رواية تشابك ارواح الفصل الثامن والعشرون28بقلم امينة محمد

 رواية تشابك ارواح 

الفصل الثامن والعشرون28

بقلم امينة محمد

فديتك صديقي بكل جوارحي، فديتك بكل ما أملك لأجل أن أرى بعينيكَ لمحة السعادة ولمعتها، سأقدم لك الحياة في كفي الصغير لأجل ابتسامتك، وإن أردت سأجلب لك النجوم من السماء لترى لمعتها التي تُشبه قلبك.

خليلٌ أردت الحياة رفقته،

خليلي وصديقي وأخي،

يُصيبني ما يُصيبه،

ويجرحني ما يجرحه،

لم يكن مجرد صديق عابر في حياتي،

كان عالمي، كان كل ما أملك.

_"والله ما ينفع، والله ما ينفع يا عبدالله، قوم ياعم وأنا والله ما زعلان منك ولا أقدر أزعل منك أصلًا!"

قالها بقهرٍ شديد والدموع انهمرت على خديه، دموع حارقة خرجت من قلبه المجروح، وضع يده على جرح الآخر بقوة ومن ضباب عينيه لمح قدوم «حمزة» راكضًا بسرعة شديدة، أتى بأنفاسه المتلاحقة وهو يطالع «عبدالله» الغائب عن الوعي بصدمة، ثم رفع بصره سريعًا نحو «مروان» الذي حاول الوقوف بسرعة به، ساعده «حمزة» وسانده وتحرك به ليصلا على أول الشارع ومازال لسانه معقودًا.

كل منهما الآن عقله في تلك الذكريات التي كانت مع رفيقهما، كل منهما الآن بين الضياع والخوف الذي كبل أجسادهما، يتذكران لحظات الحزن، السعادة، الضحك، البكاء، كل شيء وهم سويًا.

_"حط إيدك عالجرح، وأنا هجيب العربية، هجيب العربية وجاي في ثانية، خلي إيدك عالجرح يا مروان!"

قالها «حمزة» بنبرته الضائعة الحزينة، وألقى نظرة على «عبدالله» مملوءة بالتيه وتحرك سريعًا نحو ورشته يُخرج سيارته منها.

لم يُنصفهم الحظ هذه المرة حيث أن «فاطمة» كانت تقف في الشرفة ولمحت ابنها غارقًا بالدم، للحظة اعتقدت أنه غيره، للحظة اعتقدت أنها تتوهم، لم تجد نفسها سوى وهي تصرخ وتصرخ مع كلماتٍ خرجت من فمها بحسرة:

"ابني، ابنــي!"

ثم تحركت من الشرفة بتلك العباءة المنزلية وعلى الحجاب بشكل عشوائي، وخرجت من الشقة وهي تصرخ على الدرج، الذكريات تُعاد مجددًا.

ابنتها غادرت، وها هو أخوها يلحقها.

تحرك «الحاج إبراهيم» الذي استمع لصرخاتها بفزعٍ، فهو هلع قلبه عندما وجد «حمزة» يغادر بذلك الشكل المفاجئ بعدما أتاه إتصال، غادر البناية خلف زوجته يحاول أن يسألها ما بها ولماذا تصرخ باسم ابنها!

ما الذي أصاب ابنه؟ ما الذي أصاب حبيب فؤاده وسنده في الحياة؟

عند وصولهما كان «حمزة» بالسيارة هناك، يحمله رفقة «مروان» الذي لم يرفع بصره لأي شخص منهم، يشعر وكأن الخزي يعتريه لأنه لم يحافظ على أخيه وينقذه مِمَا أصابه!

_"ابني يا إبراهيم، عبدالله مبيردش ليه، كلهم بيمشوا ليه يا إبراهيم، كلهم بيمشوا ليه، مشيت وخدت أخوها، للدرجة دي، يالهوي يابني يالهوي"

انتحبت بالبكاء والعويل، بكت بحرقة وصراخها جعل جميع أهل الحارة يخرجون ليروا ما الأمر، وكانت تلك اللحظة حيث وصول «تسنيم» رفقة «سيلين» التي وقفت متصنمة لا تقوى على فتح فمها، بحدقتين متوسعتين وهي تراهم يحاولون وضعه بالسيارة بشكلٍ مريح ويجلس جواره «مروان» يضمه في أحضانه.

بينما «الحاج إبراهيم» ألقى نظرة على «فاطمة» ثم على ابنه مجددًا بحسرة، وتحدث بحزمٍ شديد:

"روحي يا فاطمة، روحي وهطمنك على ابنك، روحي يلا!"

ثم تحرك رفقتهم للسيارة وغادر بها «حمزة» سريعًا نحو المستشفى، اقتربت «تسنيم» لها وضمتها لأحضانها وبكت هي الأخرى:

"أهدي يا خالتو، أهدي هيبقى كويس والله، عبدالله مش هيسيبك ولا يسيبني، عبدالله قالي كدا!"

