الفصل الثاني والثلاثون32
بقلم امينة محمد
جالسًا في منتصف المسجد على ركبتيه يبكي، يبكي كما الشريد الذي لا ملجأ له، يتوسل إلى الله ليغفر له خطاياه، يناجي، يتضرع، يلح في الدعاء.
_"يارب، ارحمنا برحمتك يارب، يارب أنا تعبان من كل حاجة في الدنيا بس أنا صابر وراضي، صابر على كل حاجة وبقول الحمدلله، الحمدلله على البلاء، الحمدلله على كل حاجة، أنا عبدك الضعيف يارب، اللهم كما نجيت موسى من فرعون، ونجيت يونس من الحوت، ونجيت إبراهيم من النار، نجني أنا عبدك مروان من كل الأزمات والأوجاع!"
إن استمع أحدهم لبكاءه لتقطع قلبه لأشلاء، بكاء بحرقة خرج من أعماقه المتألمة التي لطالما تركها بداخله دون أن يفصح عنها ليظهر دومًا بمظهر القوي المتماسك حتى لا يُتعب من حوله معه.
هكذا كان آخر ما راوده في مخيلته وهو يعاني من بطئ التنفس قبل أن يتراجع سريعًا من عند الباب عندما وجدهم يقتربون منه، ثم دلف لغرفة جعلها كخزينٍ للملابس ولحظه الجيد أنهم فجروا المحل من ناحية الباب تحديدًا، ليتأذى أوله وأمسكت النيران ببقيته.
حدث كل شيء بسرعة شديدة وأنتشرت الرائحة الكريهة التي خرجت من القنبلة في الأرجاء عندما خرج هو من غرفة المخزن ليجد نفسه محاوطًا بكل تلك الغازات وحاول الخروج من المكان ولكن النيران نشبت بشكلٍ كبير، وكان له نصيب من الحروق التي كان بعضها بسيط والآخر خطير، ولم يجد نفسه سوى أرضًا يحاول التنفس قدر الإمكان.
ظل يحاول الوصول لهاتفه الذي بحث مطولًا عنه بجسده المرتجف، ولكن لم يجده معه فتيقن أنه بالمنزل، استمع لصوت الصراخ بالخارج من الجميع، استمع لأصوات الناس يطلبون النجدة له.
يملك العبد حظًا وفيرًا في الدنيا عندما يكون الله راضيًا عنه، وكان هو منهم؛ لحظهِ أنه يوجد مركز مطافي بجوار الحارة مما جعلهم يأتون سريعًا عندما أتصلوا بهم.
بينما هو استسلم للواقع الذي فُرض عليه، وذهب حيث وجد نفسه في منتصف المسجد يدعو الله باكيًا، حيث الضعف الذي تملكه، وجه أحبته و... «سيلين».
بينما على الجانب الآخر وصل كلًا من «حمزة» و«آسر» عند المحل بصدمة كبيرة، وكان السؤال بفزعٍ من «آسر» الذي صرخ:
"مروان فين؟ هو مروان جوا!"
لطمت سيدة على وجهها وهي تومئ لهم، ثم أجاباتهما بولولة:
"أيوه ياحبة عيني أنا لسه شيفاه جوا قبل ما تيجي العربية تفجر المحل!"
صدمة؟
بل أكثر من ذلك وقعت عليهما، تجمدا مكانهما وهربت الدموع من عينيّ «آسر» لمجرد التخيل أن صديقه به شيء، بينما «حمزة» كاد يهرول ناحية المحل ولكن يد صديقه أمسكته حتى لا يتأذى من النيران التي يحاولون اطفائها.
_"أهدى يا حمزة مينفعش تدخل كدا، أنت مش شايف الحــريق والنار!"
كان «آسر» يمسكه بقوة وبكل ما أوتي منها، بينما الدموع تنهمر على خديه هو الآخر، ولكن قوة «حمزة» التي خرجت بشحنات قوية كانت أقوى، حيث دفعه بقوة وهو يصرخ بوجهه:
"هولع معــاه لو جـوا، أنت عبيـط أنا مش هســيب أخويـــا، أوعــى ياعم"
ثم ركض نحو المحل حيث الدخان المنتشر الذي خرج من النيران التي حاولت المطافي اطفائها، وظل ينادي كما الضائع في سبل الحياة، كما الطفل الصغير الشريد:
"مـــروان، مــروان"
كان الأذى كله عند باب المحل ونصفه الأول بشكلٍ أكبر من نصفه الآخر، لمح قدميه فركض نحوه يرفع رأسه لأحضانه:
"مروان، قوم ياعــم!"
كان المسكين بين أحضانه يلفظ أنفاسه بصعوبة لأختناقه بالدخان وعدم قدرته على الاستيقاظ بسبب ما أصابه من نيران المحل التي حرقت بعض من أجزاء جسده، وتنفسه الكثير من الدخان الذي تصاعد بقوة، لمح «حمزة» رجال الإسعاف أمامه يهرولون له وساعدهم برفع «مروان» وهو يركض به معهم يطالعه:
"هتكون كويس، أنا هفضل مستنيك، والله هفضل مستنيك"
وصلوا جميعًا عند سيارة الإسعاف وأدخلوه بها ثم تحركوا به مع صوت صفيرها التي مليء صوت الحارة، مع ولولة الناس لما أصاب المسكين، بينما هرول «حمزة» نحو سيارته ولكن منعه «آسر» وهو يفتح الباب الخاص بمقعد القيادة:
"أركب وأنا هسوق!"
