رواية تشابك ارواح الفصل الرابع والعشرون24بقلم امينة محمد

رواية تشابك ارواح
الفصل الرابع والعشرون24
بقلم امينة محمد
لم يتشكل الانكسار فقط، بل الخذلان أيضًا تسلل لقلبها!
ماذا عن الأحلام الوردية التي تعيشها يوميًا بخيالها وأحلامها ليلًا رفقته.
تلقت الصفعة على قلبها هذه المرة، هو في تعبه يذكر اسم أخرى بينما هي من تداويه، ها هي الآن تشعر بوخز كلماته التي كسرتها، ذاقت من صنوف الخذلان ما ذاقت؛ من أب وأصدقاء وحياة بأكملها، تذوقت مرارة الخيبة من كل جوانب حياتها، والآن وصلتها منه هو، مِمن اعتقدت أنه النور لحياتها المظلمة.
مسحت بيدها على ذقنه بحنان وتنهيدة ثقيلة خرجت من أعماقها، وانهمرت تلك الدمعة الخائنة التي تدارت خلف السحابة المنكسرة بعينيها، ازدحمت بقية الدموع بعينيها تود أن تنسال على خديها ولكنها آبت البكاء أبدًا، ومنعت آهة القهر أن تخرج من حلقها حتى تظل صامدة على هذا الحال، ولن تسمح بكلماتٍ مثل هذه خرجت منه دون وعيه بأن تؤثر على كل ما تحاول بنائه رفقته.
رفضت السماح للألم بأن يتجاوز حدود الصمت، وحبستها خلف أسوار السكون الذي أحتلها، تحاول أن تحافظ على بعض القوة في وجه الجروح.
_"معلش، معلش، هتبقى كويس إن شاء الله يا مروان!"
نبست بذلك وظلت جواره هكذا حتى هدأت حرارته تمامًا واستقر نائمًا ومازالت رأسه مستقرة في أحضانها، بينما هي تجلس بظهرها المستند على ظهر الفراش وغفت على ذلك الحال بجلستها التي ستُتعب جسدها عندما تستيقظ.
حل الصباح عليهما واستيقظ هو أولًا على كابوسٍ أتاه كما العادة، نومه غير منتظم ولديه أرق منذ أن غادرا والديه الحياة، شعر بدفئ يحاوطه ففتح عينيه بثقلٍ ورفعها لتستقر عليها.
تحتلها البراءة في نومتها كما تحتلها في يقظتها، تبدو عن قربٍ هكذا بملامح رقيقة، ها هو مأخوذًا بفتنتها التي خفق لها قلبه عندما فتح عينيه بشكلٍ تلقائي.
أعتدل جالسًا ومد يده خلف ظهرها والثانية أسفل ركبتيها ليجعلها تستلقي في نومتها، ولكنها استيقظت بهلعٍ وهي تنطق باسمه:
"مــروان؟"
ابتسم بوجهها يطمئنها، ثم أبعد يديه عنها وهو يومئ برأسه لها قائلًا بصوتٍ مُتعب مكتوم من المرض:
"أهدي أنا كويس، كنت عاوز أعدلك عشان تنامي كويس، رقبتك وجسمك هيوجعوكِ بنومتك دي!"
تنهدت براحة واقتربت أمامه رافعة كفها تضعه على جبينه، بينما هو طال النظر في عينيها التي تحمل القلق عليه، ثم وضع يده فوق كفها وأمسكه يضعه بين راحتيه:
"أهدي والله بقيت كويس، لو عاوزة تنامي نامي أنتِ شوية!"
هزت رأسها بنفي ونظرت ليدها التي بين كفيه بشفقة على نفسها، ثم تحدثت بعدما استنشقت هواء نقيًا وسحبت يدها ببطء:
"طب الحمدلله، أنت حتى طول الليل فضلت تهلوس في الكلام ويعني كنت تعبان أوي وبتترعش!"
