقلة تغذيتها لدرجة أن جسدها أصبح أقل حجمًا، وتغير وجهها للشاحب فكانت على قيد الحياة جسدًا، ولكن ميتة روحًا.
الخوف الذي يحيط قلب الإنسان أكثر خطورة من أي مرض قد يصيبه، وهي أصابها خوف الفقد، خوف الوحدة.
نهايتها التي لم يعهدها أحد، لم يتوقعها شخص،
ماتت على مرضها الذي انتصر عليها، والحقد يملئ قلبها، ماتت على كبيرة من الكبائر لن يغفر الله لها عليها.
صرخت والدتها بفزعٍ وجلست جوارها تحاول إفاقتها بقولها باستمرارٍ:
"بت يا رنا، أنتِ يابت، فتحي عينك"
أقترب أحد أفراد الشرطة يتحسس نبضها ثم رفع بصره لرئيسه مشيًرا له بأنها نهايتها، لمحت أمها إشارته وملامح الأسف التي أعتلت وجوههم، حتى الشيخ الذي ردد بتنهيدة:
"إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله!"
لطمت أمها على وجهها دون رأفة بحالها وهي تصرخ بنحيبٍ قوي، ضاعت ابنتها، ضاعت وحيدتها، ماتت.
بعد دقائقٍ وصلت سيارة الإسعاف وحملت «رنا» نحو المستشفى بينما رفقتها والدتها التي كانت تحت مراقبة الشرطة.
نُقلت سريعًا للطوارئ ليتم فحصها للمرة الأخيرة، ولكن كان للموت رأي آخر، عندما زارها وكان دورها، خرج الطبيب والأسف يعتلي وجهه قائلًا:
"البقاء لله، سبب الوفاة سكتة قلبية، هنعملها تقرير بحالة الوفاة عشان إجراءات الدفن، ربنا يصبرك"
استمعت لحديثه بقلب مفطورٍ، وعقلٍ كاد يجن، لا تستوعب ما يقول!
على الجانب الآخر أعتدل في نومه يستمع لكلام الشيخ وعيناه مستقرة عليها، الأسف اعتلى ملامحه هو الآخر متذكرًا كل لحظة كانت بينهما، كانت زوجته وحبيبته في يومٍ من الأيام وأضاعت كل شيء هباءًا منثورًا، كانت سببًا في أذيته وأذية قلبه، كانت سببًا في موته على قيد الحياة، وها هي لم تعد على قيد الحياة.
_"رنا، تعيشي أنتِ"
قالها بنبرته المتعبة بعض الشيء، بينما هي شهقت بعنفٍ واضعة يدها على فمها تحاول أن تكتم صرختها، الدموع انهمرت على خديها بلا توقف، تلك التي حسبتها كأختٍ لها تودع الحياة بعدما انتصر الشر في حياتها، لتقابل وجهه الكريم الذي لم تحسب له حسابٍ يوم، ليتلقاها القبر ليوم الحساب.
تنهد هو الآخر بضيقٍ شديد وقربها له يضمها لأحضانه، لم يكن يتوقع أن النهاية كانت قريبة هكذا، لم يتوقع أن كل شيء يذهب في عدة ثوانٍ هكذا.
رددت من بين بكائها وهي تتمسك به بقوة:
"يارب يارب، ربنا يرحمها ويسامحها يارب، سامحها يارب، دي حتى متابتش يا آسر، يارب سامحها يارب، لا حول ولا قوة إلا بالله"
انتحبت باكية وتمسكت به بقوة، لا تود خسارته لشعورها بأنها على وشك الخسارة الآن، لا تود صدقًا.
ضمها له أكثر، يحاول أن يطمئنها بينما تلك الفكرة لا تغادر باله؛ فكرة أن الحياة أقصر مما نتوقع، حياة تشبه المحطات التي نمر بها بحياتنا وفي النهاية توجد محطة واحدة وتدعى الموت، قد تكون قريبة جدًا منك، وقد تكون بعيدة تمام البعد، زار قلوبهما الأسى، سرت القشعريرة في جسدهما وهما بين أحضان بعضهما، ماتت امرأة كانت تسكن -قلبًا وقالبًا- رفقتهما منذ أيام، ها هي تغادر الحياة تمامًا.