_"عبدالله.. والحاج إبراهيم، عبدالله لو عرف مش هيسكت، استغفر الله العظيم، أصبـر يا آسر!"
قالها «حمزة» عند تذكره صديقهم الرابع، لا يمكنهم التخطي قدمًا في شيء دون الآخر، لا يمكنهم الحزن سوى سويًا.
وصل عند الشقة وطرق الباب بقوة ليفتح له «الحاج إبراهيم» بفزعٍ شديد وبنظراتٍ تحمل الاستنكار، ليبدأ «حمزة» بالتحدث من بين أنفاسه اللاهثة:
"مروان، مـروان ياحاج المحل ولع وهو جواه!"
أتى على صوته «عبدالله» بصدمة وهو يردد حديثه كما الملدوغ من أفعى:
"أنت بتقول إيه، مروان فين؟"
_"الإسعاف خده، يلا عشان آسر مستنينا تحت هنروحله، هو أنتو مسمعتوش صوت إنفجار ولا صوت أي حاجة ولا إيه؟"
هدر مستغربًا لينفي «الحاج إبراهيم» ذلك برأسه ثم تحرك يجلب معطفه وخلفه كان «عبدالله» الذي أمسك جرحه بوجعٍ بسبب حركته المفرطة الآن، وعلى حالة الهرج والمرج ذلك على الدرج خرجت لهم «سيلين» بملامح مستغربة، ساورها الشك لرؤيتهم هكذا ثم سألت:
"في إيه؟"
_"ادخلي واقفلي على نفسك لحد ما نرجع!"
قالها «حمزة» بصرامة لها ليخرج صوت «فاطمة» الباكي من الداخل حينما استمعت للحوار:
"مصايب يا ناس مصايب، روح يابني وطمنا على مروان أول ما تعرفوا حاجة، روح وأنا هنا معاها!"
_"مروان، مروان ماله، هو فين؟"
تمسكتها حالة ذعر كبيرة عندما استمعت لاسمه مقرونًا بالأذى، خوفه كان بمحله عندما أخبرها قبل أن يتحرك، وهي أيضًا راودها الشكوك فيما حدث، اقتربت راكضة «لحمزة» تسأله بصوتٍ مرتجف:
"مروان ماله؟ هو كويس صح!"
_"'يلا يا حمــزة"
صاح «عبدالله» له ليغادر معهم، بينما هو بادلها نظرة يطمئنها:
"هيبقى كويس، متقلقيش، هطمنك أول ما أطمن عليه"
ثم تحرك وتركها مكانها لا تقوى على الوقوف؛ فجلست على السلالم تحاول استيعاب ما حدث، مازالت تحت تأثير الصدمة، مازال عقلها لا يقبل تلك الفكرة التي تخبرها أنها من الممكن أن تخسره في يومٍ من الأيام!
وجدت «فاطمة» تعانقها وجعلتها تتحرك معها نحو الداخل، وأخيرًا قرر الإنهيار القدوم مع البكاء المفرط، واحتضنت «فاطمة» بقوة، وبقلبٍ مرتجف وروحٍ متأججة نبست من بين شفتيها المرتجفة:
"قوليلي إنه مش هيسبني ومش هيحصله حاجة، قوليلي إنه كويس، بالله تقوليلي إنه كويس!"
ربتت «فاطمة» على ظهرها وشددت العناق، فالمقهورة الآن لا تحتاج سوى تربيت بحنانٍ على قلبٍ فقد الأمان.
_"هيبقى كويس والله، متقلقيش يابنتي!"
ظلت جوارها تواسيها وتتذكر ذلك اليوم الذي خسرت به ابنتها، كل ذلك بسبب رجل فاسد، به شرر كبير طال الجميع.
لا يُلام المظلوم،
الملامة كلها على الظالم!
ها قد نال المحب حبيبه، وجُمع به، وحصل على مبتغاه، ها قد نال العاشق معشوقه، وتمسك به، ورأى احلامه التي علقت في السماء بين يديه.
_"مساء الخيي "الخير" يا عمي"
بابتسامة واسعة ألقى السلام على والد «شذى»، فهم الآن في مقابلة رسمية من أهله وأهلها ليطلب يدها رسميًا، صافحه والدها ورحب بهم جميعًا:
"أهلًا وسهلًا بحضراتكم، أهلًا شرفتونا"
_"نويك" نورك" والله، تسلم"
مجددًا رد هو ليبتسم والده مُكملًا على حديثه بضحكات خفيفة مازحة:
"تسلم والله، أنت عارف طبعًا إحنا صحاب ومافيش بينا الرسميات دي، إحنا جايين نطلب إيد الآنسة شذى لأنس ابني على سنة الله ورسوله"
ضحك والدها بتوسعٍ وهو يجيب مُرحبًا بالفكرة من أعماقه:
"إحنا نلاقي زي أنس فين، أنس ابني برضو وهيحافظ على شذى كويس أوي أنا متأكد!"