أشاحت ببصرها عنه بعدما أنهت حديثها، فأستشف أنه لربما قال ما أحزنها لمحاولة الهرب منه بنظراتها، فسألها بهدوءٍ واضًعا أصابعه أسفل ذقنها ورفع وجهها له:
"قولت إيه؟ أحكي عشان أنا مش فاكر أي حاجة"
ابتلعت غصة مؤلمة وقفت في حلقها وهمست بضعفٍ تُجيبه، بينما العينان الصافيتان أصبحتا مملوءتين بالدموع:
"فضلت تقول ياعهد وحشتيني، باين إنك كُنت بتفكر فيها قبل ماتنام أو هي مطلعتش من دماغك يعني"
لمح في عينيها نظرة الانكسار فأخرج تنهيدة قوية من داخله يحاول أن يهدأ ما أفسده ليلة أمس وهو يعلم أنها لم تتركه بل ظلت طوال الليل رفقته واستيقظ عليها وجدها تنام بشكلها المُتعب!
حرك يده على خدها الناعم، ونبس بصوتٍ هادئ:
"أنا فعلًا كنت بفكر في كام حاجة كدا قبل ما أنام، الله يرحمها مبقتش موجودة معانا في الدنيا وحقها عليا إني أفضل فاكرها وادعيلها، أنا وهي وعبدالله أخوها متربيين سوا وهي بنت عمي قبل ما تكون خطيبتي ولا كانت هتكون مراتي، مش عاوزك تزعلي يا سيلين من حاجة زي دي عشان ده واجبي تجاه عهد لحد ما أجيبلها حقها"
حديثه مُقنع بالنسبة لها ولكن عقلها رافض تمامًا أن يذكر باسم أخرى أمامها، أجابته بنبرة مهزوزة:
"أنا عارفة يامروان، بس أنا بقيت بحس معاك بأمان كبير ومش عايزة أفقده، يمكن أبان بتكلم وبقول كل اللي في قلبي على طول من غير كسوف بس بجد ده اللي بحسه معاك، أتضايقت شوية لما لقيتك بتقول إن عهد وحشتك وأنا اللي معاك، طيب هو أنت مش ممكن في يوم من الأيام تحبني ويكون ليا مكان في حياتك؟"
كانت يده الحنونة التي على خدها تبث بداخلها الدفئ كما وجوده في حياتها.
تحدث بنبرة هادئة يحاول أن يطمئنها بأكثر من مجرد كلمات، ولكنه سيترك الأيام بأن تفعل ذلك بوجوده رفقتها؛ فالكلمات مهما حاول أن يُخرجها دافئة حنون، لن تداوي جرح قلبها الكبير بسبب كل من صادفتهم:
"مين قالك إن ملكيش مكان في حياتي طيب؟ أنتِ ليكِ مكان يا سيلين، وأنا راجل مبحبش اللف والدوران وبحب أتعامل بطبيعتي، لا بحب النفاق ولا الكذب، وأنا مبلفش ولا بنافقك ولا بكذب عليكِ، لو كان فيه حاجة كنت من الصبح مشيتك من هنا ولا كُنت اتعاملت معاكِ بما يرضي الله، كل ده هيتغير ويتبدل مع الأيام، أدينا فرصة بس!"
أومأت له ووضعت يدها فوق يده التي على خدها تضغط عليها، ورسمت إبتسامة خفيفة على فمها ثم أردفت بتنهيدة:
"اتأخرنا في النوم والضهر هيأذن، ينفع تصلي هنا معايا، تصلي بيا يعني؟"
_"ينفع"
قالها بابتسامة ثم تحرك من أمامها نحو المرحاض يتوضئ وأخرج هاتفه يتصل «بحاتم» ليخبر المسؤول عن المسجد بأنه لن يؤذن اليوم ويصلي بهم الجماعة، توضأت هي الأخرى ولحقته في ركنه تجلس جواره حتى أذن الظهر ووقف يُصلي بها.