سارت رفقتها ومعهما «سيلين» التي تجمعت الدموع بعينيها لرؤيتها لهكذا منظر به حزن قوي، به حسرة ووجع!

وصلا للشقة وتحركت هي للمطبخ تملئ كأس بالماء وأتت مجددًا «لفاطمة» وجلست جوارها تربت على ظهرها:

"اتفضلي ياطنط اشربي وأهدي، ان شاء الله هيكون كويس والله، ربنا يسترها معاه ويكون كويس"

قربت الكأس لفم «فاطمة» تساعدها على شُرب بعض الماء وظلت بيدها الرقيقة تربت على ظهرها، بينما «تسنيم» مازالت تحتضنها بقوة والدموع تنهمر على خديها.

استيقظ في مكانه بعد تلك المعركة التي لا يعلم عنها شيء، سوى وجع الجسد الذي بقى عليه والتعب البادي على روحه وقلبه، نظر حوله فعلِم إنه مازال هُنا ببيت رفيقه، ولكنه لا يتذكر سوى أنه صرخ بهم واحتضنه «إبراهيم»، أين هم إذًا؟

تحرك من المنزل فوجد باب الشقة التي أمامه مفتوحًا وتجلس أمامه «فاطمة» تبكي ورفقتها «تسنيم» و«سيلين»، ظهر القلق على ملامحه بشكلٍ أقوى وأقترب نحو الشقة يسأل بصوتٍ بالكاد خرج من التعب الذي هو به:

"في إيه يا خالتي، أنتو بتعيطوا ليه؟"

زادت الأخرى بالبكاء عندما سألها ذلك السؤال وضربت كفًا بالآخر وهي تجيبه بقهرٍ شديد:

"عبدالله بيموت يا آسر، عبدالله بيموت يابني!"

كان يعلم أن هنالك شيء خطير حدث، وإلا كان سيجدهم حوله عندما يستيقظ، استند على الباب بيده وهو يسأل مجددًا بتيه:

"عبدالله؟ عبدالله حصله إيه يا خالتي، هو فين؟"

أجابته هذه المرة «تسنيم» بنبرة البكاء التي احتلتها:

"راحوا بيه المستشفى، الحاج وحمزة ومروان، منعرفش إيه حصل اللي شوفته إنه كان مغزوز بمطواة في بطنه!"

توسعت حدقتيه بصدمة وتحرك سريعًا من البناية يُخرج هاتفه، ويتحدث رفقة «حمزة» يسأله عما حدث وأين هم الآن، وعندما أجابه الثاني حاول الاستفهام منه بنبرة مرتعشة:

"في إيه ياحمزة، عبدالله ماله وأنتو فين؟"

وصلته الإجابة من «حمزة» الذي كان نظره مُثبتًا علر «مروان» الجالس أرضًا يحتضن رأسه بين يديه بقلة حيلة، فما بيده الآن شيء لفعله لأخيه سوى الدعاء، والبكاء بصمتٍ:

"إحنا في المستشفى يا آسر، روح وأنا لما يحصل حاجة هكلمك، متجيش وأنت تعبان ولا تسوق وأنت تعبان، وأنا أول ما اطمن على عبدالله هجيلك وهطمنك"

بتنهيدة قوية خرجت من فمه سأل مجددًا:

"هو إيه حصل فجأة طيب ومين اتهجم عليه؟"

أجابه «حمزة» بضياعٍ:

"والله ما عارف، مروان مضروب هو كمان ووشه كله بايظ، أنا أول ما أعرف التفاصيل هبلغك برضو، بس شكلهم شوية بلطجية اتهجموا عليهم وحد منهم غز عبدالله!"

_"ماشي يا اخويا، هكلمك كمان شوية أشوف الدنيا وصلت لإيه، سلام"

أغلق معه الإتصال وغادر نحو منزله، وجد قدميه تجرانه وحدها نحو شقة «مرام» بعدما ألقى نظرة على شقة أمه فوجد الأنوار منطفئة فعلم أنها نامت في هذه الساعة المُتأخرة، طرق الباب بخفة بعينين متعبتين بشكلٍ ملحوظ، بدى وكأنه كان بين الحياة والموت وللتو خرج منه!

فتحت الباب ورفعت بصره له تطالعه قليلًا دون كلمة منه أو منها، سألها بنبرة تحمل الأدب والتعب في نفس الوقت:

"ممكن أدخل؟ تعبان والله ومش هضايقك خالص، هقعد فـ أي حتة أنتِ تقوليلي عليها ومش هتحرك!"