ابتسم «أنس» بينما يهندم ملابسه بكل ثقة عما قيل عنه، والابتسامة العالية التي تعلو ثغره وتزينه تزيد من غروره الداخلي بنفسه، ثم نبس بضحكة خفيفة:
"طبعًا طبعًا، أنا مافيش زيي فعلًا ياعمي، وبعدين أنا لفيت ويا "ورا" بنتك ويوحت"روحت" ويا"ورا" الشمس عشانها، فصدقني هحافظ عليها وهحطها في عيني الاتنين"
كلمات معجبة من هذا وذاك، حتى قرر والدها أن يُخرجها، وليته لم يفعل، وقعت الثقة والغرور أرضًا عندما رآها بكل تلك الفتنة التي تزينت بها، فاتنة متزينة لتتحرك كفتنة متحركة، هكذا الوصف الصحيح لمظهرها الجذاب، بفستانها الأحمر الطويل صاحب الأكمام الواسعة، يتناغم مع جسدها في تناسقٍ بينما شعرها ينسدل على ظهرها برقة بالغة.
همس بينه وبين نفسه بوله وتيه:
"ده الشمس هتولع فيا دلوقتي عشان مش عايف'عارف' ايجع'ارجع' من وياها'وراها'، اقنعهم إزاي يكون كتب كتاب واخطفها وامشي"
حاول السيطرة على نفسه أكثر، وتناول منها القهوة التي قدمتها له بابتسامة خجلة سعيدة، ابتسم لها بينما قرب الفنجان عند فمه يتذوق حلاوة ما صنعت، ولكنه كان مرارة ما خططت!
_"يا نهاي أسود، إيه القهوة دي!"
لم يسيطر على نفسه أكثر، فشل عدة مرات في المحاولة ولكن هذه غلبته لأن القهوة التي صنعتها في محاولة لإختباره بها.
نظروا جميعهم لها ثم له ليسأل والدها بفضولٍ وقلق:
"مالها يا أنس؟ أنت كويس!"
لمح منها نظرة بطرف عينيه تحثه على ألا يتحدث، فابتلع ما في جوفه بتنهيدة:
"من جمالها مقديتش 'مقدرتش' اتحكم في نفسي، شذى بتعمل قهوة تموت من الجمال.... لا تموت فعلًا"
نبس بآخر كلماته بصوتٍ خفيضٍ بينه وبين نفسه، وتوعدها بنظراته لتبتسم بنصرٍ مشيرة له بعينيها أن يكمل الفنجان، وبالفعل شربه بأكمله ثم أخذ كوب الماء وتجرعه أيضًا، بينما جرت الاتفاقيات كما يجب أن تكون بالعدل والدين.
جلسا سويًا بعيدًا عن الجموع ليبتسم باتساعٍ وعينين ملتمعتين بحبٍ:
"ده أنا لو بحايب'بحارب' في قضية ألبس واحد إعدام كان زماني لبسته وكسبتها"
_"أنت يابني مغرور كدا ليه!"
سألته بضحكة بسيطة ليبتسم بثقة متحدثًا لها وهو يغمزها بطرف عينه:
"عشان أنا أنس النجاي، وبعدين محامي زيي شاطي'شاطر' معاه بنوتة زيك جميلة ميبقاش مغيوي'مغرور'"
أخجلها الوقح بكلماته تلك فأخفضت بصرها بعيدًا عنه، بينما الابتسامة لديها واسعة كما عنده تمامًا، ابتسامة عاشقان تجمعا بعد معاناة، بعد حرب كانا طرفيها.
أخرج من جيب بدلته علبة طويلة قطيفة القماش بشكلٍ فخم جدًا بلونهما المفضل «الأزرق»، ثم فتحها أمامها لتظهر سلسلة من الذهب برسمة ورقة شجر بشكلٍ مميز، أخرجها من العلبة، وفرّق الورقة عن بعضها لتتفاجئ بها بعينيها التي توسعت، ثم وجدت منقوشًا عليها اسمهما سويًا باللغة الإنجليزية.
شهقت بتفاجئ ولمستها بين يديه وهي تنبس بنبرة متحمسة:
"أنـس! Wow دي حلوة أوي و creative"
ابتسم واقترب خلف الكرسي الذي تجلس عليها لتُباعد له شعرها وألبسها إياها ثم عاد مكانه يراها تزين رقبتها، أردف بابتسامة عريضة:
"جمالها زاد عليكِ"
_"حبيبي بجد، تحفة أوي أوي!"
قالتها وهي تتلمسها على رقبتها بشكلها المُغلق على اسمائهما، ليبتسم هو برضا للمعة السعادة التي بعيناها
فتت قلبي عندما تعرضت لخسارة الأحباب الأغلى على قلبي، وها أنا ذا أتعرض مجددًا لفقدٍ ليس باستطاعتي تحمله ولا قلبي الصغير سيتحمل.
كان يسير في ممر المستشفى ذهابًا وإيابًا دون توقف، التوتر ينهش بقلبه وعقله، يفكر في ألف إحتمال قد يصيب أخاه الذي ولج له فوجده يحاول لفظ أنفاسه بصعوبة، يود فقط ضمه لأحضانه.
