رواية تشابك ارواح الفصل الثامن عشر18بقلم امينة محمد


رواية تشابك ارواح

 الفصل الثامن عشر18

بقلم امينة محمد

 "مروان"

قالتها دون تفكير، ساذجة، أحرجت نفسها من نظراتهم جميعًا التي تعلقت عليها، حتى هو نفسه نظر لها بصدمة لذكر اسمه هكذا دون أي رد فعل، فتسائل ببلاهة:
"مروان مين؟"
ضمت شفتيها وقررت أن تُخرج بعض الجراءة التي كانت لديها سابقًا وهي تقول:
"مروان أنت، أنا موافقة اتجوزك أنت، أنا مش هوافق على حد تاني غيرك، حتى لو هتطلقني بعدها بس أنا محتاجة أكون معاك فترة طويلة تمسك بأيدي وترجعني للطريق الصح زي ما بدأت معايا، محتاجة اتعافى!"
الصمت عاد يحتل المكان وأصبح سيده!
صدمة، أم أنه تعجب لأمر تلك الفتاة!
كانت الجالسة جوارها تحاول ابتلاع الصدمة منها فيما عرضت الآن، هي عرضت عليه الزواج بشكلٍ مباشر دون خجلٍ، فهمست قريب من أذنها بتأنيبٍ لها:
"الله يخربيتك أنتِ بتتقدميله، عرتينا عرتينا"
عبست بملامح عاجزة عن فهم همسات «تسنيم» لها لتردف بصوتٍ عالٍ نسبيًا:
"What?"
سددت لها «تسنيم» ضربة في كتفها وهي تطالعها شزرًا كأمٍ تعاقب ابنتها بالنظرات ثم بالهمسات والهمهات تتوعد لها:
"What إيه؟
هو أنتِ خليتِ فيها حاجة، كرامتك بندور عليها دلوقتي يارب نلاقيها"
عيناه تسبح بعيدًا، وعقله في وادٍ آخر، بالكاد استوعب ما قالت تلك المدللة ابنة أبيها التي عرضت عليه الزواج، ماذا عن قلبه المُغلق لميتة غادرت الحياة؟
وحياته التي كرسها لأجل إعادة حقها حتى ترتاح بقبرها، هو حتى لم يفكر يومًا بالزواج أو البحث عن فتاة لتشاركه حياته بعد «عهد»!
انتبه لصوتٍ ساخر أجش خرج من «عبدالله» قائلًا بعينيه التي تراقب من يحب:
"ماشاء الله، ده بنت وليد الأنصاري بقى ليها رأي وبتقرر مين تتجوز ومين لأ!"
أجابه والده وهو يُخرج تنهيدة عميقة من داخله مُوزعًا نظراته عليها ثم على «مروان» روحة وجيئة:
"حقها يابني، حقها وأنا شايف إن الحق حق برضو، وبصراحة أنا شايف إن هي معاها حق، مش عشان سواد عينيها، عشان عارف إن فيه كلاب كتير في الحارة مش كويسين ومتأكد أن مروان هو اللي هيحافظ عليها!"
كعادتها، لا تفهم الحديث المُزوق أبدًا فهمست بصوتٍ جعلهم جميعًا يرمقونها بطرف أعينهم:
"بس أنا عيني زرقا مش سودا يا uncle"
مجددًا لكمتها «تسنيم» في ذراعها وتحدثت وهي تضغط بقوة على أسنانها:
"اقفلي أم بوقك ده، اقفليه لمصلحتك!"
طالعتها «سيلين» بطرف عينيها تستشف سبب المُعارضة؛ فهي صادقة بقولها بأن عينيها زرقاء وليست سوداء.
سحب «إبراهيم» نفسًا عميقًا ووجه بصره ناحية الشارد في جلسته، الغير قادر على التحدث حتى الآن لأن الدوامة جذبته ويا ويلاه إن كان ناحية الهلاك والتأنيب الذاتي إن تزوج، خرج صوت «إبراهيم» أيقظه من غفلته:
"مروان، أنت معانا يابني؟"
أومأ برأسه ونظر لها بهدوءٍ ثم أعاد بصره نحو «إبراهيم» قائلًا بخفوت:
"آه ياحاج، معاك أنا بس كنت بفكر إزاي هنبلغ وليد بالموضوع ده، وإزاي هيتم الجواز ده، بس أنا لسه عندي تعليق .. الجواز بشروط حرام شرعًا ويعتبر باطل، أنا هتجوزها إزاي؟"
_"باطل ليه؟"
سألت بجهلٍ وهي عابسة بوجهه فأجابها مستندًا بظهره على الكرسي ضاممًا ذراعيه لصدره:
"عشان بشروط، مافيش جواز بشروط زي كدا، يعني اللي هو نتجوز أسبوع ونتطلق، الجواز مش لعب وحاجة مقدسة المفروض إنه يتم وفي النية إنه يكون لأخر العمر .."
أجابت دون تفكير مُخرجة ذلك الحديث الذي في جعبتها:
"وأنا موافقة على كدا، موافقة يكون لأخر العمر أنا قولتلك إني عايزة اتجوزك فعلًا واعيش معاك هنا!"
خرجت السخرية من فم «عبدالله» بضحكة وهو يردد:
"بنت وليد الأنصاري عاوزة تسيب عيشة الهوانم وتتجوز في حارة هنا؟ أنتِ دماغك اتلحست ولا إيه!"
أومأت برأسها لها ببراءةٍ نبعت من عينيها خالطتها بعض الأسف وهي تُجيبه:
"أيوه، الفلوس مش كل حاجة على فكرة، أنا من يوم ماجيت هنا وعرفت إن فلوس بابي متعملش أي حاجة لو أنت مش عارف تلاقي الأمان والحنان!"
هي بالفعل بحاجة للأمان والحنان، بحاجة لعناق آدمي مليء بالدفئ فقط، فتتسلل كل تلك المشاعر الثمينة بالنسبة لها لقلبها لتحاوطه وتضمه حتى يستقر ويهدأ.
قرر أن يمشي على نفس وتيرتها راميًا بكلمته في تلك الجلسة قائلًا:
"والله ولا أي حاجة زي الأمان والحنان في الحياة دي، لا فلوس ولا قمم ولا نفوذ!"
