رواية تشابك ارواح الفصل السابع والثلاثون37بقلم امينةمحمد

رواية تشابك ارواح
الفصل السابع والثلاثون37
بقلم امينةمحمد
تضع بك الحياة الكثير من الكوارث فتغلق على نفسك كبئرٍ يرمي كل المارة به أشياء عدة، حتى تصل تلك الأشياء لفوهته فينفجر، كبركانٍ ظل طويلًا في تقلبات نارية حتى انفجر فحرق الجميع.
كان «حمزة» مازال في سيارته بعدما اوصل «مروان» وزوجته، ممسكًا بهاتفه الذي ظل مترددًا في الإتصال بها أم لا، ظل ينتظرها تجيب حتى وصله صوتها المهزوز، تساءل باستغراب وقلق:
"في إيه يا رزان، صوتك ماله، أنتِ كويسة؟"
_"أنا في القسم يا حمزة، أم نادر لبستني قضية غسيل أموال من ورا ابنها"
سمع حديثها بحدقتين متوسعتين مصدومًا، ما تلك المصائب التي توضع فوق رؤوسهم دون رحمة، ما تلك القسوة التي تلقيها الأيام على قلوبهم دون رأفة بحالهم، دون أن تتركهم ولو لقليلٍ من الوقت ليهدئ الضجيج الذي بداخلهم، عرف منها اسم القسم وتحرك سريعًا نحوه دون أن يفكر لدقيقة.
وصل وترجل من سيارته راكضًا للداخل ليجدها تجلس جوار والدها تبكي بحسرة، وبحرقة شديدة عهدها عليها في أوقاتها الصعبة، وأي صعب أكثر من ذلك الذي تمر هي به.
اقترب نحوهما وتسائل بصوتٍ لاهث:
"في إيه يا شوكت باشا، حصل إيه؟"
كان سؤاله موجهًا لوالدها ولكن عيناه عليها هي، التي التقت بعينيها الخضراء التي تحول لحمراءٍ كما الدم.
أجابه والدها واضعًا رأسه بين يديه بتنهيدة قوية:
"جت رمت الورق وجريت يا حمزة، وهما دلوقتي بيحققوا هيعملوا إيه بما إن نادر مات بس الصفقة باسم رزان"
كان واقفًا يضع يد بخصره والثانية بشعره يشد خصلاته بقوة من التوتر الذي وُضع على قلبه، تسائل بصوتٍ قلق:
"طب كلمتوا محامي، أتصل بمحامي؟"
_"كلمنا محامي العيلة وهو هنا بالفعل معاهم، ربنا يستر"
أجابه بتنهيدة قوية، بينما أقترب «حمزة» يحاول أن يربت على قلبها بحديثه وكلماته الغير مرتبة تمامًا ولكنها خرجت من قلبه:
"كل حاجة هتكون كويسة، كل حاجة والله هتكون كويسة ومافيش أي حاجة هتحصل وهتروحي البيت وأنتِ كويسة"
أومأت فقط برأسها، بينما الدموع مازالت تنهمر على خديها دون توقف، فهي لم تعد تحتمل الوقوف على قدميها ولا حتى التقدم في هذه الحياة بعد كل تلك الكوارث.
لمح والدها يتحرك تجاه المحامي، فجلس هو جوارها وتردد في قول ذلك ولكنه قال بنبرة هادئة حملت القوة:
"مش هسيبك، مش هسيبك زي ما أنا مسبتكيش قبل كدا، كل حاجة هتكون كويسة أوعدك"
رفعت بصرها تطالعه بخضراوتيها الحمراء، فبادلها بأخرى دافئة مثل لون عينيه البنية تمامًا، سحب نفسًا عميقًا ثم أخرجه على مهلٍ:
"متقلقيش، مش عاوزك تخافي من حاجة طول ما أنا موجود، عشان أنا مش هسمح لحاجة تأذيكِ ولا هسمح لحد بأنه يعملك حاجة، تمام؟"
لم يقل أحبك، ولكنه عبّر عن ذلك بحديثه وأفعاله،
لم يقل أحبك، بل ساندها وواساها ولم يتركها للظلمات.
