رواية تشابك ارواح
الفصل الثالث والعشرون23
بقلم امينة محمد
في بعض الأحيان تكون عائلتك هي مصدر قوتك في هذا العالم، لن تحتاج من بعد قوتهم قوة لتُكمل حياة مليئة بالبشر الخبيث، سيكونوا كالساتر لكَ من صخورٍ هبطت من سماءٍ عالية لتجرح رأسك.
وفي بعض الأحيان الأخرى قد تكون هي مصدر خيباتك التي لا شفاء لها، والترياق الوحيد هو الإقلاع عنهم، وإن لم تستطع؛ ستموت ببطءٍ رِفقتهم.
«تسنيم»، عزيزتي الجميلة صاحبة العينان الصافيتان والقلب المُرهق، صاحبة الروح المُحطمة والنفس الخائبة، كعروسِ مايوريت يتم التلاعب بها بواسطة عائلتها، بواسطة الأشخاص الذين من المفترض أن يكونوا خلف ظهرها يسندوها إن مالت.
«تسنيم»، فتاة الحظ التعيس، حُكم عليها بأن تكون دومًا بلا قرار، بلا رأي، بلا شخصية، ودت لو يَمسك بيدها شخصٌ ما وينتشلها من تلك الظلمات التي حبست بها، فأتى فارسها ليفعل، ولكن كان هنالك قرار سيء قاسي من والدها يمنعه من فعل ذلك!
جُرحت؛ فجَرحته،
كُسرت؛ فكَسرته،
خُذلت، فخَذلته.
«تسنيم» لم تخلق سوى «لعبدالله»؛ كانت جملة يرددها جميع أهل الحارة، حتى أصبحا لا يليقان ببعضهما في نظر الجميع، لماذا؟
«تسنيم» أصبحت مريضة نفسية، و«عبدالله» أصبح مخذولًا مرفوضًا من أبيها!
جذبها من شعرها بقوة وسط صراختها التي دوت في أرجاء المنزل صارخًا بها بنبرة قوية شديدة:
"أنتِ بتنزلي صورك على النت والناس جابتها يابنت الكلب، والله لأوريكِ ياتسنيم، والله لأقتلك الليلة دي وما هيطلع عليكِ صُبح يابنت مُحسن، ياللي نزلتِ راس مُحسن في الطين!"
حاولت التملص من يده وهي تستنجد بأختها علّها تساعدها ولكنها لم تجد منها أي حركة، فقط تقف تُتابع بصمتٍ غريب وصدمة، وكأنها تعجز عن الحركة بالأساس، ظلّت تصرخ برجفة شديدة في والدها ليتركها:
"والله ماعمــلت حاجـة يابابا والله ماعـملت حاجــة، سيب شعــري يابابا بالله عليــك!"
_"والله ماهسيبك!"
قالها بصوتٍ جهوري تاركًا شعرها واتجه للمطبخ ينتزع السكين من مكانه وخرج نحوها كثورٍ هائج بينما هي أرضًا تنظر للسكين بصدمة وهلع، ثم رفعت بصرها لوالدها تستنجده بنظراتها:
"بــابـا أنــت بتعمل إيه؟"
أقترب أكثر رافعًا السكين لأعلى ليغرسه بابنته التي من صلبه ولحمه، يقتل من سيُسأل عنها يوم القيامة أمام الله، سيشفي غليل قلبه قبل أن يفهم ما حدث وكيف أتته تلك الصور، عماه الغضب، عماه الشيطان.
وقبل أن تقتلها السكين كان هناك يد قوية أمسكت بيد «مُحسن» وعينان جامدتان متوسعتا الحدقتين تنظر نحوه، ولم تكن سوى لأخيها «تامر» الذي من حسن حظها وصل للتو، ولكن رفقة «عبدالله» الذي هرع نحوها يجذبها للخلف ليُساعد «تامر» في إنقاذ تلك المتصنمة مكانها!
_"أنت بتعمل إيه يا بابا، أنت بتقتل بنتك، هو في إيه؟ هو عشان كله ساكــت أنت هتزيد فيها في حق أختي وفي حقوقنا، ارحمنا بقى يا أخي، ارحمنا وكفاية اللي أنت بتعمله فينا!"
قالها «تامر» بصوته الحاد محملًا بالقهر من أفعال «مُحسن» التي بالكاد لا يُصدقها أي عقل بشري!
ثم جذب من يده السكين يرميه بعيدًا عن مرماه، وعاد يصرخ بوجه والده:
"أنت إزاي وصلت للمرحلة دي، إزاي وصلت إنك عايز تقتل بنتك، أنــت إيه يا أخي، قلبك ده إيه!"
_"بنت الكلب دي واصلني صورها على التلفون بهدوم بيت، أختك بتفضحنا وأنت جاي تزعقلي، أنا فعلًا معرفتش أربي، كلكوا زي بعض، أختك وسخت شرفنا كلنا ونزلت راسنا في الطين!"
قالها «مُحسن» بعينين حادتين وصوتٍ قوي مليء بالحقد والكره، بينما توسعت ابتسامة ساخرة من «عبدالله» الذي تحرك قدمًا يقف قبالة «مُحسن» في تحدٍ واضح، قائلًا بنبرة جامدة أستلهمها من أبيه؛ سيدهم وكبيرهم جميعًا، وكأن «الحاج إبراهيم» من يقف الآن أمامهم يُخرج الكلمات تلك بأمرٍ واضح:
"بنتك موسختش شرفك ولا حاجة يا عم محسن، بنتك اتخدعت وعارف من مين؟ من الولا الكلب اللي كُنت جايبه يتقدملها، الدكتور الشريف سعيد ولا حزين ده أيًا كان، هكر تليفون بنتك وسرق الصور وبعتهالها، عارف ليه؟ عشان يساومها تروحله وتسنيم عرفت تامر على طول وتامر نبهك وأنت مصدقتش، ماعليـنا، كتب كتابي على تسنيم هيكون بكرا، أنا هسيبها الليلة دي في حفظ الله وأخوها، وهرجع بكرا بأبويا والمأذون عشان اتجوزها، سواء موافق ولا مش موافق، أنت حُر مش فارق معايا بصراحة ومبقتش هسيبها هنا، أنا عارف إنك لازم تكون موافق عشان الجوازة متكونش باطلة!"