رجُلها، صاحب الدفء في حياتها،
وجوده يخلق هالة من الأمان تحاوطها.
ختما الفرض وصلى السنن وفعلت هي الأخرى، ثم جلس جوارها يُسبح على يديه، بينما هي وجهت بصرها له تتأمله في صفو هدوءه.
بينما هو استلقى واضعًا رأسه على قدميها وأخرج تنهيدة قوية قبل أن يسترسل في حديثه المُتألم:
"عارفة؟ لما أمي وأبويا ماتوا الدنيا اسودت في وشي بشكل مش طبيعي، حسيت فجأة كأني لوحدي بالمعنى الحرفي، ضهري مكسور بموت ابويا، وخسرت الأمان بعد أمي، فكرت الدنيا بالنسبة ليا هتقف، بس موقفتش ومشيت وأنا نجحت في حاجات كتير أوي، كل مرة بصبر نفسي بآيات ربنا، كل مرة بصبر نفسي بقول الله عز وجل «لقد خلقنا الإنسان في كبد» يعني ربنا خلقنا عشان نتعب ونشوف مشقة في حياتنا، وكل لحظة من دي بتبقى في ميزان حسناتنا، كل لحظة في حياتي وفي حياتك شوفناها وحشة ربنا هيعوضنا خير بيها، هيجعل كل لحظة عديناها وصبرنا على البلاء ده من نصيبنا في الآخرة ان شاء الله"
كانت يدها تسبح في شعره بحنانٍ، تستمع لكل كلمة يقولها بقلبها قبل عقلها، تشعر بنبرته بداخلها تداعب قلبها البرئ فتغلفه بما يليق به؛ الحب، الأمان، الدفء، أغمض عيناه يخرج تنهيدة قوية وعادت ذاكرته لذلك اليوم الذي خسر فيه والدته وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه وتوصيه على أبيه وعلى نفسه.
_"حقك عليا يامروان، ربنا يتولاك يابني، ربنا يزرع فيك الحنان ويزرع فيك القبول، ربنا بيسترد أمانته ياحبيبي!"
_"متقوليش كدا يا ماما، هتبقي كويسة ياحبيبتي وبابا هيكون كويس والله، محدش فيكم هيسيبني ياحبيبتي وهتفضلوا معايا سندي وضهري في الحياة"
قالها بنبرته الشبه باكية المرتجفة، بينما هي لفظت جملتين فقط وخرجت روحها لربها:
"أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"
نطقت الشهادة وماتت بين يديه، ذهبت وسلبت معها جزءًا كبيرًا منه معها، رفع يدها يقبلها عليها ثم قبّل رأسها ودموعه انهمرت بشكلٍ مقهور:
"لا حول ولا قوة الا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، يــارب الصبــر يارب"
قالها بنبرة عالية مغلوبة باكية، ولم يكن يعلم المسكين بأن والده سيموت بنفس الطريقة، على يديه بعدها بيومين، يوصي عليه عمه «الحاج إبراهيم» ثم يغادر الحياة.
_"مروان في عينك يا إبراهيم، مروان في عينك خليك جنبه طول ما فيك النفس، ابني متسبهوش وحيد يا إبراهيم، ابني في عينك، ابني يا إبراهيم!"
_"في عيني يا إسماعيل، في عيني يا أخويا، مروان ابني، هتبقى كويس يا حبيبي أهدى بس"
كان المسكين يخبئ وجهه بأحضان والده ويحتضنه بقوة كالطفل الصغير ينتحب بالبكاء:
"متسبنيش يا بابا أنت كمان، متسنبيش"
ربت والده على شعره ونطق الشهادة وخرجت أنفاسه الأخيرة لربه.
وكأنه لن يستطع البقاء حيًا دون زوجته، كُسر ظهر اليتيم ولم يتمالك تلك الصدمة، وباء «الكورونا» سلب منه الأعزاء على قلبه، أصابه انهيار عصبي بعدها ولكنه وقف على قدميه مجددًا بعد مدة، ولكن داخله شرخ كبير لن يشفى!