تنهدت بثقلٍ وهي مازالت تنظر نحوه ثم ابتعدت من أمام الباب ليدخل، فدخل بعدما أنكس رأسه وتنهد بقوة وسألها بهدوء:

"أقعد فين؟"

ابتلعت غصتها وهي ترى به كم التعب هذا، ترى به الهدوء المُبالغ الذي لا تعرفه عن «آسر»، اقتربت له تقف أمامه تحديدًا وأجابت بنفس الهدوء هي الأخرى:

"شكلك تعبان أوي، أدخل الأوضة لو حابب تنام، أعملك شوية عصير يردوا روحك لأن لونك مخطوف كدا!"

رفع بصره ونظر نحو عيناها وهو يُجيبها بكل بساطة بينما يتقدم لها خطوة:

"هيفضل مخطوف كدا عشان أنتِ زعلانة مني، متزعليش بالله عليكِ!"

تنهدت تخرج ما بأعماقها، فما عساه العاجز أن يفعل سوى أن يُخرج أثقاله على هيئة أنفاس مُتثاقلة من فمه حتى يُهدئ ذلك الضجيج الذي بداخله؛ كضجيج حرب يتعارك الجميع بها، ثم ماتوا وبقى الهدوء المُبالغ بعدها، كانت تلك هي الحالة التي وصلا لها سويًا، بعد ضجيج قوي حدث بينهما، أصبحا الآن في مرحلة الهدوء المُبالغ لدرجة أنهما يتعاملان كالغرباء.

لم يتوقعا يومًا بأنهما سيصلا لهذا الحد من الغُرب بعد كل القُرب!

أومأت له برأسها والتفتت لتغادر من أمامه ولكنه أمسك يدها بين يده وبعينين لامعتين كطفلٍ صغير يطلب من أمه شيء:

"مرام، مرام والله العظيم آسف، تخيلي إني أعتذرت كام مرة عشانك وأنتِ عارفة إني مبعملهاش مع حد، أنتِ عارفة إني لما بيحصل حاجة مع حد بسيبه يتفلق نصين لو مترضاش من أول مرة، طب أقولك طيب، أجيب لك ورد هنزل اجيبه حالًا؟"

كان الأسف وحده هو أنها لا تعلم ما بهذا الرجل الذي أمامها، وكيف القهر يحاوطه، تعلم أنه لا يعتذر مرارًا وتكرارًا كما أخبرها بالفعل، تعلم ذلك تمام العلم، ولكن خطأه في حقها كبير، لذلك أجابت بهدوء:

"هو أنت ليه فاكر إنك عشان تصالحني بأكل أو ورد، المُصالحة مش كدا يا آسر!"

_"طب بحضن؟"

قالها ببراءة ثم أقترب يعانقها بقوة ويخبئها بين أضلعه، واضعًا رأسه في ثنايا عنقها يحاول رمي كل التعب الذي به الآن!

لم تجد نفسها سوى وهي تُعانقه هي الأخرى وتُربت على ظهره، ونبست بتيهٍ وضياع:

"نفسي أعرف مالك، أنت مش طبيعي يا آسر الفترة دي، مش أنت اللي أعرفه طول عمري!"

تمسك بها كما الابن الذي يتمسك بأمه حتى لا يضيع عنها، وأجابها بنبرة هامسة بالكاد سمعتها:

"والله أنا نفسي أعرف مالي يا مرام، بس أنا ضايع ومحتاج حد يرشدني لكل حاجة بعملها في حياتي، قولتلك قبل كدا إن حضنك دافي أوي!"

عبست بسخطٍ وهي تسأله:

"هو أنت بتوه عن الموضوع يا آسر؟ حضن إيه دلوقتي!"

تلاعب على نفس الاستغلال الأمثل بالنسبة له بمكرٍ:

"حضنك يامرام!"

_"آسر!"

قالتها بحدة تنهره بقوة، فأجابها بتعبٍ وبتنهيدة قوية بينما يُمسك يدها نحو غرفتها:

"ششش، بلا آسر بلا زفت!"

أي مراحل الحب وصلا؟

أم أنها تخطت كل المراحل وهو مازال عند الأولى!

أتلوم نفسها بحبها له،

أم اللوم الكامل يقع على عاتقيه لجعلها تحبه!

وما ذنبه وقلبها الوغد من أحب ودق لأجله، ولكن العقل اللعين يُخبرها بأنها لم تكن تستحق ذلك فيؤنب ضميرها، ليستيقظ الضمير فيؤلم الروح!

جرب قلة الحيلة مرارًا وتكرارًا على من يُحب، جربها وتذوقها وتجرعها في قلبه وروحه، ولم يجد يومًا لها حلًا بل ظل الشعور الذي يكرهه للأبد وسيظل يكرهه، كأنه تمامًا كالمُقيد المُكبل بحديدٍ قوي لا يُمكن تحطيمه.