ابتسم بسخرية واضحة وهندم ملابسه:
"أبويا هيخليك توافق بطريقته، بس إيه رأيك فاللبس ده؟ ولا ألبس بدلة وأنا جاي؟ حاجة تليق بتسنيم برضو، هعوضها عن ده بس هلبس طقم شيك وأنا جاي!"
ثم التفت ينظر لها وهي تبكي بقهرٍ تراهما يتساومان عليها، ولكن الكلمات أبت الخروج من فمها فحاول بث الطمأنينة لها بنظراته قائلًا:
"كل حاجة هتبقى كويسة، كل حاجة هتبقى بخير أوعدك!"
أغمضت نظرها تحاول ابعاد عنه تلك الدموع التي ستشعرها بأنها ضعيفة أمامه أكثر من ضعفها، استمعوا سويًا لصرخات «محسن» «بعبدالله» بغضبٍ جامح:
"أنا مش هسمح للمهزلة دي تحصل يا عبدالله يابن عبدالمجيد، أنا مش هسمح ولا هتتجوز بنتي، أقتلها قبل ما ده يحصل!"
قبل أن يتحدث «عبدالله» سبقه «تامر» بقوله بحدة، لعل تلك الطريقة تجلب النتيجة لتهدئة والده ولكن الأمر فشل تمامًا:
"وأنا مش هسمحلك تقتلها، ده على جثتي، وقتها اقتلني وبعدين أقتلها يا بابا، أخسر اتنين من عيالك في يوم واحد، اتنين من سندك وضهرك في الحياة، حقيقي متستاهلش عيال زينا يكونوا عيالك، ولا إحنا نستاهل أب زيك يكون أبونا"
ألقى بكلماته كلها بوجه والده والتفت يشير «لعبدالله» برأسه مُقتربًا من «تسنيم» يسندها لتقف أرضًا:
"أعمل اللي اتفقنا عليه ياعبدالله، والولا ده يجي بكرا الصبح الحارة يتعلم عليه!"
أومأ له «عبدالله» وألقى آخر نظرة عليها تحمل كل معاني الحب التي داخله، وكأن الحريق الذي داخله بدأ اشتعاله يهدأ، وكأن الله بعث الغيث رأفةً به وبقلبه، ثم غادر المكان تاركًا تلك تبكي وتشهق بين أحضان أخيها بغرفته؛ ليبعدها عن أنظار والدها الذي جلس مُتحسرًا عمّا وصلوا به.
بينما «تارا» ولجت لغرفتهما وجلست على الفراش تبكي بحسرة هي الأخرى، تمنت داخلها بأن تكون أمهم معهم الآن، ولكن التمني لا يتحقق في بعض الأوقات، لم تكن لتترك أختها لتُقتل ولكن الصدمة منعتها من التحرك وقتها، ستخسرها لأنها ستعتقد بأنها تركتها قصدًا.
تنتحب بالبكاء نحيبًا، الأجيج بداخلها مشتعلًا كحريقٍ نهب كل شيء ولم يتبقى منه سوى رمادٍ لن يفيد أو ينفع، كان عناق أخاها دافئًا فتمسكت به بشكلٍ قوي، وأردفت بصوتٍ مرتجف يحمل بين طياته الأسى والأسف:
"ليه بيعمل معانا كدا، ليه بيعمل معايا أنا كدا، أنا والله ما كان قصدي إن ماما تموت يا تامر، مكنش قصدي أتعبها والله، هو ليه مشيلني ذنبها أنا كل ليلة بنام أحلم بكوابيس وأجلد ذاتي عشانها، ليه حرمني من الشخص الوحيد اللي حبيته واخترته بنفسي، الحاجة الوحيدة في حياتي كلها اللي أنا اخترتها يا تامر كان عبدالله، كل حاجة كنت بعملها زي ما بيقولوا بالظبط، عالمسطرة، ليه حرمني من كل حاجة بحبها، لا كلية أحلامي ولا اللي حبيته ولا أي حاجة، أنا عايزة أموت يا تامر من كتر القهرة اللي في قلبي والضغط اللي أنا حاسة بيه!"
أمسكت به أكثر وكأنها تحاول أن تجد الأمان وهي تهمس بصوتٍ بالكاد خرج من شفتيها المرتجفة:
"عارف، أنا جوايا نار مش راضية تطفي، أنا محبوسة في أوضة من أربع حيطان كل شوية بتقرب مني تخنقني، أنا واقعة في بير ضلمة مش لاقية اللي يشدني، أنا تعبانة أوي، تعبانة أوي ياتامر"
أنهت جملتها وانتحبت بالبكاء بنشيجٍ عالٍ تلعن حظها من داخلها، تتمنى في بعض الأحيان لو تكن اللحظة هذه هي الأخيرة لها وأن تغادر العالم بأسره ليعانق جسدها التراب وروحها تلتقي مع أمها في الجنة، وتجد السلام الأبدي.
ظل يمسد على ظهرها مربتًا بحنانٍ بالغ يحاول أن يزيل عنها همومها ووجعها، ولكن جرحها عميق للغاية لن يُشفى بتلك السهولة، همس بنبرة دافئة مواسية لها:
"أنا آسف إني كنت ساكت كل الفترة دي ومقدرتش أعمل حاجة، بس زي ما كُنتِ شايفة كان كل شوية بيتعب لو حد فينا اتكلم، كنت فاكرك كويسة ومستحملة، بس طلعتِ شايلة كتير أوي ومش مستحملة أي حاجة، حقك عليا والله من كل اللي حصل!"
