الفصل السادس والعشرون26
بقلم امينة محمد
أردت أن أحميك من العالم وشروره، ورغبت بأن أواسيك من الوحوش البشرية، بالرغم من رِقتي وهَشاشتي إلا أنني وقفت أمام العدو بسيفٍ حاد لأقاتل بدلًا عنك، أن أكون درعك الواقي والمُحصن.
رأيت بقلبك الحبيبة فعلمت أنني لن أجد لي مكانًا يومًا، فلمَ لا أتعلم منك وأُضحي بقليلٍ مما ضحيت أنت لأجلها لأجلك!
رأيتك وحيدًا في الطُرقات، فود قلبي لو يتشابك مع قلبك، رأيتك تُشبهني في الخيبات، فود كياني لو يتصل بكيانك، رأيتك الكثير لي ولكنني لم أرى نفسي القليل لأحد.
التفتت تطالعه بعينين لامعتين بهما الاعتذار، ودت لو تقترب منه وتعانقه الآن بقوة كبيرة تعتذر له نيابةً عن كل شيء، بالرغم من أنها هي من تود أن يعانقها شخص ويعتذر لها، كانت تطلب السماح بنظراتها المُتألمة، تشعر وكأنها على جرف الهاوية التي ستسقط عنها عما قريب، لم تفهم ذلك المثل الذي ألقاه الآن ولكن نبرة الخيبة التي حاوطت حديثه علمت أنه مصدومًا، بينما طالعها بعينيه ثم طالع «وليد» بنظراتٍ تحمل الشرر:
"بس أنا مراتي مش هتيجي معاك، مراتي دلوقتي في بيت جوزها، وأنا رافض إنها تروح معاك، خد بعضك وأمشي!"
ثم تقدم لها وأمسك يدها بين يده ليغادر بها المكان، ولكن كان لابُد أن يتدخل «وليد» هذه المرة بتفجير قنبلته في وجوههم، والتي ستجعلهم يتخلون عن «سيلين» في لحظة لأجل ابنتهم:
"خلاص همشي، بس فيه أمانة غالية عليكم معايا، تسنيم مُحسن!"
_"إيــه؟"
رددها «عبدالله» بحدقتين متوسعتين بصدمة، وانقبض قلبه بثوانٍ متبدلًا حاله بين اللحظة والثانية، يخبرهم أن حبيبته معه، تلك الذكريات التي تداهمه الآن تكاد تجعل قلبه يتوقف، تلك الذكريات التي تشمل وجود أخته «عهد» رفقةً «وليد» ثم عودتها لهُنا مقتولة!
هرج ومرج من أهالي الحارة، وظهر صوتًا يردد بخوفٍ بنبرة عالية، لم يكن سوى «لمحسن» الذي وصله للتو خبر خطف ابنته:
"بنتي لا، بنتي لا، رجعلي بنتي يا وليد، تسنيم لا"
كان صوته عاليًا مقهورًا، فجميعهم يعرفون العواقب التي من الممكن أن تحدث، تحرك «محسن» يقف جوار «عبدالله» الذي مازال أسفل الصدمة والذكريات الشنيعة:
"بنتي أمانة في رقبتك يا عبدالله، متسبش تسنيم بالله عليك!"
_"بــس، كلكم تهــدوا"
كان ذلك الصوت الحاد خارجًا من فِيه «الحاج إبراهيم» الذي وقف أمامهم جميعًا في قبالة «وليد» وابنته تحديدًا، ثم نطق ببعض السخرية التي غلفتها الحدة:
"حلو أوي، بتلعب على قديمو يا وليد وبتكرر نفس اللي حصل، وجاي تهددنا في حارتنا بأنك عاوز تاخد بنتك مقابل إنك ترجعلنا بنتنا، خد بنتك وأمشي هو فيه حد هيبقى كويس معاها قد أبوها، بس أتحمل العواقب بعدها!"
تقدم «مروان» سريعًا جوار «الحاج إبراهيم» يعارضه للمرة الأولى في حياته بقوله بحدة شديدة وبوجهٍ أحمر كالدماء:
"لا يا حاج، سيلين مش هتتحرك من الحارة، مراتي وأنا حر أقولها تروح فين وتيجي منين!"
تدخل الغاضب الذي لم يُسيطر يومًا على أعصابه، وهو الآن في قمة غضبه لم يتعلم بالأساس يومًا كيف يُسيطر على عصبيته الشديدة، كان عندما تهدأ أعصابه يؤنب نفسه على لحظات الغضب تلك التي يردف بها بكل الكلمات الموجعة، هدر بحدة لم تقل عن التي خرجت من «مروان»:
"هو إيه ده اللي تروح فين وتيجي منين يا مروان، تغور مع أبوها عشان تسنيم، تسنيم لازم ترجع الليلة دي يا مروان أنت عقلك فين!"
ابتسامة خبيثة توسعت على فم «وليد»، بالأساس هذا ما أتى لأجله؛ ألا وهو الفتنة التي زرعها بينهم جميعًا؛ كالشيطان تمامًا يزرع فتنه بين الناس فيوقعهم في شباك بعضهم، ولم يكن يفهمه سوى «إبراهيم» الذي يعلم نواياه الحقيرة الخبيثة!