أومأت فقط برأسها له، ثم تابعت المحامي مع والدها بينما هو تحرك ناحيتهما يتسائل:
"خير يا شوكت باشا، إن شاء الله خير؟"
أومأ له بتنهيدة ثم تحرك ناحية «رزان» بينما هو وجه بصره للمحامي يستفهم عن التفاصيل:
"معاك حمزة الشافعي، خير ان شاء الله صح؟ التحقيق وصل لإيه؟"
أجابه المحامي -الشاب- بكل بساطة بكلماته:
"كل خير إن شاء الله، معرفكش الحقيقة بس تشرفت بيك، رزان ملهاش أي علاقة بشغل جوزها وتم إثبات ده، معاك المحامي هيثم نبيل خطيب رزان المستقبلي ان شاء الله!"
كانت ابتسامته بالكاد تتوسع على ثغره، إلا إنها اختفت تمامًا سريعًا، ابتسامة لم تأخذ حقها في الظهور ككل شيء في حياته، ككل شيء يأخذ غدرًا في حياته فلا ينل السعادة أبدًا.
أرتجف داخليًا، أرتجف قلبه المسكين الذي لطالما كان يواسيه بأن كل شيء سيكون بخير عما قريب، ولكن يبدو أن الخير لا يعرف له طريق، فلحظات الانكسار تلك تشبه انكسار جناح عصفورٍ صغير للتو تعلم الطيران فلم تدم فرحته.
_"تشـرفت، تشرفت بيــك"
قالها ثم ارتفعت ابتسامة ساخرة على فمه، والتفت يطالعها وهي تعانق والدها بفرحة عارمة، رفعت نظراتها تواجهه فرفع يده يلوح لها بالوداع، فلا لقاء آخر ليُكتب له، إنه الــوداع.
مرحبًا نقطة الصفر، مرحبًا بكِ ها أنا عائد لكِ بعدما وصلت للواحد، ولكنه لم يحتضني كما تفعلين، مرحبًا بالخذلان والألم، مرحبًا بالوجع والقهر.
تحرك سريعًا لسيارته بحسرة وحرقة، يشعر بوجعٍ شديد يحتل قلبه الصغير، أيا قلبٌ لم يعهد يومًا الفرحة والثناء، أيا قلبٌ مات قبل أن يفرح.
لم يلمحها عندما تحركت خلفه سريعًا تراقب سيارته المغادرة بسرعة جنونية من أمام القسم، ماذا أصابه فجأةً؟
أخرج من جيبه علبة السجائر يفرغها جميعها على الكرسي المجاور ثم التقط واحدة وأشعلها وبدأ يتنفس منها بعينين تراقب الطريق الذي يغادره بلمح البصر بسبب سرعته، يتنفس السموم التي ود الآن لو تقتله وتنهيه.
ظل يقود في الطرق بلا مأوى، ظل كما الضائع في منتصف الليل بعقلٍ يحمل الضجيج الذي لا يتوقف.
على الجانب الآخر كانت والدته ترتجف خوفًا عليه، ممسكة بهاتفها تتصل به ولكن دون إجابة، جالسة على سجادة الصلاة تدعو له لإنقباض قلبها فجاةً على ابنها الوحيد وحبيب فؤادها.
لم تجد حلًا سوى وهي تتصل «بمروان» الذي أجاب بصوتٍ ناعس قلق:
"الو يا خالتي"
_"هو حمزة مش معاك يابني؟ أنا فكراكم في المسجد عمالة برن عليه مبيردش"
اعتدل في نومه بهلعٍ من جوار تلك النائمة جواره وشعرت به:
"معايا إيه ياخالتي الساعة 2 ونص، أنا سايب حمزة بقالي ساعتين تحت البيت هنا، هو مجاش من وقتها!"