نظرت له بطرف عينيها تستشف سبب قوله ذلك الآن فتضمه لقلبها ليتوجع أكثر على ضياعها للحبيب بيديها، حديثه يحمل الألم بين طياته لم يشعر به سواها.
ها هي اللحظة الحاسمة التي تحركت بها «فاطمة» تجاه «مروان» مُمسكة بيده دون أن تنبس لأحدٍ بكلمة بينما هو تحرك خلفها مُتسائلًا:
"إيه يا مرات عمي؟"
_"تعالى بس عايزة أتكلم معاك في حاجة دقيقة، بعد اذنكم"
رمت كلماتها وجذبته نحو الغرفة التي تنام بها «سيلين» ولم تكن سوى خاصة «عهد»، وزع نظراته في الغرفة بأسفٍ، كل ركن يتكلم قائلًا أنا تكونت بيدي صَاحبتي، أنا صُنعت بيدي «عهد»، جلس على طرف الفراش وجلست جواره «فاطمة» وهي تسأله ناظرة بعينيه تحديدًا:
"قافل على قلبك عشان عهد صح؟"
حاول التهرب وهو يهز رأسه بالنفي وتوتر في آن واحد، ولكنها أردفت تقاطعه قبل أن يتحدث:
"يا ابني ده أنت متربي قدام عيني وتربية سنية اللي كانت أختي الله يرحمها، متكذبش عليا ياحبيبي، أنا عارفة ومقدرة شعورك بأنك مش قادر تاخد خطوة بعد ما بنتي مشيت وسابتك كدا، بس اللي برا تستاهل حد يضمها ويحضنها يا مروان، تستاهل تحس بأمان يابني، عياطها بقهر واحساسها بالضعف واحساسها انها محتاجة لحد يحتويها ويحميها كبير أوي واصلني أنا، أنا كان ليا بنت وعارفة إزاي البنت مهما راحت وجت في الآخر بتحتاج لراجل يسندها ويحميها، جرب تديها فرصة ومتاخدش ذنبها بذنب أبوها القاتل، أنت جواك كتير تقدر تديهولها وهي جواها كتير تقدر تديهولك، يعني هتكملوا بعض، اسمع مني أنا عمري ما قولتلك على حاجة وطلعت غلط"
نبس بكلمة واحدة بداخلها كل المشاعر التي تتعارك مع بعضها بدواخله المضطربة:
"وعهد؟"
_"عهد ماتت يابني، عهد عند اللي خلقها أحن عليها مني ومنك ومن أي حد"
قالتها بنبرة تحمل القهر، فهي مهما حاولت التحدث في التخطي من تلك الحادثة لن تفعل، ماتت من حملتها ببطنها تسعة أشهر، وسهرت الليالي تداوي في آلمها وتراها يوميًا تَكبر أمام عينيها ويزداد معها شعور الأمومة داخلها، خرجت الحروف من فمه متبعثرة ولكنها تحمل داخلها كل المشاعر المُتألمة:
"عهد عايشة في قلبي يامرات عمي، أنا كبرت على حُب عهد وإنها كانت هتكون مراتي وشريكة حياتي، ومكنتش عاوز اظلم أي واحدة معايا وأروح اتقدملها واتجوزها وأنا في قلبي واحدة تانية، لو هتجوز سيلين هظلمها وزي ما قولتِ هي محتاجة حد يواسي ويطبطب، هديها إزاي ده وأنا اللي محتاجه، كنت محتاجه من عهد بس مبقتش موجودة، فاقد الشيء لا يُعطيه يامرات عمي"
ربتت على كتفه بحنانٍ بالغ، فوجه بصره من صورة الحبيبة الموضوعة أمام المرآة أمامه لأمها التي تحمل بعض من ملامح «عهد»، كان عقله مُغيب نحو الظلام الذي داهمه ولكنه فاق الآن من قولها له بجدية:
"ومين بقى اللي قالك إن فاقد الشيء لا يُعطيه، لا بيعطيه عارف ليه؟ عشان هو محتاجه فأكيد مش هيهون عليه يشوف اللي قدامه محتاج ده وهو مكنش لاقي اللي يديله المشاعر دي، مش هيهون عليك تشوفها قدامك ضايعة وأنت هتفضل واقف كدا، سبحان الله هتلاقي نفسك بعد الجواز فيه مسئولية كبيرة بتتحط جوا قلبك، هتلاقي نفسك مش قادر تشوفها زعلانة وحاسة بوحدة، ده غير إنك هتمسك بأيدها توديها ناحية الطريق الصح، ترجعها تاني لربنا من الغفلة اللي هي فيها!"
حديثها ولج لعقله وخلاياه فجدد داخله مشاعر أخرى كانت مدفونة، وزرعت مشاعر مازالت بذورًا تحتاج للروي لتكبر في الأيام القادمة، مرر عينيه في المكان مُفكرًا بشكلٍ حكيم، يحاول وضع النقاط على الحروف حتى يعرف إن كان سيبدأ بداية جديدة أم أن الدفتر سيُغلق عند هذا الحد!
أومأ برأسه لها ووقف في مكانه وهو يقول بعدما سحب نفسًا عميقًا:
"ماشي، كله على الله يامرات عمي"
ثم خرج من الغرفة لهم جميعًا وجلس في مكانه وتبعته هي الأخرى جالسة جوار الفتاتين تمرر نظرها عليهم جميعًا، ثم خرج صوته مستطردًا:
"أنا موافق على الجوازة، بس الجوازة دي هتبقى من غير شروط، جوازة زيها زي غيرها مافيش حد فينا هيبقى في دماغه إنه هنطلق بعد مدة إلا لو حصل العكس ومتفقناش، لأن أنا مش حِمل ذنوب، الحاج يشوف هيوصل لوليد إزاي يبلغه بالقرار ده ويشوف هيقول إيه!"