بعد قليلٍ من الصدمة التي احتلتهما مع بكائها، قال بصوته الهادئ:
"أهدي يا مرام، نصيبها ربنا يرحمها، أهدي"
مسحت دموعها بكفيها بينما جسدها ينتفض بين يديه، وأردفت بصوتها الباكي:
"قوم نروح لأمها يا آسر، أكيد مينفعش نسيبها كدا ونساعد في إجراءات الدفن"
بالرغم من التعب الذي ينهكه، ولكن الصدمة جعلته يتناسى كل شيء ويطيعها في حديثها، وتحرك من مكانه يرتدي سترة سوداء وبنطال أسود، وأرتدت هي الأخرى عباءة سوداء وحجابها، كفكفت دموعها عدة مرات ولكنها كانت تنهمر مجددًا بلا توقف.
يراقبها من بعيدٍ هكذا، نال بقلبٍ مثل قلبها بعدما أعطته الحياة صدمات عدة، نال فتاة جميلة مثلها من داخلها وخارجها، ونال منه الحب، أيعقل أن الطفولة ومشاعرها تُعاد مجددًا رفقتها؟
ليست طفولة بل هي مشاعر ناضجة، من رجلٍ وامرأة، وليس مراهق ومراهقة، وشتان بين هذا وذاك.
أخبر والدته بذلك الخبر لتتلقاه بصدمة هي الأخرى، وتجهزت وغادرت معهما نحو المستشفى التي يتم بها الإجراءات الخاصة «برنا» وتولى هو كل شيء هناك، أقترب نحو والدتها بعد مدة من تجميع شتات النفس:
"البقاء لله، ربنا يرحمها ويغفرلها ويسامحها، ربنا يصبرك"
ترجته بكل ما أوتيت من قوة، ترجته بقلبٍ يرتجف وجسدٍ يرتعش، ومن بين بكائها تحدثت بصوتٍ باكي ومُبكي للقلب:
"سامحنا يابني، سامحنا بالله عليك، سامحها يا آسر والله حبتك من كل قلبها، وكانت عاوزة تسعدك وتفضل معاك، سامحنا يابني عالطريقة اللي حاولنا نخليك تتجوزها بيها، سامحها يارب، سامحها يارب، اه يابنتي ياوجع قلبي"
أقتربت منها «مرام» تربت على كتفها ببكاءٍ، ونبست بصوتٍ مرتجف:
"هي دلوقتي بين ايد ربنا محدش يقدر يقول حاجة غير إننا كلنا مسامحينها ياطنط، ادعيلها الله يرحمها"
في الحقيقة، المرض لم يغلبها فقط، بل قلبها أيضًا لم يتحمل فاجعة أن تُلقى في الحبس مسجونة، فأصابته سكتة ليتوقف، قلبها خانها ولم يتحمل.
توجهوا بها للمقابر بعدما صلوا عليها بالمسجد، وكان معه أصدقائه الثلاثة بعدما علموا بذلك الخبر، كانوا جواره لم يتركوه، ودفنت هي تحت التراب، نهاية كل إنسان هنا.
كل الواقفين يرون الآن ما سيحدث معهم في يومٍ من الأيام، فاستعد جيدًا لذلك اليوم، يوم لا مفر منه ولا هرب، هنا حيث نهاية حياة، وبداية أخرى ويا ويلك لو كان عملك سيء فستظل تُحاسب هنا ليوم الحساب.
_"بسم الله الرحمن الرحيم، كل نفسٍ ذائقة الموت، كل واحد واقف هنا في يوم من الأيام هيتدفن كدا تحت التراب، وكل الموجودين هيمشوا ويسيبوه، وهيفضل هو هنا لوحده بيتحاسب، سواءً كان عمله خير أو شر، فأتقوا الله، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ومتاعها وتنسيكم الآخرة، إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وما عند الله، فأختار ما عند الله!"
