رواية تشابك ارواح
الفصل الحادي والثلاثون31
بقلم امينة محمد
«دوى انفجار»
تذوقت مرار الغيرة التي نشبت بقلبي، فلم أستطع أن أمنع نفسي من إخراج تلك الشحنات التي لم تتركني ولم ترأف بحالي، كبركانٍ ظل مطولًا يثور ثم انفجر وهوى بالجميع.
_"سيلي؟ ووحشتيني، يا ماشاء الله!"
قالها بسخرية بالغة غلفتها الحدة، ثم فتح الرسالة ليرى بأنها الأولى في المحادثة وما قبلها كان من فترة طويلة، تقريبًا منذ أن أتت لهنا، بينما هي اعتدلت في جلستها تنقل بصرها من عليه ثم للهاتف ثم له مجددًا، ونبست بتوترٍ:
"هفهمك، أنا بس لما خدت الفون طلعت من الـgroups، فتقريبًا وصله فبعت المسج دي، يعني زي ما أنت شايف كدا"
أومأ برأسه وكاد أن ينهي الموضوع من ناحية هذا الحقير ليبدأ بالتحدث معها، ولكنه وجد الرسالة التالية تصلها؛ «وحشتني السهرات معاكِ يا جميل أنتَ، الرقص والليالي الحلوة!»
لمحت العروق تظهر في رقبته، وفي ذراعيه، يبدو بأن الدماء تفور في جسده بأكمله، نظر لها بحدة ثم للهاتف مجددًا ودوّن«قابلني في **** بكرا الساعة 10».
دوّن له عنوان قريب من الحارة وانتظر إجابة «عمار» الذي كتب: «خلصانة موافق، مقولتليش برضو اختفيتِ فين؟ أوعي تقولي إنك اتجوزتِ؟»، كان هنالك بعض الكلمات خاطئة في كتاباته، فرفع «مروان» حاجبه يقول ساخرًا:
"مبيعرفش يكتب كمان، تبارك الله"
ثم كتب له ضاغطًا باصابعه على لوحة المفاتيح بقوة؛ «هقولك بكرا، مفاجأة كدا حلوة».
«واو، وحشتيني أنتِ والمفاجآت يامزة، ولو اتجوزتِ يعني، peace جوزك يجي يقضي معانا السهرات اللذوذة!»
_"أنا هوريك السهرات دي هتبقى قد إيه لذوذة"
قالها بينه وبين نفسه، ثم أغلق الهاتف ورفع بصره لها ليجد الدموع على خديها، قوس حاجبه مُتسائلًا:
"أنتِ بتعيطي ليه دلوقتي؟ هو أنا اتنفست لسه، أنا بس هفهمه بكرا إن ده غلط، عشان أنتِ التليفون هيفضل معاكِ وعشان ميحاولش يرخم عليكِ تاني!"
حاول السيطرة على غضبه الذي سيطر عليه هو شخصيًا، ثم زفر بضيقٍ وهو يمسح على ذقنه قائلًا:
"أنا مؤدب بس هما بيطلعوا الشخص اللي متربي في الحارة ده غصب عني"
أومأت له برأسها فقط، تحاول تجميع كلماتها لتشرح له ما بداخلها وعن كل شيء أرادت أن تخبره به، ولا شك أن التوتر غلف كيانها بأكمله:
"هفهمك، أنت عارف يعني علاقتي بيهم، كانت مختلفة شوية عن هنا.."
_"كانت حــرام يا سيليـن، متحطيش المختلف تحت بند الحرام أبدًا!"
قاطعها بصرامة لتومئ له برأسها، وأردفت تُكمل له حديثها بعدما حاولت أن تسحب نفسًا عميقًا لرئتيها:
"كانت حرام يا مروان، منهم عمار ده يعني كان فيه بينا شبه انجذاب شوية، بس والله والله أنا بحاول أنسى كل ده عشان أبدأ صفحة جديدة معاك في كل حاجة حلوة زي حياتك، ممكن تنسى إنه كلمك، ومتقابلهوش ولا تعمله حاجة، هعمله بلوك والله صدقني"
لسوء حظ «عمار» الذي آبى الصمت فزاد من النار التي بداخل «مروان» بشكلٍ أكبر برسائله التي وصلت بشكلٍ متالي؛«سيلي ما تيجي ننزل نتقابل دلوقتي نروح أي مكان»، «وحشاني بشكل مش معقول، really i miss you»
ابتسم «مروان» بسخرية ثم أغلق إتصال الإنترنت عن الهاتف وهو ينبس بعدما أخرج صوتًا ساخرًا:
"هه Really هتندم، أتقل عليا!"