لم يكن يعلم أن ذكرياته كانت تخرج بصوت منه بصوتٍ عالٍ، يُخبرها بذلك وهو يتذكره، مازالت يدها بشعره وهمست بنبرة مهزوزة لحُـزنها عليه:
"ربنا يرحمهم، هيشوفوك في الجنة إن شاء الله، هما الاتنين أكيد مبسوطين بيك دلوقتي"
أومأ لها ومسح دمعة خائنة وهو يقول بتنهيدة قوية:
"ربنا يرحمهم ويرحم والدتك يارب!"
اعتدل يجلس وهو يطالعها بابتسامة خفيفة زينت ثغره:
"قومي نعمل الغدا يلا، وأعلمك تعملي حاجة ليكِ وللزمن، هنعمل صنية بطاطس بالكفتة"
أزالت رداء الصلاة ووضعته جانبًا وتحركت معه مبتسمة بتوسعٍ:
"بحب الكفتة أوي على فكرة، يلا"
ولجت معه للمطبخ تساعده في إعداد الطعام مع مزاحه الذي خرج بعفوية معها، وضحكاتها التي ملأت عليه المنزل الذي لطالما عاش به بهدوءٍ مبالغ!
__________
سحقت قلبه وعادت تطلب السماح،
لا تعلم بأن مكانها مازال محفوظًا بقلبه،
ولكن الحرج أعمق بكثير من كل ذلك!
أنهى تدريباته بكرة السلة لليوم وغادر نحو غرفة تبديل الملابس ليرتدي معطفًا باللون الأسود على بنطال باللون الأسود أيضًا، وأسفل المعطف كنزة برقبة لونها أبيض، ثم خرج ناظرًا في هاتفه يرى ما وصله مؤخرًا يخص العمل.
وصل عند سيارته وكاد أن يصطدم بتلك التي خرجت له من العدم ولكنه تدارك ووقف سريعًا يقول باستغراب:
"شذى، خيي'خير' في حاجة؟"
_"آه فيه، أنا محتاجة أتكلم معاك شوية في كل حاجة بتحصل يا أنس، عايزة أعرف أنت ممكن تسامحني إزاي وأنا أعمل كدا، أنا بجري وراك من يوم ما رجعت من السفر يا أنس، طب عرفني لو مافيش أي أمل أبطل أعذب نفسي بالشكل ده!"
قالت كلماته دفعة واحدة وأنهته بغضبٍ شديد جعله يقوس حاجبه وهو يردف بهدوء مبالغ:
"محدش قالك اجيي'اجري' طيب، اللي عندي قولتهولك يا شذى ومبقاش عندي حاجة تانية تتقال، أنتِ ليه مش عاوز تستوعبي إنك كسرتي قلبي ونفسي؟"
أومأت له برأسها توافقه الحديث وأمسكت كفه بين يديها ولكنه سحب يده سريعًا، فرفعت بصرها بصدمة تطالعه وهي تهمس بصوتٍ مهزوز:
"طب أرضيك إزاي، أنت مش قابل وجودي حتى"
_"بياڤو 'براڤو' عليكِ، وعادي إحنا صحاب وقت ما تحتاجيني في حاجة مش هتأخر عليكِ!"
رغمًا عنه قال ذلك الحديث محاولًا التظاهر بالثبات ولكن مهزومًا هو الآخر مثلها، وجدها تميل برأسها قليلًا ونبست باستعطاف:
"بس أنا بحبك"
أشاح ببصره حتى لا يضعف أمامها، فأجبرها الكبرياء بأن تتحرك بعيدًا عنه وبالفعل تحركت سريعًا من أمامه بعينين لامعتين بالدموع بأسفٍ على حالها، لم تلاحظ تلك السيارة السريعة التي كانت آتية صوبها وكادت أن تصطدم بها لولا ركضه لها بصراخٍ دوى بالأرجاء:
"حاسبـــي!"
