رواية تشابك ارواح الفصل السابع عشر17بقلم امينة محمد

رواية تشابك ارواح

 الفصل السابع عشر17

بقلم امينة محمد

 يوجد مقولة ما تقول «لدى الجميع سلام، وصراع داخلي سويًا»، وبالنسبة لي فإن الصراع والسلام بينهما علاقة عكسية؛ ما إن يزيد الصراع يتلاشى السلام، وعندما يعم السلام يهدأ الصراع!

_"جوزوها لحد من الحاية(الحارة) من هنا، دي مش بس تجلطه هتجبله سكتة قلبية على طول"
هدر «إبراهيم» بحدة موبخًا إياه:
"إزاي يعني، هي دي فيها لعب ولا إيه يا أنس، إحنا منقبلش على حد من بناتنا حاجة زي دي، فمش هنرضاها عليها، وبعدين إحنا عاوزين حقوقنا مش حاجة تربط بينا وبينه"
برر «أنس» ما قاله قبل أن يتم الحُكم عليه باطلًا بهدوء ممزوجًا بسخطٍ:
"صدقني الحيكة(الحركة) دي هتجلطه، وبعدين هو مش هيصدق انكم ممكن تعملوا حاجة زي دي، وهي مش هتيتبط( هترتبط) بيكم علطول،اعتبيوها( اعتبروها) حكاية اسبوعين ولا حاجة"
تدخل في الحديث «مروان» بهدوء؛ فتلك الفكرة بالنسبة له لا نقاش فيها، لن يسلمها لأي شخص هنا وتُظلم رفقته:
"الجواز بشروط زي كدا باطل، ده غير إن سيلين محتاجة وكيل ليها عشان يجوزها وأكيد وليد مش هيجي يجوزها لحد فينا ده!"
نبس «عبدالستار» بقوله ساخرًا وهو يمرر بصره عليهم:
"وهو يعني كل اللي عمله وليد حلال؟"
رد عليه «حمزة» تلك المرة رافعًا حاجبيه والحنق يتجلى من عينيه:
"وهو إحنا زي وليد ولا إيه ياعم عبستار"
وقبل أن يحدث بينهما مناوشة غليظة بسبب ذلك الشرار الذي يتطاير من أعينهم تحدث «إبراهيم» بقوله بحدة ناهيًا ذلك النقاش:
"خلصنا هنشوف الحوار ده هيمشي إزاي وهكلمها في الحوار، البنت عملت اللي عليها وساعدتنا في كذا حاجة ضد أبوها.."
حمحم «فتحي» بصوتٍ مما جعل الجميع ينظرون نحوه وهو يُبلغهم بأنه موافقًا على تلك الزيجة التي لم تُعرض عليه بالأساس:
"لو عايزين حد .. أنا موافق.."
رمقه كلًا من «مروان» و«عبدالله» بتلك النظرة المُهددة التي رأها في تمرير بصره عليهما، وكأنهما يذكرانه بالتهديد السابق الذي كان منهما له، فوقف سريعًا في مكانه وهو يقول بإرتباك من نظراتهما النارية التي أقسم أنها كادت تحرقه محله:
"بعرض فكرة، مجرد فكرة سلام"
خرجت نبرة الآخر المُتهكمة مُستهزئًا منه، ولم تكن سوى من فم الذي لا يستطع الصمت أبدًا عن أي شيء:
"طريق السلامة يا أخويا، متقولش أفكارك الطاهرة دي تاني في المكان بقى ها، طريق السلامة يابا"
نظروا جميعًا له شزرًا فأبعد «حمزة» بصره سريعًا وهو يقول بغيظٍ:
"يوه، هو مينفعش أتكلم يعني، بحب أعبر عن أحاسيسي والله"
تفوه هذه المرة مُعارضه -عبدالله- الذي لم يكن يومًا سوى هكذا في لحظاتِ المُزاح التي تدور غير واعيين لمن حولهم، أو بالأصح غير مكترثين بهم:
"محدش سألك عن رأيك، أسكت كلامك بيجيب مشاكل"
طالعه «حمزة» شزرًا وهو يتحدث بحنقٍ:
"عشان مشطشط بس، طول عمري حراق"
ضحك الآخر ساخرًا منه وهو يجيبه ناظرًا له من أسفله لأعلاه وكأنه يُقيمه بلجنة تحكيم تَخص نادي الأشخاص الكائدين:
"بتجيب الثقة بالنفس دي من فين يالا، دا أنت أخرك عربية كبدة كلاب تفتحها على أول الشارع هنا وتبقى فل الفل"
لم يتفوه «حمزة» بسبب نظرات الحدة التي لمحها من الجميع حولهم، يبدو وكأنهما نسيا أين يجلسان وبدآ رحلة الكيد ببعضهما، حمحم بصوتٍ خفيض وفعل المثل الآخر الذي أخفض بصره أرضًا.