رفع بصره من الهاتف نحوها فوجد الاختناق يعتلي ملامحها، خاصةً مع تذكرها لكل ماضيها الذي عانت في نسيانه وهي هنا معه، وكأنها كانت حياة مختلفة عن هذه الحياة التي تعشها، وكأنها ولدت بشكلٍ جديد يُنسها كل الماضي.
عندما يحب الله عبدًا؛ يُنسه كل ماضيه المملوء بالذنوب كأنه لم يكن، عندما يحب الله عبدًا؛ يجعله يعش على أمل جديد، وحياة جديدة.
_"مالك؟"
سألها بنبرة حملت الدفئ وهو يعلم أن ما بداخلها متأجج الآن، فأجابته بعدما حاولت تجميع كلماتها مجددًا:
"أنا والله بحاول أنسى كل ده، أنا بعترف إني عملت ذنوب كتير أوي في الماضي، بس أنا مليش ذنب، أنا كانت دي حياتي وعيشتي أعمل إيه"
أحاطها بيده نحوه يعانقها، بينما يربت على ذراعها بحنانٍ وتنهد بثقلٍ:
"عارف ده، وأنا مقولتش حاجة ولا بلومك، متقلقيش كل حاجة هتكون كويسة، والماضي ده هيتمحي للأبد ان شاء الله، ربنا بيبتلينا كلنا بحاجات كتير والشاطر اللي يقدر يعديها ويقدر يتعلم من خطئه!"
استندت برأسها على صدره، تستشعر دفئه الذي أحاطها بهذا العناق، ثم استرسلت في الحديث بتنهيدة:
"عارف؟ أنا اتصدمت فيهم كلهم لما خدت فوني منك وفتحته ملقتش من أي حد منهم أي مسج، حسيت إني مقهورة وأنا قولت أكيد كانوا هيكونوا قلقانين عليا وعلى اختفائي كدا، يعني مكنش فيه غير مسج واحدة من صحبتي اللي كنا مسافرين سوا وكنت هشيل أنا مصاريف سفرها معايا، سألتني قالتلي مش هنسافر ولا إيه، مسألتش حتى فينك ولا عاملة إيه، كلهم اللي كنت يعتبر كل يوم معاهم محدش فيهم كلمني، اكتشفت إني كنت في المكان الغلط، اكتشفت إني كنت مع ناس غلط، في ظروف كلها غلط في غلط، كل واحد فيهم كان شايف فيا مصلحة وخدها!"
خَيبات كثيرة،
وأقسَاها خيبة الخِذلان
خذلان صديقي لقلبي!
خيبات تجعلني انغمس في حزني لأيامٍ طوال.
أكملت على حديثها بخيبة كبيرة لم تقوى على تخبئتها في نبرتها، وتمسكت به أكثر كأنه النجاة لها من الغرق:
"كان نفسي حاجة تكون صح في حياتي والله، لا دين صح ولا عيلة ولا صحاب ولا أي حاجة خالص، ولا أم، ماما وحشتني أوي، يمكن أنا كنت عمالة أبين إنه كله كويس بس أنا بعيط كل ليلة قبل ما أنام عليها وعشانها، بعيط على قلة الثقة اللي اتعرضت ليها معاه، وعشان حبها له واللي انتهى في لحظة لما قتلها!"
شدد على عناقه لها مُربتًا على قلبها، يقال أن لغة العناق حنونة على القلب، لا يمكن أن يعلو عليها أي شيء في المواساة، نبس بحنو بالغ بكلماته:
"كل دي ابتلاءات من ربنا وربك عوضك بعد كدا بحياة شبه دي أنتِ فيها مبسوطة ومرتاحة، متأنبيش نفسك على حاجة شبه دي خلصت خلاص، شوفي عايزة تعوضي إيه في حياتك دي دلوقتي وفي المستقبل وعوضي فيهم بكل اللي في بالك وكل أحلامك، متزعليش ها!"