جذبها من يدها سريعًا ووقعا سويًا أرضًا من قوته في جذبها والابتعاد عن السيارة، بينما هي وقعت أرضًا لم تقوى على التحرك من الصدمة والخوف، كادت أن تموت!
أقترب نحوهها يحاول أن يجعلها تعتدل في جلستها وهو يسألها بقلقٍ كبير:
"أنتِ كويسة؟ حصلك حاجة ياشذى؟"
هزت رأسها بنفي ومسحت دموعها بيدها المرتجفة، جسدها بأكمله يرتجف، تنهد براحة على كونها بخير وتحدث بنبرة هادئة يطمئن قلبها:
"خلاص أهدي أنتِ كويسة، مافيش حاجة حصلتلك، قومي ندخل النادي تشيبي'تشربي' شوية عصيي'عصير' يهدي أعصابك دي، لو عايزة نيوح'نروح' المستشفى تطمني أوديكِ!"
_"لا لا أنا كويسة، هبقى أحسن متقلقش"
قالتها وهي تستند عليها لتقوم من على الأرض وتنضف ملابسها من التراب ورأت خدش بسيط في كفها من وقوعها بقوة.
لمحه هو الآخر وأمسك كفها بين يديه ومسح عنه التراب وهو يقول:
"تعالي ندخل هجيب قطن من عيادة النادي ولزقة جيوح'جروح' وأعملك الجيح'الجرح' ده"
غادرت معه نحو الداخل وجعلها تجلس تنتظره ثم عاد لها بعد قليلٍ بعصيرٍ والأدوات التي سيداوي بها جرح يدها.
جلس جوارها وأعطاها العصير وأمسك يدها ومسح عنها التراب ثم وضع عليها اللاصق الطبي وأردف بتنهيدة:
"ان شاء الله هتبقي كويسة، صدمة اللي حصل بس وهتكوني بخيي'بخير'"
_"شكرًا يا أنس، كتر خيرك تعبتك معايا وعطلتك عن شغلك"
اخفضت بصرها بتنهيدة حتى لا تتقابل العينان بلومٍ كبير منه لها، أردف هو بشكلٍ عفوي ومازالت عينيه عليها:
"أنتِ تعملي اللي أنتِ عايزاه، أقصد يعني فداك وكدا المهم إنك كويسة"
كان يحاول أن يمسك نفسه بألا يقع في الكلام معها ويظهر كالمفضوح العاشق، ولكنها استشفت حديثه ذلك وتوسعت ابتسامتها الفرحة لخوفه عليها بذلك الشكل، عرض عليها تلك الفكرة بتسائل:
"أوصلك ولا لسه قاعدة في النادي شوية؟"
_"لا وصلني آه، يلا!"
قالتها بغنجٍ وهي تبتسم فابتسم تلقائيًا على تلك وهمس بينه وبين نفسه:
"يبنا'ربنا' يثبتني قدامها ومروحش أخدها وأتجوزها دلوقتي"
ثم على صوته يشير لها بيده لتتقدم هي:
"طب اتفضلي، اتفضلي"
سارت وسار خلفها العاشق الولهان الذي مهما حاول أن يُداري مشاعره لن يستطع!
________
ارتدت فستانًا من اللون الزيتوني وأخبرت «تامر» بأنها ستمر على «سيلين» زوجة صديقهم لتأخذها معها ليشتروا بعض الأشياء التي ستلزمها، فهي منذ ما حدث مع والدها لم تتحدث معه حتى الآن، وضع لها «تامر» النقود بحقيبتها وغادرت نحو بناية عائلة «عبدالمجيد»، ومرت من أمام ورشته ليخرج سريعًا تاركًا كل ما بيده ليذهب للجحيم لأجلها:
"الله الله، هو القمر بيطلع الصبح ولا بليل؟"
وقفت أمامه تطالعه بابتسامة واسعة:
"هو أنا مش قيلالك الكلام ده بعد كتب الكتاب قبل كدا، هناديلك مروان!"