تحرك بقية الرجال من المجلس بعدما أنتهى الحديث بين الجميع وتبقى الخمسة رجال وقائدهم الحاج «إبراهيم»، جلس «أنس» بجوار «مروان» وهو يُعيد فتح تلك الكلمات ليؤكد عن أهميتها لهم:
"أنا بأكدلكم على حواي(حوار) إن جواز سيلين من أي حد هيبقى لصالحنا بالذات إن وليد سايبها هنا بمزاجه عشان ينهي حوار جوازها وياخدها وهيجوزها، وأنتو كنتوا عاوزين تمشوها النهايدة( النهاردة) ، أما بقى في حواي(حوار) كدا أنا شاكك فيه، لو لقيت حل له هبلغكم بيه قييب( قريب) ، بالنسبة للقضية أنا عاوز حد يوكلني بيها عشان أبدأ شغل على طول، يا أجيب حقوق للناس يا الأيض (الأرض) تيجع(ترجع) والمصنع ميتبنيش، ولا عايزين أمسك أنا قضية عهد!"
تطلعوا لبعضهم فيما يتعلق بذلك الأمر الذي يحتاج لتفكيرٍ كبير، ثم نطق «إبراهيم» من بينهم بقوله:
"لو مسكت قضية عهد هتعرف تجيب نهايتها ولا إيه يا أنس، وبعدين أنت بتقول هتبقى شاهد على الحوار صح؟"
أومأ برأسه وهو يعدل من وضعية جلسته مقتربًا بجزعه للأمام قليلًا ونبس بهدوءٍ مُسيطر على نبرته يؤكد مدى فهمه لمَ يدور:
"حاج (إبياهيم) إبراهيم ...."
لم يكمل حديثه بسبب همس خفيض اتى من فم «حمزة» قائلًا في محاولة كتم ضحكاته:
"إبراهيم بقى بالياء ياعيال!"
كان رأسه لأسفل وعندما رفعه وجدهم جميعًا ينظرون له بحدة فتبدلت ملامحه للتوتر واعتدل في جلسته متحدثًا بضجرٍ:
"يووه لا بقى هو أنتو بتسمعوني إزاي كنت بكلم نفسي على فكرة"
ثم وجه بصره «لأنس» مُربتًا على رأسه بأسفٍ:
"حقك على راسي ياسيدي، كمل معلش والله"
كان الجميع يعرف طباعه الشقية التي لا يسيطر عليها في جلساته، يحب المُزاح دومًا والقاء النُكات، وها هو «أنس» يتعرف على طباعه هو الآخر.
وجه «مروان» بصره «لعبدالله» مشيرًا له بعينه على «حمزة»:
"دوسله عالزرار خليه يكتم!"