تهللت أساريرها بابتسامة عريضة زينت ثغرها وهي تومئ برأسها بإيجاب متفقة على حديثه:
"موافقة"
تلك التي جذبتها شخصيته منذ أن اتفقت على أنه رجلًا لم ترى أو تقابل في حياتها مثله، وعرفت الفرق بينه وبين رفاقها أو كما كان يقال عنهم رفاق، هؤلاء الذين كانوا يلهون في الحياة بلا مرسى ولا هدف، بينما هو رجل إن وقعت ستتكئ عليه، وإن تعثرت سينقذها، هذه المرة الأولى التي تأخذ بها قرارًا تشعر وكأنه نابعًا من ثناياها صادقًا يغلفها من أعماقها!
أخرج «إبراهيم» من جيبه وبحث عن رقم «وليد» حتى وجده:
"على خير، هتصل بيه!"
صدح رنين الهاتف في أرجاء المنزل تبعها صوت «وليد» الذي خرج عن طريق المكبر مُستهزئًا بقوله:
"إبراهيم عبدالمجيد بنفسه، خير!"
استجمع «إبراهيم» قوته وتحدث بنبرة جامدة يرد له ذلك الاستهزاء:
"تخيل نزلت كام مستوى عشان أكلمك، بس ماعلينا، إحنا دلوقتي في حوار تاني كدا طالبين القرب زي ما بيقولوا وعايزين سيلين بنتك لأبني مروان!"
ضحكات فقط، ضحكات ساخرة خرجت من فم الثاني ملأت أرجاء المكان تحت صمتهم يراقبون بعضهم، والخيبة ارتسمت على ملامح «سيلين» التي اخفضت بصرها خجلًا من ذلك الذي يُسمى بوالدها.
_"سيلين بنتي لمروان ابنك؟ نكتة الموسم دي ولا إيه ولا أنت كبرت وخرفت، هي سيلين بنتي أصلًا بنت العز هتوافق على ابنك اللي عايش في شقة قد اوضتها!"
قالها ساخرًا من أوضاعهم ليرد له «إبراهيم» الضربة بقوله:
"تخيل أنها موافقة؟ لا وهي اللي عرضت أصلًا وعايزة تعيش معاه في شقته اللي قد اوضتها دي، أهو عالأقل شقة نضيفة مدخلهاش من حقارتك زي بيتك، ها ياوليد هتشرفنا أمتى نكتب الكتاب؟"
_"أشرفكم؟ أنتو شكلكوا عُبط ولا إيه، أقولك أنا بوصيك على سيلين وتبقى وكيلها وجوزها لمروان ابنك، بس وريني هتجوزها إزاي لأن وقتها هتقلب كلها بدم، شايف فأيدك أهو تعملها بس لا تقدر أنت ولا واحد من الحارة عندك!"
هنا توسعت ابتسامة «إبراهيم» وأردف بتهكمٍ:
"خلاص يبقى على بركة الله، نطقتها بلسانك إني وكيل على بنتك، سلام يا .. وليد يا أنصاري!"
ثم أغلق بوجهه الهاتف دون أن ينتظر منه إجابة موجهًا بصره نحوها وهو يقول بغيظٍ:
"شايفة أبوكِ؟ شايفة طريقته أصلًا!"
أومأت فقط له، ومازالت رأسها أرضًا لا تقوى على قول كلمة واحدة له، تنهد الجميع ونبس «مروان» بهدوءٍ:
"بكرا كتب الكتاب في المجلس ياحاج .. ان شاء الله، تصبحوا على خير، يلا ياعبدالله"
وقف معه «عبدالله» وتحركت «تسنيم» هي الأخرى مُتحدثة:
"وأنا كمان ماشية، عن اذنكم"
أمسكت «سيلين» بيديها قبل أن تتحرك وهي تطلب منها بنبرة خافتة:
"تعالي بكرا عشان تكوني معايا، بليز يا تسنيم"
أومأت له «تسنيم» بابتسامة خفيفة وتحركت للخارج بينما كان «عبدالله» يتبعها هو الآخر وأغلق خلفه باب شقتهم ليتجه ناحية شقة «مروان»، ولكنه تحدث بنبرة ساخرة:
"مبروك، عرفت إن جالك عريس دكتور وابوكِ وافق عليه"
نظرت له ثم أبعدت بصرها بغصة ساخرة:
"هو وافق عليه، أنا من أمتى وافقت على حاجة!"
مَثّل اللامبالاة قائلًا بتهكمٍ:
"الله أعلم، لأني فعلًا مش لاقي وقت كان ليكِ كلمة فيه وشخصية، خليكِ كدا لحد ما تضيعي ورا اللي أبوكِ بيختاره على مزاجه، ومش بقولك كدا حقد ولا حاجة، أنا من الصبح أقدر ألاقي اللي هتصوني وتحافظ على قلبي فعلًا مبقتيش تفرقي لا أنتِ ولا حُبك، أنا ضيعت من عمري كتير عشانك ودلوقتي بندم عليه"
كلماته كانت كأسهمٍ سامة دلفت لقلبها فجزأته لأشلاءٍ نازفًا من الأسى والتحسر الكثير والكثير!
تحركت دون إجابة فقط بكرامتها المُتبقية وعينيها الدامعة، تحركت نحو المجهول من حياتها كما قال.
********
وصلت «تسنيم» لمنزلها فوجدت من يقف أمامها يسألها بنبرة جامدة:
"كُنتِ فين؟"
تنهدت وهي تزيل حجابها واجابته بكل هدوءٍ:
"عند الست فاطمة، كانت وحشاني وبشوفها عاملة إيه!"
لا يقوى على التحدث معها في ذلك الأمر تحديدًا، فهو يعلم مدى تقربها منها بعدما ماتت أمها، وإن تحدث أو نبس بحرفٍ ستنفجر به لأنه بتلك الطريقة يمنعها عن جميع من تحبهم وتشعر بالأمان معهم، رمى كلماته لها كالسم قبل أن يتحرك مغادرًا:
"أنا كلمت العريس وقولتلهم إنك موافقة، وهيجي عشان نحدد معاد الخطوبة، أنا طالع شوية"
ثم غادر تحت نظراتها التي راقبته بتحسرٍ وأسف، ثم اعتلت السخرية على ملامحها فيما حدث ويحدث، تلك الحياة التي ستضع قدميها بها وهي لا تود!