كانت كلماته شاملة بالتحديد «مروان» و«عبدالله» سويًا، كلمات قوية خرجت منه بحكمة:
"هياخد سيلين ويمشي، وبالعربية هيروح حمزة يجيب تسنيم ويرجع!"
كان «حمزة» هو الآخر يقف محتارًا بين صديقيه اللذين يقفا الآن أمام بعضهما، بنظراتٍ نارية تخرج من أعينهما لبعضهما، ولكن الأمر حُسم بنظراتٍ أخرى غريبة متوجهة من الحاج «لمروان» فهمها فورًا واستكان في مكانه، وأخرى «لعبدالله» الذي كان كالثور الهائج في غضبه لا يرى أمامه!
_"حلو أوي ياحاج إبراهيم، عين العقل"
قالها «وليد» بتشدقٍ ساحبًا التي ألقت آخر نظرة على الحبيب قبل أن تغادر، بادلها تلك النظرة بوجعٍ لتركها تُغادر، يعلم أنها هُددت من أبيها، يعلم تمام العلم ولكنه أقسم داخله بألا يتركها، ووعدها بذلك وهو رجل ووعده سيوفي به، ولكن الحكمة الآن غلبت كل شيء، حكمة إعادة المخطوفة لأحضان عائلتها.
ما إن تحركت السيارات من الحارة رفع «الحاج إبراهيم» هاتفه يتصل «بإياد»:
"السلام عليكم يا إياد، وليد الأنصاري كان هنا بيهددنا، أنا بتهم وليد بخطف خطيبة ابني تسنيم، وخطف مرات ابني سيلين، وقتل عهد بنتي، أنا جاي حالًا للقسم أعمل محضر، بس أتمنى من حضراتكم تتحركوا قبل ما يأذيهم!"
هكذا كانت الخطة، تلك هي نهاية البداية فقط!
وصل «وليد» بسيارته لداخل القصر ومنعوا «حمزة» من الدخول فظل خارجًا ينتظر خروج «تسنيم» له، يفكر فيما قد يحدث لتلك المسكينة التي جذبها والدها من يدها خلفه لداخل المنزل، وما الذي ستتلقاه على يديه وهو بالأساس قاتل أمها!
بينما هي كانت تعلم أن تلك المقابلة بينها وبين والدها ستكون شديدة وقوية، ومن داخلها تشعر وكأنها النهاية؛ نهاية وجودها هُنا، أو بالأحرى على قيد الحياة!
صفعة تلي الأخرى على وجهها، صراخ عالٍ بحقدٍ وكره:
"آخرة تربيتي فيكِ يا حيوانة، عايشة حياتك مع شوية جرابيع في الحارة ونسيتِ كل حاجة يا بنت الكلب، هي دي آخرة تربيتي، أنا بقى هربيكِ صح ياسيلين!"
أنهال عليها بالضربات بينما هي تصرخ بكل ما أُوتيت من قوة علها تُخرج تلك النيران الملتهبة التي بداخلها، وعندما طفح بها الكيل؛ صرخت بوجهه بأعلى صوتها تُعبر عما بداخلها:
"أنا بكرهك بكرهــك، أنت السبب في كل حاجة وحشة في حياتي، أنــت السبب في موت أمي، أنت اللي قتلتها، أنا بكرهك وبتمنى إنـــك تمــوت، مش عــايزة أشوفك تــاني في حياتي أصــلًا، ومجتـش معاك غير عشان أحمي مروان، هو اللي يستاهل إني أضحي عشانه، هو اللي يسـتاهل وبس، بكرهك وبكره إني بنتك ومتسمية على اسمك، بكره كل حاجة بتخليني متصلة بيك، بكره كل لحظة عيشتها معــاك، بكره إنك اللي المفروض تكون بابا، بكـره كل حاجة فيك وفي بيتك ده وفي فلوسك، اقتلني زي ما قتلت مامي، اقتلني وابعتني ليها وريحني، أنا دلوقتـي مش خايفة من الموت، أنا عايزة أموت وأروح لأمي!"
كان يستمع لكل كلماتها التي خرجت من جريحة وقعت في الحرب بسيفٍ مسنونٍ وسام أيضًا، فكان الموت بالنسبة لها ببطءٍ مما جعلها تتألم بشدة، كلماتها التي خرجت بها خناجر أفاقت الشياطين التي بداخله بشكلٍ أكبر، فأكمل ضربه بها وهو يهددها بصوته العالي الذي صدح في أرجاء المنزل كله:
"هقتلهولك الأول وأحسر قلبك عليه وبعدين أقتلك، ولا تفرقي معايا خالص ياكلبة، كل اللي يقف في مصالحي ميفرقش معايا زي أمك بالظبط، أمك اللي لما عرفت طبيعة الشغل هددني لو موقفتوش هتبلغ عني، متعرفش إني أنهي حياتها ولا يفرقلي حاجة مقابل إن شغلي يكون ماشي صح، متفرقوش معايا كلكم يا كــلاب!"
لماذا الخصم أبي؟
لماذا الخصم هو الأمان الذي من المفترض أن الجأ له؟
الخصم هذه المرة قاسيًا على القلب والروح.
الخصم كان أبي!