لم تجد ما تقل بعد ذلك، فقط تود أن تبكي وتُخرج تلك الطاقة السلبية، وكان هو خير من يعلم بتلك الحالة التي تمر بها فتركها حتى تهدئ تمامًا.
على الجانب الآخر وصل لشقته ودلف ليجد والده جالسًا يضع يده على خده وشارد الذهن، سحب نفسًا عميقًا واقترب يجلس أمامه حاملًا في جعبته الكثير من الكلام الذي يود قوله.
لاحظ «إبراهيم» توتره ذلك ومحاولته في إخراج الكلمات، فسأله بهدوءٍ وعينان مُستفسرتان:
"عاوز تقول حاجة؟"
أومأ له برأسه ونضف حنجرته ليبدأ بالتكلم بقوله بتنهيدة ثم تغيرت نبرته لأنفعال مما رآه:
"بصراحة آه، محسن كان بيحاول يقتل تسنيم من شوية، وأنا وقتها كنت مع تامر عند بيتهم وسمعنا صوت صريخها ودخلنا لحقناها على آخر لحظة، قولتله إني هكتب كتابي عليها بكرا وهعرفك باللي حصل!"
كان يتابعه بتركيزٍ شديد وأعتدل في جلسته لأعطاء الأمر جدية أكثر، ثم سأله بعدم فهمٍ تحمل الصدمة لسماعه بأن «محسن» حاول قتل ابنته
"يقتلها ليه؟ هي عملت إيه طيب؟"
أعاد «عبدالله» خصلاته السوداء للخلف وبعينين حائرتين من إخبار والده بتلك الحقيقة المُرة، ولكنه في النهاية يجب أن يعرف لذلك سحب نفسًا عميقًا وألقى كلماته:
"عشان وصله صور لتسنيم، الدكتور اللي كان جاي يتجوزها ده هكر تليفون تسنيم وخد منه الصور وهددها بيها، تامر لما سأل عنه عرف أنه عمل كدا مع البت اللي اتقدملها قبل تسنيم ولما قال لمحسن مصدقش، فكلم مروان عشان نحل الموضوع من برا برا ونبعده عن تسنيم، بس هو عمل كدا بسرعة وبعتها لمحسن، الواد ده جاي بكرا الحارة وهيتعلم عليه قصاد الأكل، بس تسنيم أنا هتجوزها!"
ظل صامتًا يفكر بحكمة في ذلك الموضوع الكبير، كيف سيمر بتلك السهولة طالما أن الثاني معه الصور دون أن يفعل بها شيء ثانيةً، لذلك سأل بكل جدية عن هذا الأمر وهو يعيد ظهره للخلف يسنده:
"طب أفرض عمل حاجة تاني في الصور، هي مش معاه؟"
_"الصور هتتشال من على تليفونه وتليفون تسنيم، مش هيقدر يوصلها ولا يجيبها تاني من عند تسنيم"
قالها بجدية ثم تحرك من مكانه وأقترب يجلس جوار أبيه، قدوته ومثله الأعلى، وأمسك يده بين راحتيه مُتحدثًا بنبرة هادئة:
"يا حاج، تسنيم مش كويسة وأنت عارف تسنيم كانت قريبة إزاي لعهد الله يرحمها وكانوا بيواسوا بعض أغلب الوقت، تسنيم دلوقتي مش لاقية حد يكون جنبها بالشكل ده، وأنا وأنت عارفين كويس إننا بنحب بعض، ومبقاش فيه أي مبرر يخلينا نتأخر تاني في إننا نتجوز، مُحسن المرة دي مضغوط ضغطة جامدة وبكلامك معاه هيوافق غصب، عشـان تسنيم وعشــاني يا بابا وافق"
يحترمه، يرى كلامه هو الصحيح حتى ولو لم يكن سيعجبه، ولكنه ينفذه احترامًا لرجلٍ علّمه ورباه وأنفق عليه النقود وزرع بداخله الحب والرجولة والشهامة، يكّن له كل الاحترام لكل شيء بذل فيه والده جهدًا لأجله ولأجل عائلته.
_"ماشي يا عبدالله، المرة دي أنا حتى مش هفكر في الموضوع وأقولك هرد عليك، المرة دي أنا همشي بتفكيرك أنت وكلامك أنت، وأنا عارف إني مربي راجل مش هيغلط ولا هيحط أبوه في مشاكل!"
نبس بذلك الكلام بحنانٍ ورفع كفه الثاني يربت على كفيّ «عبدالله» الذي توسعت ابتسامته سريعًا ورفع يد والده يقبلها ثم أقترب يقبل رأسه قائلًا بفرحة عارمة:
"على راسي يا حاج، على راسي!"
__________________
السند في الحياة هو شريكًا يواسي ويربت، يعلم ما الذي يُحزننا فلا يفعله، وما الذي يُسعدنا فيفعله، يأتي لنا بنجوم السماء لتنير حياتنا إن أردنا، يجلب لنا الخير كله بيده.
الحياة ليست لهو ولعب ونقود، بل حب وود ومشاركة، ودونهما لا حياة بالأساس.
في الصباح الباكر كان يقف أمام المرآة يهندم ملابسه، موزعًا نظراته ريحةً وجيئةً بينها وبين نفسه، تجلس تضم قدميها لها وكل دقيقة ترمي له سؤال وكأنها تود أن تستفهم عن كل شيء في حياته دون ترك أي تفصيلة:
"امم يعني أنت دلوقتي رايح تشتري هدوم رجالي بس النهاردة؟"
أومأ لها برأسه والتفت ينظر لها فابتسمت في وجهه سريعًا ووقفت أمامه قائلة بخفة مع رأسٍ مائل قليلًا لليمين:
"خلاص متتأخرش، أنا هستناك، بص أنا على بعد الضهر هروح أقعد مع طنط فاطمة عشان مقعدش كتير لوحدي ماشي؟"
تابع تحركاتها وتلك العينان التي تلمع بزرقاوتيها عند رؤيته، ثم تحدث بصوتٍ هادئ مازال يحمل أثر النوم:
"طيب ماشي، أبقي روحي بس خلي بالك من مفاتيح الشقة خديها معاكِ عشان متنسيهاش جوا ومتعرفيش تدخلي تاني، وأنا إن شاء الله المغرب هكون هنا، ربنا يكرم وألاقي كل اللي عايزوا على طول ان شاء الله!"
