رواية تشابك ارواح الفصل السابع والعشرون27بقلم امينة محمد

رواية تشابك ارواح

 الفصل السابع والعشرون27

بقلم امينة محمد

«توجس»

الحياة ستمنحك فرصتان؛ واحدة للانهيار والثانية للتخطي قدمًا، عليك أن تختار بعناية ما الذي سيُناسب استطاعتك وطاقتك، ولكن لا تجعلها آخر فرصة تُعطيها لنفسك، أجعل فرصك في الحياة كثيرة، تمتع بها، تذوقها بصدر رحب سواءً كانت فاشلة أم ناجحة.

ما قيل عن الأبوة ليس بقليل، وما قيل عنها مشاعريًا قوي وعميق، وهو كان أحن الأباء، كان سندها وقوتها في الحياة.

بينما هي كانت له الروح وذلك يكفي لوصفها بالنسبة لأبيها، في اليوم الذي وصله به خبر قتلها غدرًا، وعندما أتته بدمائها وحملها بين ذراعيه يعانقها العناق الأخير، يفتح عيناها ليرى آخر نظرة منها، يقبلهما بنعومة، يلمس على وجهها برقة، ثم يُخبرها بكل قهرٍ:«الحياة ليست للطيبين، وما رأيت منكِ يومًا إلا الطيبة!».

كان يجلس في قسم الشرطة وجواره ابنه وأيضًا «ثابت»، بينما يجلس «إياد» أمامهم يستمع لكل الإتهامات التي يقولها «الحاج إبراهيم»:

"في البداية جه ناس هدوا البيوت دي، كان فيها مبني وكان فيها أراضي لسه بتاعت ناس، نسأل فيه إيه يقولوا ده قرار إزالة من الحكومة وهيجيلكم تعويض، طب فين التعويض مجاش، شوية لما قولنا هنتكلم مع الحكومة خصوصًا إن فيه ناس كتير كان ليها بيوت ومتعوضتش ومنهم اللي قعد في الشارع، فجأة أتضح إنه القرار متزور عشان مافيش قرار طلع بيقول إن فيه إزالة في المنطقة دي، وقتها وليد بدأ يظهر على حقيقته ويهدد تهديدات من تحت لتحت، رفعنا قضية وسقطت بسبب قلة الأدلة معانا، وبسبب نفوذه في البلد!"

هُنا تدخل «ثابت» يشرح له ما حدث بالضبط عندما رفع تلك القضية قائلًا:

"أنا رفعت القضية بدليل إن مافيش قرار إزالة طلع، فراح وليد مطلع عقد بيع وشراء متزور من أهل الحارة ببيع الأرض، والموضوع اتحول من قرار إزالة لعقد بيع وشراء متزور برضو، أنا موصلتش لمين اللي زور بس المحامي أنس النجار عارف ووصل وبيحاول يجيب أي معلومة تفيدنا!"

ثم ترك الفرصة مجددًا «لإبراهيم» يُكمل كلامه بوجعٍ أحتل نبرته وكان معه الحدة:

"بنتي في يوم راحت، قالت هتروح تتكلم معاه بما أنها كانت بتجري معانا في الحوار ده وراحت من غير ما تعرف حد، راحت ورجعتلي مدبوحة!"

أومأ «إياد» لهم، وأستند بظهره على الكرسي خاصته مُمسكًا في يده قلم يلعب به، ثم غمغم بسؤاله:

"حلو ده اللي عاوز أوصله، بنتك عهد، أنت ليه مرفعتش أول حاجة قضيتها وجبت حقها، هو أنت مش معاك أدلة بتثبت إن وليد اللي قتلها وشهود؟"

نظر له «إبراهيم» قليلًا يستشف حديثه في عقله قبل أن ينبس مُجيبًا بهدوءٍ:

"معايا أدلة، وقت ما بنتي اتقتلت الدنيا قامت ومقعدتش ووليد تهديداته جاتلنا صريحة، تهديدات لولادي الأربعة؛ عبدالله ومروان وآسر وحمزة، إنه هيخلص عليهم، كان معايا أدلة هو ميعرفش عنها حاجة ولا حد يعرف عنها حاجة، لو كانت ظهرت للنور في وقت زي ده كانت الدنيا هتقوم متقعدش زي ما قولتلك، قولت نرجع حق الناس وحق بنتي أنا هجيبه بنفسي لحد ما أجمع بقية الأدلة، وقتها وصلني دليل قوي بيثبت إنه وليد هو السبب في قتلها ورجعت سكِت عشان وليد هددني بقتل ابني عبدالله، بس أنا دلوقتي ده الوقت اللي خلاص كل حاجة لازم تظهر ووليد ياخد جزاته"

تحدث «ثابت» بجمودٍ يُكمل حديثه:

"قضية عهد معايا، وقضايا الأرض ونادر المصري دلوقتي بقت مع أنس النجار، إحنا الفترة اللي فاتت عملنا تمثيلية عشان كان فيه خاين في النص، «فتحــي» ابن الحارة واتضح إنه بينقل كل حاجة لوليد الانصاري من كل قعدة كنا بنعملها في المجلس، وقتها عشان نلففه شوية هو ووليد حوالين نفسهم ويبدأ قلقه يقل إني مش ماسك قضايا، قولنا إني خاين وشغال مع وليد وفعلًا وليد بعتلي رجالته يتكلموا معايا ووقتها أنا قولتله إني سيبت القضايا كلها عشان مافيش فايدة إني اقف قصاده وهخسر كتير، فـ هو وقتها بدأ يهدى وقالي إني عملت الصح وأصبح قدامه وقتها أنس النجار، بس هو ميقدرش يأذي أنس بسهولة عشان أبوه راجل كبير هو كمان في البلد!"