هكذا أردف «مروان» بصوته الجامد من بين الجموع هنا، لم يهتز صوته ولو لثانية وهو يتحدث بكل كلمة أعادت كل شخصٍ من غفلته، وأكمل على نفس الوتيرة بقوله:
"اللهم ارحمها واغفر لها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة، اللهم أبدلها دارًا خيرًا من دارها، وأهلًا خيرًا من أهلها، وأدخلها الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، اللهم هون حسابها ولين ترابها، وألهمها حسن الجواب عند السؤال، اللهم عاملها بما أنت أهله، ولا تعاملها بما هو أهله. اللهم اجزها عن الإحسان إحسانًا، وعن الإساءة عفوًا وغفرانًا."
أنهى كلماته وكل من خلفه يردد «آمين»، بينما والدتها تجلس في الأرض جوار القبر وتبكي بكاءًا شديد، دنيا فانية.
أسف على حال قلب أحب فلم يُحَب، وعين لمعت فلم تدم، وروح رفرفت فكُسر جناحها.
كان يجلس في شرفة منزله بعدما عادوا من المقابر، فتح هاتفه بعدما كان على وضع الصامت منذ أمس، فوجد منها ثلاثون مكالمة، وعدة رسائل، قطب حاجبيه باستغرابٍ وقلقٍ شديد، فأعاد الإتصال بها سريعًا وقلبه يرجف بعنفٍ، وصله صوتها بلهفة:
"حمزة"
أجاب بقلقٍ:
"معاكِ، في إيه يا رزان رانة عليا 30 مرة، خير يارب؟"
هكذا نبس في محاولةٍ لفهم ما يجري، فأجابت بعتابٍ:
"أنت مشيت امبارح على طول ليه؟"
ابتلع غصته لا يعلم كيف يجيب، تلبك وتردد، ولكن وصله ردها:
"القضية اتقفلت عشان نادر مات وأنا مكنش ليا أي علاقة بشغله، أمه حاولت توقعنا في فخ بس طلع فاشل، والمحامي قال مش هتعر.."
لم تكمل كلامها بسبب كلماته التي قاطعتها بحدة:
"المحامي اللي هيبقى خطيبك صح؟"
_"خطيبي؟"
وصله صوتها باستنكارٍ ليؤكد على حديثه بسخرية:
"أيوه، هو قالي امبارح أنه خطيبك، وشكله والله أعلم مستنين العدة عشان تتخطبوا"
_"هو مين ده اللي مستنين العدة عشان نتخطب أنت بتقول أي كلام ولا إيه!"
هدرت بحدة واستعجاب لأمره، ليجيبها بنفس الحدة قائلًا:
"هجيب كلام من عندي ليه، أهبل أنا مثلًا ولا طاقق عندي سلك في دماغي، هو اللي قالي كدا يا رزان أبقي أساليه وألف مبروك ياستي، متزعليش إنه قالي ومكنتش مفاجأة، كانت هتبقى مفاجأة تقرف!"
صاحت بوجهه مكملة حديثها:
"وأنت مسألتنيش ليه وجاي بترميلي تُهم، أنا أصلًا معرفش هو قال كدا نيابة عن إيه ياحمزة، وآه بالكلام اللي بتقوله ده فأنت فيه سلك في دماغك طاقق، أنا عدتي هتخلص وكنت مستنية حد تاني يتقدملي بس شكله مبيفكرش أصلًا في الحوار"
استنكر رافعًا حاجبه الأيمن، وسأل:
"حد مين يعني؟"
_"حد بيتعصب ويمشي من غير ما يتفاهم مع الناس، بس جدع وشهم وساعدني، اسمه حمزة لو تعرفه"
قالتها بحنقٍ ساخطة، ليكمل بسخرية:
"معرفش الأول اللي بيتعصب ويمشي، بس أعرف التاني الجدع الشهم"
_"هو أنت فيك حيل تتريق، سلام عشان أنا اتعصبت أوي"
زفرت بضيقٍ ليقهقه وهو يستند وتبدلت نظرات الغضب لأخرى هيامٍ بعينيه ولمعة واضحة:
"ده أنا هطلع ... ولا بلاش لأحسن ملافظي تخدش حيائك، ما تقولولي عنوان المحامي ده ولا مكتبه فين!"