_"ده غتت"
قالها «آسر» بسخطٍ بينما نظر لهم الثاني بحنقٍ ثم «لأنس» الذي أكمل حديثه موجهًا إياه للحاج «إبراهيم»:
"دلوقتي أنا شاهد على اليوم ده، وعندي أدلة كتيي(كتير) ضد وليد زي ما أنتو عايفين(عارفين) إني من زمان بيني وبينه عداوة كبيية(كبيرة) ، يعني شايل معايا حاجات كبيية أوي أوي تودي وليد ويا(ورا) الشمس بالذات إني كنت المحامي بتاعه وكدا، فأنا لو هيفع(هرفع) قضايا هيقع بكله ودي هتبقى نقطة قوة لينا كلنا، بس قبل كل ده عاوز اتأكد من حاجة عشان منبقاش بنلعب على وتي(وتر) حساس، وكل اللي بنعمله ييوح هدي(يروح هدر)! "
_"حاجة إيه؟"
سأله «إبراهيم» بفضولٍ وملامح احتلتها الاستغراب ليجيبه الثاني بعدما وقف في مكانه قائلًا بابتسامة خفيفة:
"وقت ما أعيف(أعرف) هبلغكم عشان ميبقاش شك على الفاضي، يلا مضطي(مضطر) أيوح(أروح) وهشوف بابا أكلمه في حواي(حوار) التزويي(التزوير) ده"
_"حاجة إيه؟"
سأله «إبراهيم» بفضولٍ وملامح احتلتها الاستغراب ليجيبه الثاني بعدما وقف في مكانه قائلًا بابتسامة خفيفة:
"وقت ما أعيف(أعرف) هبلغكم عشان ميبقاش شك على الفاضي، يلا مضطي(مضطر) أيوح(أروح) وهشوف بابا أكلمه في حواي(حوار) التزويي(التزوير) ده"
وقفوا معه يصافحوه ليغادر من بينهم بينما جلسوا هم كل منهم بعقله في وادٍ مختلف، أحدهم يُفكر بتلك الضحية التي يتغانى عليها الجميع برغبتهم بالزواج بها، وفي قلبه إحداهن متملكة له منذ سنينٍ تآبى الخروج وكأنها تحاصر قلبه في شباكٍ وقيودٍ حتى بعدما ذهبت من هذا العالم، وبينهم يجلس المُستاء على من تعاني في وكر الثعابين البشرية، رفقة زوج .. زوجها، وكأن تلك الكلمة التي تصف أنها متزوجة؛ ملكٌ لشخصٍ ثاني تلذع قلبه، ثالثهم قلبه يؤلمه لحبيبة الدهر التي ستتزوج من غيره بعدما حاول من أجلها بدل المرة ألف، سيذيق من عذابِ الفراق ليالٍ طوال، بينما رابعهم مُتألم لأجل ما يحدث معه هذه الأيام، ويشعر وكأنه بدوامة لا نهاية لها، بين اثنتين لا يقدر على إيذاء إحداهن او إيلامها؛ ها هم يتجهون نحو الهاوية دون نجاة!
تناطقت شفتي صاحب الابتسامة الساخرة -حمزة- وهو يردف بسفاهة واقفًا في مكانه:
"في الحالات اللي زي، أحب اتحول لكتكوت جدًا، ويجي طفل سئيل يغرقني في الماية ويخلص عليا، يلا أنا مروح.. سلام!"
____________
دعني أرحب بكَ عزيزي هُنا حيث الغابات البشرية،
التي لا حاجة لوجود الحيوانات المفترسة بها،
يكفي وجودك رفقة إنسان قاتل،
بلا قلب أو شفقة،
هذه هي الحياة الآن، شئت أم أبيت فأنت بداخل غابة من بها ينهب بغيره.
وصلوا للمكان المنشود بعد طريقٍ استغرق ربع ساعة كاملة، كانوا هم الثلاثة فقط دون البقية، متوجهين نحو مرادهم ومُـراد «آسر» بالتحديد، شيخ ليعرف ما به!