ولجت لغرفتها بخطى بطيئة لأنها استمعت لهمهات أختها تخرج منها، فعبست وهي تستمع لكلامتها بوضوحٍ:
"طيب بص هقابلك بكرا في معاد المحاضرة التانية، إنما الأولى مش هعرف أغيب منها خالص، استناني بقى عند الجامعة ماشي؟"
ولجت لها بسرعة شديدة لتفزع الثانية في محاولة الكذب بتوترٍ واضح:
"طب يا نيڤين.. هكلمك هكلمك بعدين!"
أغلقت بسرعة الإتصال ونظرت بتوجس لأختها، حاولت التبرير ولكن الثانية قاطعتها بنبرة حادة:
"أنا سمعت إنك بتكلمي واحد، متكذبيش عليا ياتارا، مين ده!!"
ابتلعت «تارا» غصتها ودارت بعينيها في الإرجاء تحاول أن تجد أي أكذوبة تُحيكها، فتحدثت بصوتٍ مرتجف:
"أنا بس يا تسنيم، كنت بكلم زميلي عيزاه يديني ملخص وكدا لحاجة في مادة عندي!"
_"من امتى وأنتِ بتكذبي عليا؟ متكذبيش ياتارا قوليلي الحقيقة أنا اختك!"
قالتها بنبرة هادئة دون انفعال حتى لا تنفر منها أختها وحتى تُخبرها بما في قلبها دون تردد أو إخفاء للحقيقة، ولكن الأخرى وكأن عقلها مُغيب تمامًا عن الواقع وعما يُقال لها بنبرة حانقة:
"قولتلك الحقيقة أنا مبكذبش، هو ده اللي عندي عايزة تصدقيه صدقيه مش عايزة اتفلقي وانزلي من على دماغي عشان أنا مصدعة"
جذبتها «تسنيم» من ذراعها بقوة لتعيدها أمامها حتى لا تغادر وصرخت بوجهها:
"أنا لسه مخلصتش كلامي عشان تسبيني وتمشي، أنتِ كدابة يا تارا، وبتقوليلي أنا اتفلق، أنا خايفة عليكِ فوقي لنفسك!"
_"ياشيخة بقى حلي عنـي، متعمليش نفسك كبيرة عليا يا تسنيم .. أنا!"
هكذا عبرت عما داخلها ولكن صوتٍ حاد قاطعهما ولم يكن سوى لأخيهما الكبير -«تامر»-:
"في إيــه؟"
جذبت «تارا» يدها من يد «تسنيم» مشيرة لها بيدها الثانية باستهزاء:
"تعالى شيل أختك عني ياتامر، تسنيم جاية تطلع عليا اللي أبوك بيعمله فيها، إيـه القرف ده، كفاية مرض!"
توسعت حدقتي المشدوهة أمامها من الصدمة وهي تُشير بأصبعها نحو نفسها مُتسائلة:
"مرض؟ أنا مريضة يا تارا!"
اقترب نحوهما «تامر» مُنفعلًا عليهما سويًا:
"ماخلاص أنتِ وهي في إيه؟ وبعدين إيه الكلام اللي بتقوليه ده يا تارا، أنتِ اتجننتِ ولا إيه؟"
لم تجيبهما بل تحركت نحو الصالة تاركة تلك المسكينة مازالت تنظر في أثرها، اقترب «تامر» يربت على ذراعها بقوله:
"حقك عليا أنا متزعليش منها، أنتِ عارفة تارا عقلها فالت منها ولسانها مترين!"
نظرت له بحزنٍ بالغ، ها هي للمرة الثانية بنفس الساعة يقال أنها مريضة، ومن أقرب اثنين لها، أختها.. وحبيبها!
*******
إنقاذ المرء من أصفادٍ من حديد صنعه مُختالًا ليس له عقل تُشكّل خطورة كبيرة، كإنقاذ جُندي في ساحة حرب يقف وحده بعدما مات جميع زملائه مُتمسكًا بآخر الآمال حتى ينقذ موطنه، والمُوطن غالٍ ولا يمكن التفريط فيه، التضحية لم ولن تكن سوى لموطني، ولم تكن هي سوى الوطن الذي سيُضحي لأجله.
عقله متوقف عن التفكير، مُمسكًا بيده السجائر يخرج بها كل غضبه، لا يعلم ماذا يفعل أو كيف يتصرف في هذا الأمر الذي حدث من العدم!
من أخبره بالأساس بأنها هنا، من الخائن الذي أفشى السر؟
لن يرحم صاحبه بكل تأكيدٍ ولكن ماذا عنها الآن..
تلك التي صرخت من أعماقها ببكاءٍ عالٍ طالبة النجاة،
تلك التي انتهت طاقتها في المحاربة لأجل العيش وودت الموت، انتهت رغبتها تمامًا في السبيل الوحيد الذي هو من حق كل إنسان على قيد الحياة؛ الأمان الذي لم تُحظِ به يومًا وشعرت به لبعض الوقت هُنا، سُلب منها مجددًا، صراخها لم يكن مسموعًا، وها هو عاد مجددًا لا يُسمع.
عقله سيجن من التفكير فيما قد يفعله بها «نادر» الآن!
فتاة مثلها وقعت تحت يد سادي مثله بغير عدلٍ، بغير رحمة.
تحرك من مكانه نحو غرفة أمه ليطمئن على حالتها غير قادرًا على تركها والذهاب للرفاق طالبًا المساعدة، لأن لا مُساعدة في تلك الظروف ولا حتى في هذا الوقت.
_"ماما، عاملة إيه دلوقتي؟"
جلس جوارها مُمسكًا يدها بين كفيه يُتابع بعينيه الجروح التي ضمدها على وجهها، الأم وابنها عليهما علامات «نادر»؛ ترك حقه لبضعة أيام، ولكنه لن يترك حق أمه يضيع هباءًا منثورًا!
أجابته بصوتٍ خفيف وهي تفتح عينيها ثم تغمضها مجددًا:
"أحسن يابني متقلقش عليا، كلمت أبو رزان؟"
أومأ برأسه بإيجاب وتنهد بعمقٍ:
"كلمته، بس لسه مردش عليا، هو كدا كدا بعتلي النهاردة العصر إن معاد طيارته بكرا الصبح، أن شاء الله خير ورزان متتأذيش لحد بكرا، ربنا يستر!"