توترت فسألته:
"ليه، أنت ناوي تعمل إيه؟"
_"عايز أخدله اتنين كيلو موز وكيلو عنب، أتعابه معاكِ امبارح، مش عيب الراجل برضو مياخدش أتعاب؟ وهقوله كلمتين ينفعوه للزمن، ومش هعمل حاجة تاني والله"
أنهى جملته ببراءة بالغة، مرفرفًا برموشه مرتين مع ابتسامة ساخرة تزين جانب فمه، أو ماكرة ربما.
_"لا مش هقولك!"
قالتها بتوتر، فهي تعلم أنه لن يمرر ذلك على خير، فقال ببساطة:
"هتعب نصاية أجيبه لوحدي، ماشي عادي بس على فكرة عيب متسمعيش كلام... حمزة الشافعي جوزك المستقبلي"
قالها ليُشفي غليله من ذلك الابلة الذي عكر صفو مزاجه بالأمس، ودّعها بمزاجٍ جيد لم يعهده على نفسه يومًا، همس بينه وبين نفسه بسعادة مفرطة:
"أنا من السعادة عاوز أرمي نفسي من البلكونة"
ثم تحرك من الشرفة نحو أمه بالداخل مهللًا وهو يحتضنها بقوة، بينما هي تعجبت لأمره، ذلك المجنون الذي في كل ساعة بحالٍ مختلف:
"جرا إيه يالا، أنت اتهبلت ياحمزة أخدك العباسية، في إيه يابني"
تشدق بقوله وهو يجيبها:
"عباسية؟ يعني فرحتي محتاجة عباسية يا أمي، شكرًا يا أمي شكرًا، عن أذنك بقى عندي مشوار كدا وراجع، أجيبلك معايا موز وعنب؟"
ضربته في كتفه بخفة وهزت رأسها بيأسٍ وغادرت من أمامه نحو غرفتها، بينما هو تحرك من الحارة بسيارته بعدما بحث عن عنوان ذلك المحامي الذي سيحرق دمه اليوم مثلما هو فعل بالأمس، ليصبحا متعادلين الآن والنتيجة في الحقيقة سترضيه هكذا.
وصل عند مكتبه وولج بيده الفاكهة التي قال إنه سيشتريها؛ الموز والعنب، طالع السكرتيرة الجالسة على مكتبها وتخطاها نحو مكتب «هيثم» بينما هي حاولت إيقافه ولكنه لم يلبي نادئها، حتى وصل له مبتسمًا بينما المحامي أشار لها بالمغادرة وطالعه باستغرابٍ:
"أنت اللي كنت امبارح مع رزان وشوكت بيه، خير حضرتك داخل كدا ليه المكتب!"
اقترب ببرودٍ يُحسد عليه، وجلس واضعًا ساق فوق الأخرى مبتسمًا بتوسعٍ ونابسًا بتشفي:
"أنا أصلي نسيت أعرفك عليا امبارح وكدا فقولت والله ما ينفع لازم اجيلك النهاردة أعرفك عني، أنا المحـاسب حمــزة الشافــعي زوج رزان المستقبلي ان شاء الله، فأنا استغربت بصراحة إنك بتقولي خطيبها، إزاي يافندم هو الشرع عندكم محلل للست أكتر من واحد غير عندنا ولا إيه استغفر الله العظيم يعني، وكنت جاي أقولك إني راجل شرقي جدًا"
عبس الآخر واحتنق وجهه بالدماء، وصاح به بغضبٍ:
"أنت عاوز إيه؟ وجاي تهددني يعني في مكتبي"
تفاجأ «حمزة» ساخرًا منه بقوله:
"يوه، هو أنا هددتك ولا إيه؟ أنا منطقتش بكلمة يافندم تهددك، متتحمقش كدا لأحسن يطقلك عرق عشان تعرف تتجوز ان شاء الله، بصراحة كنت جايبلك فاكهة زيارة بس والله خسارة فيك، هاخدها لأمي عشان تعمل لمراتي مستقبلًا ان شاء الله بشاميل، أصلها بتحبه أوي!"