أومأ له «إياد» بتفهمٍ ثم أعاد بصره نحو «إبراهيم» يسأله بفضولٍ عن الأدلة:

"إيه الأدلة اللي مع حضرتك؟ شكلها عامل إزاي وهل هي فعلًا قوية!"

أراح «الحاج إبراهيم» ظهره للخلف بثقة قائلًا:

"أدلة هتجيب لوليد من أول حُكم إعدام، بس أنا مش هطلعها دلوقتي، الأدلة دي مش هتطلع غير في وقتها لما المحكمة تحتاجها عشان حق بنتي ميضعش تاني بسهولة!"

_"وأنا معاكم، في كل خطوة وكل حاجة هتتم صح وبالقانون، أتمنى محدش يوسخ أيده في دم عشان أنا بعمل شغلي صح، ووقتها هيتم القبض عليه!"

قالها «إياد» ينبههم فأجابه هذه المرة «عبدالله» قائلًا:

"كنا وسخنا ايدنا بالدم من زمان يا باشا، متقلقش!"

انتهت تلك الجلسة على ذلك وتحركوا نحو الحارة ثلاثتهم، بينما «وليد» جلس في الزنزانة ينتظر قدوم المحامي الكبير المسؤول عن قضاياه، وبالفعل وصل له وسُمح بزيارته وقد كان:

"تخلصلي على مروان، يتقتل في أسرع وقت أنت فاهم، وشوف هتعمل إيه أنا مش هستحمل أفضل هنا دقيقة واحدة!"

_"طب والشغل ساعدتك، أدي أوامر للرجالة يوقفوه؟"

سأله المحامي ليومئ له «وليد» قائلًا بشرٍ كبير:

"لا طبعًا الشغل يكمل عشان محدش يحس بحاجة، خصوصًا الصفقة اللي هتتم مع الشركة اللي جاية من برا، هو أنا مش هفضل أخطط كل ده وفي الآخر يروح كدا بالساهل"

كان يقصد تحديدًا غسيل الأموال، فأعماله جميعها مملوءة بالفساد.

عرفت معنى الخوف، وعرفت معنى الفقد، 

تمسكت ببعض الأشخاص فرحلوا، وأردت التمسك بكِ حتى لا تُغادري عني فتعرضتي للخطر، لا أعلم هل العيب مني أم من الأشخاص الموجودين في حياتي؟

أسعى جاهدًا ألا يصيب من أحبهم الأذى فيُصيب قلبي بدلًا عنهم، عدتُ بقدمين مرتجفين من الخوف لفقد الأحبة، ذهبت ثابتًا وعدتُ مرتجفًا!

وصل سريعًا لمنزلها يرن الجرس باستمرار حتى تجب عليه ويطمئن عليها، علِمت من الطارق بهذه الطريقة فأتت مسرعة بعدما وضعت الوشاح على شعرها وفتحت له تطالعه تحديدًا في عينيه، بينما هو كان يُملي عيناه بها ليُطمئن قلبه الهلع بعدما علم بخبر خطفها مِمَن قتل أخته، سألها بلهفة قلقة وعينان لامعتان:

"أنتِ كويسة صح؟ عملك حاجة؟"

نفت برأسها وأجابته بنبرة هادئة تطمئنه عليها وعن حالها، ترى في عينيه القلق الواضح عليها، ترى به الأمان الذي فقدته طوال سنين مضت:

"متقلقش يا عبدالله أنا كويسة، الحمدلله عدت على خير، معدتش هخرج لوحدي الفترة دي ويارتني ما خرجت أصلًا بس كنت بجيب حاجات قريب من هنا"

تنهد بعمقٍ وهو ينبس ببعض الأرتياح بينما يمسح وجهه بقوة:

"الحمدلله، عدت على خير يا تسنيم وان شاء الله ميحصلش أي حاجة، أوعدك بـ ده أنا مش هسمح إن يحصلك أي حاجة أصلًا، هولع فيهم كلهم وقتها"

ابتسمت بدفءٍ كبير من كلماته التي توغلت لقلبها، كلماته كانت برقة الفراشات التي داعبتها، ثم همست بصوتٍ خجل ووجه حمل حُمرة الخجل:

"ان شاء الله، أنت كويس؟ سمعت إنك وعمو روحتوا عشان ترفعوا محضر على وليد!"

أومأ لها وأستند بجسده يُريحه من الثقل الذي تعرض له مؤخرًا وتحدث يُخبرها بكل شيء:

"أيوه فعلًا، خلاص مبقاش فيه حاجة عشان نسكت عليها وكل حاجة لازم تظهر خصوصًا في حق عهد أختي اللي أبويا منعنا سنين إننا ناخده بإيدنا، خير خير، هسيبك ترتاحي عشان أنا أعصابي مش فيا دلوقتي وهروح عشان أنام!"