زم شفتاه بحنقٍ وطالعها من أعلاها لأسفلها مُعجبًا بتلك الإطلالة الرقيقة:
"طب ما أنا مش قادر أقاوم، هانت يومين وتبقي مراتي وأبقى أشوف حد بيقرب ناحيتنا بس، هاكله بسناني، رايحة فين بقى؟"
اعتلى الخجل وجهها من نظراته وحديثه ذلك، ولكنها تعمدت التظاهر بطبيعتها وأجابته:
"عايزة اعدي أخد سيلين ونروح سوا نجيب كام حاجة، تتوقع مروان هيرضى؟"
_"ولو مرضيش، اخليه يرضى غصب عنه هو أنتِ بتطلبي حاجة كل يوم يعني ولا إيه؟"
قالها بمكرٍ يغمز لها بطرف عينه لتضحك بخفة ثم نبست بصوتها الخجل:
"تسلم يا عبدالله يارب!"
تحولت ملامحه الماكرة المُعجبة به لساخطة وهو يعيد تكرار كلماتها بحنقٍ:
"تسلم؟ هو أنا أخوكِ فالرضاعة، بقولك إيه روحي ياتسنيم الله يسهلك"
زفرت بسخطٍ مُتذمرة منه بقولها:
"يوه، هو أنا يعني عملت فيك إيه، سلام سلام"
أشارت له بيدها تودعه وتحركت نحو البناية تطلب من «مروان» الذي تردد قليلًا ولكنه بالنهاية وافق لأن الأخرى تود أن تستنشق بعض الهواء النقي، وأعطاها نقود لتشتري ما تريد أن أعجبها شيء!
_"بصي بقى هنلف كتير، هلففك كعب داير في أماكن كتير فأجهزي للمشي كتير ماشي؟"
قالتها «تسنيم» التي تسير جوارها وابتسمت الأخرى لها بحماسٍ:
"متقلقيش أنا كدا كدا عايزة أمشي لأني قاعدة من زمان أوي في البيت"
توجها سويًا نحو محلات الملابس تشتري «تسنيم» ما يلزمها وتساعدها الأخرى في الإختيار بذوقها المميز.
____________
خوف الإنسان من إنسان آخر من أقوى أنواع المخاوف، نثير الرعب في نفوس بعضنا، ذلك الخوف فريد من نوعه، لا يغلبه شيء ولا يسيطر عليه أحد.
كانت نائمة بعدما أخذت المسكنات التي أعطتها لها الطبيبة في راحة لم تعهدها من قبل، ولكن رائحة تعرفها عن ظهر قلب اخترقت أنفها، رائحة لم ولن تنساها يومًا.
فتحت عيناها بسرعة فوجدته وجهه أمام وجهها في مظهرٍ مرعب، كادت أن تصرخ ولكن يده القوية كانت الأسرع بمنعها من الصراخ وبصوتٍ كفحيح الأفعى همس:
"ششش ولا نفس يا رزان احسنلك، متقلقيش أنا مش جاي أعمل حاجة يامراتي ياحبيبتي، وحشتيني بس وجاي أشوفك!"
ارتجف جسدها بشكلٍ مفرط غير طبيعي، وقلبها يدق بعنفٍ لدرجة أنه كاد أن يتوقف في مكانه، حدقتاها متوسعة وتخاف أن ترمش حتى في حضرته!
قرب وجهه من شعرها يشم رائحته وعاد يتحدث بنفس النبرة المُخيفة:
"أنتِ بتاعتي يارزان، ومهما حاولوا محدش هيقدر يبعدك عني، هاخدك في مكان بعيد أوي لينا إحنا الاتنين بس لوحدنا، بعيد أوي أوي أوي، أنا وأنتِ وبس!"