تنهدت بضيقٍ حاولت إخفاءه لترضيه الآن، ثم رسمت ابتسامة على فمها ورفعت بصرها له:
"طب أنا جعانة أوي!"
ابتسم لها يومئ برأسه وتحرك ناحية المطبخ، يفكر بينه وبين نفسه في كل شيء يراوده الآن عندما تعرض لاختبار جديد رفقتها، اختبار الغيرة التي أكلت صدره ونهشته، لدرجة أنه يود أن يفتك بذلك الشاب دون أي مبررات، يود أن يفتك به لمجرد أنه تخيل أنها كانت رفقتهم في ملامسات محرمة.
السبل للوصال مرهقة، مؤرقة، متعبة، والسبيل في وصالك أنت فقط؛ مريح، دافئ.
_"نــادر اتقتـل!"
قالها «شوكت» مصدومًا عندما وصله الخبر من «إياد» للتو، بينما هي توسعت حدقتيها بصدمة ووضعت يدها على فمها تمنع صوت شهقاتها، وحده هو من هلل قائلًا بعينين لامعتين بسعادة:
"يافرج الله يادعوات أمي اللي أُستجابت والله، يافرج الله!"
حرك بصره تلقائيًا لها يطالع صدمتها وسؤالها:
"اتقتل إزاي؟"
شعرت بأن العالم صغير، العالم بأكمله وليس المدينة التي تقبع بها، شعرت بتداخل الجدران لبعضها وعلى قلبها، ليت اليوم الصعب هذا ينتهي.
_"بيقولوا لاقوه في شقته مقتول، وجنبه واد من اللي بيشتغل معاه، معرفش التفاصيل!"
قالها «شوكت» بأسفٍ قوي، بينما هي لم تجد نفسها سوى وهي تجهش بالبكاء بلا توقف، الضغط تزايد عليها من جميع الجهات، من داخلها فهي تشمت لموته لأنها نهايته، ولكن من الخارج بدى لهم بأنها حزينة عليه.
وعند رؤيته لتلك الدموع الساخنة تهبط على خديها، حزن بشكلٍ قوي لأن عقلها مازال مع الآخر، ولكن سقط الخذلان الحزين الذي تمكن منه عندما قالت:
"كنت عاوزاه يتعذب قبل ما يموت، كنت عاوزة أشوف في عينه نظرة العجز زي ما كان عامل فيا"
عند هذا الحد شعر بالفخر تجاهها، شعر بأنه يود أن يقف هنا ويصفق لها أمام الجميع على حديثها ذلك، ولكنه سيطر على السعادة الداخلية تلك لتظل بداخله ونبس لها يحاول مواساتها:
"بصي، هو دلوقتي بين ايد ربنا هيتعاقب على كل أفعاله، متفكريش فأي حاجة دلوقتي غير في نفسك وإزاي تكوني كويسة، وبعدين أنا سمعت إنك هتخرجي من المستشفى بكرا، ده كويس عشان تبدأي خطوة جديدة بعيد عن الكل، أهدي يارزان"
أقترب والدها هو الآخر وضمها له حيث الحنان والأمان كله، يوصد عيناه بتعبٍ عما أصاب ابنته من شقيقتها، يشعر داخليًا بالعذاب يقطعه لأشلاء لعدم قدرته على إفشاء الحقيقة حتى يحاول هو من نفسه إصلاحها، ولكن كيف والطرف الآخر به الشرور جميعها.
_"أهدي يارزان ياحبيبتي، لعله خير وربنا خده وأرتحنا منه، شوفي نفسك في إيه واعملهولك، عاوزة تسافري هسفرك، شوفي عاوزة تروحي فين وهوديكِ"
عندما نطق بكلمة السفر وفتح تلك السيرة أمامها الآن، أي سفر يقول وأي مسافرة سترحل عنه، أردف بتلبكٍ واضح عليه:
"لا مافيش سفر ولا بتاع، وهي هتكون كويسة هنا ان شاء الله!"