أومأت له بتنهيدة وهي تحاول أن تخفف عنه بكلماتها الرقيقة:

"ماشي، خلي بالك من نفسك وان شاء الله كل حاجة هتبقى كويسة وأنت كمان هتكون كويس، تصبح على خير!"

_"وأنتِ من أهله، بحبك!"

رمى كلماته بابتسامة واسعة ولكنها حملت في طياتها التعب أيضًا، فتوسعت ابتسامة الخجل على ثغرها واكتفت بالايماء فقط، تحرك من أمامها وغادر نحو منزله يُفكر بأخيه، يُفكر بكل شيء حدث بينهما ليصلا لتلك المرحلة!

وصل عند البناية ورفع بصره يطالع شرفته فوجد الضوء مُغلق، يبدو أنه ليس هنا ومعها، إذًا يبدو أن الصُلح سيتم تأجيله للغد!

غادرت المستشفى وأتجهت نحو المكان الذي اتفقت معه بأن تقابله به لتخبره بما حدث مؤخرًا من الشرطة في التحقيقات التي تتم رفقة «رزان»:

"أنا سيبتهم بينيموها عشان قامت فضلت تصوت كدا وخلاص، الدكتورة النفسية هتجيلها بكرا تكمل التحقيق معاها!"

كان يتابع حديثها بتركيزٍ وأومأ لها برأسه شاردًا في كل شيء يخصها ويخص حياتها رفقته، يقسم داخليًا أنه لن يرحمها عندما تعود له مجددًا!

_"أنتِ لسه مقولتليش يا روان، أنتِ بتكرهي أختك كدا ليه؟"

سألها «نادر» وهو يُشعل سيجارته ويطالعها من أعلاها لأسفلها بمُعاينة، كان مراوغًا لعينًا، عيناه عليها هي الأخرى ولكن «رزان» وحدها من تحتل قلبه، ابتسمت «روان» بسخرية واحتل الشر عينيها وهي تجيبه:

"عشان هما السبب في موت أمي، هي وأمها السبب، بابا لما اتجوز ماما أمها زعلت أوي وبابا ساب ماما واهتم بيها، مامتي تعبت بسبب كدا وزعلت وماتت بسببهم"

مثّل «نادر» الاستغراب بسخرية شديدة، وقال بسخر بينما ينفث الدخان في جلسته تلك:

"بس اللي عرفته من رزان أنها ماتت مريضة قلب، وماتت موتة ربنا"

ابتسمت «روان» بسخرية هي الأخرى وهي تجيبه بتهكمٍ، بينما نظراتها مُعلقة عليه:

"ما طبيعي تقولك كدا، إنما أنا اللي عارفة الحقيقة، أنا وبس، وأصلّا رزان هتجيبك ورا بأعترافاتها، اقتلها واخلص"

_"تؤ تؤ يا روان، كدا هزعلك"

ثم تحرك من مكانه نحوها يقف قبالتها مباشرةً، ورفع يده يُمررها على شعرها ثم أمسكها منه بقوة يهددها:

"رزان سيرتها متجيش على لسانك بوحش، دي مراتي ومش هسمح، أنا بس اللي أعمل فيها اللي نفسي فيه، ومش هسمح لحد يأذيها، فاهمة!"

أومأت له بسرعة برأسها وهي تحاول إبعاد نفسها عنه بوجعٍ:

"ماشي ماشي سيب شعري!"

ترك شعرها من يده بينما هي سبّته في سرها بالمجنون وهي تطالعه بتهكمٍ وسخط، تحركت من مكانها وأخذت أغراضها لتتوجه نحو المستشفى:

"أنا ماشية أصلًا، يلا سلام!"

أشار لها بلا إهتمام بيده بينما هو أخرج هاتفه يرى صور عشيقته التي أشتاق لها حد السماء، يتمعن النظر بها وبتفاصيلها وضحكتها، تُرى لماذا لم تعد تضحك كما السابق:

"ياخسارة وحشتني ضحكتك يا رزان، بس أنتِ اللي غاوية نكد ومش عارفة تعيشي حياتك، غبية!"

بينما المسكينة كانت نائمة في المستشفى بلا حول لها ولا قوة، لا يغادرها شكله في آخر مرة كان بها هنا رفقتها وقريبًا منها، رائحته بالنسبة لها أصبحت رعبًا لا يقوى قلبها الضعيف عليه، حفظتها وحفظت خطواته كما المهووسة به، ولكن الفرق الوحيد أنها مرعوبة منه.

متوجسة من كل شيء قد يحدث لها منه في الفترة القادمة، تعلم أن نهايته لن تكن بتلك السهولة ولكنها لم تعد تحتمل لا هي ولا جسدها ولا نفسيتها المُتعبة.

كان جسدها ينتفض بين الحين والآخر بينما والدتها جوارها تبكي عليها بحرقة، تبكي عليها بأسفٍ شديد وعلى حالتها المتدهورة، تود لو تُخبئها بأحشائها عن هذا العالم كما كانت.