استسلمت بين يديه أرضًا بجسدها الذي امتلئ بضرباته، استسلمت للظلام الدامس الذي بدأ يحاوطها من كل إتجاه، لا تحاول المُعافرة لتظل على قيد الحياة، لا ترغب بالمحاولة للنجاة من بين يديه، شفتيها المرتجفة الدامية، وعيناها الدامعة بتعبٍ، ووجهها المملوء بالكدمات؛ جميعهم أرادوا الاستسلام للموت.
توقف «وليد» عن الضرب بها عندما وجدها لا تقاوم واستكانت في مكانها أرضًا بأنفاسها المضطربة المتلاحقة، بصق عليها وسبها بأبشع السُباب وتحرك من جوارها ولكن أوقفه رنين الجرس!
تحركت الخادمة لتفتح الباب ولكنه منعها بصوته الحاد:
"أستني، أنا هفتح!"
عادت من حيث أتت وتحرك هو ناحية الباب وفتحه، وجد أمامه «إياد مُختار» بابتسامته المتوسعة الساخرة، وأخرج ورقة أمام وجه «وليد» يشمت به:
"معايا أمر بالقبض عليك، بتهمة خطف اتنين بنات وقتل واحدة تانية!"
نظر لهم «وليد» والشرر بدأ يعتلي وجهه بشكلٍ أكبر، ثم حاول أن يتحدث مُدافعًا عن نفسه:
"أنا مخطفتش حد، دي بنتي ورجعتها، ومقتلتش حد، ملكمش حق تقبضوا عليا"
_"اتفضل معانا بكل هدوء يا وليد أحسن ما نضطر نتعامل بعدم الهدوء وقلة الأدب، أنت عارف كويس اللي حاصل، وبعدين كلم المحامي وتقدر تقول ده في القسم ان شاء الله، بنسمع آراء الناس عادي!"
أردف «إياد» بتشفٍ وبنظراتٍ نارية تجاه الواقف أمامه بدأ التوتر يعتريه، ولمح تلك الواقعة أرضًا بلا حول لها ولا قوة، أبعد «وليد» من أمامه وتمعن النظر بها مدهوشًا بما أصابها على يده، ثم نبس بسخرية:
"ده أنت شكلك كدا جاي بالتقيل كله معانا النهاردة، دي فيها عنف كمان يا وليد يا أنصاري، حلو ده!"
أشار للعساكر التي معه بيده فأقتربوا سريعًا يُمسكون به مُقيدين يديه خلف ظهره بالكلبشات وسحبوه للخارج معهم في سيارة الشرطة التي صدح صوتها في الأرجاء.
بينما بالخارج وصلت «تسنيم» للسيارة التي تنتظرها رفقة العسكري الذي أخرجها من الغرفة التي حُبست بها بعدما سألوا «وليد» عن مكانها، طالعها «حمزة» يسألها عن حالها بقلقٍ:
"أنتِ كويسة؟ حد عملك حاجة؟"
هزت رأسها بنفي ولكن بداخلها الرعب الحقيقي من تخيلاتها التي راودتها وهي هُنا بأن يفعل لها «وليد» أي شيء.
وعند ذلك الحد أجشهت في البكاء بسبب خوفها من تلك الفكرة، بجسدٍ مرتجف كما حال سماء أتاها الرعد على غفلة فزرعت الجفلة في قلوب البشر معها.
تنفس «حمزة» بقوة على حالها وهو يتحدث بكلماتٍ تحاول تهدئتها مُستفهمًا عما حصل لها:
"أهدي يا تسنيم أنتِ الحمدلله كويسة، وهنروح للحارة، أهدي كدا وخدي نفسك وقوليلي هو إزاي وصلك؟"
تحدثت بنبرة مهزوزة تحاول تجميع حروفها لتكوين جملة تفيده، تحاول السيطرة على نفسها أمامه حتى تعود لأحضان عائلتها:
"هو أنا كنت، كنت برا بجيب حاجات ليا، ومرة واحدة لقيت ناس بتسحبني في عربية ومعرفتش أي حاجة، بس شوفت وليد جه، أنا فكراه كويس ومبنسهوش، وفضل يهددني ويقولي إنه مش هيسيبني إلا لما الحاج إبراهيم يتنازل عن القضايا وإلا هيعمل فيا زي ما عمل في عهد الله يرحمها!"
قاد «حمزة» السيارة وهو يستمع لها بعقلٍ غاضب بسبب ما يحدث لهم جميعًا على يد اثنين حقراء، حاول مجددًا السيطرة على أعصابها التالفة والمتعبة بقوله:
"طب أهدي، خدي نفسك وأهدي مافيش حاجة تاني هتحصل وأنتِ هتكوني كويسة إن شاء الله!"
مسحت دموعها بيدها المرتعشة، فهي الأخرى داهمتها ذكريات مؤلمة تُذكرها بكيفية موت صديقتها المُقربة والتي كانت معها طيلة الوقت، تُذكرها بجثتها التي أتت لهم الحارة بالدماء المُصفاة منها، تُذكرها بكل ما يؤلم الفؤاد ويشعله بلهيب النار التي تنهش بها.
____
وصل مهرولًا حيث بيت والدها الذي أخذها عنوة من بينهم جميعًا وهو وعدها بألا يتركها للشرور التي تخرج مِمَن يسمى بوالدها، من الخبث الذي يخرج منه تجاه الجميع غير عابئًا إذا كان قد يؤذي ابنته أو لا.