بينما الثاني واضعًا رأسه بين يديه، يتذكر عندما ضمه الحنون لقلبه يربت عليه، يواسيه، يخفف عنه، يتذكر كل مرة ركض له ليعانقه بكل ما أوتي من قوة وحنان ليضعه على الطريق الصحيح مجددًا.
لا يُحسد ابن عمه وأخيه الذي كان التوتر ينهش بجسده كاملًا لدرجة أن جرحه الذي كاد يلتئم بدأ ينزف دون علمه لشدة ضغطه على جسده المتشنج!
بينما كبيرهم يتذكر حديث أخاه الميت وهو يوصيه على ابنه، هل هو الآن مُقصرًا؟
تأنيب ضمير شديد غلفه وغلف قلبه عند تذكره شكل المحل الذي لمحه وهم في طريقهم للمستشفى، كان أسود متفحمًا من الأمام، وكل الملابس حُرقت.
_"استغفر الله العظيم، هما اتأخروا كدا ليه، ماحد يطلع!"
نبس بها «عبدالله» بعصبية شديدة يحاول تخبئة الأنين المُتألم، انتبه «آسر» لتوجعه وكيف يُوصد عيناه بقوة من الوجع.
أقترب له ورفع يده عن جرحه ليرى الدماء تلوث كنزته فتوسعت حدقتيه قائلًا:
"عبدالله جرحك نزف، قوم أخدك للطوارئ يشوفوه!"
_"جرح إيه يا آسر، أنا مافيش حاجة وجعاني غير قلبي، ومش هتحرك من هنا لو دمي كله اتصفى قبل ما أطمن عليه، كله بسبب الكلب وبنته اللي عندنا"
قالها «عبدالله» بغضبٍ شديد، لم يسيطر على نفسه، فتدخل هذه المرة «حمزة» بأسفٍ:
"طب أهدى يا عبدالله، مروان هيزعل لو سمعك بتتكلم عنها كدا تاني عشان هو قال إنها ملهاش ذنب في أي حاجة، أنت مشوفتهاش عاملة إزاي لما سمعت اللي حصله"
يكاد يعتصر من الداخل لأجل صديقه، وقبل أن يتحدثوا جميعهم تحرك «الحاج إبراهيم» مُمسكًا بيد «عبدالله» وجذبه معه:
"قوم عشان أخوك لما يصحى لو شافك كدا هيزعل، قوم يلا!"
تحرك مع أبيه دون أي أعتراض، وتوجها سويًا ناحية الطوارئ يضمدون له جرحه، ثم عادا على خروج الطبيب من غرفة «مروان» يشرح لهم ما به بتنهيدة:
"الحمدلله الأضرار مش شديدة، عنده حروق من الدرجة التانية والأولى والحمدلله أنها موصلتش للدرجة التالتة، هو المشكلة بس في تنفسه اللي مش منتظم بسبب إنه اتنفس دخان كتير تعب الرئتين شوية، لسه في حالة إغماء وحاطينه على جهاز التنفس وهيفضل تحت الملاحظة خلال الـ 12 ساعة الجايين ان شاء الله!"
نظر له «حمزة» بإرتباك وحاول تجميع تلك الحروف التي ضاعت منه:
"هو هيكون كويس يعني؟ هو كويس صح؟"
أومأ له الطبيب بابتسامة خفيفة يطمئنهم:
"ان شاء الله، متقلقوش، ادعوله الله يقومه بالسلامة!"
ثم استأذن مغادرًا ليتحرك «حمزة» سريعًا ناحية النافذة التي تطل على غرفته يطالعه منها بنظرة بها حرقة عليه، وقف جواره «عبدالله» وأيضًا «آسر» يحاولان مواساة أنفسهم:
"هيبقى كويس، هو عمومًا قرد على طول يعني، مش هيسيبنا وهنفضل أربعة كدا على طول"
تدخل «آسر» بقوله بأسفٍ بينما يرى صديقه مستلقي على الفراش هكذا دون حول له ولا قوة:
"هو أساسًا مينفعش يسيبنا، إحنا ماشيين بستر ربنا وبوجوده معانا"
فيما تابعهم «عبدالله» بقوله بسخرية متألمة شملت حروفه:
"وأنا معدتش هتعصب عليه، استحملني كتير، بس والله معنديش غيره في الدنيا دي"
لا شك أن هناك عين رابعة تتابعهم من بعيد، تلك العين التي تعلم تمام العلم أنهم لا يمكنهم التحرك قدمًا دون بعضهم، وأنهم سيكونوا ضائعين في هذا العالم دون الآخر، متماسكين ببعضهم.
لا تُعرف الغلاوة إلا بموقفٍ قاسٍ يأتي على القلوب فيجعلك تتيقن إنك دون أحبتك لا شيء، وأن حُبك لهم وهم بخير له أسلوبه الخاص، وهم متعبون له مشاعره الخاصة.
تحركت من شقة «فاطمة» نحو شقتهما بجسدها المرتجف ودموعها التي لم تتوقف حتى الآن، لدرجة أن وجهها أصبح أحمر اللون، وعينيها كادت أن تنفجر من الألم الذي غلفها من كثرة البكاء.