جلس «حمزة» جواره وربت على كتفه يحاول مواساته وهو من يحتاج لمن يواسيه، حاول التحدث رفقة «الحاج إبراهيم» ولكنه منعه من التحدث بإشارة من يده فقط وهو يأخد الممر ريحةً وجيئةً حتى يخرج الطبيب الذي تأخر عند ابنه.

نبس «حمزة» بينما يضم ذلك الجالس أرضًا في احضانه:

"مروان أنت بقالك نص ساعة قاعد القعدة دي، قوم خلي حد يشوف وشك ده وجروح جسمك!"

حرك رأسه بنفي وهو يجيبه بنبرة مقهورة بينما يوصد عيناه بقوة:

"مش هتحرك قبل ما أطمن على عبدالله يا حمزة!"

تنهد «حمزة» بقلة حيلة وحاول تحريكه معه فالدماء التي تخرج من جروحه نشفت على وجهه وبعضها مازال ينزف:

_"يابني طب بس تعالى هنا أوضة الإستقبال هيشوفوك بس وعبدالله كويس والله ان شاء الله!"

قبل أن يجيبه «مروان» خرج الطبيب من غرفة «عبدالله» وهو ينظر لهم يطمئنهم عن حالته بابتسامة خفيفة:

"الحمدلله منزفش دم كتير، وخيطناله الجرح، هو بس إحتمال يفضل نايم كدا للصبح بسبب التعب اللي في جسمه، حمدلله على سلامته ان شاء الله يقوم بألف خير، عن اذنكم"

ثم تحرك بينما جميعهم تنفسوا الصعداء، أخرجوا الأنفاس التي حبسوها بداخلهم حتى يطمئنوا عليه، بينما «الحاج إبراهيم» للتو تحرك نحو «مروان» الذي نظر له كما المُذنب، بعينيه الضائعة الحزينة:

"والله ما عارف حصل كدا إزاي، فجأة لقيته قدامي بينزف، خوفت أوي، خوفت يمشي زيهم!"

إن أتينا لحالته النفسية، فهو أكثر ما يهابه بتلك الحياة هو الخوف من الفقد، الخوف من خسارة من يُحب، يتحول تمامًا من ذلك الرجل الشامخ، لطفلٍ ضائع تائه لا يعلم أين الطريق!

ضمه «الحاج إبراهيم» له وربت عليه، كانت تلك على قلبه لا على ظهره، تدفقت المشاعر لقلبه بالأمان ومازال يردد بحسرة:

"ياريته مكنش جه ولا شوفته في الحالة دي، يارتني كنت أنا حتى"

تخبطت كل الكلمات بعقل «حمزة» وهو يتابع صديقه الذي مر عليه فقد أمه وأباه وزوجته، يعلم تمام العلم خوفه القاتل على كل من يحب وخوفه من فقدهم!

_"اسكت يالا أنت بتقول إيه، ياريتك أنت إيه يا مروان؟ الحمدلله أخوك كويس وأنت كويس، وكلكم كويسين بس فهمني إيه حصل!"

نهره «الحاج إبراهيم» في بداية حديثه ثم تسائل بكلماته عما صار قبل ساعة، فأجابه «مروان» بينما يمسح وجهه بكفه بقوة ليزداد وجع جروحه مما جعله يكتم تأوه كاد يخرج:

"معرفش، أنا فجأة لقيت رجالة جاية في عربية، وجايين يضربوني أو يقتلوني معرفش، وعبدالله وقتها وصل وأتخانق معاهم وواحد منهم غزه على طول بالمطواة، عربية شبه عربيات وليد الأنصاري اللي جت قبل كدا الحارة!"

كادت الدماء تنفجر من رأس «إبراهيم» كما لحظة إنفجار بركانٍ ظل طويلًا يغلي به النار ثم انفجر، هكذا سيكون حاله عندما ينفجر بهم جميعًا يأكل الأخضر واليابس!

ساعد «حمزة» صديقه بالوقوف والتحرك به حيث سيضمدون له جروح وجهه وجسده، واتصل «الحاج إبراهيم» بزوجته يُطمئن قلبها على ابنها وعليهما ويُخبرها أن يأتوا في الصباح!

لم أقبل بالأذى في حياتي، ولم أقبل بالإهانة التي ستحاوطني، فأنا امرأة خُلقت لتحيا وتعيش مع ابتسامة بسيطة تُزين ثغرها، تحيا حتى تموت في نهاية المطاف.

صباح يوم جديد سطعت شمسه الدافئة في الأرجاء، مازال فصل الشتاء هُنا، مازالت الحياة بخير، ولكن القلوب باردة كما الأجواء!