وصل في نفس الوقت الذي كان يتصل به «إياد» بالإسعاف لينجدها من الموت، ألقى عليه نظرة خاطفة ثم تخطاه ركضًا نحو الداخل حيث انفطر قلبه على رؤيتها هكذا تصارع الموت، الهشة، الضعيفة، المسكينة.
ركض صوبها ورفع جزئها العلوي بين أحضانه وبكفه ربت على خدها ببعض القوة ونبس بصوتٍ ضعيف خرج من قلبه المذعور:
"سيلين، افتحي عينك، حقك عليا والله اتأخرت عليكِ كانت نص ساعة والله معرفش إنه هيعمل كدا، افتحي عينك وبُصيلي والله ما هسيبك تاني"
فتحت عيناها ببطءٍ بعض الشيء، ورفعت يدها المرتعشة تُلقيها فوق يده التي تعانق خدها بدفئ، وهمست من بين الدماء التي تحاوط شفتاها:
"صدقني لو مُت هبقى مبسوطة أوي إني بين إيدك، لو خيرني تاني بين إني أختار إنك تكون كويس أو أنا أكون كويسة، هختارك أنت كل مرة"
مسح الدماء التي على وجهها بأصابعه بنعومة بالغة زرعت الحنان بها، وهمس لها بنفس الضعف الذي احتل ملامحه كما احتل نبرته:
"ششش أهدي موت إيه، أنتِ مش هتموتي أنتِ هتكوني كويسة، وبعدين أنا معرفكيش وأنتِ ضعيفة كدا، هتبقي كويسة وهترجعي البيت الدافي اللي كان نفسك تفضلي فيه، مع القطط اللي اتعودوا عليكِ، ومعايا، أنا مش هسيبك تمشي زيهم"
بدا وكأن قلبها يتأجج كالبركان من شدة البكاء، بل يكاد ينفجر وينشطر لنصفين إن لم يكن قد انشطر، بدأت دموعها تنهمر كالشلال من شدة الحزن الذي يحتويه قلبها، وتمسكت به بقوة كالملاذ الذي تلجأ له، كان الانكسار في نبرتها يُنبأ بجروحٍ عميقة بداخلها:
"قالي إنه هو اللي قتلها يا مروان، قالي إنه اللي قتلها عشان اكتشفت شغله، قالي إنه السبب في إني أعيش من غير أم يا مروان، وعاوز يقتلني أنا كمان، خلاني عاوزة أموت في اللحظة دي وميعديش عليا يوم كمان وأنا عايشة، هو ليه عمل كدا يا مروان، ليه هو بابا؟"
سؤال استنكاري خرج بصوتها المُتقطع بشهقاتها المتتالية، وجدانها ينزف الدماء بدلًا من الدموع، وجدانها متأجج بنار الخذلان الذي حاوطها من والدها.
ضمها لصدره بقوة واستمع لصوت الإسعاف بالخارج ثم تلاه دخولهم بالنقالة التي حملوها عليها، بينما هي لم تترك يده من يدها فسار خلفها سريعًا لسيارة الإسعاف ثم تحديدًا للمستشفى.
_______________
بحثت عما ابتغي بكِ، وأردت -بقوتي- أن أنال مرامي رفقتك، وكأنني الضعيف الذي يبحث عن مرام القوة بكِ برغم معرفتي بين الناس بالشجاعة، ولكن عندما أقف أمام عيناكِ الخضراء، لا أصبح قويًا ولا شجاعًا،
فقط أود المُرام أي تحديدًا السكينة من المَرام وهو تحديدًا عناقك!
كان تحت تأثير الصدمة مما استمع منها، كما يشعر القلب بالخوف عند رؤية الظلام، يشعر العقل بالخوف عند مواجهة المجهول، وهذا هو ما لم يتوقعه يومًا، فاجئته الآن بطلبها الذي شتته.
مد يده يحاول إمساك يدها ولكنها سحبتها بقوة بنظراتها الحادة التي بادلت نظراته المشدوهة، نبس بتلبكٍ:
"طلاق؟ طلاق إيه يا مرام، صلِ عالنبي وتعالي نتفاهم ونتكلم بهدوء، أنا غلطت وجاي أعتذر ولو مش باقي عليكِ كنت طلقتك من بدري، بس أنا باقي عليكِ ومحتاجك في حياتي!"
ظلت تحاول الحفاظ على نبرتها القوية برغم الضعف الذي بها، تحافظ على شجاعتها برغم الوهن الذي بها:
"متخليناش نخسر بعض كولاد خالات كمان، كفاية الخسارة دي، أنا غلطت وهتحمل دلوقتي نتيجة غلطتي دي إني وافقت أتهان وأكون زوجة تانية، أنا كنت استاهل واحد يحبني ويعتبرني الوحيدة في حياته يا آسر، كنت أستاهل أكون إختيار أول مش تاني، ومستاهلش إنك تمد إيدك عليا كل ما يحصل حاجة من غير ما تتفاهم معايا"
ثقل كبير ارتمى فوقه وفوق قلبه، وكأن هنالك شخص رمى بقوة صخرة فوقه فأصبح غير قادرًا على الحركة، لا يعلم كيف يصف لها ما يمر به وما يشعر به الآن، وجد بها الأمان الذي لم يشعر به من قبل، اختلج وجدانه من فكرة البُعد بالرغم من زواجه بها كان بظروفٍ مختلفة، وسبب ذلك هو الأحاسيس التي شعر بها رفقتها، كانت مختلفة، غريبة، ذات مذاقٍ راق له ولقلبه.