كما الصغيرة أنتِ بين أحضاني، كما الرقيقة في حديثك، كما الهادئة في تصرفاتك، وكما المجنونة في أفكارك؛ جمعتِ كل ذلك في شخصية واحدة فظهرت لنا أنتِ!

أنهى الإتصال الذي كان بينه وبين «الحاج إبراهيم» يطمئن عليهما، بينما كان معها في سيارة الأجرة تتجه نحو المنزل وهي تستند على كتفه بتعبٍ ملحوظ على ملامحها المُدممة، وصلوا أمام البناية وأعطى السائق نقوده ثم غادر وهو يسندها بين يديه ويضمها نحوه.

أراحت رأسها على صدره وهمست بتعبٍ:

"مش هقدر أطلع السلم، شيلني!"

طلبها كان غريبًا بعض الشيء ولكنه راق له كونه يعلم أنها مُتعبة، كيف تسحره كلماتها تلك برغم أنها عادية جدًا، ولكن طلباتها تصنع بداخله شعورًا مختلفًا غريبًا وفريدًا من نوعه، لم يجربه يومًا وها هو يتدفق لداخله، شعورًا يخبره بأنها امرأته وهو رجلها.

مال يضع يده أسفل ركبتيها والثانية في منتصف ظهرها وحملها بين يديه كفراشة خفيفة لم يشعر بثقلها أبدًا، حاوطت عنقه بيديها بقوة وخبأت رأسها في صدره تستنشق رائحته الدافئة كوجوده تمامًا:

"شكرًا يا مارو!"

_"والله أرميكِ عالسلم، متبوظيش اسمي ومتدلعنيش!"

قالها بمزاحٍ ليُغير من حالتها المزاجية قليلًا، فضحكت ولكن سرعان ما نغزها بيده في خصرها وهو ينظر لها بحدقتين متوسعتين:

"هتفضحينا وطي صوتك!"

وضعت يدها على فمها وهي تحاول كتم ضحكتها، وهمست بدلالٍ له:

"ماله مارو؟ دلع مرْوان"

غمزها بطرف عينه وقد كان وصل بها أمام شقته وأنزلها لتستند بجسدها عليه بينما يخرج مفاتيحه، وهمس بحنقٍ:

"أنا مش عاوز اسمع منك غير مروان اللي بتقوليها دي، كفاية التلوث السمعي اللي بيقولوه أهل الحارة، سمعيني أنتِ اسمي بطريقتك!"

فتح باب الشقة وولجت لأمامه تستنشق رحيقها الذي ولج لأعماقها وانتشر في ثناياها، رائحة منزله التي تُحبها كما المُدمن، وهمست له بنفس نبرة التعب المحاوطة بالخفة:

"حاضر، أنا هفضل أقولك يامروان على طول"

ابتسم بودٍ واقترب لها يربت على ظهرها بحنانٍ بالغ، ينظر صوب عيناها التي تطالعه كما العاشقة الولهانة برغم التعب البادي على ملامحها وفي عينيها التي بالكاد تحاول فتحها:

"لو حابة تاخدي دش وتدخلي تنامي على طول عشان تريحي جسمك!"

أومأت له برأسها بابتسامة ورفعت يدها تضعها على خده برقة:

"هدخل أخد شاور أيوه، بس أنا خايفة أنام لوحدي، ممكن تنام جنبي النهاردة وتفكك من الكنبة دي؟"

أي تأثير تضعه عليه هي؟

أي نبرة تتحدث بها رفقته فتجعله كما الثمل، أي نظرات تلك تطالعه بها؟

أومأ لها بينما يرفع تلك الخصلة الشاردة التي هربت من شعرها على عينيها وأجابها:

"حاضر، كتريلنا بس ياسمين!"

ضحكت بغنجٍ مجددًا فتوسعت ابتسامته على تحسن حالتها ولو لقليلٍ، ذلك ما يريد بالأساس فهو يعلم أنها تحمل أثقالًا من القهر والحسرة بداخل قلبها الآن:

"هتفضحينا الليلة دي والله بالضحكة دي، ادخلي يلا"

تحرك هو الآخر نحو غرفته يُخرج ملابسه البيتية وينتظرها حتى ينال حمامًا دافئًا هو الآخر بعد تعب اليوم، وخرج نحو القططتين يضع لهما الطعام ويلاعبهما قليلًا حتى انتهت وأنتظرته حتى أتى لها وغفت سريعًا تستشعر الأمان بجواره، تستشعر الهدوء والراحة المُتوغلان لقلبها المُحمل بالأسى!

في أي مدينة يقال أن الحب أساسها؟ 

فأنا للآن لم أرى سوى الثقل والخوف،

القهر والحسرة،

الأسف والأسى!

وصل بهيبته المعهودة لمنزل «أنس» ينتظره حتى يخرج له، ولكنه وجدها هي أولًا ومعها الضيافة له ولكن بوجه يحمل الوجوم له، ابتسم ابتسامة خفيفة خفية ولكن توسعت عيناه أسفل نظارته الشمسية التي يرتديها:

"متشكر جدًا مكنش له لزوم التعب ده!"