_"كل اللي حكيتهولك هو اللي عندي، نادر شخص مريض أنا عشت معاه، وأتمنى إن كل الأيام اللي أنا عشتها معاه تتمحي من ذاكرتي، حاسة إن أنا عايزة أشيل الأيام دي كلها من راسي، وأعيش من غيرها، نادر كان كده مع كله مش معايا أنا بس، حتى أمه وأخته كان شديد عليهم مكانش بيعاملهم بشكل كويس، حاولت أن أنا أفهم منه السبب مرة واتنين وتلاتة، وإن إحنا نهدى ونتعامل بشكل كويس حتى في علاقتنا مع بعض، أنا مراته وأقرب حد له وهو كان جوزي وأقرب حد ليا، ومافيش علاقة أقوى من العلاقة دي، بس هو مكنش بيرضى ومكنش بيتنازل عن إنه يحكيلي أي حاجة، حاولت إن أنا أفهم من نفسي ومعرفتش ومفهمتش في إيه أو هو ماله، كل اللي عرفته إن هو عاش مع أبوه بعد ما أمه انفصلت عنه، واللي عرفته من أخته الله يرحمها إن هو كان بيجي ليهم أحيانًا مضروب ووشه كله كدمات، أبوه مات في ظروف غامضة محدش يعرف عنها حاجة لحد دلوقتي، ولا يعرفوا هو مات إزاي كل اللي يعرفوه إن هما راحوا بيته لقوا نادر قاعد على السلم برا وأبوه في الشقة غرقان في دمه، وقتها فكرت إن نادر اللي قتله بس هو أنكر ده لما صارحته بالكلام ده، ووقتها قالي إزاي تسالي أهلي عن حاجه شبه دي، كان ليا نصيب في الضرب يومها وفي العنف، مبقتش فاهماله أي حاجة وكل مرة بحاول إن أنا أقرب منه كان بيصدني ويتعامل معايا زي ما هو عايز كان بيقولي إن هو اللي هيقرب ويبعد بنفسه وأنه هو اللي له كل الحق في إنه يمشي العلاقة دي نادر شخص مريض لازم يتعالج ولازم يتحاسب على كل اللي هو عمله!"

تحدثت وأخرجت كل ما بداخلها للطبيبة النفسية التي أتت لها اليوم مجددًا لتحاول التحدث معها، «فرزان» صامتة منذ يومان لا تتحدث مُطلقًا مع أي شخص، واليوم قررت أن تستكمل كل تلك الأمور لتنتهي للأبد وتخرجه من حياتها!

سألتها الطبيبة بينما تنظر لها بتمعنٍ:

"رزان اللي فهمته منك إن هو كان بيعاملك بشكل مش كويس، أو خلينا نقول في كل حاجة أنتِ تعرفي أعراض الشخص السادي؟"

أومأت لها فقط وأجابتها بإختصار:

"بحثت وعرفت، ونادر جواه الشخص ده مبيخرجش غير معايا!"

ثم هبطت دموعها بحرقة شديدة وهي تتذكر كل تلك الليالي التي مرت عليها معه بقسوة ووجع، تتذكر كل لحظة كان يضربها ويُعنفها بها ويجعل جسدها يُدمي ليشفي غليله، ثم أكملت:

"صدقيني مبقتش قادرة أحكي ولا افتكر، أنا بقيت حفظاه أكتر ما حافظة نفسي، حافظة طريقة المشي بتاعته، حافظة ريحته حتى لو غيرها بعرفها، كأن كل حاجة بيعملها بتبقى معروفة إنها له، إنها لنادر، كفاية أرجوكِ مبقتش عايزة افتكره!"

حاولت الطبيبة تهدئتها بقولها بتنهيدة قوية:

"خلاص أهدي، هنقفل سيرة نادر وخلينا نتكلم فيكِ أنتِ، حاليًا يا رزان أنتِ شخص متفهم وعقله كبير يعني أنا مش هينفع أخبي عنك حالتك، ولا إن أنا أقول لأهلك مثلًا وهما يساعدوني، بالعكس إن أنا اقولهالك أحسن علشان تساعديني إنك تعالجي نفسك ده هو الصح، يعني خليني أقول إنك دلوقتي في مرحلة اكتئاب وتكاد تكون مرحلة اكتئاب حاد، ولكن خلينا نقول برضو إن إحنا لسه في اكتئاب عادي، مع اضطراب ما بعد الصدمة اللي اتعرضتِ ليها مع نادر في حياتك!"

_"الحل إيه؟"

سألتها «رزان» بينما تمسح دموعها وهي تضع كل تركيزها رفقة الطبيبة، أجابتها الطبيبة بابتسامة واسعة لأنها ترى أنها تحاول أن تُعالج نفسها.