بكت بحرقة، فكل ذلك الخوف الذي أصاب قلبها ليس بلا فائدة، بل في محله تمامًا، قلب أم تشعر بابنائها وبأحوالهم.
أجابته بصوتها الباكي:
"أنا قلبي مقبوض عليه يا مروان، حمزة ابني فين يابني"
ابتلع غصته وتحرك سريعًا نحو الخزانة خاصته يُخرج معطفه منها ويرتديه على ملابسه البيتية:
"هشوفه والله وهرجعه لحضنك، استهدي بالله الله يكرمك ياخالتي، استهدي بالله وادعي كتير ربنا يرجعه سالم ليكِ"
وبعد محاولات من تهدئتها أغلق الإتصال وطالع «سيلين» بملامحها الناعسة المستغربة:
"أنا نازل أشوف حمزة عشان مرجعش البيت من وقت ماكنا برا، نامي ومتفتحيش لحد خالص مهما خبط عليكِ، أنا كدا كدا هاخد مفاتيح الشقة!"
_"متتأخرش"
قالتها بتنهيدة ليومئ لها بابتسامة ثم تحرك من المنزل في ذلك البرد القارس، قلبه يدعو لصديقه، ولسانه يردد بذلك أيضًا، عقله يتخبط في مكانه بخوفٍ شديد.
هذه المرة الثالثة الذي يرن عليه ولا يجيب، وفي الرابعة أتاه صوته مختنقًا:
"أيوه يامروان!"
تنفس الصعداء عندما سمع صوته بخير، فالتالي مقدورًا عليه يكفيه أنه بخير فقط:
"أنت فين يا حبيبي، أنا مش سايبك ياحمزة تحت البيت على أساس طالع لخالتي، دي مرعوبة عليك"
_"قولها إني كويس، أنا حابب أكون لوحدي مش عاوز حد"
قالها ببساطة شديدة وبنفس الصوت المختنق، ولكن صوت الحنية الخارج من حنجرة «مروان» جعله يستسلم بسهولة:
"ماشي مش هجيب معايا حد، قولي أنت فين وهجيلك"
تَقصد أن يوصل له بأنه ليس أي أحد في حياته، هو استثناء فقط، جعله يخبره عن مكانه بسهولة، ولكنه أخبره بأنه سيأتي ويأخذه من الحارة بالسيارة، وبالفعل ربع ساعة مرت ووصل أمام «مروان» الذي تحرك وفتح الباب ليجد السجائر مازالت مبعثرة ورائحة السيارة كلها دخان، أمسكها جميعها وألقاها بالخارج ثم جلس على المقعد فتحرك «حمزة» بالسيارة سريعًا مجددًا وهو يقول بصوتٍ متعب:
"كان عندك سجاير، حطها قدامك"
_"لا رميتها في الشارع"
قالها بكل بساطة ليبتسم «حمزة» بسخرية، توقع أن يفعل صديقه ذلك، فهو عانى رفقته لأجل أن يقتلع عن التدخين.
كان يطالعه ثم ألقى عليه سؤاله بهدوءٍ دون تطرق لأي مواضيع قد تؤلم الآخر:
"تحب أسوق أنا مكانك، وهسوق بنفس السرعة متقلقش أنت عارف إحنا كلنا عندنا نفس الجنونة دي"
تعمد أن يُخرجه من حالته تلك، ولكن «حمزة» يحفظه عن ظهر قلب، إن قاد سريعًا لدقائق لا يفعلها لساعاتٍ كما يفعل:
_"لا، أنت خايف على حياتك ولا إيه، No risk no fun يا مروان، لو موتنا هيبقى قدرنا!"