دلفوا نحو ذلك الرجل المَدعو «رأفت»، كان شكله مُبشرًا بابتسامة بشوشة استقبل بها صديقه «إبراهيم» ورحب بكلًا من «مروان» و«آسر» أيضًا، ثُم جلس وبدأوا يتحدثون فيما بينهم عن ما يدور حول «آسر» الذي كانت جلسته الاقعاء؛ حيث كان ناصبًا ركبتيه، وبدأ يتحدث بنبرة خافتة:
"أنا من فترة طويلة تعبت تعب غريب وكنت أول مرة في حياتي أحس بكدا، كنت بحس إني مش قادر أخد نفسي ومش قادر أتحرك أغلب الوقت، وحاسس بخمول، مقصر في صلاتي ومقصر في عباداتي، بتهرب من كل حاجة عن حياتي الزوجية مع مراتي، بعدها بفترة حصل نفس الحوار وكان بيتكرر كل فترة لحد الفترة اللي إحنا فيها دي، حاسس كأني مش قادر اسمع القرآن ولا اقرأه، حاسس إني جسديًا تعبان وفيه حاجة كابسة على نفسي وبتحركني يمين وشمال، مش أنا اللي بتحرك ولا بعمل كدا بمزاجي، أنا لسه متجوز الجوازة التانية ليا بقالي أربع أيام، اتجوزت بنت خالتي عشان مراتي الأولى مبتخلفش، إحنا عايشين كلنا في عمارة واحدة بس كله له شقته يعني، مراتي الأولى هي أصلًا اللي أقترحت فكرة الجوازة التانية ووافقت عشان هي مريضة بالسرطان وبتتعب علطول، من يومين حلمت بحلم غريب جدًا؛ كنت قاعد وشايف قدامي مراتي الأولى وبنت خالتي في الحلم، مراتي حد مربطها وبنت خالتي بشكل غريب كدا ومُرعب، وقتها قومت مفزوع وكانت هي اللي موجودة في الشقة وبتشغل قرآن، ومقدرتش يومها أسمع القرآن وجسمي تعب واغمى عليا"
كان الشيخ يتابعه بتركيزٍ شديد ويمرر نظراته بينه هو والحاج «إبراهيم» ثم أماء له وسحب بعض الماء من جواره وبدأ يرتل عليه بعض الآيات القرآنية، ناظرًا تجاه «آسر» تحديدًا ليرى ردة فعله، كان الثاني بين الثبات وبعض الاهتزاز وعدم الإتزان، حتى ناوله الشيخ الماء وقال:
"اشرب دول يا آسر!"
تناول منه الماء ونظر ناحية «مروان» الذي بث له الطمأنينة بنظراته مع ابتسامة بسيطة خفيفة، ارتشف من الماء القليل ثم أبعده:
"طعمه وحش أوي، ماية إيه دي؟"
_"أعوذ بكلمات اللَّه التَّامَّة من شرِّ ما خلق، وذرأ، وبرَّأ، ومن شرِّ ما ينزل من السَّماء، ومن شرِّ ما يعرِّج فيها، ومن شرِّ فتن اللَّيل والنَّهار، ومن شرِّ كلِّ طارق، إلَّا طارقًا يطرق بخير، يا رحمن"
رددها الشيخ أكثر من مرة مع بعض الآيات الكريمة الأخرى ولاحظ التواء الآخر في جلسته ثُم توقف بعد قليلٍ وهو يسحب تنهيدة عميقة ناظرًا نحو «إبراهيم»:
"كل اللي أقدر أقوله أنه آسر معمولة سحر، وشديد كمان، واللي عامله السحر شخص عارف هو بيعمل إيه وعايزوا يمشي إزاي!"
سأله «آسر» بلهفة ولم تأتي على باله سوى واحدة فقط، تلك التي لا يعلم كيف شك بها ولكن من التي ستريد أن يسير على هواها سواها، ولكن لماذا؟
_"مين؟"
أجابه الشيخ بكل بساطة مُربتًا على كتفه وهو يُملي عليه ما يجب فعله:
"أنا مينفعش أقول مين، أنت لازم تعرف بنفسك وتعرف العمل ده معمول فين عشان نقدر نفكه، أنت ماعليك غير هتاخد مني ماء أنا قرأت عليه قرآن وهتشربه كل يوم مرتين، وهتحصن نفسك بالاذكار وتشغل القرآن طول الوقت جنبك، وربنا ينتقم من اللي كان السبب ويبعد عنك ولاد الحرام!"