رمى ثقله بين أحضانه وضمها بقوة له، صدمها ردة فعله وتعبه البادي عليه وعلى ملامحه، حتى أن جسده بدا ضعيفًا وملامحه أصبحت أغلب الوقت منطفئة، أسفل عيناه تكونت الهالات بشكلٍ شديد وكأنها هالة سوداء تحاوط عيناه الخضراء، أردف باضطراب بعد أن تزلزل كيانه من التعب:
"أنا تعبان يا مرام والله العظيم، فيا تعب الدنيا كلها لدرجة إني بقيت بدعي أموت وارتاح من كل ده، فيا حاجات كتير أنا شخصيًا مينفعش أحكيها ولا أقولها، بس هصلح كل غلطي والله هصلح كل ده، إحنا كنا سوا على طول ومش عاوز بعد اللحظة دي نبطل زي ما كنا، أنا هقولك.. أنا هبعد خالص عنك والله، مش هتشوفي وشي لو عايزة، لحد ما تهدي وتصفي ليا تاني هتلاقيني موجود، بس متبقيش خسارة من ضمن الخسارات اللي عمال بخسرها في حياتي، طلاق ومش هطلقك، بُعد وهبعد لحد ما تهدي!"
ابتعد عن أحضانها بعدما أنهى حديثه، وخطف نظرة منها ومن ملامحها التي استكانت وتحولت من الغضب للحزن لأجله، تعلم تمام العلم أنه ليس بخير، فهو ليس «آسر» الذي أعتادت عليه، هو متعب هذه الأيام بشكلٍ مُلفت للنظر، ويُتعبها كونه هكذا.
تركها وغادر الشقة بأكملها بينما هي استلقت في مكانها وسحبت الصورة التي تضعها بجوار الفراش لوالديها، نظرت لهما بانهزام وخذلان، ونبست بضعفٍ والدموع انهمرت على خديها:
"أخترته برغم إني كان ممكن أختار العيشة الأحسن بألف مرة منه، بس أنا بحبه أوي، بحبه وفكرت زي الهبلة إني ممكن أكون مبسوطة معاه وهو مع غيري، مفكرتش في يوم إننا ممكن نوصل للمرحلة دي، فكرت رنا هتفضل تعاملني زي ما كُـنا زي الأخوات عادي، بس طلع الموضوع مختلف، لو كنتوا معايا أكيد كانت كل حاجة هتبقى كويسة، مكنتش هبقى بالانكسار والضعف ده، متربتش على إني أكون خبيثة ولا وحشة، أخترت أكون اختيار تاني، بس مخترتش اتأذي بالشكل ده، أنا متعرضتش لحاجات زي دي في حياتي ومش عارفة أعمل إيه يا ماما، مش عارفة أعمل إيه يا بابا، أنتو ليه مش معايا طيب توجهوني للصح، خايفة خالتو تزعل مني عشان آسر ابنها، حابسة كل الوجع جوايا ودايسة على نفسي عشان مليش غيرهم، أفرض حصل حاجة وحشة أنا هروح فين ولا لمين وأنا مليش غيرهم، يارب، يارب"
نادت ربها تشكو له همها وحزنها،
لم تكن مَرومًا لأحدٍ، بينما هو كان كل المُرام لها،
ولم تجد «مرام» مُرامها في الحب، والوصال، وحتى الأمان!
______________
نعلم من أحبائنا في الظروف الصعبة التي نمر بها، فنجدهم أول الناس جوارنا، هم عكازٌ لنا حتى نتكئ عليهم، هما سندًا كحائطٍ قوي البُنيان لن يميل.
وصلت للحارة رفقة «حمزة» فوجدت بأنتظارها والدها ورفقته «تامر»، توجهت سريعًا بخطواتها لأحضان أخيها تختبئ به مِمَا رأت، بكت وبكت في أحضانه بينما هو مسد على شعرها بحنانٍ بالغ يحاول بث الطمأنينة بها:
"ششش أهدي ياتسنيم مافيش حاجة حصلت، أنتِ كويسة أهو ومعانا"
_"خوفت أوي يا تامر، خوفت أوي يعملولي حاجة، المكان هناك مُرعب وحبسني وقالي مش هيطلعني إلا لما تتنازلوا عن القضايا، الراجل ده بشع بمعنى الكلمة، حيوان يا تامر حيوان"
تحدثت من بين بكائها وهي تتمسك بأخيها بشكلٍ أقوى، شعرت بيد تعرف ملمسها جيدًا، ولم تكن سوى لوالدها الذي ربت على ظهرها هو الآخر، شعور الأبوة يطغي عليه الآن لأجل ابنته، خاف من أن يُصيبها مكروه يشطر قلبه:
"أهدي يابنتي أهدي، الحمدلله أنتِ كويسة ورجعتيلنا بألف خير، ربنا ينتقم منه هو واللي زيه"
أبتعدت من بين أحضان «تامر» وأرتمت بأحضان أبيها، وكأنها تود الأمان الأكبر، ولا يوجد أمان أو ظل يختبئ به الابن سوى أمان الأب وظله، لن يتواجد مثله أبدًا في قوة إحساسه.