لثم خدها ثم تحرك يبتعد عنها ولوح لها بيده يودعها وغادر المكان، بينما يدها المرتجفة وُضعت على جرس التنبيه للممرضات وضغطت عليه بعد محاولات عدة ووجدت الممرضات والطبيب عندها سريعًا، بينما هي لم تقوى على التحدث فقط حالتها تحولت تمامًا من الهدوء للتنفس القوي، أنفاسها المتلاحقة جعلت من نبضات قلبها تضطرب وضغط دمها.
_"في إيه يا مدام، مالك في إيه؟"
قالها الطبيب الذي وجد وجهها أصبح باللون الأحمر ثم تحول لشاحبٍ وجذب سريعًا السماعة يفحصها، والممرضة وضعت لها جهلاز التنفس الصناعي ووصلت الأجهزة لها.
_"هاتي حقنة مهدئة بسرعة!"
أتت الممرضة بها وأعطتها له وأعطاها لها الطبيب وظل يحاول إجراء بعض الفحوصات ليعرف ما أصابها فتوصل بأنها تعرضت لنوبة هلع مفاجئة.
بعد مدة خرج لأهلها الذين شعروا بما حدث لها ووجودهم عندها بذلك الشكل المفزع بالنسبة لهم.
سأل والدها بقلقٍ شديد:
"في إيه يا دكتور، بنتي مالها؟"
أجابه بتنهيدة وهو يربت على كتفه:
"متقلقش يا مستر شوكت، هتكون كويسة ان شاء الله، نوبة هلع مفاجئة جاتلها، ممكن بسبب الحالة النفسية اللي بتمر بيها!"
طمئن قلبه القلق وقلب أمها الذي كاد أن يقتلع من مكانه، بينما بالخارج كان الحقير يقف مع الخائنة، ينفث الدخان بوجهها:
"شوفتها، المرة الجاية لما أجي هكلمك برضو ياروان، يلا تشاو يامزة!"
غمزها بعينه وتحرك بسيارته من أمامها ولكن هنالك عينان رآتهما يقفان سويًا ولم تكن سوى «لحمزة»!
___________
ولجت للمنزل بابتسامة واسعة بعدما أنهت رحلة التسوق رفقة «تسنيم»، واشترت هي الأخرى بعض الأشياء التي ستحتاجها.
وجدته يجلس بالشرفة فتحركت لجواره وهي تنظر للقطط التي بين أحضانه، سألها بابتسامة:
"اتبسطتي مع تسنيم؟"
أومأت له وجلست جواره تضع الأكياس جانبًا وأجابته بابتسامة واسعة:
"أوي أوي لفيت معاها دايرة الكعب كله!"
سألها باستغراب اعتلى ملامحه مضيقًا عينيه:
"دايرة الكعب؟ إيه دي؟"
هزت كتفها بجهلٍ وهي تُجيبه بعينين رمشتا لمرتين:
"معرفش تسنيم قالتلي هلففك معايا دايرة الكعب!"
أدرك ما تحاول قوله فأغمض عينيه بقلة حيلة وتحدث بضحكة خفيفة:
_"لحظة واحدة قصدك تلففك كعب داير، بقولك إيه متحاوليش تلقطي من حد من الحارة يا سيلين أحسن، خليكِ أنتِ لسه بتتعلمي أصلا تتكلمي من ألف أرنب باء بطة!"
زمت شفتاها بتذمرٍ وهي تضربه على كتفه برفقٍ قائلة بسخطٍ:
"متتريقش عليا، أنا ده اللي افتكرته من كلامها، المهم بص جبت إيه!"
وجه بصره نحو الأكياس التي جذبتها أمامها وبدأت تُخرج منها الأشياء التي أشترتها وهي تشرح له ما تلك الأشياء:
"جبت بيجامتين ليا عجبوني أوي، وجبت كمان سيروم لشعري بريحة الياسمين، شم شم!"