أجابتها الطبيبة بينما تنقل بصرها بين الفحص الذي بيدها ثم «لرزان»:

"المفروض إن إحنا بنعمل فحص بدني الأول بس طبعًا الفحص ده موجود معايا بسبب حالة جسمك دلوقتي من بعد الحادثة اللي اتعرضتيلها فكده أول خطوة معانا تمام، ومش هناخد وقت طويل في الوقت مرحلة العلاج إن شاء الله، أنا سمعتك كمان وفهمت منك كتير أوي يعني أنا شخصت حالتك النفسية والجسدية كويس جدًا، هكتبلك أكيد على أدوية هتقلل عندك الأعراض اللي بتحسي بيها شبه العياط المُفرط والقلق والتعب النفسي، بس وجودي وزيارتي ليكِ بشكل مستمر هتحسن من مزاجك خصوصًا إننا مع كل زيارة هنتكلم في حاجات كتير، فيه حاجة كمان بتخليني أتعب مع الحالات اللي بتكون معايا وهي إنهم مبيكونوش مُتفهمين الحالة اللي هما فيها!"

حركت «رزان» رأسها بنفي وهي تجيبها:

"أنا متفهمة، وكنت عارفة من زمان حالتي وإني محتاجة أزور طبيب نفسي يا دكتورة، وعارفة إني مش كويسة نفسيًا وغير متزنة كمان، ومش صالحة لأي حاجة في الفترة الجاية، لا شغل ولا صداقات ولا أي حاجة!"

_"طب ما تحكيلي شوية عن الصداقات!"

ألقت الدكتور بذلك السؤال الاقتراحي بين حديثهم لتجعل «رزان» تصمت قليلًا، ولم يخطر ببالها سوى شخص واحد، حركت لسانها لتتحدث عنه بتنهيدة:

"حمزة، هو الوحيد اللي أعرفه في حياتي دلوقتي من بعد أهلي، حمزة وقف جنبي كتير وهو اللي ساعدني أهرب من نادر، وبيجيلي هنا على طول بيكون جنبي، عايزني أكون كويسة، بس حمزة ميستاهلش يكون مع شخص كئيب زيي، ميستاهلش يفضل بيعاني بسببي، خصوصًا إن نادر حاطه في راسه!"

همهمت الطبيبة بتفهمٍ وابتسمت في قولها:

"معاكِ، بس لو الشخص ده مش عاوز هقولك حقك تبعديه، بس اللي أنا شايفاه إن حمزة راغب إن هو يكون معاكِ، هو عاوز يساعدك فـ ليه إحنا نصده، بالعكس أنتِ كده هتبقي كويسة لما هتشوفيه جنبك وكويس، ولكن طول ما أنتِ بتبعديه ده هيأثر على حالتك النفسية أكتر خصوصًا إن أنتِ بتقولي الشخص الوحيد اللي تعرفيه، تخيلي إن أنا بقولك هسحب من حياتك أعز شخص علشان تبقي كويسة، طبيعي مش هتبقي كويسة بل حالتك هتزيد سوءً أكتر خصوصًا وأنتِ بعيدة عن شخصك المفضل!"

شردت بعينيها الخضراء بعيدًا في نقطة وهمية، ولم تستمع إلا لصوت الطبيبة بصعوبة لذهاب عقلها عن هُنا، حيث كل لحظة كانت بينها وبين «حمزة»:

"كفاية النهاردة عليكِ، فكري فكلامي بخصوص حمزة يا رزان، أشوفك يوم تاني وإن شاء الله تشخيصي هبعته للنيابة!"

ثم تحركت وغادرت، تاركة تلك التي مازالت تسبح في بحرٍ صنعه عقلها ليُغرقها به.

عندما أراك بخير أصبح تلقائيًا بخير، وعندما أراك حزينًا يحزن قلبي لحزنك، أنا وصديقي بيننا خيط غليظ لا يُمكن قطعه، تنتقل عبره مشاعرنا لتتشارك.

كان يجلس جواره يلعب بشعره بحنية بالغة، بينما يبتسم «عبدالله» له بابتسامة عريضة تكاد تفتك بفمه لوسعها:

"مروان هو أنت إزاي كدا؟"

ابتسم «مروان» بخفة؛ فهو يعلم أن القادم سيكون عبث من الذي بداخل أصدقائه المعاتيه:

"إزاي كدا إزاي؟"

_"إزاي يعني دافي كدا، بتجيب الدفى ده منين؟"

قالها بتنهيدة، فحقًا دفئ «مروان» يحاوطهم جميعًا بقربه منهم، لا يعلمون كيف يخرجه بذلك الشكل من داخله ليكون كما الهالة السحرية حولهم، وهنا خرج صوت «حمزة» الحانق:

"ولا، سيب مروان في حاله، خليك في حالك!"

ثم همس بصوتٍ بالكاد سمعوه جعلهم جميعًا يضحكون بصوتٍ عالٍ:

"مش كفاية سيلين خدته، حزن بجد!"