زاد من السرعة ليتمسك «مروان» بالباب ثم همس بينه وبين نفسه بأن يسترها الله معهما، وأكمل بنفس النبرة البسيطة:
"متقلقش أنا مش خايف، لو قدرنا نموت سوا كدا أنا موافق، ولو هفديك بعمري هعملها، بس خلينا نقف ونتكلم أنا وأنت سوا شوية، وبعدين ياسيدي لو لينا نصيب نموت محدش بيقول للموت لا، بيخطف البني آدم على طول"
أجابه الآخر ببساطة:
"اتكلم طيب!"
_"مبعرفش أتكلم وحد بيسوق"
قالها هو الآخر متحججًا بذلك، ليقهقه «حمزة» ساخرًا:
"أنا اللي سايق مش أنت!"
_"ما أنت مبتعرفش تتكلم وأنت سايق برضو"
هذه المرة تفوه بتلك الكلمات بنبرة سريعة، لأن السرعة أصبحت أكثر جنونية، ولا يعلم أين هما الآن بالأساس؛ «فحمزة» سلك طرقًا مختلفة عن بعضها.
_"أنت ليه كلامك على طول بيقنعني"
قالها «حمزة» وهو يلقي نظرة على «مروان» الذي طالعه بتنهيدة ومد يده ليدير وجه «حمزة» للطريق، ثم أجابه ببساطة:
"عشان أنت بتحبني، ولو عاوزنا نتكلم عالأقل قبل مانموت وقف العربية على أي جنب وأنزلي راجل لراجل"
أوقف «حمزة» السيارة بنفس السرعة مما جعل «مروان» يتلفظ بالشهادة معه، يعلم أن صديقه مجنونًا ولكنه لم يعهده مجنونًا كما الآن، ولكنه أكثر شخص يعلم أنه ليس بخير!
ترجلا سويًا من السيارة ووقفا قبالةً بعضهما، وكأنهما مستعدين للنزال، ولكن في النهاية استندا على السيارة بكل سخرية، ليردف «حمزة» بسخرية متوجعة:
"عارف؟ الدنيا دي صغيرة أوي، كلها أيام بتعلم القساوة أكتر ما بتعلمك إزاي تعرف تعيش، دنيا صغيرة آخرها متر في متر بس كله بينهش فيها في كله وكأنها باقيالهم"
_"الطمع عامي قلوب الناس لدرجة إنهم فاكرين إنها مش فانية، ولكنها والله فانية يا حمزة"
نبس بكلامه بتنهيدة قوية، ليردف «حمزة» وهو يحرك بصره ناحية «مروان»:
"ليه اللي حبيناه مش لينا طيب، ليه كل حاجة بنعافر عشانها مش من نصيبنا في الآخر!"
أجابه وهو يخرج زفيرًا قويًا مُعبرًا عن الإضطراب الذي داهمهما الآن:
"ربنا سبحانه وتعالى بيقول {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، لو ليك خير في الحاجة دي ربنا مش هيأخرها عليك يا أخويا، بس أنت مش عارف الخير فين والشر فين، ربك اللي عارف، ولو بصيت للأقدار اللي مكتوبة من الله وقارنت بينها وبين نظرتك للحياة هتختار اللي ربنا كاتبهولك لأنه الخير الحقيقي!"
_"طب أنا ليه بتوجع كدا يا مروان، أنا ليه جوايا فيه نار، حاسس إني خسرت كل حاجة فجأة، حاسس إني ضايع، فاقد الطريق، فاقد كل حاجة"
قالها بوجعٍ أكثر وفي نفس الوقت ساخرًا على نفسه.