ظل يربت على ظهرها بينما هي تتمسك به بقوة، تلك المشاعر الآن دون تزييف؛ مشاعر بين الأب وابنته بها، الخوف منها والامان منه، فيطرد الأمان الخوف الذي بداخلها ويحل محله شعور السكينة الذي هدأ من روعها.
استمعت لصوت «تامر» يتحدث رفقة «حمزة» ويخبره بأن «عبدالله» ذهب رفقة «الحاج إبراهيم» إلى قسم الشرطة:
"عبدالله راح معاه لقسم الشرطة عشان يعملوا المحضر، ومروان قالهم إنه هيروح لسيلين طالما إياد هيروح يقبض على وليد"
تنهد «حمزة» بثقلٍ وهو يقول له بتمني:
"يارب نخلص بقى، سواء منه ولا من نادر المصري، أنا هروح لمروان عشان مسبهوش لوحده دلوقتي!"
ثم تحرك من أمامه بعدما ودعه «تامر»، وأتصل «بمروان» ليعلم أين هو وتحرك بالسيارة حيث المكان، تحديدًا المستشفى.
وصل لهناك وسأله عن مكانه متوجهًا له، سأله بلهفة قلقة:
"إيه الدنيا، هي كويسة؟"
هز «مروان» رأسه بتنهيدة قوية تُخرج حرارة عالية من النار التي بداخله، وأجابه بنبرة تحمل الأسف عليها والبغض على أبيها:
"وليد طحنها ضرب يا حمزة، ربنا يسترها ويعديها على خير، علشان هي كان واضح إنها تعبانة جدًا، مضروبة ضرب جامد، أنا معرفش أب إيه ده، ولا يستاهل إزاي يكون أب، حسبي الله ونعم الوكيل فيه، الدكتورة جوا معاها بتعملها جروحها وبتشوف حالتها"
جلس «حمزة» جواره يربت على كتفه بمواساة، وحمل من ثقل صديقه يسانده في مِحنته، ود لو يحمل كل الثقل عنه ويُلقيه بعيدًا، طمأنه بنبرته الودية:
"متقلقش يامروان هتبقى كويسة، ربنا نجدها من تحت ايده في الوقت الصح وان شاء الله لما تخرج من هنا عوضها عن كل اللي هي شافته ومتسيبهاش"
ثم غمغم مستطردًا بمزاحٍ عله يبدل من مزاج صديقه المضطرب:
"ولو إنها يعني خدتك مننا، بس ياعم مش مشكلة إحنا نقسمك علينا بالعدل"
ضحك «مروان» بخفة وهو يجيبه ناظرًا له:
"وماله، قطعوني بالنص ياحمزة ماهو ده اللي ناقص"
عبس «حمزة» بوجهه بإعتراض:
"ما أنت اللي مش عارف تقسم وقتك وتنظمه بينا وبينها، ده لو الجواز كدا محدش هيشوف وش التاني، هي كلت قلبك وعقلك ولا إيه!"
غمزه بطرف عينه في نهاية حديثه، فابتسم «مروان» بخفة وأجابه:
"مش عارف، بس قلقي عليها بيقول ده، بقولك إيه ما تخليك في حالك!"
وبّخه «حمزة» بينما يطالعه من أعلاه لأسفله بنظراته التي شملت الآخر كاملًا وتحمل الاشمئزاز:
"آه ماهما برضو المتجوزين قليلين الذوق كدا زيك، نلحق عبدالله قبل ما يقع الوقعة السودا دي"
ضحك «مروان» على حديثه مجددًا بخفة، ثم بدّل الموضوع لآخر كله جدية يسأل بملامح مستنكرة:
"ألا صحيح اللي كانت مرات نادر عاملة إيه؟"
تبدل حال الآخر في لحظة عندما ذُكر اسمها وتذكر حالتها وتعبها، أجاب وهو يسند ظهره على المقعد الذي يجلسان عليه بتهكم:
"الله ياخد نادر هو كمان حالتها وحشة أوي يا مروان، واكتشفت حاجة البت أختها طلعت متفقة مع نادر عليها، جابته المستشفى ودخل لها الأوضة ومن ساعتها ورزان في حالة وحشة، شبه إنهيار أو حالة عصبية، هي أصلًا بيتابع معاها دكتورة نفسانية علشان حالتها دي لأنهم شاكين إن نادر مريض نفسي، معرفش لسه بإيه بس هو طبيعي يكون مريض نفسي يعني، هي دلوقتي لسه محجوزة في المستشفى لأنها حرفيًا متكسرة بسبب الحادثة، رجليها وايديها وعندها كسور كتير في جسمها، فأنا بحاول أوصل ليه أختها بتعمل كده ،حاولت أفهم من أبوهم واللي عرفته إنه هي مش أختها من الأم، من الأب بس، معنى كده إن فيه سر ورا اللي هي بتعمله ده كله، بس لسه مش عارف إيه هو أنا أصلًة كنت عايز أجي اكلمك في الموضوع بتاعها، أنا حاسس إني بحبها"