_"يارب ياحبيبي"
قالتها تربت على كفه فابتسم لها وتحرك مجددًا يقف بالشرفة يستنشق هواءًا نقي، فلا نوم الليلة ولا حتى راحة، همس بتوعدٍ وعينين تنبعان بالشرر:
"وحياة اغلى حاجة عندي، لأجبلك حقك تالت ومتلت يارزان وارجعك سليمة!"
*******
تخيل نفسك في زنزانة ضيقة، لا يوجد بها مخرج ولا حتى نافذة لتشم الهواء النقي، محصورًا لا تستطع الهرب!
كانت هكذا تمامًا صاحبة القلب النقي، والعقل الحكيم، كاد عقلها يجن مما يُفعل بها، وكاد نفسها يضيق ليغادر للسماء من تعبها.
كان مُمسكًا بشعرها بقوة، كاد أن يقتلعه بيده من شدة جذبه له، أمسكت يده الثانية تُقبلها بترجي وهي قابعة أسفل قدميه وتوسلته ببكاءٍ مرير:
"أبوس على إيدك يانادر، أبوس على إيدك.. متعمليش حاجة، أنا خايفة أوي!"
ترتجف، ترتعد أوصالها، اصطكت أسنانها ببعضها، أعتقدت بأنها نجت منه ومن شر أعماله،
الآن فقط تأكدت بأنها كانت تسكن الجنة ونعيمها، وعادت للجحيم مجددًا!
ضحك عاليًا باستهزاء منها وشدد على شعرها فعلى صوت صريخها، ثم هدر بوجهها يُفجر قنبلته:
"أنتِ خايفة؟ هو أنتِ لسه شوفتِ خوف! ده أنا جايبك وناوي أطلع عليكِ كل القديم والجديد، موت أختي.. هروبك مني.. كل حاجة عملتيها هتطلع عليكِ بفن يليق بيكِ يا روح قلبي!"
بكت بصراخٍ وعويل، بكت من داخلها ومن قلبها،
بكت بكاء الضعيف الذي لا قوي له،
ها هي الآن لوحة سيتفنن عليها في عذابه.
سحب حزامه الجلدي الذي رماه على الفراش وهوى به على جسدها لتتكور على نفسها كجنينٍ في بطن أمه، وتمنت بتلك اللحظة أن تعود لوضع الجنين حقًا.
ضربة، ثم الثانية، فالثالثة، وعديد من الضربات عزفت على جسدها الضئيل الذي أعتقد بأنه لن يتذوق العذاب مجددًا.
جذبها من شعرها يوقفها أمامه على قدميها التي حاولت أن تحملها، تحاول أن تبعده بحقدٍ بلغ أعلى مراحله لديها، صارخة بوجهه بعنفٍ محمل بالكره:
"أبعد عني بقى كفاية، أنا بكرهك، بكرهك يا نادر وبكره اليوم اللي جمعني بيك، بكره كل لحظة عيشتها معاك وكل ساعة وكل يوم، بكرهك من كل قلبي اللي أنت قتلته، أنت محتاج تتعالج، يامريــض!"
صفعة قوية تلقاها خدها لتصرخ على أثرها بعنفٍ، أصابعه رُسمت على خدها لتكون ثاني خطوات اللوحة..
بكاءها كاد أن يفتت الحجر، ولكنه لم يُفتت قلبه، نبس بشررٍ:
"أنا هوريكِ الكُره ده يا رزان، أنا هوريهولك وهخليكِ تندمي على كل كلمة قولتيها، أنتِ بتاعتي يارزان، بتاعتي أنا وبس، بتاعت نادر المصري، أنا لو اقتلك ومتخرجيش من هنا هعملها، هقتلك!"
تنظر له شزرًا بطرف عينيها وجسدها بأكمله يرتجف، ألقاها بقوة على الفراش يُقيدها من كل إتجاه، من يديها وقدميها، مُقيدًا معها بقية طاقتها، بقية حياتها.
أغمضت عينيها لتذهب في تلك الدوامة التي تود أن تأكلها ولكن صفعة منه على خدها وهو يتحدث بحدة:
"ششش اصحي معايا، لسه ليلتنا طويلة يا قلبي، ده أنتِ حتى وحشاني!"
_"أبعد عــ..ني"
تحاول التحدث ولكن لسانها عُقد، وجسدها تشنج بقوة، ولم يرأف بحالتها تلك بل أكمل عليها الرسم حتى انتهت لوحته وانتهت هي معه!
*****
أشعة الشمس عزفت على قلوبهم جميعًا بدفئ اليوم؛ بدفئ لا يليق مع قلوبهم الباردة.
كانت تُعد الإفطار لهما مُتذكرة كل لحظة بينهما بابتسامة خفيفة، السعادة تغمرها كلما تذكرت كلماته المعسولة التي غرقها بها ليلًا، لم تعهده هكذا وودت الآن لو تظل تعهده كما هو.
استيقظ متحركًا من الفراش نحو المرحاض يغسل وجهه، ولكن عقله اليوم مُغيب بمكانٍ بعيد لا يعلم أين هو، يشعر وكأنه مُقيد ومُلقى في الظلام، يشعر بدوارٍ شديدٍ يجتاح رأسه، خرج مستندًا على الحائط ليصادف خروجه حركتها من المطبخ ورأته بذلك الشكل، اقتربت سريعًا نحوه وهي تسانده في وقفته:
"مالك يا آسر أنت كويس؟"
هز رأسه بنفي وتحرك مستندًا عليها مع الحائط نحو الأريكة واستلقى عليها مغمضًا عينيه:
"حاسس إني تعبان أوي!"
جلست أرضًا أمامه ومسدت على شعره بحنية وهي تسأل بقلبٍ مرتجف خوفًا عليه:
"حاسس بإيه طيب، أخلي خالتو تتصل بالدكتور يجيلك؟"
هز رأسه بنفي مجددًا وأخبرها بهدوءٍ:
"شغلي قرآن في البيت، وعلي الصوت شوية، وسبيني لحد ما أقوم لوحدي متقربيش مني عشان أنا دلوقتي مش في وعيي، سيبيني وقومي"
كان يراها الآن في خياله بشكلٍ مرعب،
بشكلٍ ذعره هو شخصيًا وأراد الآن أن يتحرك ويأذيها،
كشيطانٍ على هيئة إنسان أمامه.