كان يحاول الوقوف ولكن قدميه تعثرت لم تحمله فتقدم ناحيته «مروان» سريعًا وسانده وهو يربت على ظهره بحنانٍ:
"كل خير متقلقش يا أخويا، ربنا مبيرضاش بالظلم لحد من عباده"
أومأ برأسه فقط وهو يرسم ابتسامة ودودة على فمه ثم تحرك معهما «إبراهيم» وهو يصافح رفيقه ويشكره:
"تسلم يا شيخنا، وأنا هجيبه واجي كل فترة تقرأ عليه قرآن عشان صدره يرتاح، الله المستعان"
تحركوا وقبل المغادرة نبس «رأفت» يُخبرهم:
"آسر، احذر من القريب منك قبل البعيد، صاحب العمل حد من معارفك ومن أحبابك اللي حواليك"
بنظراتٍ متخبطة، وقلبٍ غير متزن كان يُطالعه «آسر» ولم يجد ما يقول سوى أنه اماء برأسه للشيخ وتحرك رفقتهم وعقله آب على التصديق.
قد يأذيك أحبتك دون سبب،
وقد يكون الخليل سبب آلامك،
الآن هو جازعًا على كدرٍ لن يُنسى،
كاظمًا الأذى بين قلبه، وثناياه،
حتى كاد يحترق به من شدة الشجى،
تتلقاه فجعة تلو الأخرى، تُنهي الأمل داخله،
تجدد الهواجس والأسى.
ركبوا السيارة وقرر أن يقود «مروان» لحالة صديقه غير المُتزنة وكان يطالعه من المرآة بين البرهة والثانية، حتى قرر أن يواسيه ويطمئن قلبه بقوله بنبرة هادئة تبث الدفئ:
"آسر، سرحان في إيه؟ متفكرش كتير في اللي بيحصل ده عشان كتر التفكير غلط وهيتعبك، الشيخ شاف حالتك ولو كانت خطيرة مثلًا كان قال حاجة، إنما أنت الحمدلله أهو بس محتاج تعرف مين عمل كدا عشان تخلص منه وتعلمه الأدب، متزعلش نفسك كدا ياصاحبي!"
كان بصره معلقًا على الطريق من نافذة السيارة، شاردًا في عالمٍ مجهول سقط به بلا هوادة، وتحدث بصوتٍ ضعيف يحمل الحزن:
"والله مش عارف يا مروان ليه ممكن حد في حياتي يعمل فيا كدا، أنا مأذتش حد ولا فكرت أعملها في يوم، بالعكس ده أنا في حالي من شغلي لبيتي، والصدمة بالنسبالي لما هعرف مين اللي عامل فيا كدا، مين عاوز يأذيني بالشكل ده بما إنه من الدايرة اللي حواليا، كنت فاكر إني ينفع آمن للناس، طلع مينفعش آمن غير لنفسي وبس، الناس كلها مُؤذية، وغدارة، اللي عمل كدا فيا بيحاول ياخد روحي من جسمي ببطء، لو هي جيالي من حد غريب مش هتزعلني أوي كدا، بس المشكلة أنها جاية من دايرة أحبابي، هما الأحباب بيجرحوا بعض ولا بيحبوا بعض!"
كان صوته مهزوز، مُتعب، مخذول،
مسكين، مُعسر، ضعيف،
كأنما جرحه أحدهم، ولم يكتفي بذلك الجرح بل وضع نيرانًا جعلت الجرح يشتعل دون شفاء، فالدواء مسلوب والداء يزداد، كَترياق موجود بين يديه ولكنه لن يشفي سُم الأفعى التي لدغته.
أتاه الرد هذه المرة من «الحاج إبراهيم» الذي كان كأب روحي لهم جميعًا؛ «مروان»،«حمزة»،«آسر»، لم يترك أحدهم يومًا ليقع في أفكاره المُميتة، بل أمسك بأيدهم وجذبهم نحو النور، نحو الأمل، نحو الحياة.