_"ربنا يوفقك، أنت شطور وهتلاقي اللي عايزوا على طول ان شاء الله!"
قالتها بابتسامة واسعة فسحب نفسًا عميقًا يتلقى كلمة -شطور- التي تقولها له باستمرار كأنه طفل بعمر العاشرة، حرك رأسه لها وهو يقول بتنهيدة:
"ماشي ياسيـلين، أتمنى متدخليش عند البوتجاز عشان مرجعش ألاقي الشقة والعة، خليكِ بعيدة!"
أنهى كلماته وتحرك من أمامها يتناول أغراضه وألقى عليها السلام:
"يلا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!"
_"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!"
قالتها بابتسامة واسعة وتحركت خلفه نحو الباب تودعه وأغلقته خلفه ثم عادت للفراش تستلقي عليه، ولمحت «مشمشة» تتسلق الفراش ونامت جوارها تأخذ منها الحنان والدفئ.
____________
ترجل من سيارته التي استقرت أمام منزل «عائلة النجار» وتابعه من أسفل النظارة يتفحصه جيدًا ثم خطى بخطواتٍ واثقة للداخل ولمح «أنس» يخرج له بابتسامة واسعة ويد ممدودة يصافحه:
"أهلًا وسهلًا يا إياد بيه، نويتني'نورتني'!"
صافحه «إياد» بيد وبالثانية أزال نظارته الشمسية مبتسمًا بتوسعٍ لترحيب الآخر له وهو يقول بثباتٍ:
"ده نورك يا أنس، معلش مجتش امبارح بليل زي ما اتفقنا بس جالي شغل مهم!"
_" ولا يهمك مافيش أي مشاكل، اتفضل!"
قالها له «أنس» ثم أشار له ليدخل معه، ودلفا نحو غرفة الضيوف ليبدأ «إياد» في الموضوع مباشرةً بجدية:
"أنا عرفت إنك المحامي اللي هتمسك القضايا بتاعت عيلة عبد المجيد، أنا حابب أقابلهم وحابب أقعد معاهم واسمع عشان أساعد، بس قبل كل ده عايز أسمع منك كل حاجة"
وبنفس النبرة الجادة تحدث «أنس» مسترسلًا بحديثه يوضح كل شيء دون أن يحرق جميع البطاقات خاصتهم:
"الحقيقة أيوه، أنا لسه بجمع في أدلة عشان أقدمها كلها مية'مرة'واحدة، بس وليد الانصايي 'الأنصاري' واخد أيض 'أرض' من ناس في الحاية 'الحارة' دي من غيي'غير' تعويض، فهمهم إن الأيض'الأرض' دي بإزالة من الدولة وعليها مشيوع'مشروع' لازم يتم، ولما اكتشفوا إن مافيش ده زوي'زوّر' ويق'ورق' بيع وشياء' وشراء' منهم على أساس إنه مشتيي 'مشتري' منهم الأيض 'الأرض'، ومن يومين بعت عُمّال يبدأوا يشتغلوا في عشان المصنع يتبني، هيبقى مصنع أدوية وجوده في المنطقة دي غلط على أهل الحاية 'الحارة'!"
_"وجريمة القتل؟"
سأله «إياد» يحاول أن يستشف كل شيء منه، مما أدى لتعجب «أنس» لمعرفته بها لأنهم لم يقدموا أي شيء عنها للآن فأجاب سؤاله بسؤالٍ آخر:
"عيفت'عرفت' منين حواي'حوار' جييمة 'جريمة' القتل ده، محدش لسه يعيف 'يعرف' إنه هو اللي قتل عهد بنت الحاج إبراهيم؟"
أعاد «إياد» ظهره بثقة وتوسعت ابتسامته قائلًا:
"بس أنا مش قصدي على دي، أنا كان قصدي على جريمة قتل رزان مرات نادر المصري، بس أنتم شكلكم مخبيين كتير أوي لدرجة أنه واصلة لجريمة قتل بنت الحاج إبراهيم عبدالمجيد!"
أغمض «أنس» عينيه يسب نفسه، فأخبره «إياد» بنفس النبرة المُتمكنة من ذاته والواثقة:
"متقلقش يا أنس أنا جاي فعلًا عشان أساعد، شوف أقرب وقت هما فاضيين فيه وبلغهم بأني جيتلك وعشان القضية دي تخلص قريب أوي، وجود نادر المصري ووليد الأنصاري برا السجن خطر جدًا عالجميع!"
غمغم «أنس» بعدما تنهد بقوة، ثم أعتدل في جلسته يمسد بأصابعه على جبينه:
"تمام ياباشا، تمام ان شاء الله، تشيب'تشرب' إيه؟"
_"ولا حاجة أنا قايم ماشي أصلًا، هنشرب كتير سوا إن شاء الله، بالأذن منك!"
قالها وهو يقف في مكانه ليقف معه «أنس» يصافحه ويودعه للخارج وهو يهمس بحنقٍ من بين أسنانه:
"وحياة يبنا 'ربنا' لو خازوق لـ هنيوح'هنروح' كلنا 'ويا' ورا الشمس"
بينما «إياد» تحرك لسيارته وعينيه بهاتفه فلم يلاحظ تلك المنشغلة أيضًا بالنظر بهاتفها لقدومها نحوه، اصطدما ببعضهما فتأوهت بألمٍ وهي تُمسك كتفها:
"حاســب يا أعمى!"
طالعها «إياد» من أعلاها لأسفلها بذلك الشعر الأسود الفحمي المُنسدل على ظهرها وهو يعتذر بأدبٍ:
"أنا آسف يا مدام، مخدتش بالي!"