وقبل أن يتحدث «مروان»، سبقه «حمزة» بقوله يُصلح كل حديثه الذي رماه الآن في وجه صديقه مُبررًا:
"أنا عارف إنه غلط وإنه ميصحش إن أنا أحب واحدة لسه متجوزة وعلى ذمة واحد، بس الحب مش بإيدينا وأنا منعت نفسي كتير إن أنا معملش كدا، بس الموضوع حصل غصب عني وأنا أكيد مش هعمل أي حاجة غير لما هي تطلق وتخلص عدتها، يمكن آه حصل حاجات تخلي ربنا يغضب مني بس أنا استغفرت ربنا لما فكرت في الموضوع"
سحب نفسًا عميقًا يستجمع قواه، ثم أضاف ونظره مازال مُعلقًا عليه:
"مروان أنا مبخافش أجي احكيلك أنا عملت إيه حتى لو غلط عشان عارف إنك هتفهمني، مبحاولش أجمل نفسي في عينك لأني عارف إنك هتشوفني صح، وهتقولي عالغلط غلط والصح صح، وأنا عايز أمشي في الصح فبستناك تغلطني عشان أخد بالي، أنت مش مجرد صاحب اتربينا سوا في الحارة وكبرنا سوا، أنت أخ ليا أمي مجابتهوش، عارف؟ هقولك حاجة ممكن تضحكك، بس أنا كنت بغير عليك من مراتك عشان أغلب الوقت معاها وبطلت تنزل تقعد معانا زي الأول، حسيت كأن فيه ملكية بينا اتاخدت مننا، أنا عارف إنك متاخدتش مننا بس أنت الوحيد اللي بتعرف تضمنا إحنا الكل وتواسينا، بتسحبنا معاك ولا كأننا عيال صغيرة للمسجد عشان نصلي ونشتكي لربنا، إحنا بنبقى ناقصين وأول ما بتيجي بنكمل على طول وبنحس إن كل حاجة تمام والدنيا بخير عادي، بوجودك بس بنحس بكل ده، أنا بقولك الكلام ده عشان طالع من قلبي، وعشان عارف إنك دلوقتي زعلان من عبدالله إنه وقف قدامك واتكلم معاك بعصبية، بس أنت عارف عبدالله لما بيتعصب مبيعرفش بيقول إيه، حقك عليا أنا يا أخويا"
مشاعر فياضة خرجت منه لم تكن وصف لمعنى الصداقة الحقيقية التي تحولت لأخوة، تجسدت في صورة الأخوة التي لا تعرف الميل ولا الانحياز، تلك التي شملت الأمان والملجأ، هم عون لبعضهم البعض، سندًا لا يميل ولا ينكسر!
ضمه «مروان» له، هكذا يعبر عن حبه هو الآخر، بعناقٍ دافئ مثل قلبه، بينما عيناه لمعت مُتأثرًا بكل ما قاله «حمزة»، أردف وهو يلعب بأصابعه بشعر صديقه:
"ربنا يديمنا لبعض، يشهد ربنا إنكم بالنسبالي عيلتي يا حمزة، اللي زي ما بتيجولي عشان بتحسوا إنكم كويسين معايا أنا كمان بعمل كدا عشان بكون كويس معاكم، بشوف فيكم كل اللي فقدته في عيلتي، أنتو عيلتي بجد مش مجرد كلام"
توسعت ابتسامة الآخر برضا تام، ثم نبس بتشدقٍ يخرب تلك اللحظة في ثانية كما أعتاد:
"أنا مش عارف قولت الكلام ده إزاي، أنا اليومين دول مشاعري كلها بَهورة شوية ماشاء الله، حاسس إن القعدة ناقصها مندلين ونقعد نعيط زي العيال"
أبعده «مروان» بضحكة بقلة حيلة، «فحمزة» لن يتغير كما حال الثوابت التي في الحياة لا تتغير، سيظل دومًا يرمي بالنُكات وسط الحديث المُهم ليُضيع هيبته!