داخلها ينقصه الأمان، وداخله مملوءًا بالخوف،
داخله ينقصه الراحة، وداخلها مملوءًا بالشقاء،
وعلى الأرجح كلاهما سيكونا وصلة كمال لبعضهما.
مررت بصرها على «روان» الساكتة ببعض الاستغراب من داخلها، ثم له مجددًا وهي تومئ برأسها:
"مش هسافر، أنا عاوزة أخرج بكرا وأروح ازور طنط، ممكن تاخدني عندها بكرا ياحمزة؟"
قصدت أمه، فتلك السيدة هي عاشت معها أيامًا عوضت قلبها عن كل العذاب الذي رأته في حياتها، وأذاقتها من الحنان ليغرق قلبها.
ابتسم لها باستجابة لطلبها، ثم لوالدها وعاد نحوها مجددًا يدعو بداخله أن يمر كل شيء على خير.
كانت كالمغناطيس الذي جذبه نحوها، شعر بأنها مختلفة تمامًا عن الآخرين، وذلك ما جعله يود أن يكن معها، رفقتها.
عائدون وكلنا جراح، حيث الآلام تزايدت، والجراح تفتحت، ونقطة الصفر ترحب دومًا بالعائدين لها.
يحاول أخذ الحنان من أمه قدر الإمكان ليستطع أن يكمل في الحياة ساعيًا لأجل حقه الذي هدر للكثير من الوقت، فمهما كبر الإنسان سنًا وبلغ قدرًا كبيرًا يعود لأمه ليستلهم منها الطاقة والحنان، الحب والعطف.
صعد لشقته وولج للغرفة التي بها، جلب الكرسي بيده ووضعه جوار الفراش القابعة هي عليه، جلس عليه يستند يطالع الكدمات التي فعلها على وجهها بتشفي:
"كنتِ شيفاني إزاي تعبان ومبعرفش أنام، كنتِ شايفة ضعفي وأنا جاي اترمي في حضنك وأقولك تعبان، ومكنش بيتهزلك شعراية عشاني، تقدري تقوليلي بقى جبتي الجحود ده منين، ده أنتِ مريضة ياشيخة!"
ابتسمت بسخرية وهي مستلقية مكانها ومازالت ابتسامة السخر تعلو على وجهها بقولها:
"معلش، أصلك مكنتش مكاني لما حبيتك من سنين، وأنت معبرتنيش، مكنش ينفع اضيعك مني ومش هضيعك يا آسر ... ولو لزم الأمر هعملها تاني وتالت عشان تكون معايا، ومرام.. عندي إستعداد أعملها الأبشع وأخليها تموت كمان"
ضحك عاليًا، لم يستفزه حديثها لأنه يعلم أنها بأمكانها فعل ذلك، ولكنه قال بأسفٍ شديد عليها، بسخطٍ كبير:
"كانت بتعتبرك أختها، وعمرها ما حاولت تفرق بينا برغم أنها بتحبني بينها وبين نفسها من زمان، من واحنا لسه عيال، بس أنتِ صعبانة عليا أوي، خسرانة دنيتك وآخرتك، صدقيني نفسي أطلع فيكِ كل غلي، كل حاجة جوايا أخليكِ تحسي بيها، بس أنا راجل وهتعامل معاكِ معاملة الرجالة، وطلاق وهطلقك، بس أعيشك الأول تأنيب الضمير اللي هياكل فيكِ يارنا!"
تحركت من مكانها سريعًا كما الملدوغة من شيء عندما وجدته يتحرك من مكانه، جلست أمامه أرضًا وأمسكت به بقوة تترجاه ببكاءٍ وعويل:
"لا يا آسر متسبنيش، أنا قولتلك مش هضيع حبنا ده، متسبنيش يا آسر والله مينفعش، أنا بحبك أوي، لو عشانها والله أقتلهالك والله"
أبعدها بدفعة قوية عنه، ونظر لها بتشفي ثم تحرك يغلق عليها باب الغرفة بالمفتاح ثم تحرك نحو شقة الثانية، نحو شقة التي تحمل الترياق للسم الذي به.