كان ضحكاته عالية مع ضحكاتهم، وقف في مكانه وهو يهز رأسه بتنهيدة:

"أنتو ضراير لسيلين ولا إيه يالا منك له، متجبوش سيرتها تاني على لسانكم"

مثّل «عبدالله» الخمول بثملٍ كما العاشق وهو يسأله بمكرٍ وغمزة من طرف عينه:

"طب مقولتليش، أنت إزاي كدا؟"

ثم مد يده ليمسك بيد «مروان» الذي ضربه عليها ونظر له بحدة حيث حدقتيه متوسعتان زجره:

"اتلم أحسن ادوسلك عالجرح ده، استغفر الله العظيم منكم لما بتتحولوا، عيال مش تمام"

صمتوا جميعًا عندما فُتح باب الغرفة التي بها «عبدالله» وولجت أمه رفقة «تسنيم» له بخطواتٍ سريعة:

"ياحبيب قلب أمك ياحبيبي!"

اقتربت له تمرر أصابعها على خده تُملي نظرها منه، بينما هو ابتسم بدفءٍ لها ووضع يده فوق يدها التي على خده ونبس في محاولة لأرضائها:

"أهدي يانور عيني أنا والله كويس أهو، هي غزة صغيرة كدا اتخيطت وبقيت كويس!"

ولج أباه خلفهما ونظر نحو زوجته وابنه ثم رسم ابتسامة خفيفة على فمه بتنهيدة، حيث اطمئن قلبه لراحة قلب زوجته على راحة ابنهما.

نبست «تسنيم» بتلبكٍ وسط الجميع وهي تنظر له بعينيها الحزينة:

"حمدلله على سلامتك يا عبدالله، ربنا يتم شفاك على خير!"

_"الله يسلمك!"

رد عليها بينما يطالعها بتنهيدة وعيناه مستقرة بداخل عيناها حيث يحاول أن يُطمئنها بنظراته، قطع «مروان» ذلك بسؤاله:

"سيلين فين؟"

أجابته «تسنيم» وهي تنقل بصرها من «عبدالله» له:

"في البيت، فضلت معانا طول الليل وبعدين راحت شقتكم"

أومأ ونظر لهم جميعًا وهو يبتسم بأدبٍ:

"تمام، أنا هروح أشوفها وأغير هدومي وأرجعلكم!"

ثم تحرك بعدما ألقى السلام وأقتربت «تسنيم» لجوار «عبدالله» على الفراش وتحركت أمه لتجلس على الأريكة جوار زوجها الذي حاوطها بذراعه، بينما جلس «حمزة» جوار «عبدالله» من الجانب الآخر وغمزه بطرف عينه، ففهم الآخر مغزاه من تلك الغمزة الوقحة!

_"متخيط كام غرزة؟"

سألته «تسنيم» بتنهيدة فأجابها بتعبٍ مصطنع:

"باين ستة، أو سبعة، هما سبعة بيفكرك العدد ده بحاجة؟"

أبعدت بصرها بخجل وإحراج عنه، بينما هو كان يُطالعها بمراوغة أخجلتها ثم نادى والده بينما نظراته مُثبتة عليها بابتسامة واسعة:

"بابا، هو مينفعش تجيب المأذون ونكتب دلوقتي، عاوز احضـ...!"

وضع «حمزة» يده على فمه سريعًا يمنعه من التحدث لأنه سيقع بكارثة إن أكمل وقاحته هُنا أمام الجميع، ورفع بصره نحو «الحاج إبراهيم» الذي ضرب كف بالأخر بقلة حيلة من ابنه:

"هو أنت قادر تحرك إيدك يا بغل؟ إحنا مش هنجوز بنتنا لواحد قاعد في سرير زيك، شد حيلك كدا وورينا الأول!"

أبعد يد «حمزة» بسرعة، وكان نظره مازال مثبتًا عليها وهي تحاول كتم ضحكاتها وتحول وجهها للون الأحمر من الخجل، بينما هو تهجم وجهه بسخرية وهو يتحدث مع والده:

"ما أنا زي الفل أهو مالي يعني، وبعدين ..آآه يا بطني!"

نظرت له بانتصار وهي تمرر بصرها عليه بقولها:

"أحسن، السبع غرز قاموا عليك، خليك فيهم الأول وبعدين نشوف حوار كتب الكتاب ده، ممكن أقول لا أصلك يعني..!"

قاطعها بقوله بحدة شديدة مُتشدقًا:

"وحياة ربنا أفرج عليكم الحارة يا تسنيم، وبعدين السبع غرز غير السبعة اللي بينا، أنا لسه عند كلامي ومستني السبع حاجات!"