أجابته على مضضٍ ورفعت بصرها له بعدما وضعت الضيافة على الطاولة أمامه:

"مافيش تعب ولا حاجة، أنس هيوصل حالًا بس كان عنده شغل في المحكمة بيخلصه!"

أومأ لها وعاد يُمازحها بمشاكسة ولكنها كانت قوية مُعبرة عن شخصيته:

"ألا صحيح أنتِ فعلًا مش مدام؟"

زفرت بضيقٍ وأبعدت بصرها عنه ثم له مجددًا بقولها بحنقٍ:

"هو حضرتك ليه مصمم يعني عالاستفزاز ده، ياسيدي مدام!"

نظر حوله وأمسك وردة من المزهرية الموضوعة في جواره، وقح!

يغازلها بما في منزلهم!

_"متزعليش مني، ودي وردة إعتذار عن اللي حصل!"

قالها بمراوغة ومد لها الوردة لتُمسكها من بين يده بحدة تحاول فيها إخفاء الخجل:

"دي وردتنا على فكرة!"

_"وردتكم حلوة أوي فعلًا!"

كان يقصدها بكلامه، وقح للمرة الثانية، تلك الكلمات تُعبر بها بداخلها عنه، نفخت خديها بعصبية شديدة كاد يطير منها عقلها لذلك البرود الذي به ويُخرجه عليها:

"شكرًا يا حضرة الرائد، شكرًا"

ثم أخذت الوردة وغادرت من أمامه، بينما هو ظل قليلًا وزفر بسخطٍ:

"إيه العبط ده يا إياد، اتهد الله يهدك أنت هتتجنن على آخر أيامك ولا إيه!"

وبخ نفسه وأنتظر وصول «أنس» الذي لم يتأخر بالخارج، وبالفعل وصل وجلس رفقته بابتسامة مُرحبة:

"أهلًا وسهلًا يا حضية'حضرة' الرائد، نويتنا'نورتنا'"

_"تسلم يا أنس، جاي اتكلم معاك بخصوص قضية الأرض اللي اتكلم عنها الحاج إبراهيم امبارح، عرفت انك عرفت توصل للأي زوّر الورق ده حقيقي؟"

سأله «إياد» بعدما أزال النظارة الشمسية التي على عينيه، فأومأ له «أنس» بجدية قائلًا:

"فعلًا، بصياحة'بصراحة' فيه حاجة، أنا كنت محامي وليد من زمان، ووقت ماحصل اللي حصل لعهد واجهته وسيبته، وقتها كان بيزوي'بيزور' ويق'ورق' كتيي'كتير' أصلًا وكنت عايف'عارف' هو بيعمله عند مين، الياجل'الراجل' ده أصلًا بيشتغل لناس كتيي'كتير' في البلد وحاولت أخلي بابا يوصله ويفهم منه، وبعد محاولات ومحاولات قدي'قدر' يعيف'يعرف' منه!"

كان حديثه جاد، يعلم كيف يصيغه جيدًا بضغطه على حرف الراء ليفهمه من أمامه، تكفي الجدية التي يحملها فتعطيه هيبة كبيرة عندما يتحدث، أومأ له «إياد» بابتسامة:

"حلو، جمعلنا الأدلة الحلوة دي وتعالى بكرا عالقسم عشان يتم التحقيق فيها وتحويله للنيابة العامة، وأنا رايح دلوقتي على المستشفى أشوف الكاميرات اللي حمزة الشافعي قالي عليها، ويبقى هو ونادر المصري بخ!"

وافقه «أنس» ذلك القرار بابتسامة منتصرة:

"حلو أوي، على خير"

تحرك «إياد» مُغادرًا نحو المستشفى بينما تحرك «أنس» نحو الحارة ليُخبرهم بما جرى مع «إياد» الآن ليكونوا على علم بما حدث بينه وبين الضابط، وصل وهو يتحدث رفقةً «شذى» بالهاتف ويغازلها، بينما العيون عليه مُتسلطة بضجرٍ حتى ينتهي!

_"ماشي ياقلبي، يلا هكلمك لما أخلص شغل، باي!"

قالها «أنس» بنبرة العاشق الولهان، ونظر نحوهم بتوجسٍ فسأله «حمزة» بفضولٍ:

"هو أنت بتكلم مين؟"

أجابه «أنس» بكل صراحة ولكن يبدو بأنه لقط منهم بعض الكلمات:

_"البت بتاعتي، أقصد خطيبتي يعني!"

ضرب «مروان» كف على الآخر وهو يجيب بقلة حيلة:

"أنتو المجتمع بتاعكم ده محتاج فتح إسلامي من أول وجديد، أخلص يا أنس ورايا شغل عاوز أقوم اخلصه!"

بالفعل أخبرهم بكل شيء يود أن يخبرهم به بعدما زفر بسخطٍ، وتحرك بعدما انتهت الجلسة تلك نحو عمله، بينما تحرك «حمزة» هو الآخر لينهي بعض الأوراق التي سيُقدمها للشركة وليرى سيارة جديدة يشتريها بدلًا من الثانية التي باعها له «عبدالله» وتحرك «مروان» نحو محله ولكنه عاد لمنزله مجددًا بعدما أتصل به «آسر» يُخبره أنه يود أن يتحدث معه قليلًا!