قربته من أنفه يشمه بابتسامة وأومئ لها برأسه:
"تتهني بيهم، لو احتجتِ أي حاجة تاني عرفيني وهتكون عندك على طول"
ابتسمت له وأقتربت تلثم خده برقة بالغة جعلته ينصدم في البداية من فعلتها العفوية ولكنه ابتسم في وجهها وأقترب هو الآخر يقبلها على خدها بابتسامة:
"قومي يلا غيري هدومك ورتبي حاجتك دي"
تحركت بابتسامة واسعة كادت أن تصل لأذنيها، يغمرها شعور غريب ولكنه يجعل الفراشات تداعب معدتها وقلبها، شعور العاشقة التي رأت معشوقها يتقرب نحوها ولقلبها.
______________
أتى الجميع على تلك مكسورة الجناح، يتيمة الأب والأم لطيبة قلبها، ولم تقوى على أخذ حقها منهم لأنها لم تتعرض يومًا لأفعالٍ كهذه، فقط تبكي بانكسار.
فتحت الباب بعدما كان الدق عليه شديد، رأت «رنا» تقف أمامها بملامحها الواجمة الغاضبة:
"عايزة أتكلم معاكِ"
ابتعدت لها «مرام» بملامح مستنكرة لتلك الغاضبة بذلك الشكل، ولجت «رنا» وجلست على الأريكة تنتظرها لتأتي جوارها وسألتها:
"في إيه، متعصبة ليه حد مزعلك؟"
سحبت «رنا» نفسًا عميقًا قبل أن تنفجر في وجه البريئة التي صُدمت من نبرتها الغاضبة:
"بصي بقى، أنا تعبت من الحوارات دي يامرام، أنا مبقتش مستحملة أن آسر كل يوم والتاني عندك هنا، أنتِ هتحملي أمتى؟"
رفعت الثانية خصلة هربت من شعرها لخلف أذنها وسألتها باستغراب كبير:
"وأنا إيه عرفني يا رنا هحمل أمتى، وبعدين ماله الحمل باللي بيحصل، أنا وآسر متجوزين زي أي اتنين يارنا"
_"لا أنتو مش متجوزين زي أي اتنين، آسر أول ما هتحملي هيبقى خلاص كدا بخ بالنسبالك يا مرام، أنتِ بتاخدي أي دوا منع؟"
صرخت بوجهها لتدرك «مرام» علو صوتها ونبرتها الغاضبة تلك؛ فسحبت نفسًا تُصبر نفسها عما بُليت:
"لا مباخدش حاجة، ومتتكلميش معايا كدا يا رنا مالك، أنتِ فيه حاجة في دماغك ولا إيه؟"
رفعت «رنا» أصبعها في وجه «مرام» تُهددها بصوتٍ حاد، فالغيرة أكلت قلبها ونهشته كله:
"حسك عينك أعرف إنك بتاخدي أي مانع، وبعدين أنا هاخدك ونروح لدكتورة تشوف لو تقدر تديكِ أي دوا يخليكِ تحملي!"
وقفت «مرام» في مكانها وعلى صوتها هي الأخرى بقولها بحدة:
"معلش بقى يا رنا بس أنا مش هعمل كدا، أنا مش هروح أتعب نفسي بدوا أنا معرفش هيعمل فيا إيه، يوم ما ربنا يأذن إني أحمل هحمل، واتفضلي بقى عشان أنتِ شكلك دماغك تعبانة دلوقتي"
نظرت لها الأخرى بحدة وبغض، حاقدة عليها وعلى قُرب زوجها منها، وتحركت من الشقة ترفع الهاتف على أذنها تتحدث مع والدتها:
"لو حصل حاجة، هقولك تعمليلها ونخلص منها، عشان أنا زهقت، مش هبقى عملاله عمل عشان يحبني من أول يوم شوفته فيه ويجي يحبها هي في الآخر!"
تعليقات



<>