رددت كلمته تلك وهي تطالعه بصدمة:
"مدام؟ مين اللي مدام؟"
أشار بعينيه عليها، فتبدلت ملامحها لأخرى ساخطة وأردفت بحنقٍ:
"شكلك حد من صحاب أنس أخويا، أنا مش مدام عامةً"
_"فعلًا، أنا الرائد إياد مُختار"
قالها ببساطة شديدة بابتسامة متوسعة، فابتلعت ريقها وأعتدلت في وقفتها وعلامات الصدمة اعتلت وجهها وهي تقول بارتباك:
"ها، أهلًا بحضرتك يا باشا، أنا مكنتش أعرف إنك ظابط والله"
_"وهو أنا لو مش ظابط ينفع تكلمي حد بالشكل ده؟"
قالها بسخرية ووضع نظارته الشمسية فهزت رأسها بنفي والخجل اعتلى ملامحها منه، فابتسم لها واماء برأسه هو الآخر وتحرك بعدما رمى عليها السلام:
"سلام يا مدام.. معلش أقصد يا آنسة!"
تابعته بعينيها حتى وصل لسيارته وغادر المكان كليًا تاركًا فراغ خلفه، زفرت بضيقٍ وولجت للمنزل بعدما لعنته هو و«أنس».
_______________
وهل سيعيد الاعتذار ما كُسر لأشلاءٍ،
وهل سيعيد الأسف ما فُتت ولم يبقى منه أثر!
_"والله العظيم أنا آسف، مكنتش عارف مالي امبارح يا مرام والله، حقك على عيني وعلى راسي، أوعدك والله العظيم ما هيتكرر تاني"
كان يقف جوارها بشقتها يعتذر عمّا فعله بندمٍ واضح، بينما هي الدموع تنهمر على خديها بحزنٍ كبير وأسفٍ، أردفت بنبرة مكسورة مرتجفة:
"عارف يا آسر، أنا أول مرة أحس إني ندمت إني وافقت اتجوزك، أنا ندمت بجد كنت غبية، ملعون الحب اللي خلاني أعمل فنفسي كدا!"
توسعت حدقتيه بصدمة وهو يستمع لها، حُب!
أي حُب ذلك تتحدث هي عنه، هل كانت تحبه حقًا؟
سأل بنفس التيه وهو يمسكها من ذراعها ليجعلها تنظر في عينيه:
"حب إيه؟ أنتِ كُنتِ بتحبيني؟"
أومأت برأسها وهي تشيح ببصرها عنه بإحراجٍ وزدات في نحيبها، جذبها يضمها له وهو يمسد على شعرها يتنفس بقوة ضاغطًا على جسدها نحو جسده علّه يخفف عنها ما تشعر به الآن!
نبس بنبرة مُتأسفة وقلبٍ مُفتت لأجلها:
"طب حقك عليا والله، أنا آسف يامرام متزعليش مني، أنا ده كله مكنتش أعرفه ومكنتش أعرف إنك بتحبيني، ومكنتش أحب أبدًا إنك تندمي في يوم على موافقتك عليا والله أنتِ عارفة الكلام ده من أول يوم لما قولتلك أنتِ بالنسبالي هتبقي مراتي ليكِ حقوق وواجبات، بس أنا تعبان اليومين دول بشكل مش طبيعي، حقك عليا!"
الحياة كانت بالنسبة لها هو الوصول لقلبه حتى يهدأ الوجع والألم الذي بداخلها لرؤيتها له مع أخرى، ولكن الآن هي تشعر فقط بأنها تود الإبتعاد، تود الهرب!
ظلت في أحضانه تبكي بحسرة على حظٍ عاثر أختارها هي دونًا عن غيرها، لتكن يتيمة، تعيسة، بزوجٍ لا يحبها كما تمنت!
أردفت بحسرة وهي تتمسك به أكثر تُعبر عن كل ما تخاف أن تخسره في يومٍ من الأيام:
"عشان خاطري يا آسر، متوصلنيش لمرحلة إني أخسرك أو أخسر خالتو عشان أنا والله مليش غيركم في الدنيا دي وأنت عارف كدا كويس، والله مليش غيركم يا آسر وهبقى وحيدة من غيركم!"
ظل يمسد على شعرها بحنانٍ بالغ وهو يحاول تهدئتها بقلبٍ خائف من الفقد هو الآخر، مرتبك، يود من يعطيه هو الأمان:
"والله ما هيحصل كدا، أوعدك والله عمرنا ما نوصل للمرحلة دي، حقك عليا والله يامرام!"
كان أرضاؤها بالنسبة له غريب مقارنةً بإرضاء «رنا» التي من أول اعتذار تهدئ، ولكن كيف له أن يقارن وهو تمادى بشكلٍ مبالغ رفقة تلك الرقيقة التي بدأت تستكين بين أحضانه.
أوقف عقله عن التفكير وتحرك بها نحو غرفتها وساعدها تجلس وهو يمسد على ذراعها من أعلى لأسفل ثم يُعيد الكرة من أسفل لأعلى:
"خلاص بقى أهدي، متزعليش، بصي هاخدك بليل ونروح نتعشى سوا في مطعم برا، عشا رومانسي كدا ماشي؟"
أنهى جملته بغمزة بطرف عينه بمكرٍ، لتضحك بخفة وهي تمسح دموعها بيدها ثم نبست بصوتها الهادئ الذي يحمل الارتجاف من بعد البكاء المُفرط:
"هتأكلني بيتزا صح؟"
_"اممم نأكلك بيتزا ياست الحُسن"
قالها بتلاعبٍ مازح لتبتسم هي له تومى برأسها برضا فابتسم يميل نحوها وهو يغمزها:
"ياولا ياولا عالابتسامة المكسوفة!"
مزيجًا مختلفًا من المشاعر حاوطهما وهي تشعر به وكأنه ليس مجرد زوج تزوجها في ظروفٍ غريبة، ولكنه يصب عليها الحب داخل روحها صبًا.