طرق الباب ففتحت له سريعًا تطالعه بمقلتيها الخضراء التي لمعت عند رؤيته، ولج أمامها وأغلق الباب ثم جذبها لأحضانه بقوة، لا يود أن يبتعد عن هنا، منذ العناق الأول وهو يرى بها كل الأمان، وكيف لا وهي حب طفولة أضحى على حبه، ولكن كان للسحر أسلوبًا آخر في تفرقتهما.
كانت يديها في خصلاته من الخلف، تستشعر ذلك الدفء الذي بينهما بتنهيدة حارة، عاشت هادئة مسكينة، وكان هو سندًا يحميها، وفجأةً شعرت بأنه هو الخوف وليس الأمان، ثم الآن؟
عاد الأمان لأحضانها.
_"أنت كويس؟"
سؤال تسأله له باستمرار، كيف يخبرها أنه ليس بخير، ولكنه الآن شعر أن الخير كله هي؟
ابتعد عنها قليلًا يطالعها بابتسامة واسعة وهو يومئ برأسه:
"كويس متقلقيش، أنا النهاردة كويس جدًا، عشان اكتشفت الحقيقة من الخداع، وعشان أنا مش هسيبك تبعدي عني وأخسرك زي ما خسرتك قبل كدا، هتكوني معايا على طول ان شاء الله"
_"بس اتفقنا على طل.."
كادت أن تعترض ولكنه وضع يده على فمها يمنعها بتقوس حاجبيه قائلًا بسخطٍ:
"لأ، مش هطلقك ومش هسيبك لغيري، خلاص يا مرام، مافيش الكلام ده!"
تنهدت بقوة وأبعدت يده وهي تخبره عما بداخلها الآن بهذه اللحظة تحديدًا:
"بس إحنا فيه بينا توتر وحوارات كبيرة يا آسر مبقناش ننفع لبعض تقريبًا"
زاد التقوس في حاجبيه، وظهر الضيق على ملامحه، وأجابها بصوته الحانق وهو يجذبها نحوه بشكلٍ أكبر:
"أخليه ينفع، متقلقيش أنتِ وخلاص سيبيلي كل حاجة، المرة دي كله في أيدي، تمام؟"
أومأت بضعفٍ أمام المقلتين الخضراوتين هي الأخرى، غارقة في غابات عينيه التي سلبتها، وأتخذت طريقًا آمنًا بالنسبة لها عندما وضعت رأسها على صدره مستندة كما المتعب من صراعات الحياة.
بينما هو رحب بكل أريحية بذلك الفعل المحبب لقلبه، مرحبًا بها في قلبه بأكمله، وبكيانه.
تدور الحياة من شخصٍ لشخصٍ، لا تترك من كان الاستهزاء سبيلًا له، يدور الدّيْن فكما تدين تدان، وكما تشمت يُشمت بك.
_"يلهوي يلهوي، يلهوي عليا وعلى سنيني"
لطمت بصمتٍ وبكاءٍ حاولت منع صوتها، وقعت في كارثة كبيرة شبهت الخاصة بأختها، الفتى الذي كان تتحدث معه هو الآن يهددها بصورها، ولكن هذه المرة بصور هي من أرسلتها له.
ولج «محسن» للغرفة صدفةً ليسمع صوت عويلها فأقترب سريعًا منها يسألها بصرامة:
"مالك يابت أنتِ، بتعيطي ليه؟"
تلبكت بشدة ورجف قلبها، كيف تخبره بالحقيقة، بالتأكيد سيقتلها كما كاد يفعل بأختها، لم تجبه فعاد يكرر السؤال بصوتٍ عالٍ:
"بقولك مالك يا بت أنتِ، انطقي ياتارا!"
أتت على صوته «تسنيم» فزعة وهي تنظر لهما بصمت، فهي لم تعد تتحدث معهما منذ آخر مصيبة حدثت إلا قليلًا جدًا، ولكن الآن يبدو الأمر كبير.
كان هاتفها مفتوحًا بيدها المرتجفة مما جعل «محسن» ينتبه له ونظر نحوه بصدمة وهو يرى صورها بملابسها المنزلية، توسعت حدقتاه وأمسك الهاتف يقرأ المحادثة بينها وبين ذلك الحقير، ولكن الأمر الآن واضحًا كما ضوء الشمس.