قطعهم «حمزة» تلك المرة بسفهٍ مُتسائلًا:

"كفاية سبعة، إيه متعرفوش عدد غيره!"

هز «عبدالله» رأسه بنفي وهو يقول بسخطٍ بينما يطالعها حانقًا:

"أصله أكتر رقم حفظته، معرفش غيره فحياتي أمي علمتني كل الأرقام وتسنيم طفحتني رقم سبعة بالذات!"

ضحك «حمزة» لأنه للتو فهم المقصد، بينما «تسنيم» كتمت ضحكاتها عليه وصمتت حتى لا تجرحه أكثر وتذكره بما مضى.

أي أنواع الدفء تلك التي بكِ؟

فتح الباب وولج للمنزل بخطواتٍ هادئة، بينما هي كانت بالغرفة وعندما سمعت صوت المفاتيح بالباب خرجت منها سريعًا ورأته، ثم جرت له تحتضنه بقوة وتتعلق برقبته:

"مروان"

بادلها العناق بينما يربت على ظهرها بحنانٍ، وابتسم بدفءٍ وهو يُجيبها:

"أنا كويس، أهدي، أنتِ كويسة؟"

هزت رأسها بنفي وابتعدت بينما تبادله نظراته بأخرى قلقة، ورفعت أصابعها الرقيقة على جروح وجهه بأسفٍ:

"اللهي يارب يتشكوا في أيدهم واحد واحد!"

توسعت عيناه بصدمة، ووضع يده فوق يدها يسألها:

"سمعتيها فين الجملة دي؟"

_"من نفسي على فكرة!"

قالتها بثقة وعبوسٍ خفيف بوجهها، ليضحك وهو يهز رأسه بنفي قائلًا:

"كدابة، مش كلامك ده، لقطتيها من حد صح؟"

أومأت له وأبعدت بصرها بإحراجٍ عنه، وهي تقول بتنهيدة:

"أنت طيب كويس بجد؟ قلقت عليك أوي أوي ومكنتش عارفة أعمل إيه ولا أطمن عليك إزاي، هو أنت مش هتديني تليفوني بقى عشان أكلمك من عليه"

أومأ لها برأسه وهو يجيبها بهدوء:

"هديهولك حاضر، وأنا كويس متقلقيش، على فكرة دول رجالة أبوكِ!"

صمتت ولم تجد ما تقوله، فهي الآن أمامهم ابنته وتلك الحقيقة المُرة تؤلمها، أبعدت بصرها ويدها ولكنه سحبها مجددًا لتلتصق به:

"مش عاوزك تفكري في حاجة دلوقتي ماشي؟ كفاية اللي حصل الأيام اللي فاتت، هدخل أخد دُش!"

تنهدت وهي تقول بثقلٍ من دواخلها المُحطمة:

"أكيد عمو وطنط لما يعرفوا هيزعلوا أوي مني، وأنا ما صدقت إنه عالأقل العلاقة بينا كويسة!"

هز رأسه بنفي ولمس بأصبعه على خدها بحنو، فوق الجروح التي لم تُشفى على وجهها هي الأخرى:

"لا متقلقيش، هما عارفين إنه مش ذنبك، إحنا ناس عاقلة ياسيلين مبنشيلش حد ذنب مش ذنبه عشان نشيلك ذنب أبوكِ!"

سحبت شهيقًا وأخرجته وهي ترسم ابتسامة ساخرة على فمها:

"بقينا زي بعض، واكلين علقة"

ضحك عاليًا على جملتها، وأقترب يقبل رأسها فبداخله أخبره أن يفعل ذلك الآن، ثم قال من بين ضحكاته:

"طب اقعدي يا أم علقة، هاخد دش واجيلك!"

أومأت له بابتسامة خفيفة زينت ثغرها بينما هو تحرك للمرحاض بملابسه المنزلية، وجلست هي رفقة «مشمش» و«مشمشة» تتابعهما سويًا، ثم توسعت حدقتيها بصدمة وجرت عند المرحاض تقف أمام الباب وهي تصرخ:

"ألحق يامروان!"

أفزعه صراخها بذلك الشكل، ثم تابعت بقولها:

"مشمشة حامل!"

الأذى سيطول الجميع، والشر كبير ولن يكتفي بشخص أو اثنين، بل سيأخذ الكل بطريقه!

خرج من منزله وهو يتحدث بهاتفه، متوجهًا نحو سيارته الفخمة:

"يابنتي، ايحمي"ارحمي" أمي، أنتو النكد ده في دمكم!"

ضحك على آخر كلماته بسخرية ثم فتح باب سيارته ولمح أخرى كبيرة تتجه نحوه من بعيد بسرعة قوية، قاصدة أن تصطدم به، قاصدة «أنس».

              الفصل التاسع والعشرون من هنا

لقرءاة باقي الفصول من هنا

تعليقات



<>