_"تعشق في تخريب اللحظة"
أردف بها «مروان» الذي حرك رأسه سريعًا للطبيبة التي خرجت له تطمئنه عن حالة «سيلين»:
"الحمدلله حالتها دلوقتي كويسة، اديتها مُسكن هيسكن الوجع اللي في جسمها ومُهدئ هتنام شوية عليه، بس تقدر تدخلها دلوقتي قبل ما تنام، وجروحها بسيطة كمان متقلقش"
ابتسم لها «مروان» يشكرها بأدبٍ:
"جزاك الله خير، تسلمي يارب"
بينما ابتسامته متوسعة لمعرفته أنها بخير، ألتفت يطالع «حمزة» بحاجبٍ مرفوع:
"خلاص أمشي رايح فين؟"
_"إيه؟"
قالها «حمزة» بصدمة، فأجابه الثاني بنفس رفعة الحاجب والاستنكار البادي عليه بقوله:
"هو إيه اللي إيه، داخل لمراتي هتدخل معايا ولا إيه، روح لأمك يلا"
عض «حمزة» على شفتيه السفلية يمنع خروج غضبه المفرط في هذا الموقف الآن، ألم يخبره قبل قليل أنه يغار عليه؟ ماذا يفعل هذا الابلة الآن؟
تحدث بتهكمٍ وملامح عابسة حانقة:
"ماشي يامروان، ماشي، آه ياعم مراتك وبتاع العب يابا العب، بس لينا يوم وهجيبك في عركة ملهاش آخر لما نروح حارتنا إن شاء الله وهتشوف، ادخل لمراتك يا أخويا ادخل"
لوح له «مروان» بلا إهتمام وأشار له بأن يغادر والمكر يعتلي وجهه بضحكته الخبيثة:
"ما أنا هدخل فاكرني همسك فيك وأقولك لا والله يا حمزة لتقعد معايا، أمشي بس يلا"
قام «حمزة» بالأشارة له على رقبته بأنه سيذبحه في لقائهما بتهديدٍ وسخط:
"ماشي، مـاشي، بس هخلص عليك أعمل حسابك"
أومأ له يجاريه في الحديث وتحرك «حمزة» تاركًا المكان بأكمله، بينما هو دلف لها وجلس جوارها يطالع ملامحه المستكينة بتعبٍ واضح، والتي عندما شعرت به وبرائحته تحاوطها فتحت عيناها بتعبٍ ورسمت ابتسامة بسيطة على وجهه:
"مروان"
أومأ لها يبادلها الابتسامة مُمسكًا يدها بين راحتيه يمسدها بحنانٍ:
"حمدلله عالسلامة ياست، الحمدلله إنك بخير"
شكرته في ابتسامتها تلك البسيطة، وضغطت على يده وكأنها تحتمي به بتمسكها ليديه، ثم أردفت بصوتها المنخفض قليلًا:
"الله يسلمك، خليك جنبي عشان عاوزة أنام، بس مش هعرف أنام من الخوف، وأنت لما بتكون جنبي مبخافش من حاجة"
سحب يده اليمنى ووضعها عند رأسها يمسد على شعرها بحنوٍ، ثم أردف يوافقها حديثها بأنه لن يتركها:
"حاضر مش همشي، أنا أصلًا مش هتحرك من هنا لحد ما نروح سوا متقلقيش، نامي وارتاحي يلا"
ولجت كلماته الدافئة لأعماقها تنشر ذلك الشعور الجميل الذي حاوطها، وأغمضت عيناها بأمانٍ مستسلمة للنوم العميق، بينما هو ظل جوارها يده بين يدها والثانية تداعب شعرها.
___________________
لم أكن أود كسرك هكذا، فقط وددت لو تشعري ببعض ما شعرت به بسببك!
وصل للحفلة بعد أهله يبحث بعينيه عنها، فوجدها مثل الفراشة تتجول بين الناس توزع الابتسامات عليهم جميعًا، وحده من لمح التعب الذي يحمل الانكسار باديًا في عينيها فعلِم أن الخبر وصلها وخذلها.
أقترب نحو العريس يبارك له هو وعروسته، ثم نحو أهلها يصافحهم ويُلقي عليهم السلام بابتسامته البشوشة، ثم نحوها يتابع عيناها التي تعلقت به منذ أن وصل لأخيها يبارك له حتى وصوله للآن أمامها بابتسامته الواسعة:
"مساء الخيي"الخير"، عاملة إيه ياشذى، عُقبالك!"
ابتسمت بسخرية وهي تهز رأسها بحزن:
"لا خلاص عقبالي إيه، عقبالك أنتَ بقى سمعت إنك لقيت بنت الحلال اللي هتتجوزها"
أومأ لها بابتسامة ماكرة اعتلت ثغره وهو يُجيبها بتلاعب:
"فعلًا، لقيتها الحمدلله وقييت'قررت' خلاص بدل الصبي'الصبر' عالفاضي، بنت كويسة وبنت عيلة كويسة يعني"
أومأت برأسها فقط ولمعت عيناها، وصمتت لبعض الوقت ثم سألته بخذلانٍ:
"حبيتها أوي يعني؟"
_"أوي أوي، محبتش زيها في حياتي"
قالها بنفس النبرة، أيقصد تحطيمها بشكلٍ قوي أم ماذا؟
شعر بأن الدمعة ستهبط من عينيها الآن وكادت أن تتحرك من أمامه دون قول حرف، ولكنه مسكها من ذراعها يُعيدها مُجددًا أمامه:
"هو أنا حبيت حد قدك في حياتي؟ ماشية وهتعيطي يايحة 'رايحة' فين؟ مش هتتجوزيني يعني!"
_"إيه؟"
_"إيه؟"
قالتها باستنكار وملامح مصدومة بحدقتين متوسعتين، فكررها بعدها بنفس الطريقة يُقلدها، فأجابته بصوتٍ مهزوز وكادت أن تبكي:
"طب أنا عايزة أعيط ليه دلوقتي؟"
_"عشان غاوية بُكى، في الفيح'الفرح' بتعيطوا وفي الحزن بتعيطوا، إيه الهم ده، أوعي كدا أما أشوف حد مبيعطيش!"
قالها وكاد أن يتحرك فأعادته لأمامها مثلما فعل قبل قليل، وتحدثت بتهديدٍ له ونظراتٍ قوية:
"أدبحك فاهم!"
ضحك عاليًا وأومأ لها، أمسك يدها بين يده وجذبها معه لأهلها يُخبرهم بذلك الخبر، وساعده والده الذي كان يعلم منذ الصباح، لتُصبح الفرحة أثنين في العائلة!