_"نهار أبوكِ أسود!"
قالها بصدمة ورفع يده ليصفعها ولكن وقفت «تسنيم» سريعًا أمامها تحمي أختها الصغيرة وتمسك يده قبل أن تهوى عليها:
"أهدى لمرة واحدة في حياتك وأتصرف صح، أهدى بالله عليك يا شيخ، كفــاية، أهدى واحمي بنتك بدل ما تضربها وتخوفها"
قالتها بترجي باكية عمّا أصاب عائلتها وكيف تفرقوا، فلا شك أن الود لن يعود مجددًا ولكن على الأقل ليكون هناك أحترامًا متبادل.
التفتت تحتضن «تارا» وتسألها بنبرة تحاول السيطرة بها على بكاءها:
"أهدي وأحكي مين ده وحصل إيه، أحكي عشان نساعدك، أبوكِ وأخوكِ هيساعدوكِ!"
كان يطالعهما بحقدٍ كبير، حاول السيطرة على نفسه ليرى ما نهاية هذا الطريق، وتابع «تارا» تقول بارتجاف ونبرة مرتبكة باكية:
"بصي، هو كان كان زميلي، وأنا بحبه وهو كمان بس فجأة بقى بيهددني بصوري دي وأنا والله ما أعرف إنه هيعمل كدا، أنا كنت بحبه يا تسنيم وواثقة فيه!"
ضحية أخرى، ضحية ارتباط غير شرعي كان نهايته مأساوية.
كان وصول «تامر» في ذات الوقت الذي كانت تتحدث فيه، أقترب لهم وطالعهم جميعًا، ثم سأل بجدية وحدة:
"اسمه إيه وساكن فين!"
أملته الاسم والمسكن بخوفٍ وأخذ الهاتف من أبيه وقرأ ما دار بينهما مؤخرًا، ثم نظر لوالده الذي كاد أن يتحدث يقاطعه بقوله:
"هتتحل برضو ان شاء الله، حاول تهدى كدا ومتضربش تارا، إحنا مبقناش صغيرين عشان كل ما واحدة فيهم تغلط تضربها"
_"وده عاجبك يعني اللي حصل ده عاجبك، اتفلقوا كلكوا، بس الحوار ده لو طلع برا البيت لأقتلها، راسي متنزلش في الطين أبدًا فاهمين؟"
قالها ساخطًا وخرج من الغرفة بينما هي كانت تحتضن أختها بقوة وهزت رأسها بتنهيدة:
"مش هيتغير أبدًا، خلاص بقى طبع فيه"
أومأ لها برأسه وتحرك من المنزل حيث ذلك الحقير ليؤدبه، وكان رفقته صديقًا له لأن الوقت الآن متأخرًا فلم يقوى على التحدث رفقة أي شخص من الشباب.
الكوابيس تحتل العقول كما القلب يحتل الصدور، لم يجد مفرًا منها، ولكن هذه المرة كان كابوسًا بدايته سيء ونهايته جيد.
استيقظ صباحًا وهو يعافر في النوم، وكأنه بحرب هو المحارب الوحيد بها، وكوابيسه كلها تقف ضده.
تركها نائمة وتحرك بهاتفها يرسل «لعمار» رسالة بالمكان الذي سينتظره به، ثم سحب عود الثقاب ووضعه بفمه وغادر المنزل نحو المكان الذي سيلتقي به بذلك.
وصل ينتظره حتى وصل «عمار» الذي توقع أن يكون شابًا ساقطًا حقيرًا، كان يضغط على عود الثقاب وهو يطالعه يتفحص المكان باحثًا عن «سيلين»، وعندما لم يجدها أخرج الهاتف واتصل بها ليصدر الهاتف صوتًا بجيب «مروان» مما جعل «عمار» ينتبه له ويطالعه باستغراب، بينما الآخر نظراته كلها استمتاع.