_____
هي لا يُهمها الآن الحُب او شبيهه، هي مايهمها أن تُدافع عن نفسها وشرفها أمام «الحاج إبراهيم» والشاهدين، شرفها الذي لوثه والدها بنفسهِ عندما آبى تصديق «تامر».
اقترب «تامر» نحو الحقير الواقف ولكنهم وجدوا يد توقفه:
"عنــك انت ياحبـيـب اخـوك الطلـعة دي، دي تلزمني!"
ووجه نظره نحوهها بنظرات مليئة بالثقة التي اكتسبها اليوم زيادة عن المُعتاد، ولكنها اشاحت بصرها بعيدًا عنه بخجلٍ منه مما وضعت به أمام الجميع وكيف رآها بالأمس أرضًا أمام والدها
بينما هو أعاد بصره للواقف امامه وابتسم ابتسامة استفزازية مُجاملة وسدد له لكمة قوية جعلت الآخر يترنح للخلف:
"دي عشـان بتحاول تعلم على بنت من حارتنا!"
وسدد له الأخرى بقوة:
" ودي عشان البنت دي هتبـقى مراتي، حرم عبدالله عبدالمجيد"
وقف بينهما «حمزة» سريعًا وهو يمنع «عبدالله» من إكمال ما يفعل حتى لا يقع بكارثة أكبر، وهدر بحدة:
"خــلاص، أهدى، هات يالا تليفونك!"
ثم جذبه بقوة من يد «سعيد» وناوله «لتامر» والتفت مجددًا مُمسكًا به من تلابيبه بقوة:
"جرب أعملها تاني، سواء مع تسنيم ولا بنت تانية، هتلاقيني أنا فوق راسك بكسرها وهكسحك كمان، يلا غور من هـنا ومشوفش وشك قريب من هنا!"
_"استنى ياحمزة أنا لسه متصافتش معاه!"
قالها «عبدالله» الذي يشتاط غضبًا وعينيه تشع الشرر في وجه الحقير «سعيد» الذي أصبح وجهه ملطخًا بالدماء وشفتيه التي تورمت من يد «عبدالله» الثقيلة!
أشار «حمزة» بعينه لأحد شباب الحارة فجذبوا سريعًا «سعيد» يلقوه في الخارج وهو يسب بأبشع الألفاظ التي قد تخطر على بال أي شخص.
تحرك أصحاب الشأن نحو المجلس وجلسوا جميعًا حول «الحاج إبراهيم» الذي تحدث بحزمٍ وجدية دون أي تمهيد لشيء، فطفح الكيل من التمهيدات التي بالغ فيها في الآونة الأخيرة:
"إحنا بنطلب أيد بنتك تسنيم لابني عبدالله يا مُحسن، وأظن أنت شايف اللي حصل من شوية وكافي جدًا إنك تفهم إن مافيش نصيب لتسنيم مع حد غير عبدالله، الجواز مش هيحصل باستعجال، تسنيم حقها تفرح زي بقية البنات بخطوبة، بس هيتكتب كتابهم ويعيشوا براحتهم فترة خطوبتهم لحد ما يقرروا هما فرحهم يكون أمتى"
_"بصراحة أنا موافق جدًا"
قالها «عبدالله» بابتسامة متوسعة ونقل بصره عليها ليرى نظراتها التي تحمل الحزن الطاغي عليها وعلى ملامحها، تنهد حسرةً على ما وصلا له هما الاثنين.
اضطر «محسن» للموافقة على مضضٍ بإحراجٍ من الجميع ولم ينبس إلا بكلمة واحدة فقط:
"تمام"
وبنبرة أكثر حزمًا، وبنظراتٍ موجهة ناحية «تسنيم» أردف «الحاج إبراهيم»:
"على خير، وأنتِ ياتسنيم هستناكِ تقرري أمتى عاوزة كتب الكتاب، النهاردة بكرا آخر الأسبوع، براحتك يابنتي، متخافيش من أي حاجة وحقك رجعلك تالت ومتلت!"
_"أنا لو مكانها استعجل بصراحة!"
قالها «حمزة» بابتسامة عابثة واقفًا جوار صديقه الذي ابتسم له بشكرٍ وتوسع، ثم تنحنحت هي بملامح مبهوتة، وكان جسدها ما زال يرتجف من كل شيء مخيف تراه، وأجابته بهدوءٍ:
"حاضر يا حاج، أنا يعني بالنسبة ليا عادي لو كان آخر الأسبوع، عالأقل يكون كل حاجة هديت بالنسبالي وتكون نفسيتي اتحسنت شوية!"
وعلى هذا الحال تم الإتفاق وتحركت هي لتغادر مجلس الرجال نحو منزلها فتحرك خلفها «عبدالله» يوقفها عند باب المجلس، حيث لن يستمع لحديثهما أي شخص فقط يستطيعون رؤيتهما:
"معدتش عاوزك تخافي من حاجة وأنا موجود، الأمان كله هيحاوطك، كل السنين اللي كنت بحارب فيها عشان تكوني ليا والوحيدة اللي في قلبي، هفضل برضو أحارب عشانك، أنا مش هستسلم يوم على حقك وعشان أشوف السعادة في عينك والأمان!"
شعرت بأن كلماته تغزل ثوبًا من الأمان يحاوطها، وتشعر وكأنها على غيمة في السماء تحتضنها بمشاعر الطمأنينة!
همست بتلعثم وهي تحرك رأسها ببطءٍ، بينما تستشعر كل التوهج الذي يخرج من أعماقه لها:
"أنا آسفة، عارفة اعتذاري مش هيعمل حاجة في اللي حصل، بس أنا آسفة أوي يا عبدالله"
ابتسم وأردف بصوتٍ مؤنس بعمقٍ:
"كل اللي حصل بالنسبة ليا مات يا تسنيم بوجودك معايا، أنا وأنتِ اتخلقنا لبعض، متعتذريش!"