تنهد صديقه بثقلٍ فما أصاب «حمزة» يُصيبه، وما أوجعه يوجعه، جمع كلماته وقالها بصوتٍ عذب خافت:
"{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون}، كل حاجة مكتوبة عند ربنا يا حمزة، ربنا سبحانه وتعالى لو خسرك حاجة فـ ده عشانك أنت وعشان مصلحتك، مش عشان يوجعك ولا يحرق قلبك، وبعدين إحنا جايين دنيا ابتلاء، فانية، دنيا آخرها موت وأنت لازم تكون عارف ده"
_"ورزان، بعد كل ده تكون لغيري؟"
قالها بوجعٍ كبير، ليتنفس «مروان» الصعداء، فهو علم جيدًا أن نهاية تلك العلاقة لن تكون مُرضية بسهولة، لذلك تفوه بكل صدقٍ عما بداخله ولن يخفيه عن صديقه:
"أنا قولتلك من البداية اللي حاصل بينك وبين رزان غلط، قولتلك إنه ميرضيش ربنا قربك من واحدة متجوزة وحاليًا هي في عِدتها وهي مش حلالك، أنا معرفش ده عقاب من ربنا ليك عشان اللي كنت فيه ميصحش، ولا ده لمصلحتك أنت عشان ربنا مش عاوز يعلقك بيها زيادة، بس خليك عارف إنه في كل الحالات هو الخير ليك، أكيد ربنا هيبعتلك بنت الحلال اللي تصونك وتقدرك وتحبك"
قابله «حمزة» بعصبية شديدة وهدر في وجهه دون سيطرة مُطلقًا على أعصابه:
"وبعديــن، وبعديــن آخرة اللي أنا فيه ده إيــه، أنا تعبت، أنا عمال بتخبط في الدنيا زي التايه من هنا لهنا، عمّال بترزع من هنا لهنا من غير ما حــد يحـس بيا، أنا تعبـت، هي أنا تعبــت دي مش كفاية تعبر عن كم الوجع اللي جوايــا والحــرقة دي؟ أنا جوايــا نار"
وأثناء صراخه كان يضرب بكفه المتكور على سيارته بعنفٍ شديد، حاول «مروان» إيقافه عن أذية نفسه، وحاول أن يجعله يهدأ وهو يردد:
"طب اهدى، اهدى طيب"
ولكن الآخر فقد السيطرة على نفسه وحاول أن يجذب نفسه بقوة من بين يديّ صديقه، ولكن الآخر أحكم القبض عليه، يعرف أنه وصل لذروته الآن، فهو يضع بداخله دون أن يفصح عما يؤلمه، ثم ينفجر بقوة كما قنبلة موقوتة!
_"اهـــدى بقولك"
صرخ «مروان» بالذي يضرب بكلتا يديه بالسيارة، ولم يجد طريقة أنجح من تلك؛ لكمة قوية سددها في وجه «حمزة» ليعود لوعيه مجددًا، جعلت من «حمزة» يحاول أن يردها له ولكن «مروان» أخفض رأسه سريعًا، مما جعل الآخر يتمكن منه الغضب أكثر، وحاول مجددًا أن يلكمه فأتت ببطنه:
"سيبنــي يا مروان وأمشــي"
سدد له «مروان» لكمة أخرى بصوتٍ عالٍ لاهث:
"قولتلك انزلي راجل لراجل، والجدع فينا اللي يكمل للأخر، وأنا مش هسيبك وأمشي"
ظل النزال بينهما لمدة خمسة دقائق حتى جلس «حمزة» أرضًا مستسلمًا وجواره «مروان» واضعًا يده في بطنه من الألم، كانا يلهثان بعنفٍ شديد، كلًا منهما أخرج تلك الطاقة السلبية التي بداخلهما، فإن تظاهر «مروان» بالقوة لا يخفي وجعه وتألمه هو الآخر.
أصوات أنفاسهما المتسارعة هي التي احتلت المكان، حتى مال «حمزة» برأسه على كتف أخيه يستند.
_"بسم الله على قلبك حتى يهدأ وتستقر أوجاعه، أسكن الله آلامك وأوجاعك"
نبس بصوتٍ خفيضٍ، فابتسم «حمزة» بودٍ لوجود هكذا صديق بحياته، يشكر الله دومًا على تلك الصحبة، ردد هو الآخر:
"أدعيلي، أدعيلي أكتر يا مروان"
ظل يدعي له ثم بدأ يتلو القرآن الكريم في سكون هذا الليل بصوته العذب، حتى صمتا سويًا على صوت أذان الفجر، وكأنها إجابة من رب السماء لهما، دون أي كلمة من واحدٍ منهما تحركا سويًا نحو المسجد القريب منهما يجران خيباتٍ ستموت الآن وهما بين يد الله.