_"زمن الشقاواة ده رجع تاني، بس وماله، عامل إيه؟"
قالها «مروان» متشدقًا وهو يطالع الآخر بنظراتٍ مملوءة بالتحدي، فسأله الآخر باستنكار:
"أنت مين؟"
_"نسيت أعرفك بيا، مروان عبدالمجيد.. جوزها، مش أنت امبارح قولتلها لو اتجوزتِ نجيب جوزك يستمتع معانا، أنا أهو جيتلك بنفسي ومش حرمتك من حاجة"
كان يتحدث بينما يتقدم نحوه بكل برودٍ متلاعبًا بأعصابه:
"ماعلينا أنا جاي بس أعرفك بيا وأديك كلمتين في جنابك يمكن ربنا يهديك، مراتي خط أحمر أصل زي ما أنت شايف أنا راجل حامي شوية، شويتين، كدا يعني، ولو إني مكنتش عاوز اعملك قيمة بس معلش عشانها بس وعشان متفضلش شايلة هم إن حد يرخم عليها منكم، فبلغ صحابك المعاتيه يبعدوا عنها، وأنت أولهم!"
_"هو أنت خاطفها ولا إيه، فين أونكل وليد من كل ده، أنا هبلغ عنك!"
قالها «عمار» محاولًا التعصب على «مروان»، فقابله بلكمة قوية في رأسه جعلته يشعر بالدوار في وقفته، فسانده «مروان» بكل سخطٍ ساخر:
"تؤ تؤ، طلعت عيل ياجدع متحملتش روسية واحدة، دي بس عشان لما تبلغ تقولهم ضربني بالروسية فيصدقوك، يلا ياحبيب قلبي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!"
ثم غادر متوجهًا نحو المقابر، وهو راضيًا من الداخل عما فعل، وصل تحديدًا أمام مقابر والديه و«عهد»، ينظر لهم جميعًا بتتابع ثم تحدث بصوتٍ ضعيف ولكن غلّبه بابتسامة خفيفة:
"السلام عليكم، جتيلي الصبح في الحلم يا أمي، كان شكلك جميل، أنا عارف إنك بتوصيني عليها وعارف إنك عايزاني اتمسك بيها، أوعدك بـ ده والله، بس متبطليش تزوريني عشان بتوحشيني أوي، نفسي أكون معاكم بس أنا عارف ليا يوم، وفيه حد متعلق برقبتي دلوقتي مينفعش أسيبه!"
أغمض عيناه يحاول أن يتنفس الصعداء، ثم انتبه لرنين هاتفه من «حمزة» الذي أخبره بمقتل «نادر» وأن التهم كلها تذهب نحو «وليد» ومن غيره سيفعلها
انقلب السحر عليهم، إذًا سيصل للجميع الآن، فهما كانا سويًا في الشر، والآن يبدو أن الأمر تزايد بشكلٍ كبير لن ينتهي بهدوءٍ.
غادر نحو منزله حيث من تنتظره هناك طوال الوقت، دلف بخطى غير متزنة للمنزل بعدما فاض به كل ماحوله من كوابيسٍ وضغوطٍ بالحياة؛ لينعم ببعض الحنان والراحة جوارها، بحث بعينيه عنها وعلِم أين ستكون في هذا الوقت؛ بمكانهما المفضل - الركن الخاص بالصلاة-، وبالفعل كانت تجلس ترتدي ملابس الصلاة وممسكة بيدها المصحف تقرأ منه بصوتٍ خافت وابتسامة تعتلي ثغرها.
اقترب لها فشعرت فورًا به ورفعت رأسها:
"مروان، حمدلله على سلامتك!"