وصل لمنزله وولج يبحث عنها بعينيه فوجدها تجلس بالشرفة رفقة قططه، أقترب نحوها وجلس جوارها وهو يسألها بابتسامة:

"عاملة إيه دلوقتي؟"

نظرت له سريعًا عندما وصل وتوسعت ابتسامتها التي ترتسم تلقائيًا على فمها عندما تراه:

"الحمدلله، أنا كويسة!"

_"طب كويس، صاحبي جاي دلوقتي، أبقي أدخلي الأوضة لحد ما يمشي ماشي؟"

قالها لها بودٍ فأومأت له وانتبه لصوت الجرس فتحرك يفتح الباب ولكن وجدها «تسنيم» التي ابتسمت له بأدبٍ:

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كنت جاية أخد سيلين لو ينفع لمرام، اتصلت بيا أروح أقعد معاها شوية وسمعت يعني أن سيلين تعبانة فقولت تغير جو!"

التفت ينظر لها فوجدها أتت لتقف جواره ثم نظرت له تنتظر منه الإجابة بابتسامة، فأومأ لها بتنهيدة:

"خلاص تمام، خلي بالكم من بعض بقى ومتتحركوش من الحارة"

كادت أن تتحرك سريعًا رفقةً «تسنيم» ولكنه أمسكها من ذراعها يسألها بينما يطالعها من أعلاها لأسفلها:

"هتنزلي بالبيجاما ولا إيه؟ حطي عليكِ الاسدال!"

نظرت لنفسها ثم له بابتسامة:

"ماشي حاضر، لحظة ياتسنيم"

تحركت نحو الداخل تأخذ عباءة الصلاة وأردتها ثم غادرت رفقة «تسنيم» نحو منزل «مرام»، وجلست رفقتهما براحة بعدما تعرفت على الأخرى وارتاحت لها، كانت تستمع لحديثها هي و«تسنيم» بحزنٍ على حالتهما:

"مبقتش عارفة حاجة يا تسنيم، مبقتش عارفة أعمل إيه ولا أروح فين والله!"

ربتت «تسنيم» على كتفها وهي تقول بكل صراحة بحزنٍ:

"معلش يا حبيبتي، كان بإيدك من الأول ترفضي يامرام بس أنتِ وافقتي ولازم تتحملي ده، ومتقلقيش خالتك مش هتسيبك تمشي ولا هتسيبك أصلًا، ولو حصل ولقيتِ إنه خلاص مبقتيش مستحملة عيشته دي اطلقي، متعمليش في نفسك كدا!"

_"بس أنا بحبه أوي ياتسنيم، أنا محبتش حد قده ولا هحب، أنا متأكدة يا تسنيم إن آسر في يوم من الأيام بادلني الحب ده عشان كدا أنا تمسكت فيه، والله بحبه!"

أنهت جملتها ببكاءٍ وقهر، بينما زفرت الثانية على حظ رفيقتها وهي تردد:

_"اللهم أخزيك ياشوشو!"

بحثت «سيلين» بعينيها عن تلك التي تُدعى «شوشو» فلم تجدها، وانتبهت لصوت «تسنيم»تسألها بفضولٍ:

"أنت بتدوري ع مين؟"

_"على شوشو، هي فين ولا مين دي؟"

قالتها ببلاهة ومازالت مستمرة في البحث عن التي قالت عنها «تسنيم» بكل إهتمام، هزت «تسنيم» رأسها بقلة حيلة وأجابتها تحاول التبرير:

_"لا شوشو دي مش واحدة، أنا برضو مكنش ينفع اقول قدامك كلمات غريبة، يعني قصدي اللهم أخزيك يا شيطان!"

شهقت «سيلين» بتأثرٍ واضح منها وسألتها سريعًا:

"أنتو بتدلعوا الشيطان؟ استغفر الله العظيم مينفعش كدا!"

نظرت «مرام» نحو «تسنيم» ثم «لسيلين» مجددًا التي طالعتهما بنهرٍ ثم تبدلت ملامحها لأخرى ضاحكة مثلهم وغرقوا في ضحكٍ لا منتاهي مُعبرًا عن لذة جلسة الفتيات سويًا.

وصل نحو منزل صديقه، الذي يعلم أنه سيرمي أثقاله عنده ويغادر دونها، طرق الباب بتعبٍ واضح ففتح له «مروان» مبتسمًا:

"أدخل تعالى!"

ارتمى في أحضانه وبكى كما الطفل، كما الضائع عن بيته، كما المجروح من حبيبته، تحدث من بين بكائه القوي:

"أنا حياتي خربت يا مروان، حياتي كلها خربت، شغلي وبيتي وعلاقتي بأهلي وكل حاجة يا مروان، أنا عاوز أموت، والله العظيم تعبان وما حد حاسس بيا ولا بجسمي، أنا بقالي اسبوع مبدوقش طعم النوم لما أنا حاسس أن دماغي هتطير مني، دماغي فيها دوشة مش طبيعية مبقتش بستحملها، عاوز أمسكها اخبطها في الحيطة من كتر التعب، جسمي مبقاش مستحملني، مبقاش مستحمل حاجة!"