ابتسم تلك الابتسامة الصفراء وأخذ الفاكهة وتحرك من المكتب وهو يلقي نظرة على السكرتيرة قائلًا بسخرية:
"أبقي اديله شوية ماية بسكر، أصله هيغمى عليه"
وغادر المكتب كاملًا وبداخله سعادة لا توصف، كما طائر للتو نال حريته بعدما حبسه شرير ما يملك قلبًا قاسيًا.
حل الصباح على القلوب، وجميعهم الآن ينتظرون قرارًا مصيريًا، يجلسون في توترٍ عجيب، ولكن بعضهم يبتسم بثقة بالغة.
حل الصمت على الجميع، ثم صدر صوت القاضي يحكم بالعدل الذي أقسم أمام الجميع بأنه لن يحكم إلا به.
_"حكمت المحكمة حضوريًا بتحويل أوراق المتهم «وليد الأنصاري» إلى فضيلة المُفتي، رفعت الجلسة!"
صراخ وعويل خرج من فمه وهو يحاول الدفاع عن نفسه، ثم تهديده نحو الواقفين ببغض:
"والله ما هحلكم، فاكرين إني هسيبكم؟ رجالتي كلها برا يا كلاب، أنا هوريكم، أنا وليد الأنصاري ياكلاب"
كانت تقف جواره تطالع والدها بنظراتٍ انكسار، بالأساس لم يلاحظ وجودها هنا، ولم يطالعها ويخبرها بأن تسامحه عمّا فعل بحقها، بل ظل يردد بأنه سينتقم منهم جميعًا، كادت أن تقع في وقفتها ولكن طوق النجاة خاصتها أمسكها سريعًا يساندها، تنهد بحسرة على قلبها وأحكم إمساكه لها بقوله:
"حقك عليا، قولتلك بلاش تيجي النهاردة بس صممتي، يلا تعالي نمشي!"
كاد أن يتحرك بها وهي استسلمت للواقع المفروض عليها، ولكن أوقفهما صوت والدها الحاد:
"سيليــن!"
تجدد الأمل بداخلها والتفتت له، فلا قوي يكسر تلك الفطرة التي بداخل كل منّا تجاه أبويه، قابلها الآخر بقوله بحدة كبيرة:
"إعملي حسابك على عذاب شديد معاهم، مش هرحمك أنتِ كمان"
انطفئ الأمل ومعه آخر ذرات الصبر، جذبها «مروان» بشكلٍ أكبر لها، وجعلها تسير رغمًا عنها بعدما أشار «لحمزة» بأن يناوله مفاتيح سيارته، وغادر بها نحو السيارة يفتح لها باب مقعدها وساعدها في الجلوس وهي صامتة، كان يقف أمامها وربت على ظهرها برفقٍ:
"خدي نفسك، وأهدي!"
بكت عندما حاول أن يواسيها، بكت بقوة وبحرقة كبيرة خرجت من قلبها، قربها له يضمها لصدره بقوة قائلًا بأسفٍ:
"أنا عارف إنك موجوعة جامد وقلبك دلوقتي كله قهر، بس والله ده بلاء ولازم تصبري عليه، أهدي عشان خاطري يا سيلين، ربنا يلطف بيكِ يارب ويهونها عليكِ وعلى قلبك"
_"حاسة إني عايزة أموت، مبقاش عندي أي قدرة تخليني أكمل كل ده، تعبت أوي وقلبي واجعني بشكل ميتوصفش، خد إعدام قدام عيني وبدل ما يقولي سامحيني يابنتي، بيهددني"
نبست من بين بكائها ونحيبها، وتمسكت به بقوة، بينما هو تحدث يؤنبها بقوله:
"تموتي ياسيلين؟ طب وأنا هتسبيني كدا لوحدي"
أعادته معها لنقطة الصفر، أو نقطة الوحدة تحديدًا، ليكمل على حديثه الذي قاله بتنهيدة:
"طب حقك عليا واللي يرضيكِ هعمله والله، وهو الله يسهله بقى ده قدره وكل حاجة بالقانون بسبب أعماله، ولسه له عند ربنا كتير أوي يوم الحساب ان شاء الله"
رفعت بصرها له تتابعه بعينيها الزرقاء اللامعة بقولها بتأنيبٍ:
"متزعلش من كلامي والله ما هسيبك لوحدك خالص زي ما أنت مش هتسيبني لوحدي، تعالى نمشي يلا"
قبلها على مقدمة رأسها واومئ لها برأسه، ثم أغلق لها الباب وتوجه ناحية مقعده يجلس ويقود متسائلًا:
"عارفة هاخدك فين؟"
استنكرت وهي تمسح دموعها ليجيبها ببساطة:
"التُربة، عارفة مكان تُربة والدتك فين!"