ثم أكمل بمكرٍ وشعرت بجسده الضخم بالنسبة لها يميل نحوها قليلًا ليهمس بقوله:
"بس فيه حاجة هتعمليها، أنا قلبي أسود شوية معلش، فكري من هنا لحد يوم الخميس تعملي سبع حاجات تخليني امحي كل اللي فات!"
عضت شفتاها بخجلٍ منه وهمست بوجه مشع احمرارًا:
"قلبك أسود فعلًا، يوه ماشي اوعى كدا يا لئيم!"
ثم تحركت مغادرة تاركة خلفها العاشق يتابعها بابتسامة متوسعة وتنهيدة ثقيلة أخرجها لتكن الأخيرة في ظل كل شيء مر به!
_________________
إن أحاط الخوف حياتك فلن تقدر على إكمالها، وإن كنت شجاعًا كفاية؛ فهنيئًا لك بحياة كاملة مثالية.
نحن البشر تحاوطنا مشاعر عدة؛ خوف، حزن، سعادة، حب، من الممكن أن تسيطر علينا بشكلٍ كبير يُنهي حياتنا، نحاول بأقصى ما لدينا بأن نجعل الأمر متوسطًا، لا أن أكون حزينًا بشكلٍ مبالغ فأفقد الكثير والكثير وأهلك نفسي، ولا أن أكون بارد المشاعر فلا اتأثر بأي شيء وأهلك نفسي أيضًا!
يرتجف جسدها ببعض الخوف وهي تفكر في عواقب حديثها الذي ستخرجه الآن للطبيبة النفسية التي تجلس أمامها، كانت بملامح أذبلها الحزن، وعينان تشعان بالقهر، بعدما استمعت لسؤال الطبيبة التي تخبرها بأن تحكي كل شيء حتى ولو كان بفوضوية ولكن يجب أن تحكي، تفرقت شفتاها لتبدأ بالتحدث وعينيها في نقطة وهمية بشرودٍ بالغ:
"أول مرة قابلت نادر كان شخص كويس، مثّل عليا الحب بشكل كويس، خلاني اتعلق بيه، كانوا تقريبًا آخر أيام حلوة وكويسة شوفتها في حياتي، من بعدها مشوفتش ألوان، كانت نظرتي للحياة أبيض وأسود بس، طلبني ووافقت رغم إن بابا رفضه عشان كان لسه بيبتدي حياته وبابا كان عاوز يضمن عيشة كويسة ليا، حاربت أهلي عشانه ووافقت، اتجوزته، كان كويس وبعدين فجأة لقيته بيتصرف بتصرفات غريبة، متتكلميش مع دي ومتتكلميش مع ده، شبه قطع علاقتي بالناس كلها، مرة غلطت مد أيده عليا، مسكتش وزعقتله زاد ضربه فيا ومكنش بينطق غير بأنه هو اللي يعمل كل حاجة بس، هو اللي له الكلمة بس، هو الباشا بمعنى أصح، الباشا على مراته، أهله كانوا بيشوفوا جفافه معايا في المعاملة ومتكلموش، وسكت عشان اهلي ميشلوش همي بس وقتها غلطت إني سكت، عشان نادر تمادى أوي في ضربه ليا وأسلوبه القاسي معايا، حتى.. حتى وهو بياخد حقوقه مني مكنش بياخدها إلا بالقوة والضرب، فاض بيا وقررت أقول لأهلي قطعني عنهم وطلعني الوحشة في نظرهم، قطعني عن الناس كلها، تماديت وحاولت أبان إني الشخص اللي مبيخافش، كسرني وضربني وأهان فيا قدام الكل، كل يوم كان بيضربني ضرب جامد، لدرجة فيه يوم مسابنيش غير وأنا بنزف من كل مكان، ياخدني المستشفى يعالجني ويرجعني أوضة باردة، ضلمة، يحبسني فيها عشان أسمع كلامه وأكون شاطرة وأقوله سمعًا وطاعة"
أجشهت في البكاء وهي غير قادرة على إكمال الحديث، فقط ماتمنت هو أن يتوقف قلبها وتنتهي حياتها الآن، غصة كبيرة خنقت حروفها وهي تردف:
"مش قادرة أكمل، أنا مش قادرة أكمل وافتكر كل ده قدام عيني"
أومأت لها الطبيبة بطاعة وأردفت بهدوء:
"تمام يا رزان، كفاية النهاردة ومش ضروري تكملي إحنا مع بعض لفترة طويلة، وأنا بسجل كل كلمة قولتيها، هكتبلك بس دوا تاخديه هيريحك شوية من تعب الأعصاب ده، وكتشخيص مبدأي لنادر فهو شخص سادي، بس خلينا نسمع منك للأخر لأن ده هيترتب عليه كلامك واعترافاتك للنيابة وإني اديهم التشخيص الكامل على حالته دي!"
ثم دونت في ورقة الدواء الذي ستأخذه «رزان» وتحركت تُخبر أمها بأن تدخل لها لأن حالتها النفسية مُتعبة، بالفعل تحركت أمها تتناولها بأحضانها بقوة وهي تُربت على ظهرها بحنانٍ بالغ وتنبس بكلماتٍ كالبلسم:
"أهدي يانور عيني، أهدي يارزان أنا معاكِ أهو ومش هسيبك ومافيش أي حاجة تاني هتحصل والله"
_"أنا تعبانة أوي يا ماما، تعبانة أوي، عايزة أموت يا ماما"
أنهت كلماتها مع صوت طرق خفيف على الباب، وولج «حمزة» الذي طالعها بتنهيدة لرؤيتها بتلك الحالة، ثم وجه بصره لأمها التي أشارت له بعينيها بقلة حيلة، اقترب ووضع جوارها ورود ومعها نوع شوكولاتة مميز، غمغم بسخطٍ مازح:
"وبعدين بقى في الدموع اللي مبتخلصش دي، أنتِ حنفية يابنتي، كفاية عياط نشفتي"
لم تجبه بل ظلت في أحضان والدتها، أكمل حديثه بنفس المزاح:
"ده أنا حتى جايبلك ورد بلدي وشوكولاتة، أكلها أنا طيب وأمشي، أنا أول مرة أجيب ورد لحد حاسس إني أهطل!"