ابتلع «مروان» غصة مؤلمة في حلقه وهمس وهو يمسد على شعر «آسر» في محاولة لتهدئته:

"أعوذ بالله من قهر الرجال، أعوذ بالله!"

ثم ساعده في المشي نحو الأريكة وأجلسه عليها وأخرج هاتفه من جيبه يتصل برقم «حمزة» بينما يُتابع بكاء الآخر بقهرٍ شديد:

"الو ياحمزة، تعالالي حالًا عالشقة!"

_"العب، لا لحظة ..في إيه يامروان، أنا قولتلك آه بحبك وبغير عليك، بس مش للدرجة دي ياجدع!"

كان يمزح بنبرة ساخرة ولكن قابلته أخرى جامدة من «مروان» بغضبٍ:

"مش وقت هزار، أخلص آسر تعبان أوي!"

ثم أغلق الإتصال بوجهه وجلس جوار «آسر» يربت على ظهره بحنية، كان يود أن يحمل من أثقاله ويرمها بعيدًا تمامًا عنه، يراه لأول مرة في حياته بذلك الشكل المقهور والذي يجمع بداخله كل مشاعر الحسرة والأسى:

"صلي عالنبي يا آسر وأهدى عشان خاطري، خد نفس وأهدى، ربنا مش هيسيبك والله وهيراضيك قريبًا إن شاء الله وهتكشف مين اللي عمل فيك كدا وتبقى كويس"

صرخ الآخر بوجهه بأعلى صوت خرج من حنجرته، عيناه الخضراء تحولت لأخرى حمراء كالدماء، وجسده يرتجف بعنف، لسانه ثقل وكانت مخارج حروفه خاطئة، كانت تلك اللحظة هي لحظة وصول «حمزة» الذي أتى مهرولًا لهما:

"مبقتــش عــارف مين، مبقتـش عارف، أنا تعبت ومبقتش مستحمل، ومش عايز أعرف مين عامل كدا، أنا عاوز أرتاح، والله عاوز أرتاح انا تعبت يامروان!"

اقترب «حمزة» لجواره وهو يلهث أثر الركض من منزله لهنا، وجلس على ركبتيه أمام «آسر» يتحدث بقلقٍ:

"إيه يا أخويا مالك، صلي عالنبي كدا واستهدى بالله، استعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأهدى، كل التعب ده هيروح والله إن شاء الله!"

_"لا، لا، مش عاوز، مش عاوز"

ظل يرددها «آسر» بينما يُمسك رأسه بين يديه بقوة وبدأ يضربها عدة ضربات قوية ولكن سُرعان ما أحكم «مروان» القبض عليها وهو يتلو عليه القرآن بصوته العذب الذي تعالى شيئًا فشيء أثر تحرك وتشنج جسد «آسر»:

"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهم وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"

كان جسده يزداد في التشنج أكثر والارتجاف القوي، يحاول سحب يديه المُكبلة من «مروان» الذي أشار بعينيه «لحمزة» بأن يساعده في إمساكه حتى لا يضرب نفسه، بينما الآخر صرخ عاليًا جعل من صوته يهتز في أرجاء البناية مما جعل «عبدالله» و«الحاج إبراهيم» يخرجان من شقتهما ويأتيان سريعًا:

"اسكــت اسكـــت، أنا بقولك اسكــت"

اقترب «عبدالله» يمسك قدمي «آسر» التي ظل يرفس بهما في الأرجاء ويضربهما في الأرض بقوة، وأكمل «مروان» قراءة القرآن بصوتٍ أعلى:

"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۝ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"

كان يهتز بعنف ولم يقدر على التحرك بعدما أكمل «مروان» قراءة المعوذات بشكلٍ متكرر، ثم استكان بين أحضان «الحاج إبراهيم» الذي ظل يمسد على شعره بحنانٍ:

"بسم الله الرحمن الرحيم على قلبك يابني ياحبيبي، حقك عليا والله، هنعرف قريب مين عمل فيك كدا، هنعرف والله قريب!"

استكان ولم يشعر بنفسه، بل غفى كالميت تمامًا، بينما جميعهم تبادلوا النظرات بحزنٍ شديد ولم يقدروا على التفوه بحرفٍ واحد.

مر وقت طويل وهم جواره جميعهم لم يتركوه، ولن يفعلوا فهو أخوهم قبل أن يكون صديقهم، بينهم علاقة كبيرة قوية، بها رابط أخوي.

_"معلش خليكم معاه وهنزل لحاتم هقفل المحل وارجعلكم، مش هتأخر ان شاء الله بس عشان العشا أذنت وحاتم لوحده تحت!"

قالها «مروان» وتحرك من مكانه مُغاردًا، وبعد قليلٍ أشار «حمزة» بعينه «لعبدالله» ليتحرك خلفه، فهم الآخر مغزاه من الإشارة تلك وبالفعل تحرك ليُصالحه.

كان يساعد «حاتم» في إنهاء ترتيب المحل لإغلاقه لليوم فهو يجب أن يظل رفقة «آسر»، وبالفعل انتهيا سويًا وابتسم له «مروان» بشكرٍ:

"تسلم يا حاتم، جزاك الله خير، خلاص روح أنت يا حبيبي وأنا هقفل وأروح!"