توسعت عيناها بصدمة، قصد المقابر حقًا!
أومأت فقط برأسها له دون إجابة، حتى شعرت بأنه لديه الحق وأنها تود أن تستشعر بمكانٍ يخص والدتها، لذلك أخبرته عليها ووصل هو لهناك وترجل من سيارته رفقتها.
انتبهت لصوته الذي خرج بكل هدوءٍ وسلاسة:
"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمُسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"
تحركت أمامه حتى وصلا أمام قبر أمها، المُدون عليه اسمها «نهلة الصادق» وتاريخ وفاتها وتاريخ ميلادها، مسحت التراب عن اسمها بابتسامة بسيطة:
"وحشتيني، الدنيا صعبة من غيرك يا مامي"
يعلم ما الشعور الذي تمر به جيدًا، خسارة الأم ذلك موجع كثيرًا، يعلم ما الذي يراودها وكيف قلبها مُقيد الآن، وما يميز تلك العلاقة البسيطة أنهما يعرفان مشاعر بعضهما جيدًا.
_"الله يرحمها ويحسن إليها، ويسكنها فسيح جناته، ويرزقك لُقياها في الجنة ان شاء الله"
قالها بابتسامة خفيفة فطالعته والاستغراب كاد يقتلها داخليًا، وما استطاعت أن تُخفي ذلك السؤال أكثر من ذلك فرمته بوجهه:
"هو أنت إزاي مش خايف من الموت، أنا من ساعة ما دخلت المقابر وأنا حاسة إني قلبي مقبوض وخايفة أوي، ممكن أكون عشان معملتش حاجات كتير صح فـ حياتي"
ابتسم بخفة على سؤالها، فكان في وقته بالنسبة له ونجحت بإختيار الأسئلة التي تُلقيها عليه، لذلك أجاب بكل هدوءٍ:
"عشان عندي يقين إننا كلنا هنموت في يوم من الأيام، وعامل حساب لليوم ده كويس، مين فينا مبيخافش من الموت أو فراق الدنيا بس عندي ثقة إن اللي عند ربنا أحسن بكتير، وكل يوم بصحى من نومي بحمد ربنا على إنه أحياني تاني عشان أكمل سعي وعبادة، وكلنا لينا يوم هنموت فيه، الله أعلم أمتى بس جاي أكيد"
_"ربنا رزقني بيك عشان أفوق من اللي كنت فيه وأرجع للطريق الصح"
قالتها بودٍ مع ابتسامة عريضة شقت فمها، ليجيبها ببساطة مازحًا ليُغير مزاجها، وبنظراتٍ شعت حنانٍ أتصلت مباشرةً مع لمعة عينيها:
"أنا وجودي في حياة أي حد حاجة حلوة، بس أنا اللي ربنا رزقني بيكِ يا ست سيلين"
ابتسمت بدفءٍ وبتوسعٍ لحديثه الصريح الذي جعلها تفهم جيدًا كيف يفكر، ثم عادت تطالع قبر أمها وتدعو لها حتى غادرا للبيت مباشرةً.
حلم مطولًا بها حتى جائته من أحلامه لواقعه وتمسكت بيده في حياة مليئة بالحب.