بحثت عن هاتفه الذي رأته قبل قليلٍ وفتحته لتجد أخر رقم قام بالاتصال به صديقه «حمزة»، فاتصلت به سريعًا تنتظر إجابته حتى وصلتها لتسأل بنبرة مرتجفة:
"حمزة، حمزة.. مروان عامل إيه؟"
استمعت لإجابته التي كانت نفس حديث الطبيب لتتحدث مجددًا من بين شهقاتها:
"طيب تعالى خدني، أنا عاوزة أكون هناك معاه، عشان خاطري، وغلاوة مروان عندك تيجي تاخدني عشان أكون معاه!"
بكت بحرقة وأنينها خرج بحسرة، مسحت دموعها تقول بنبرة سريعة:
"ماشي ماشي هستناك أهو"
أغلقت معه وتحركت نحو غرفتها ترتدي ملابسها وتنتظره، بينما هو سار ناحية الطوارئ أولًا ليعطوه الدواء لذراعه الذي تأذى من النيران التي ولج بينها عندما حاول إخراج «مروان»، ثم أخذ سيارته التي أتوا بها ناحية البناية وأصدر صوت تزميرها لتعلم أنه أتى، فهرولت ناحية الدرج ولكن أوقفها صوت «فاطمة»:
"رايحة فين يابنتي؟"
نظرت لها بابتسامة خفيفة تخبرها بسرعة لتغادر:
"حمزة تحت، جاي ياخدني لمروان، الدكتور قالهم هيكون تحت الملاحظة خلال الـ 12 ساعة، هبقى اخليهم يتصلوا بيكِ يطمنوكِ ياطنط!"
ثم تحركت بسرعة للأسفل وركبت السيارة ليقود «حمزة» بصمتٍ بينما ذراعه يسنده على فتحة النافذة جواره ويده على فمه مُفكرًا.
تابعته ثم نظرت أمامها تسأل بصوتٍ مرتبك:
"هو كويس بجد؟"
أومأ لها برأسه بتنهيدة قوية أخرجها من أعماقه وأجابها:
"أيوه إن شاء الله هيكون كويس، متقلقيش!"
_"طيب هو أنا السبب يا حمزة؟ بابا عمل كدا صح؟"
قالتها متحسرة، متألمة، متوجعة، بنبرة تحمل الشجى، ليجيبها هو بنبرته الهادئة التي اكتسبها في تلك المواقف التي تضغط على أعصابه:
"لا مش أنتِ السبب ياسيلين، كان نصيبه يحصل كدا بس هو دلوقتي كويس، بس أبوكِ اللي مش هيبقى كويس عشان كلنا بنطق شرار منه، والتقيل جاي عشانه بعد كل اللي عمله!"
اخفضت بصرها خجلة منهم، مُحرجة من موقفها، تود أن تنشق الأرض وتبتلعها لأنها لن يكن لها مكانًا وسطهم في يومٍ من الأيام، وسط الجميع، يرون أنها ابنة القاتل الناهب السارق..فقط.
وصلا إلى المستشفى وتحركا إلى حيث غرفة «مروان»، نظرت لهم جميعًا بتتابع ثم توجهت للغرفة التي هو بها ووقفت عند النافذة تتابعه بتلهفٍ يحمل القهر، تألمت عندما رأته هكذا وكان قبل ساعاتٍ يستلقي واضعًا رأسه في أحضانها، أي حال وصلا له الآن؟
هل سيلومها أم سيعانقها يطمئنها كما العادة؟
وإن لامها فعنده كامل الحق، طفح الكيل من كل شيء يحدث، كل شيء الآن بسبب رابط دموي يجمع بينها وبين والدها فتصبح لها علاقة به.
كيف يمكن للمخذول من أبيه كحالتها أن ينفي ترابطه به، كيف يمكن للمكسور من أبيه أن ينتهي ويبتعد عن حياة تجمعه به.
اقترب لها «الحاج إبراهيم» يقف جوارها ويطالع «مروان» مبتسمًا بهدوءٍ كبير:
"هيقوم وهيبقى كويس متقلقيش، ده وحش ده عدى بكتير أوي!"
نظرت نحوه بعينيها التي لمعت مجددًا بالدموع تقول بحسرة:
"مش عاوزة غير إنه يكون كويس، أنا مبقاش ليا حد غيره يا عمو، أنا خسرت كل حاجة ومروان الوحيد اللي باقيلي ومعايرنيش بحاجة من الماضي ولا من عيلتي، هو الوحيد اللي فتحلي بيته وضمني لحنانه، يارب يبقى كويس!"