_"اتحركــي من جنــبي يا مـرام عشان مأذكيش!"
قالها بصوتٍ عالٍ نسبيًا مملوءٍ بالغضب، فتحركت هي بخوفٍ من صوته ذلك، وقامت بتشغيل التلفاز على القرآن ليصدح في أرجاء المنزل!
جسده أرتجف بقوة، وعقله كاد يجن،
يشعر وكأنه ممسوكًا بماس كهربي يفتك به.
كانت تراقبه من بعيدٍ وهو بذلك الحال حتى هدأ تمامًا واعتدل جالسًا في مكانه، مسح وجهه بيده وتحرك ليراها تقف خلفه باكية، همس بصوتٍ متعب يسألها:
"مالك؟ بتعيطي ليه؟"
أجابته برجفة مُتمكنة من صوتها، فهي تملكها الخوف له ولأجله، كانت تود أن تقترب منه لتربت عليه ولكنها خافت منه عندما صرخ بها وأمرها بالابتعاد:
"أنت اللي مالك، أنا خوفت عليك أوي، إيه حصلك فجأة؟"
أعاد خصلاته بأصابعه للخلف وأجابها بتنهيدة:
"أنا كويس والله متقلقيش عليا، بس شوية تعب كدا حسيت بيهم، متقلقيش عليا ومتعيطيش"
اقتربت له وهي تطالعه تحاول أن تتأكد بنفسها بأنه بخير، فضمها له وهمس بصوتٍ خفيضٍ:
"يارب كل حاجة تبقى كويسة يا مرام، ادعيلي أنا مش كويس ولا حالي ماشي بشكل كويس"
شددت على عناقه وبيدها مسدت على شعره من الخلف بحنانٍ بالغ والدموع هوت من عينيها مجددًا بقهرٍ:
"يارب تبقى كويس عشانك وعشان نفسك يا آسر، يارب تبقى كويس"
عناقها دافئ، عناقها يحمل الحنان الذي بالعالم كله، تمتلك دفء كبير يُزيل الخوف الذي اجتاحه وخفقات قلبه العالية، اطمئنت خفقاته وأنامله مازالت ترتجف تفصح عن تعبه ولكنه قاوم ذلك مبتعدًا بإجبارٍ عنها لم يرد أن يفعل ذلك، وهمس لها:
"احضنيني كدا علطول، حضنك دافي أوي"
مسحت دموعها بكفها وأومأت له بابتسامة خفيفة:
"حاضر، أدخل غسل وشك عشان نفطر سوا!"
تنهد بعمق وأجابها مبتسمًا بخفة:
"حاضر، هصلي بس واجيلك"
ثم تحرك نحو الغرفة يتوضأ وصلى داعيًا الله أن يفك كربه، وأن يريح صدره، وأن يُهدأ أوجاعه.
أنهى من صلاته وتحرك لها وهو يحمل الطعام وابتسم بوجهها قائلًا:
"تعالي ننزل نفطر مع أمي أحسن"
_"ماشي، هلبس وأنزل وراك"
قالتها مبتسمة ليتحرك هو أمامها وارتدت هي عباءة واسعة ووضعت وشاحها حول عنقها وغادرت للأسفل.
جلست رفقتهم وهي تطالع «رنا» التي لمحتها تجلس جواره ملتصقة به تداعب بيدها شعره:
"أنت متأكد إننا منروحش لدكتور؟"
هز رأسه بنفي مع ابتسامة يطمئنها:
"لا أنا كويس، قومي نفطر بس يلا مرام نزلت أهي"
نظرت لها وكأنها لم تكن تعلم أنها أتت، لا تعطها اهتمامًا حتى لا تحزن على الحالة التي وصلت لها بيديها، حالة مُحزنة وتؤلم قلبها.
********
ها هو الضوء يأخذ مجراه في الدخول بين طياته وثناياه، ضوء غريب وجديد على قلبه، ضوء القمر الذي لم يعهده يومًا، متمنيًا من أعماقه ألا يكون مُظلمًا على حظه العاثر.
يجلسون في تجمع كبير في المجلس، يجلس بجوار المأذون ومن الناحية الأخرى يجلس «إبراهيم» الذي سيتوكل عليها ليزوجها لأبنه، كانت ترتدي فستانًا بسيطًا وطويلًا بأكمام، أخذته من «تسنيم»، وشعرها رفعته لأعلى ليعطيها مظهرًا جذابًا، بينما هو ارتدى سروالًا باللون الأسود وقميصًا باللون الجملي، كان مميزًا في إختيار ملابسه، ذوقه كان مُميزًا وجذابًا.
_"بارك الله لهما وبارك عليهما وجمع بينهما في خير"
هكذا أنهى المأذون عبارته ليصبحا أمام الجميع زوجين،
هي الآن من تُسمى بشريكته ورفيقة دربه، وهو الآن من سيداويها ويجعلها تتعافى.
رمتها الحياة في أقسى نواحيها والتقطها هو بيده الحنونة -كما تتمنى أن تكون-، رمتها الحياة بين الأيادي العديدة، وحدها يده التي كانت شفاءًا لروحها، والآن تتمنى من داخلها النقي بأن يلتقطها في عناقٍ دافئ، في حبٍ رقيقٍ، ودت وتمنت ويا ليت كل ما يتمنى الإنسان يحققه.
كان هناك زوج من العيون المتربصة عليهما بحقدٍ، ولم تكن سوى خاصة «فتحي» الذي تمنى للحظة بأن تكون هي له ومعه، ذلك الذي نسى أمر الأخرى التي تزوجها في السر حتى يُكون نفسه كاذبًا عليها بألآعيبه التي لا تنتهي.