وصل بالسيارة أمام بيتها ليأخذها للسوق ليشتروا بعض الأشياء المتبقية للشقة خاصتهما، شقة أحلامهما التي سيصنعان بها كل الحب والمشاعر الدافئة.
غادر السيارة نحو البيت وطرق الباب ينتظر إجابة، خرج له «مُحسن» يطالعه بتنهيدة:
"أهلًا يا ابن إبراهيم"
_"تسلم يا حمايا، مراتي فين ياحمايا؟ عندنا مشوار سوا أنا ومراتي"
قالها مبتسمًا بوجه والدها الذي طالعه بحنقٍ، نظراته تحمل السخط والضيق:
"بتلبس، متتأخروش برا"
قالها بأمرٍ وهو يطالعه شزرًا ليبتسم «عبدالله» قائلًا:
"أوامرك يا حمايا، مع إنها بقت مراتي بس هي لسه في بيت أبوها وأنا واجبي إني أطيعك، مش هنتأخر"
جلس «مُحسن» واضعًا ساق فوق الأخرى، وطالعها وهي تخرج من غرفتها والابتسامة تزين ثغرها، مرتدية فستانًا بسيطًا باللون الأزرق، ما يحبه أن ملابسها محتشمة وتعجبه بشدة أناقتها.
_"أنا لبست أهو، يلا"
طالعت والدها ثم وجهت بصرها ناحية «عبدالله» الذي غازلها:
"إيه الحلاوة دي ماشاء الله، ده إحنا نخبيكِ من العيون بقى على حلاوتك دي، يابختي إنك مـراتي"
أردف «محسن» ساخطًا وهو يطالعهما بطرف عينه:
"على فكرة ياعبدالله أنت قولت كلمة مراتي بتاع خمس مرات، أنا اللي كنت بجوزهالك على فكرة وعارف إنها بقت مراتك"
ضحك بخفة واقترب يمسك يدها مُضيفًا بقوله:
"زي ما تقول كدا ياعم محسن يا حمايا أنا عاجبني كلمة مراتي، فتلاقيني بقولها كل دقيقتين، كلمة حلوة كدا، تسنيم مراتي، ياه مُتعة"
ثم غمزه عبثًا بطرف عينه ولوح له بيده يودعه وسحبها بعدما ألقت السلام على والدها، تحرك بسيارته من الحارة والإبتسامة تعتلي ثغره:
"كتبتِ هنجيب إيه؟"
أومأت برأسها وهي تخرج هاتفها قائلة:
"أيوه كتبتهم عالفون أهو، هو الراجل جاب الرُكنة صح؟"
_"كلمني الصبح وهيجيبها على بكرا إن شاء الله، والأدوات الكهربائية كلها هتيجي بكرا في عربيتين ان شاء الله"
أضاف بابتسامة خفيفة، فهو من تولى تجهيزها كاملًا بقرارٍ من والده بأنهم سيأخذون «تسنيم» بحقيبة ملابسها فقط، ثم نبست بتنهيدة:
"كل ما بتجيب سيرة الحاجات دي.. بتضايق"
قطب حاجبيه مُتسائلًا:
"ليه يعني؟"
أجابته بتنهيدة خفيفة:
"عشان يا عبدالله أنت عارف إنه مافيش حد عمل كدا في الحارة، مينفعش أصلًا"
تنهد هو الآخر في محاولة للنقاش معها بهدوء وابتسامة بسيطة تعتلي ثغره:
"أبويا أتفق مع أبوكِ يا تسنيم وخلاص، وأحنا بنتجوز زي ما الشرع قال، وأنا مش عاوز حاجة ولا الكلام ده فدماغي، أنا مش عاوز غيرك بس تكوني معايا"
رسمت ابتسامة واسعة على ثغرها وهي تتابعه في حديثه ذلك، يخبرها دومًا بأنه لا يريد غيرها، ولا يرغب بمثل قلبها بحياته.
وصلا سويًا للسوق وكان كل شيء بإختيارهما سويًا، بمشاركة بدأت بينهما في حياة ستكون جميعها مبنية على المشاركة!