اختتمت حديثها وهي تجهش بالبكاء، وضعت يدها على فمها تمنع صوت الأنين المتوجع عليه، بينما هو تنهد بعمقٍ يكمل على حديثها يوصف ابنه الحبيب، كلماته اخترقت آذانهم جميعًا بعمقه:
"طول عمره ابن حلال وطيب، اللي في أيده مبيبخلش يديه لغيره، قلبه طيب ومليان حنية أخويا ومراته، طول عمره، عنده إستعداد يشيل الكل فوق كتافه حتى لو وجعاه، عنده إستعداد يستحمل وجع كبير محدش يقدر يستحمله، عمره ما اشتكى ولا كان كتير الكلام، بيخيط جراح الكل وجرحه هو بينزف لوحده، مروان يستاهل كل حاجة كويسة في الدنيا دي، بس ربنا عارف مدى تحمله فـ بيبتليه، كنت عاوز أجيبله حد يواسي ويطبطب على قلبه وتكون بنت حلال تستحق طيبته، بس مافيش غيرك يستحقها يابنتي، ربنا يهنيكم ببعض"
كانت تستمع له وتنظر «لمروان» النائم، تستمع لكل كلماته التي حاوطت قلبها في أسى، هكذا الإنسان، يُبتلى ليُكمل السير قويًا.
صباح جديد، أتى ببطءٍ شديد على قلوب مثقلة بالانتظار.
عاد للبيت بأثقاله وأثقال إخوته التي لن يتركهما أبدًا وحدهما في تلك الحياة التي تأخذهما ذات اليمين وذات اليسار، سيكون معهما أخًا يسند ويواسي ويربت.
_"كل حاجة اتحلت، والولا مسح الصور ياتارا، بعد كدا لما يحصل حاجة تيجي تعرفينا، محدش هيلحقك غيرنا، متخبيش عليا ولا على تسنيم حاجة"
قالها لأخته التي كانت تختبئ بأحضان أختها ترتجف خوفًا من كل شيء، أومأت له برأسها عدة مرات توافقه حديثه بطاعة:
"حاضر والله حاضر، مش هعمل أي حاجة من وراكم!"
ثم طالعت «تسنيم» كما المذنبة تمامًا تعتذر منها:
"حقك عليا والله ما كان قصدي أتعامل معاكِ بالشكل ده، متزعليش مني، أنا أختك!"
أتقول الآن أختها؟
ولكنها أعتادت على الأذى بفمٍ صامت، وقلبٍ نازف، لذلك تحدثت بابتسامة بسيطة راضية:
"متقلقيش، المهم إن كل حاجة كويسة الحمدلله، وأنتِ كويسة"
ابتسم «تامر» بتنهيدة قوية لذلك، ثم لمح والده يتابع ذلك من بعيدٍ بصمت، فاقترب نحوه يعيد تكرار كلماته ولكن بتأنيبٍ للآخر:
"الحوار اتحل، الحمدلله إنه اتحل، حاول المرة الجاية تبعد عصبيتك وتحضن بناتك اللي محتاجين للحنان ده، لأنهم بيطلعوا برا يطلبوه زي ما تارا عملت، أنا أخوهم وجنبهم بس عمري ما هبقى زي أبوهم اللي المفروض يكون في ضهرهم، وأنت حر، بتخسرنا واحد ورا التاني بسبب إنك منشف دماغك عالفاضي"
أجابه والده بصرامة بينما ينصت له، ولكنه من الداخل قلبه مرهق من كل شيء ومن المشاكل التي تحيط منزله:
"أنا خايف عليكم وعايزكم أحسن ناس، أحسن مني شخصيًا، أنتو مش عاوزين تفهموا ده، مش هتفهموه غير لما تكبروا ويبقى عندكم ضنى"
يفيض به الأسف من هكذا عقل يتعامل بتلك الطريقة، لذلك قرر أن يقول ما بجعبته حتى ينتهي هذا الحال:
"عندك حق، بس مش بالطريقة دي، بطريقة أحسن تقدر تخلينا أحسن ناس، عندك مهندس ودكتورتين، أحمد ربنا إننا قدرنا نوصل ومش عارف لو محصلش كنت اتعاملت إزاي معانا، مش كل اللي معاه كليات شغال وعنده حياة على فكرة، القسوة عمرها ما ربت، القسوة بتعلم القسوة يا بابا"
ثم تحرك من أمامه نحو غرفته متذكرًا أمه الحبيبة ومتحسرًا عليها وعلى موتها المفاجئ بالنسبة لهم.
بينما بالخارج نظرت «تسنيم» لوالدها الذي قرر كما العادة الهرب، ثم تحركت نحو غرفتها تتصل «بعبدالله» لتطمئن على «مروان» بعدما انتشر الخبر بالحارة سريعًا.
_"طب أنت كويس؟"
استمعت لإجابته التي وصلتها مغلفة بالحزن:
"لا مش كويس، بس بحاول، الدكتور قال إنه على وشك الإفاقة الحمدلله، فوقتها هكون كويس!"
_"طب الحمدلله، يارب يكون كويس يارب، خلي بالك من نفسك ومن جرحك ياعبدالله، أنت المفروض تكون لسه نايم في السرير أصلًا"
تنهد مُجيبًا:
"النصيب، الحمدلله متقلقيش ياحبيبي، أنا كويس والله طول ما كل اللي بحبهم كويسين"
ابتسمت برقة ثم ظلت تتحدث معه قليلًا تواسيه حتى أغلق على كلام الطبيب الذي أخبرهم أنه أصبح بخير واستيقظ الآن.