انتهت تلك الجلسة بتصويرهما سويًا وتصوير عقد الزواج وإرساله «لوليد»، وغادر كل منهم لمنزله بينما هي غادرت معه لمنزله.. ومنزلها أيضًا، ولج للداخل وتبعته هي تتابع أرجاء المنزل التي رأتها للمرة الثانية، غمرها الدفئ كما غمرها في المرة الأولى، شعرت به يُغلق الباب خلفهما وهو يتحدث بنبرة ثقيلة:
"البيت بيتك، فيه شوية حاجات عايز أقولك عليها الأول، البلكونة دي طول ما أنتِ قدامها تقفليها أو تقفلي الستاير لو عايزة تقعدي فيها، عشان محدش يشوفك، حاولي متطلعيهاش كتير عشان فيه جار، والبيت أنا بحبه نضيف وعلطول متروق كدا زي ما أنتِ شايفة، مش طالب منك أي حاجة زيادة عن كدا، وكل حاجة أنا بعملها بنفسي"
أومأت برأسها ونظرت له مُتحركة من مكانها لأمامه تحديدًا:
"ماشي حاضر، هو أنت اللي بتعمل الأكل برضو وكدا؟"
نظر في عينيها بتمعنٍ لأول مرة، يرى اللون الذي تميزت به وكأنه بحرًا وهو الغريق فيه، لون سمائي مميز، مرسومًا بدقة لا يفعلها سواه عز وجل، عينيها تنبع بماءٍ يروي عطشه، وأجابها ومازال يتأملهما ببنيته:
"آه أنا، زي ما كُنتِ شايفة كنا يا بناكل عند الست فاطمة يا بعمل هنا، بس مينفعش دلوقتي يقولوا بياكل هو ومراته عند الست فاطمة، مش هتعمليلنا أكل ولا إيه؟"
ضمت شفتيها تفكر جديًا في حديثه، فهي الخبز لا تُجيد تسخينه، والبيض لا تجيد قليته، إذًا ماذا ستطعمه، ضحك بخفة دون صوتٍ، فقط ابتسامة واسعة تنطق:
"بتفكري في إيه، ما أكيد أنتِ مبتعرفيش تعملي أكل، عمومًا أنا كدا كدا متعود أعمل، أبقي اتعلمي"
أومأت متحمسة لتلك الفكرة التي عرضها، ثم طلبت بأدبٍ يروقه بتلك النبرة المدللة:
"طب هو أنا ممكن أطلب منك طلب؟ أنا محتاجة حاجات كتير هي مش كتير أوي بس هي مهمة، ممكن اكتبهالك وتجيبهالي"
سحب نفسًا عميقًا من داخله وأومأ برأسه، ذلك واجبه كزوجٍ حتى وإن كان مِمَن لم يكن يريدها كزوجته، ثم تحرك من أمامها نحو القطط التي كانت تموء عند قدميه طالبة الأكل، وعينيها مُعلقة عليه في ابتسامة خفيفة وكأنها شاردة بلوحة مميزة ليست عند غيرها!
___________
هو لا يعرف الرحمة فكيف لا يكذب؟
لا يعرف العطف فكيف لا يقتل،
ليس رجلًا، بل ذكرًا كما مكتوبًا بالبطاقة الشخصية،
فالرجال قليل وسماتهم معروفة، ولا توجد لديه سمة واحدة يملكها.
وهنالك على عكسه تمامًا رجالٌ تتحاكى بهم سماتهم،
تنبع منهم قبل أن يتفوهوا حتى،
يملكون المروءة والشجاعة، يضعون أقدامهم في الخطر حتى وإن كان نهايته هلاك لأجل من يحبون.
وصل للمكان المتفق عليه بخزي وهو لا يعرف كيف يشرح لهم أنه لم يحافظ عليها، لم يكن ذلك واجبًا عليه ولكنه يشعر بالعار يحاوطه من كل إتجاه، تحدث مُبررًا موقفه:
"أنا كنت برا بخلص ورق شغل ليا ورجعت لقيته ضارب أمي وواخدها، معرفش هو عرف إنها عندي إزاي حقيقي، بس أنا لو عرفت مش هرحم اللي عمل كدا"
قابله ردًا قويًا من فتاة لا تشبهها، تقف جوار «ماهر» الذي كان عابسًا بوجه «حمزة»:
"أنت شكلك واحد كداب وجاي تستغلنا وتخدعنا، رزان أكيد متحركتش من عند جوزها أصلًا"
قوس حاجبه بشكلٍ مُخيف، فالغضب يتطاير من عينيه والشرر سيطول الجميع إن اطالوا المُجادلة معه خصيصًا بأمر «رزان»، أجابها بنبرة جامدة:
"أنتِ بتقولي إيه، إذا كان هي مكلماكِ بصوتها أنتِ وأبوكِ من تليفوني!"
تدخل «ماهر» بغضبٍ متوعدًا بتهديدٍ خفي:
"خلاص اسكت يا حمزة، إحنا نروح دلوقتي على بيت نادر ونشوف رزان ونحكم، بس والله لو بتكذب لتشوف مني شر عمرك ما شوفته، لأني شاكك في الوضع من زمان، رزان قاطعتنا عشان جوزها وبتحبه وهو مكنش بيبلعنا وقولنا جوزها وخلاص خلص الأمر، فأكيد مش هترجعنا أنت وتقولنا الكلمتين دول وصدقتك وجيت"
أردف «حمزة» بجمودٍ وبعينين حالكتين:
"باشا، أنت حُر تصدقني متصدقنيش بس أنا مش هسيبها تقع في كل ده تاني، بنتك كان وشها وارم ومتهانة عند نادر، رزان مقاطعتش حد فيكم عشان بتحب جوزها، هو اللي أجبرها عشان متقولش لحد فيكم إنه كل يوم بيعذبها ويضربها، بنتك محتاجة حضنك أنت وأمها، بنتك بتموت بالبطيء وإن مكنتش هتساعدها يبقى هتستلم جثتها قريب أوي من نادر وتاخد عزاها من الناس"
أردفت أمها بصوتٍ مرتجف خائفة من أن يكون مصير ابنتها ذلك، ونظرت «لماهر» تتوسله:
"تعالى نروح يا ماهر بالله عليك، أنا قلبي واجعني وخايفة عليها، قولتلك رزان عمرها ما تقاطعنا عشان حبها لنادر، رزان فيها حاجة وحشة"
تحرك من أمامهم نحو السيارة التي أخذها من «عبدالله» صباحًا ليأتي لهذا المعاد المهم، وأخبره أيضًا أن يبيع سيارته التي قام بإصلاحها ويرى له غيرها ليبدأ عمله بتلك الشركة التي سيُقدم أوراقه بها، تحرك خلفه «ماهر» بسيارته ثم تقدمه ليكون أمامه وخلفه «حمزة» الذي واصل القيادة حتى وصلوا لبيت «نادر» الكبير، ترجلوا هم الأربعة سويًا نحو حديقة المنزل وخرج «نادر» لهم الذي وصله الخبر من الخدم، ثم ابتسم بسخرٍ قائلًا:
"أهلًا وسهلًا، حمايا بنفسه هنا وحماتي"
سوالًا واحدًا خرج من فم «ماهر» بنبرة جامدة:
"بنتي فين يا نادر؟"
ابتسم متشدقًا بقوله وبثباتٍ شديد بينما عينيه تتابع «حمزة» بتوعدٍ خفي:
"لا بنتك مش عندي ياباشا، بنتك أصلًا هربت والله أعلم هربت فين ولا مع مين، مش بعيد تكون متفقة هي واللطخ اللي جنبك ده!"