ـــــــــ
كان يجلس على طاولة الإفطار وهنالك نظراتٍ ثاقبة تتابعه، تحاول أن تستفهم منه وتأخذ تلك الإجابة التي يحاول معرفتها منذ يومين ولم يصل لإجابة!
_"عمال تبصلي ليه يا أنس، قول السؤال اللي عندك!"
قالها والده ببرودٍ شديد، فأخرج الآخر صوتًا من حلقه متنحنحًا وهو يسأله بشكٍ:
"هتجاوبني يعني؟"
أومأ له «سيد» بصدقٍ، ليسأله مقوسًا حاجبه:
"وليد واللي حصله... تعيف"'تعرف' ميـ.."
وبكل بساطة أجابه والده ثم وضع بعدها اللقمة بفمه ببرود أعصاب كبير:
"أنا"
توسعت حدقتيه بصدمة عندما استمع لكلام والده، ثم تسائل مجددًا:
"ليه؟"
استند «سيد» على الكرسي الذي يجلس عليه، يريح ظهره بكل ثقة وتوسعت إبتسامة بزاوية على فمه قائلًا
"عشان محدش جه الدنيا دي يحاول يعلّم على ولاد سيد النجار يا أنس، وهو حاول مرتين، كان لازم يشوف حاجة كدا بسيطة من اللي سيد النجار يقدر يعملها، وبعدين أنا خلصتلك حوار التزوير، ودي حاجة بسيطة، هدية كدا"
تنحنح «أنس» ومرر بصره على الجميع ثم لوالده مجددًا:
"ماشي يابابا، بس حضيتك'حضرتك' لو حصل مشكلة هنعمل إيه و.."
لم يكمل حديثه مجددًا بسبب مقاطعة والده له في قوله:
"ولا حاجة هتحصل يا أنس، ركز عالقضية وخلاص، وليد الأنصاري لازم يعرف إن تمامه وآخره هو المكان اللي فيه، السجن!"
همهم الآخر بتفهمٍ ثم وضع بفمه الطعام ونبس بهدوءٍ:
"فيه حد مكلمني، عاوز يتقدم لندى!"
_"ندى مين؟"
قالتها هي ببلاهة، خرجت من الصدمة التي وضعها بها للتو، ليكمل حديثه بسخرية:
"أمي"
ثم انتبه لنظرات والده الحادة مع حاجبه المرفوع ليتنحنح بابتسامة متوترة:
"مقصدش صدقني، أمي بتاعتك"
_"ألفاظك بقت بيئة أوي"
قالتها «ندى» بتشدقٍ، ليومئ لها بلا مبالاة ثم أكمل:
"الرائد إياد هو اللي عاوز يتقدم"
كانت تشرب العصير وهي تستمع لاسم العريس، ولكن لم يكن مكانه في معدتها، بل خرج في وجه أخيها المسكين من فمها بصدمة!
_"يا مقيــفة 'مقرفة، أنتِ عبيطة'"
هكذا أردف ساخطًا من ردة فعلها، وقام من مكانه مُمسكًا بالمناديل يمسح العصير، ولكن بدون جدوى فأزال قميصه وهو يطالعه باشمئزاز ثم طالع والده:
"بنتك دماغها تعبانة، شوفها بقى عشان نيد'نرد' على الراجل"
ثم تحرك لغرفته وكأنه لم ينبس بأي شيء حتى الآن، بينما «سيد» مرر بصره على «ندى» يثير بداخلها الرعب، وسأل بهدوءٍ:
"رد فعلك مش أوڤر شوية!"