كان أول من عنده هو «حمزة» الذي هرول ناحية فراشه يقترب له ويسأل:
"مروان، أنت كويس؟"
كانت عيناه مازالت مغمضة وفتحها مع ابتسامة بسيطة بالكاد حاول رسمها على ثغره، وأجابه بنبرة خفيضة:
"كويس، الحمدلله، الحمدلله!"
مسد «حمزة» على شعره بحنانٍ، كأنه أب مسؤول عن ابنه المسكين المتعب، وتجمعوا حوله جميعهم في نفس الوقت الذي فتح في عينيه بشكلٍ جيد، تابعهم جميعهم بابتسامة:
"والله كويس متقلقوش، الحمدلله"
قالها لهم يجيب على تلك الملامح والنظرات المتعبة، ساعده «حمزة» ليجلس بينما أتاهم صوت «الحاج إبراهيم»:
"حمدلله على سلامتك يابني، الحمدلله جت على قد كدا!"
_"راضي ياعمي الحمدلله، الحمدلله والله"
هكذا أجاب ولكن يوجد صوت أنين مكتوم وصل لاذنيه، فحاول أن يميل برأسه ليجدها تقف جوار الباب منكمشة على نفسها باكية بصمتٍ، انتبه «حمزة» لنظراته ليجيب بحنقٍ:
"بتبص على إيه، فيه حاجة؟"
نظر له «مروان» بابتسامة خفيفة وهو يشير له بعينيه بأن يتحمل لأجله هامسًا له:
"خدهم واخلع، يارب تكون عريس قريب يا أخي!"
زفر «حمزة» بسخطٍ، يطالعه بعينيه التي أغمضها قليلًا بنظراته النارية:
"على فكرة أنا رميت نفسي في النار عشانك، بدل ما تاخدني بالحضن بتقولي اخلع!"
ضمه له «مروان» يأخذه على محمل المزاح بعقله الصغير، ولكن أتى «عبدالله» يبعده وأيضًا «آسر» يحتضناه سويًا:
"حبايب قلبي، اخلعوا بقى"
_"ياض أنت لسه قايم من موت، يخربيت دماغكم كلها لاسعة"
قالها «آسر» مازحًا ليضحكوا جميعهم، بينما «عبدالله» ربت على كتف «مروان»:
"المهم أنت كويس ياحبيبي، الحمدلله، هنخلع ونفضيلك الجو"
ثم تحركوا جميعهم بينما «حمزة» ظل جالسًا يكابر، فجذبه «آسر» ضاحكًا بتنهيدة:
"يابني والله مش أنت اللي مراته، قوم يخربيت تقل دمك"
_"استغفر الله العظيم، راجعلك يا مروان راجعلك"
وخرج وهو يتأفف، كان حانقًا مُمتعضًا بسبب الغيرة، ابتسم «الحاج إبراهيم» عليهم وتنهد قائلًا:
"هروح أشوف أنا حسابات المستشفى بابني"
أومأ له «مروان» بابتسامة شاكرة ليتحرك من الغرفة بينما هي اقتربت نحو فراش «مروان» وجلست جواره تطالعه، بينما هو ابتسم بتنهيدة وقبل أن يتحدث رمت له كلمتها دون تفكير:
"هتطلقني؟"
_"هو فيه واحد لسه قايم من موت يتقاله هتطلقني، إيه الدماغ دي؟"
قالها متشدقًا وقربها لأحضانه لتتمسك به بقوة، تتمسك به خائفة من فكرة فقده، بكت بحرقة كبيرة بين أحضانه بينما هو ربت على شعرها بحنانٍ:
"خلاص طيب قولي اللي عيزاه، متعيطيش كدا، أنا كويس والله!"
_"خوفت عليك أوي، خوفت عليك وكان هيجرالي حاجة عشانك، مكنتش مستوعبة هما بيقولوا إيه ولا محل مين اللي انفجر وإزاي أنت جواه، مش عارفة أبطل عياط من الخوف، متسبنيش أنا من غيرك هخاف من الدنيا دي، أنا من غيرك هضيع والله، متسبنيش"
شددت تمسكها بسترته ليسحب نفسًا عميقًا وهو يربت على ظهرها بحنانٍ بالغ يجيبها بابتسامة:
"مش هسيبك والله متقلقيش، هفضل معاكِ زي ما وعدتك وبوعدك تاني أهو، كفاية بقى عياط!"
لم تكف عن البكاء ولم تبتعد عن أحضانه، ورحب هو بذلك ليستطع أن يرسل لها بعض الدفء والأمان لقلبها، ونجح بذلك متنهدًا عندما أخبرها بكل حبٍ:
"ده أنتِ جاي عليكِ توصاية كبيرة، تخيلي بقى غلاوتك دي بقت إزاي؟"
ابتعدت باستغراب تنظر له، بينما هو رفع كفيه على خديها يمسح دموعها بابتسامة مفسرًا لها:
"من أمي، جتلي في الحلم ووصتني عليكِ"
ابتسمت بخفة ووضعت يدها فوق يده التي على خدها، وقبلته عليها ثم ضغطت عليها بقوة تحتضنها بين يديها الصغيرة:
"دلعني بقى كتير أوي"
ضحك بخفة، وضمها مجددًا له قائلًا:
"ندلعك، ندلعك ياست سيلين يعني هو إحنا ورانا إيه!"