ابتسم له «حاتم مرزوق» بودٍ مع ابتسامة بسيطة زينت ثغره، فهو يُحب «مروان» كثيرًا، لأنه كان السبب في إنقاذه من الفساد الذي أحاطه حينما ترك عمله القديم وظل يبحث كثيرًا حتى أُخذ من قدميه رفقة أصدقاء سوء، وقتها عرض عليه «مروان» العمل معه في المحل وتم توسيعه بمهاراتهما سويًا:

"على إيه بس يا شيخنا، تصبح على خير!"

ثم غادر المكان وخرج «مروان» من المحل وأغلقه بالأقفال ثم تمشى نحو البناية وهو يردد الأذكار ويعطر لسانه، لمح سيارة سريعة تقترب منه فتحرك يُفاديها حتى لا تصطدم به، ولكنها توقفت وخرج منها أربعة رجال يقتربون منه.

لم يعطه أحدهم فرصة ليفعل شيء أو حتى يهرب منهم، بل بدأت اللكمات منهم له، يحاول أن يدافع عن نفسه أمامهم بأعطائهم بعض اللكمات أيضًا، ولسوء حظه أن المكان الذي هو به الآن لا يوجد به مارة بسبب تأخر الوقت، خرج صوت أنينه يملئ المكان بسبب ضرباتهم الشديدة في أنحاء جسده ووجهه.

سمع صوت ينادي باسمه بصدمة ويقترب منهم وبيده حديدة:

"مــروان، وسع يـالا، وسـع!"

لم يكن سوى صوت «عبدالله» الذي كان أتيًا بالأساس لمراضاته، ويبدو أنه قرر ذلك في الوقت المناسب، اقترب بغشامته التي خرجت نتيجة غضبه لرؤيته لذلك الشجار العنيف وبدأ يضربهم بلوح الحديد الذي بيده.

بينما استند «مروان» على الحائط يبصق الدماء التي خرجت من فمه ويتنفس الصعداء، وجهه بأكمله مملوءًا بالكدمات التي نزف بعضها وبعضها باللون الأحمر.

أخرج أحد الرجال مدية حادة وفتحها في وجه «عبدالله» يهدده، بينما الثاني حاول تهديده بلوح الحديد ولكن بلحظة غدر كانت المدية تخترق بطنه فخرج من فمه صرخة مُتألمة حاول كتمها قدر الإمكان.

رفع «مروان» بصره بصدمة ناحية صديق الأيام وأخوه الوحيد، لم يُترجم عقله سريعًا ما حدث ولكنه تحرك بسرعة مُمسكًا باللوح الذي وقع من يد «عبدالله» يضرب الآخر في قدمه، ولكن أصدقائه نجحوا في سحبه للسيارة والهرب من الحارة.

التفت «مروان» للذي وقع أرضًا جريحًا، وأقترب منه يحمل رأسه بين أحضانه يحاول إفاقته حتى لا يغمى عليه وهو يقول بهلعٍ:

"لا لا افتح عينك يا عبدالله، قوم معايا هتسند لأول الشارع وهنروح على طول المستشفى، قوم يلا!"

كان يحاول رفعه ليقف ولكن الآخر لم ينجح بسبب خطورة الإصابة، ورفع بصره «لمروان» مُتألمًا بعينين احتلتهما الدموع قائلًا بصوت مرتجفٍ مهزوز:

"والله ما بيكون قصدي .. أزعلك مني أبدًا، حقك عليا يا أخويا، سامحني"

_"ششش أنت بتقول إيه ياعبدالله، أزعل منك إيه، مش وقته العبط ده وقوم معايا بالله عليك، قوم يلا!"

كان يقولها بلهفة وقلق شديد بينما يخرج هاتفه ويعبث بالأرقام على رقم «حمزة» وأتصل به سريعًا وهو يراقب الذي يُغمض عينيه بتعبٍ:

"عـبدالله، افتح عينك متغمضش... الو ياحمزة، تعالى بسرعة في الشارع اللي جنب المحل، طلع علينا ناس وغزوا عبدالله بالمطواة"

أنهى كلماته على عجلة ووقف يحاول رفع صديقه معه ولكنه كان ثقيلًا على جسده، خصوصًا مع الضربات التي تعرض لها هو الآخر، شعر بثقل «عبدالله» عليه فصرخ بصوتٍ مرتفع يُناجي ربه:

"يــارب، فتح عينك يا عبدالله، فتح عينك يا أخويا والله ما ينفع، والله ما ينفع تسيبني أنت كمان، بالله عليك قوم متعملش فيا كدا أنا مليش غيرك في الدنيا دي، أنا مليش بَعدك حد ولو حصلك حاجة هموت فيها"

بكى، لم يستطع منع نفسه وبين يديه أخاه، المشهد يتكرر للمرة الرابعة، والدته، والده، «عهد».. والآن «عبدالله»، وجميعهم كانوا بين يديه!

          الفصل الثامن والعشرون من هنا

لقرءاة باقي الفصول من هنا

تعليقات



<>