هدر «حمزة» بوجهه المُحمل بالشرر نابعًا من أعماقه لذلك الحقير الذي أمامه، وقال بنبرة غاضبة:
"وربنا رزان معاك، رزان جوا يانادر أنت جيت خدتها وأنا واللي خلقني ما هسيبك إلا لما اطلعها من عندك!"
_"وريني شطارتك ياشاطر، اتفضلوا من هنا ولما تلاقوها عرفوني عشان أطلقها"
قالها «نادر» بسخطٍ والتفت ليغادر ولكن أوقفه قول «حمزة» الجامد:
"طب ما تسيبنا ندخل نشوفها جوا، ولو مش جوا ليك اللي أنت عايزوا!"
ضحك ساخرًا منه ونظر نحوه متوعدًا وأردف بتهكمٍ:
"لا، محدش... هيدخل بيتي!"
_"بنتي لو عندك وأنت بتكذب يا نادر، حسابك معايا هيبقى كبير!"
هدده «ماهر» بحدة ليومئ له الثاني ببرودٍ:
"مستني الحساب، الحساب يوم الحساب ياباشا!"
ثم دلف للمنزل تاركًا ضيوفه بالخارج الغضب يتآكلهم، خاصة «حمزة» الذي نظر بعينيه الضائعة ووجهه المحتنق بغضبٍ:
"وحياة أمي رزان جوا"
أومأ له «ماهر» وهو يجذبه معه وتوجهوا للخارج نحو السيارتين خاصتهما:
"عارف إنها جوا ونادر بيكدب، أنا هتصرف ياحمزة، بشكرك جدًا"
هدر الآخر وهو يهز رأسه بضياعٍ:
"مافيش شكر ياباشا، بس أنا هبقى معاك خطوة بخطوة، كلمني لو سمحت كل ما تحس إننا عاوزين ناخد خطوة، نادر كدا كدا له معانا تار كبير أوي غير حوار رزان، يعني أنا معاك معاك ان شاء الله، عن اذنكم"
تحرك وغادر المكان، ويا ليته لم يغادر تاركًا روحها بتلك الغرفة بالظلام تناجي، غادر تاركًا روحه بالمكان تبعث بعض الطمأنينة لها بتذكرها مواقفه معها!
*********
عودة مجددًا للحب الذي يتملك قلبه، ونسًا غريبًا يتوق قلبه من قلبها الذي لا يقابله بأي شيء ولكنه يشعر بذلك فقط، غريبة برائحة كالياسمين الذي يشبهها، ويشبه جمالها الأخاذ!
وصل للنادي الذي أعتاد للذهاب له مؤخرًا ليُفرغ طاقته قليلًا في لعب كرة السلة التي قضى صغرته في تعلمها، كان يمرر الكرة في الملعب ويُسقطها في الشبكة، وها هو يرفعها للشبكة لتسقط بين يديها، نظر نحوها ثم اعتلى فمه ابتسامة ساخرة:
"بتياقبيني'بتراقبيني' ولا إيه؟"
أجابت بكل صراحة وهي تنطط الكرة تنظر له بعينيها من أسفل نظراتها الشمسية:
"آه، براقبك، فيه مشكلة عندك؟"
_"لو منك فـ تؤ، لو حد تاني آه بصراحة أحب أيوح'اروح' ايفع 'أرفع' عليه قضية!"
قالها غامزًا إياها بطرف عينيه عابثًا معها بتضحك عاليًا بضحكة أسرت قلبه أكثر، لماذا تضحك تلك المعتوهة وهي تعلم أنه بلا شيء عاشقًا إياها؟
تحدثت بنبرة مدللة وهي تلقي له الكرة ليمسكها سريعًا:
"دي حاجة special ليا يعني؟"
أومأ برأسه يجاريها بكلامه وهو ينطط الكرة واقترب نحوها ثم رفعها وألقاها بالشبكة وظل واقفًا أمامها تحديدًا ناظرًا لها عن قرب:
"لا بصياحة'بصراحة'، أنتِ بس غلبانة مش حمل قضايا من بتاعتي توديكِ في داهية وتتحبسي"
صدمها رده ذلك، توقعت أن يخبرها بأنها مميزة ويفعل ذلك لأنها مميزة، ذلك الحقير، عبست بوجهه ليبتسم لها باستفزاز:
"اجبلك عصيي'عصير' ليمون منعنش؟"
يتعمد استفزازها حقًا، فصرخت بوجهه بغضبٍ:
"خليهولك يا أنس خليهولك، باي"
ثم تحركت تدب بقدميها في الأرض بينما هو تابعها بعينيه بابتسامة اختفت عندما غادرت تمامًا وهو يهمس بينه وبين نفسه:
"غبية"
تحرك نحو الداخل تحديدًا بغرفة تبديل الملابس وأخرج حقيبته من الخزنة التي يضعها بها، أمسك هاتفه ليجد ما الجديد الذي وصله فوجد رسالة من «مروان» يخبره بزواجه من «سيلين»، ثم رسالة من شخصٍ آخر تحمل صورة للمحامي «ثابت» خارجًا من بيت «وليد الأنصاري».
تعليقات



<>