جلس أمامها وهو يطالعها كأنه يشُبّع عيناه من النظر لذلك الجمال الأخاذ الذي تمتلكه، لاحظت نظراته مطولًا ناحيتها فاعتلت على فمها ابتسامة حانية خجلة وهي تهمس:
"أنت بتبصلي كدا ليه؟"
_"بملي عيني منك ياست سيلين"
قالها وهو يستلقي على الأرض واضعًا رأسه على فخذيها يستمع لنبرتها الحنونة:
"يابختي بيك"
ابتسم وهو يغمض عينيه عندما شعر بيدها تتسلل نحو خصلاته تداعبها بشكل حنون، وسمع نبرتها القلقة تسأله:
"أنت كويس يامروان، هو أنت كنت فين من بدري؟"
صمت احتلهما لثوانٍ حتى همس هو بتنهيدة عميقة:
"أنا تعبان، سيبيني بس كدا شوية وأنا هكون كويس"
_"ربنا يريح قلبك وينزل عليه السكينة يارب"
قالتها بحبٍ بالغ نبع من داخلها وهي تدعو من قلبها بينما هو أغمض عيناه واستمع لصوتها الخافت يقرأ القرآن مجددًا ويدها التي تمسد على شعره بحنانٍ كأنها تواسيه بكلام الله عز وجل، وبقربها له.
غاص في نومه الذي أقلقه الكوابيس مجددًا، لا تغادره هذه الفترة بالأخص، كأنه يشعر بأنها ستُسلب منه وهو وجد الأمان الآن واستقر، الأرض التي أينعت بالحياة لن يسمح لها بأن تموت مجددًا.
شعرت بقسمات وجهه تتغير نحو الضيق فهمست بقلقٍ:
"مروان، أنت كويس؟"
ربتت على كتفه لتجعله يستيقظ لشعورها بأنه بالفعل تراوده الكوابيس.
استيقظ سريعًا بأنفاسٍ عالية وهو يطالعها كأنه خشيّ فقدانها، وكان ذلك بسبب الكابوس الذي أتاه صباحًا، همس بضعفٍ:
"أنتِ كويسة؟"
أومأت له برأسها ورفعت كفها تضع على خده بحنانٍ:
"كويسة، اهدى يامروان.. مالك في إيه؟"
_"أنا خايف، خايف من كل حاجة بتحصل اليومين دول ياسيلين، حاسس إن فيه حاجة وحشة هتحصل ومش قادر أفهم هي إيه، خايف اخسرك بعد ما أخيرًا لقيت اللي يحتويني ويطبطب عليا ويديني الأمان اللي كنت فاقده لسنين، أنا مش عاوز أخسرك ولا عاوز أرجع تاني للأي كنت فيه"
اغرورقت عينيها بالدموع لفكرة أن تخسره هي الأخرى، ولكنها حاولت أن تتصنع الثبات الآن لأجله، مرة واحدة لأجله فهو ثابت لمرات طوال لأجلها:
"اهدى والله ما هيحصل حاجة، أنا معاك وهنفضل علطول سوا، في إيه حصل مخليك قلقان كدا؟"
جذبها يعانقها وهو يهمس بنبرة مختنقة:
"أبوكِ مش ناوي يجيب أي حاجة لبر يا سيلين، أنا كنت الأول مبعملوش أي حساب ولا فارقلي، بس دلوقتي بقيت بعمله ألف حساب عشانك!"
ربتت على ظهره بحنانٍ بالغ وداخلها خوف من القادم هي الأخرى، فهو معه حق والدها يخطط ويخطط وسينفذ كأفعى سامة ستنشر سمها بالجميع:
"متقلقش، معتقدش لسه عنده حاجة يعملها وأحنا سوا، متقلقش يامروان"
سحب نفسًا عميقًا وقبلها على رأسها ثم وقف في مكانه قائلًا:
"أنا نازل أشوف المحل وحاتم، ممكن أقفله وأطلعلك كدا!"
_"متتأخرش"
قالتها بابتسامة خفيفة ليومئ لها ثم تحرك نحو المحل بقدمٍ يؤخرها وأخرى يقدمها، وصل عنده وصافح «حاتم» بابتسامة خفيفة وأخبره بأنه سيغلق المحل الآن لأنه متعب، وأن اليوم عطلة لهما سويًا مما جعل «حاتم» يغادر بعدما دعى له بابتسامة.
بينما الآخر وقف يغلق الخزنة الخاصة بالمحل وأمامه شاشة تعرض له ما تصوره كاميرات المراقبة، فوجد سيارة تقترب من المحل ونزل منها أربعة رجال، تحرك سريعًا ليرى من هؤلاء.. بخطى سريعة نحو الباب، دوى صوت إنفجار زلزل الحارة بأكملها، دوى الانفجار بمحله.