أومأت له برأسها مؤكدة على حديثه ثم تحدثت ومازالت الصدمة تحطيها:
"عندك حق يابابا، بس هو صدمني أصل إياد ده أنا معرفش عنه حاجة، فـ إزاي وإمتى"
ببساطة أجابها:
"خلاص نرفضه!"
هزت رأسها سريعًا بنفي قائلة:
"لا لا استنى طيب نشوف، يعني قصدي نديله فرصة ونتعرف عادي يعني"
أنهت حديثها والخجل سيطر عليها، لتبتسم أمها بسعادة لأجلها قائلة:
"حبيبة عيني، هتبقي أحلى عروسة والله"
كان الخجل مُسيطرًا عليها وهي تتحاشى بنظراتها النظر لوالدها ووالدتها، بينما بالاعلى يقف العاشق الولهان يتحدث رفقة حبيبته بكل وله:
"إيه ياقلبي، فطيتي'فطرتي'؟"
وغرق بالحديث معها متناسيًا كل شيء في حياته، وكأنه غادر من هذا العالم لعالمه هو رفقتها
ها أنا في منطقة الدفء مع صديقي، الذي إن مال جسدي وجدته كما الحائط يسندني، وإن جُرح قلبي كان كالضماد يعافيه، وإن تألمت روحي يزيل الألم بكل قوته.
_"يابني، سامعني يابني؟"
قالها رجل غريب وهو ينكز في كتف مروان النائم وهو جالسًا يسند ظهره على الحائط، بينما حمزة مستلقي واضعًا رأسه على قدميه:
"يابني اصحوا أنتو نايمين في المسجد كدا ليه؟"
فتّح «مروان» عينيه بصعوبة وهو يرفع بصره للرجل قائلًا بصوته الناعس:
"نمنا بعد الفجر، محسناش بنفسنا، هي الساعة كام؟"
_"الساعة 8 يابني، وأنا جاي المسجد انضفه، أنتو كويسين طيب!"
استيقظ «حمزة» هو الآخر على الصوت، وأعتدل في جلسته يمرر كفه على وجهه وهو يطالع الرجل ثم «مروان»، ولمحه يجيب على الرجل بقوله:
"آه الحمدلله كويسين، هنقوم أهو، ربنا يعينك وجزاك الله كل الخير"
ثم استند يقف في مكانه وتبعه أيضًا «حمزة» متثائبًا:
"إحنا نمنا إزاي؟"
_"معرفش، أنا فاكر كنا قاعدين بنتكلم بعد الصلاة، خير خير يلا عشان نروح خالتي دلوقتي قلبها بيتقطع عليك"
ثم تحركا تجاه السيارة وتوجها للحارة مباشرةً، وجد أمه تجلس أسفل البناية تبكي وتولول عليه وعلى «مروان»، ليقول «حمزة» بصدمة:
"هي أمي عاملالي عزا ولا إيه؟"
ثم ركض ناحيتها وما إن أبصرته حتى شهقت بعنفٍ وجذبته لها:
"يابني يابني ياحبيبي، كنت فين يابني؟"
ربت عليها متنهدًا بعمقٍ، كيف تناسى أمه في وضعه بالأمس ولم يفكر في أن يطمئن قلبها، كيف فعل!
ضمها له بقوة بينما الجميع يشاهد ذلك المشهد الأموي العفوي الذي يبث كل المشاعر الحقيقية:
"أنا كويس والله متقلقيش، حقك عليا ياحبيبتي حقك عليا، قومي يلا تعالي نطلع فوق"
ثم ساندها وأدار وجهه يبتسم في وجه«مروان» الذي قابله بابتسامة خفيفة وغادر هو الآخر نحو شقته فبالتأكيد هي الآن قلقة عليه.
ولج للشقة ليجدها تجلس تتحدث رفقة القطط بتيهٍ وقلق:
"ياترى هو فين ياعيال، طب أعمل إيه!"