بادلته العناق وارتاحت داخليًا وخارجيًا،
ما الذي توده من الحياة وهي بين أحضان الحبيب؟
لا شيء أكثر من ذلك!
انتبها لطرق الباب ودخول «حمزة» معه العصير بنظراته التي تشتعل:
"مش كفاية ولا إيه؟ أقصد مش كفاية دلع لازم تشرب عصير عشان يقويك"
اقترب ورماه له ليمسكه «مروان» سريعًا بضحكة، بينما هي طالعته بابتسامة ثم وجهت بصرها «لمروان»:
"هات افتحهولك"
كادت أن تتناوله ولكن يد «حمزة» كانت الأسرع، الوقح!
أخذه تحت نظراتهم وفتحه وقدمه «لمروان» وحاول تفسير فعلته:
"كان هيبقى جامد على إيدك وهتوقعي على الولا، ما تقومي اروحك!"
احتسى «مروان» بعضًا من العصير وضحك، ثم أجابه بينما يتابعه يحاول أن يطفئ ذلك الشرر:
"هتروح معايا، أهدى أنت"
_"اروح أنا يعني قصدك؟"
لماذا يعامله كما زوجته التي تغار عليه؟
هز «مروان» رأسه بنفي يراضيه:
"ياسيدي ولا أنت، روح معايا برضو"
كانت تكتم ضحكاتها عنهما، بينما «حمزة» جلس على الأريكة ولم يخرج، لن يخرج بالأساس سيظل هنا مع صديقه الحبيب:
"طب والله ما أنا طالع، وروني هتطلعوني إزاي"
ولج «عبدالله» و«آسر» لهم وكانت نظراتهما موجه «لحمزة» ليقول «عبدالله» وهو يجلس جواره مُمسكًا بجرحه:
"هو أنت هنا يالا؟ وأنا أقول اختفيت فين!"
وضع «حمزة» قدمًا فوق الثانية يقول بكل ثقة:
"كنت بجيبله عصير، إيه مجبش يعني الولا عاوز يتغذى!"
_"يتغذى آه!"
قالها «آسر» بتنهيدة، بينما «مروان» كانت الضحكة لا تفارق فمه، ثم انقلب الأمر عندما تفوه «عبدالله» ببغضٍ:
"مين غير الكلب يعمل كدا، هو وليد مافيش غيره"
هنا شعرت بأن الدوار تمسكها، لماذا يكرر تلك السيرة الآن أمامها، شعرت بيده الدافئة تمسك يدها ويضغط عليها بنعومة:
"ماهو فعلًا مافيش غيره، شريط التسجيلات سجل العربية وقت ما جت بنمرها كمان، نرجع المحل ونحاول نطلعه ويارب ميكونش حصله حاجة ولا اتحرق"
أومأ «عبدالله» حانقًا من شدة خوفه عليه، ولكن نظرات «مروان» وصلته وهو يشير له بأن يهدئ لأجلها، فابتلع الآخر الكلمات في صدره، واكتمل المزاح بينهم حتى أتى «الحاج إبراهيم» وجلس معهم، ثم أخذوه في المساء للبيت بعدما استقرت حالته بعض الشيء ولكن أدويته كانت كثيرة، وغادر كل منهم نحو منزله لينعم بقسطٍ من الراحة بعد كل ذلك الشقى والتعب!
استند بظهره على ظهر الفراش من وجع الحروق، بينما هي أتت جواره ومعها الأدوية ترى مواعيدها وأخرجت له ما عليه أخذه الآن، وناولته كأس المياه:
"تسلم ايدك، بسم الله الشافي المعافي"
أخذهم بعدما دعى بصوتٍ خفيض، فابتسمت هي تتابعه وتراقبه هكذا، وضع الكأس جانبًا وأمسكت يده بين يديها تضع له من مرهم الحروق:
"سلامتك يا مار.. مروان"
ضحك هو سريعًا وهو يتابعها، ثم أجاب وهو يراقب نظراتها التي تشاكسه:
"الله يسلمك، ماشي ياستي، براحتك"
ابتسمت برقة، وزارها الخجل من حديثه الذي يحمل الحلو كله بين طياته، ثم انتهت مما تفعل واقتربت تستند في أحضانه وهو يحاوطها بذراعيه:
"الله يديمك خير زوجة، ويسعد قلبك ويجعلني سبب أسعدك، الله يحفظك بعينيه التي لا تنام"
ابتسمت لتلك الدعوات التي قالها الآن ورددت خلفه:
"آمين، أرتاح لو حابب تنام!"
_"أنا مرتاح وأنتِ هنا معايا، متقلقيش"
قالها فتوسعت ابتسامتها، بينما بداخلها كما الطائر المرفرف في سماءٍ عالية، لتقلده في دعواته بقولها بنعومة:
"الله يديمك خير زوج، ويسعد قلبك ويجعلني سبب أسعدك، الله يحفظك بعينيه التي لا تنام"
ضمها له أكثر، يعطها حنية في أيامهم الصعبة، وتردها له برقتها العالية.