ضحكت أمها فضحكت هي بأحضانها من بين بكائها ليبتسم بتوسع راميًا بكلمته المعهودة:
"العــب!"
مسحت دموعها بكفيها وأمسكت الورد تشم رائحته وهمست بصوتٍ مختنق:
"ريحته حلوة أوي ياحمزة، تسلم ايدك"
ابتسم لها يُطمئن خوف قلبها وبنبرة تملؤها الحنان قال:
"طب الحمدلله إنه ريحته عجبتك، أهدي بقى وكفاية عياط، خدي كلي الشوكولاتة دي لو اتغديتِ وكل حاجة هتبقى كويسة"
أومأت له وانتبها على صوت الباب يُفتح ولم تكن سوى «روان» التي ابتسمت عندما رأت الورد والشوكولاتة:
"الله، إيه الورد الحلو ده!"
زفر بخفى عنهم وأبعد بصره عنهن جميعًا موجهًا حديثه «لرزان»:
"أنا هطلع برا بس أشرب سيجارة وهرجع تاني، كفاية عياط ها!"
أومأت له مجددًا بينما تدخلت «روان» بقولها:
"استنى هاجي معاك، أنا كمان نازلة تحت الإستقبال اسأل على كام حاجة بابا قالي عليهم!"
نظر لها ورمى كلماته بسخطٍ مغمغمًا:
"معلش أصل أنا همشي من طريق تاني، أنزلي أنتِ مع نفسك، عن اذنكم"
وتحرك قبل أن تلتصق به كاللاصق وتعكر مزاجه.
___________
نار الغيرة تأكلني، وتأسر قلبي الضعيف، وددت لو أكون في يقظته وأحلامه، في عقله وقلبه، ولكن أخرى تسكنه!
عاد من سفره للمنزل بعدما رتب البضاعة التي اشتراها هو و«حاتم»، وجدها تجلس في الشرفة تلعب مع قططه فابتسم لها بتعبٍ وألقى السلام:
"السلام عليكم"
رفعت بصرها سريعًا عندما لمحته وتحركت نحوه بسرعة شديدة، والابتسامة تعتلي ثغرها:
"وعليكم السلام، حمدلله عالسلامة يامروان"
أومأ برأسه بهدوءٍ وبابتسامة هادئة:
"الله يسلمك، أنا هلكان وتعبان هدخل أخد دش وطلبت أكل هيوصل كمان شوية هناكل وأنام على طول عشان أقدر أقوم أصلي الفجر"
رفعت يدها تربت على ذراعه بحنية وهي تقول بابتسامت حنونة:
"الف سلامة عليك، خلاص ماشي يلا أدخل"
تحرك من أمامها ينعم بحمامٍ دافئ وخرج منه لغرفته وهو لا يتوقف عن العطس وأنفه تحول للون الأحمر، كان جالسًا ينتظر الطعام يقاوم النوم، ولجت له وجلست جواره ورفعت يدها نحو شعره المبلل:
"شعرك مبلول وأنت لسه واخد شاور دافي، شكلك كدا خدت برد وأنت مسافر"
أمسكت المنشفة وجلست على ركبتيها خلفه تجفف شعره بابتسامة واسعة، وكأنها تحب وتتلذذ الآن بما تفعل، بينما هو أغمض عيناه بتعبٍ وهمس بصوتٍ مكتوم:
"شكلي كدا هاخد برد فعلًا، ربنا يستر"
أنتهت من تجفيف شعره على صوت جرس المنزل، تحرك يفتح وأخذ الطعام وولج لها يعطها إياه لتفتحه بينما هو جلس ينتظرها حتى جلست هي الأخرى وشرعا في تناوله:
"مافيش هنا دوا تاخده طيب؟"
هز رأسه بنفي وبتعبٍ ملحوظ همس:
"هكون كويس الصبح ان شاء الله، متقلقيش"
تنهدت وأكملت طعامها بينما هو تحرك نحو الفراش وغفى سريعًا، جلست هي رفقة القطط حتى يأتيها النعاس وتحركت بعد قليلٍ لتطمئن عليه، فوجدته يرتجف في نومه، وضعت يدها عليه لتوقظه فشعرت بحرارة عالية تخرج منه.
شهقت بعنفٍ وأشعلت ضوء الغرفة وهي ترفع رأسه على قدميها تحاول إيقاظه:
"مروان، مروان سامعني، مروان أنت كويس؟"
هلع قلبها وأرتجف خوفًا عليه، تحركت سريعًا نحو المطبخ وأتت بشقفة قماش ووضعتها في ماءٍ بارد ثم ذهبت له سريعًا ووضعتها على رأسه كَكمداتٍ له وهي تمسك بيده بين كفيها تمسد عليهما بحنانٍ:
"ان شاء الله هتبقى كويس، يارب يكون كويس يارب!"
زفرت بخوفٍ شديد عليه وقلبها يدق بعنفوانٍ، بينما عقلها توقف عن التفكير فيما قد تفعل له ليكون بخير!
ركضت من مكانها نحو المطبخ تضع المنشفة في الماء البارد وعادت مهرولة ناحيته مستقرة جواره تحديدًا حيث رأسه موضوعًا باستقرار في حجرها، ثم وضعت على جبينه تلك المنشفة وقلبها يأكلها خوفًا عليه:
"أهدى يامروان، هتبقى كويس والله، السخونية دي مش طبيعية بجد!"
همهم بتعبٍ وأمسك يدها بين راحتيه وبدأت الهلاوس تحتل لسانه وقلبه ولم ينطق سوى بكلمتين جعلتاها تهوى من أعلى الجبل، وقعت من على جرف الهاوية، حتى في غفلته لا يتذكر سواها، حتى وهو بين أحضانها لا يتذكر سوى الحبيبة!
_"عهد.. وحشتيني، عهد..!"