لم تشعر بدخوله ولم يرد أن يفزعها بقربه لها، لذلك أخرج صوتًا من حلقه ينبهها بتواجده، فتحركت بسرعة له وهي تتمسك به:
"مروان، قلقتني عليك أوي أوي، أنت كويس؟"
ضمها له واضعًا رأسه في عنقها يستنشق ذلك الياسمين الذي يسحره، وهمس:
"كويس الحمدلله، قلقتي عليا أوي؟"
سألها بمكرٍ لتومئ له برأسها وهي تربت بحنانٍ على ظهره، تلك الحركة التي تبث بداخله كل أنواع الدفئ الذي يحتاجه وتحتاجه هي، فنبس مجددًا:
"ربنا يباركلي فيكِ، متقلقيش أنا تمام والله، وكل حاجة دلوقتي تمام"
ابتعد قليلًا عنها لتلمح كدمة حمراء في وجهه، فتوسعت زرقاوتيها بصدمة:
"إيه ده يا مروان، أنت متخانق مع حد؟"
وضعت أناملها على تلك الكدمة وبالرغم من أنها تؤلمه، إلا أن يدها كانت خفيفة كثيرًا عليها:
"هي كانت وجعاني، بس دلوقتي حاسس إنها خفت"
عبست بوجهه تسأله مجددًا:
"متوهش عن الموضوع يامروان، إيه حصل؟"
_"أنا وحمزة إتهبلنا امبارح، ونزلنا في بعض عجن، متقلقيش والله هزار صحاب متخلفين"
قالها بابتسامة مازحة ليزيل قلقها، فأمسكت يده بضيقٍ:
"مينفعش كدا يا مروان، أنت وشك متبهدل، تعالى أما اعملهولك"
_"بقولك طيب"
قال ذلك وأدارت هي وجهها له ليبتسم بمكرٍ:
"حمزة خبطني في بطني، ينفع تشوفيها"
أحمرت وجنتيها خجلًا وفتحت فمها ببلاهة وعجزت عن الإجابة عليه، ذلك الوقح الذي بدأ يتواقح عليها.
_"روح أعمل لنفسك، أنا هشوف مشمش ومشمشة"
كادت أن تتحرك ولكنه جذبها نحوه وهو يسير بها تجاه غرفتهما قائلًا بمكرٍ:
"لا والله ميصحش، تشوفيلي الجروح بتاعتي وتداويهالي"
لم تجد ردًا أخر عليه وسارت معه دون أن تنبس بحرفٍ من الخجل الذي وضعها به، مشاعر حبٍ مختلفة يعيشان بها سويًا، مشاعر مميزة ليست كغيرها، بين زوجٍ وزوجة أحبا بعضهما في مودةٍ ورحمة، وغلف البيت الحب والحنان الذي لطالما بحثا عنه سويًا، ليجداه مع بعضهما البعض.
تقدمت راكضة نحوه جالسة جواره وفي يدها كأسًا من الماء، ونبست بقلقٍ شديد:
"قوم يا آسر اشرب الماية دي، الشيخ قال اقرألك عليها قرآن وتشربها"
حاول أن يعتدل بتعبٍ ملحوظ، فهو منذ الأمس جسده متعبًا كما الذي تلقى ضربات عديدة عليه، ساندته بجسدها ورفعت الكأس لفمه ليرتشف منه.
وضعت الكأس جوارها بعدما شربه، وتمسك هو بها بقوة يحاول أن يجد الأمان والراحة، لم يعهد نفسه بهكذا ضعف، ولكنه إن كان جوارها فلا يمانع أن يظهره، غللت أصابعها في شعره وظلت تقرأ الآيات القرآنية من المصحف الشريف الذي أمسكته ليستكين براحة.
على الجانب الآخر، وصلت الشرطة رفقة الشيخ الذي زاره «آسر» مؤخرًا وكان يتابع معه، وبقوة طرقوا الباب:
"معايا إذن بالقبــض عليكم"
قالها الضابط بحدة، لتشهق «رنا» وأمها بصدمة كبيرة.
تعليقات



<>