ـ******
بداية حياة مع شخصٍ أختاره القدر لي، ليكن لي الحياة.
كانت تجلس بفستانها البسيط أمامه رفقةً أبيها وأخيها، بينما هو الابتسامة مرتسمة على وجهه وجواره يجلس رجلًا كبيرًا بالسن، تحدث بابتسامة وصوتٍ خفيض:
"أنا جده وأنا اللي مربي إياد وعارف ابني على إيه، زي ما بيقولوا أعز الولد ولد الولد، ولما قالي إنه وأخيرًا لقى بنت الحلال اللي حابب يتجوزها قولتله منقعدش نروحلها على طول، يشرفنا إننا نناسب حضراتكم ونطلب ايد الآنسة ندى لإياد"
توسعت ابتسامته عندما انتهى جده من كلامه وطالعها بطرف عينه يراقب ردة فعلها، فوجد الابتسامة على ثغرها بخجلٍ، ووجنتيها تبدلت للون الأحمر الطبيعي الذي زينها، وسمعت صوت والدها يخرج بابتسامة:
"شرف لينا إحنا، وإياد شخص كويس وأنا متأكد أنه هيحافظ على ندى بنتي، ولا إيه يا ندى"
ابتسمت لوالدها بينما تومئ برأسها مؤكدة على كلامه، وقالت بصوتٍ بالكاد خرج:
"اللي تشوفه حضرتك يابابا"
_"يبقى على خيي'خير' ان شاء الله، نقيأ 'نقرأ' الفاتحة بقى"
قالها «أنس» مبتسمًا، وبالفعل فعلوا ذلك بينما توجها سويًا يجلسان قرب العائلة ليتحدثا:
"مبارك عليا أنتِ"
قالها وهو يطالع خجلها ذلك الذي راق له، لتجيبه بابتسامة وبصوتٍ خفيض بالكاد خرج منها حاولت كثيرًا تجميعه:
"مبارك، بس أنا عاوزة أعرف كان كلامك يوم خطوبة أنس له علاقة بـ ده صح؟"
ضحك بخفة مُجيبًا:
"فعلًا، أنا من أول يوم شوفتك وكأني مشوفتش بنات قبل كدا، سبحان الله كأن ربنا بيقول هي دي النصيب، محبتش ألف وأدور بما إني شخص جدي وقولت ندخل البيت من بابه على طول"
توسعت ابتسامته، هكذا تبدأ خطوات الزواج الناجح بحبٍ فطري يعيش، حاولت أن تداري خجلها وتحاول أن تتحدث رفقته وتسأله عن أمورٍ بحياته.
حتى وصله إتصال فاضطر للإجابة مع توسع عينيه بصدمة:
"إيــه؟ بتقول إيه، طيب طيب أنا جاي حالًا"
وصل صوته للجموع ووقف في مكانه يعتذر وهو يطالع «أنس»:
"معلش ياندى، لازم أمشي حالًا.... وليد الأنصاري اتقتل في السجن!"
صدمة وقعت على الذي وقف سريعًا مع وقفة «إياد»، بل وقعت على الجميع وتحرك رفقته سريعًا وهو يُعلم «مروان» بالخبر، ليظل واقفًا في مكانه بلا حراك لا يعلم كيف يخبرها وكيف ستقابل ذلك الخبر المفجع!
تحرك نحوها وجلس جوارها وهو يتلاعب بذقنه بتوترٍ، حتى لاحظت هي ذلك وتسائلت بملامح مستنكرة:
"مالك، مش على بعضك ليه فيه حاجة!"
أومأ برأسه وقال بتنهيدة قوية وهو يمسك يدها بين يديه:
"أنتِ مؤمنة أكيد بقدر الله"
ضيقت عينيها بشكٍ، وتوغل القلق لقلبها بذعرٍ، فالقادم ليس بهينٍ عليها، لم تقدر على تحريك لسانها لتنطق فحركت رأسها فقط مؤكدة على حديثه، ليرمي كلامه كما بركانٍ ظل يفور حتى انفجر:
"أبوكِ، أتقتل في السجن"