كان صوته قويًا يولج للقلب فيعافيه، يضع النقاط على الحروف فلا سبيل للضياع بعد الآن:
"أنت عايش ولسه بتتنفس يا آسر، وعشان كدا لازم تكافح وتكمل وتدوس على اللي يدوسك، متفقدش الأمل وتضعف بالشكل ده، مش أنت ولا شخصيتك دي، أنا عارف إن الموضوع صعب بالنسبالك عشان دي صدمة إن حد حواليك هو اللي عامل فيك كدا، بس برضو خليها دافع ليك أنت تدور بضمير عالحد ده، وتجيبه من شعره تطلع عليه الجديد والقديم، تخليص حق يعني، أجمد وأقف على رجلك، واثبت لعرة العرر اللي عامل فيك كدا إنك أقوى وأشد منه، أثبت للكل إنك مش ضعيف وإن كل حاجة هتحلها بالعقل"
أنهت الكلمات كل شيء، ووضع بقية الحديث في الأفواه، فما بعد ذلك سيكون هراء فقط!
_______________
تجد نفسك في يومٍ من الأيام واضعًا قدميك في أرض جافة ومتشققة، بينما أنت لم تكن تحلم سوى بتلك الأرض التي أينعت بسحرها ولونها الأخضر الزاهي الذي سلب العقل والعين.
تجد نفسك في يومٍ من الأيام تأنس بأشياء وتؤنس بها، ثم تتركك، بينما أنت لم تكن تحلم سوى بأن يؤنس بكَ أيضًا وتتذوق طعم الأنس.
ترجل من سيارته أمام بيت عائلته الكبير، مكون من طابقين وواسع، أمامه حديقة ممتلئة بالزهور التي تحبها أمه وتهتم بها، ولج بخطواتٍ ثابتة ووجد حبيبته الأولى -أمه- خارجة من المطبخ بشكلها المُتأنق كما العادة تُرحب بعودته:
"حمدلله عالسلامة يانور عيني"
ابتسم وهو يميل عليها يقبلها على رأسها بحنانٍ بالغ يود به أن يعبر لها عن شكره لثمرة الحب التي زرعتها داخله:
"الله يسلمك ياقلبي، اومال بابا فين؟ محتاجه في شغل"
وكأن الثاني كان يشعر بقدوم ابنه وحاجته له فخرج من غرفة المكتب الموجودة بالطابق الأول، كان من الطراز الحديث من الداخل، حيث كان في الطابق الأول بعض الغرف الخاصة بالضيوف وغرفة مكتب والده، والمطبخ الواسع وأيضًا غرفة المعيشة وغرفة الجلوس للضيوف، ويوجد دَرج داخل المنزل متوجهًا للطابق الثاني الموجود به غرفهم:
"أنا هنا أهو، خير يابني؟"
جلس والده على الأريكة واضعًا قدمًا فوق الأخرى وجلس جواره «أنس» مبتسمًا:
"كل خيي(خير) ، كنت محتاجك في حواي(حوار) لو تعيف(تعرف) تجيبلي آخيته(آخرته) "
تقوست حاجبي والده -«سيد»- وهو يطالع ابنه باستغراب:
"حوار إيه أحكي أنا سامعك!"
توسعت ابتسامة «أنس» ثم بدأ يسترسل لوالده بأدب في الحديث وفي ذات اللحظة بثقة نبعت من أعماقه وكأنها خارجة من الأب، فكما قيل بالمثل الشهير «ذلك الشبل من ذاك الأسد»؛ هما هكذا تمامًا:
"طبعًا أنا قولتلك على حواي(حوار الحارة) الحاية وأني همسك القضايا بتاعتهم ابدأ شغل فيها، بس فيه حاجة أنا عايف(عارف) إن حضيتك(حضرتك) هتقدي(هتقدر) تحلهالي عشان عايف إنه أعز صحابك، الأستاذ «يجب عايف»(رجب عارف) ، المُزوي(المزور) الكبيي(الكبير) بتاع البلد وبتاع وليد الأنصايي، وليد مزوي عنده ويقتين(ورقتين) واحدة بأن الدولة مطلعة قياي(قرار) إزالة بقطعة أيض( أرض) والتانية ويقة(ورقة) بيع وشياء(شراء) لوليد، أنا عايف إنه بيا(برا) مصي(مصر) ومحدش هيقدي(ر) يأذيه بس أنا عاوز يقولنا حاجة تقول إن الويق (الورق) ده متزوي(متزور) ، الموضوع فيه حياة أو موت يابابا، فيه بنت وليد قتلها بسبب الأيض(الأرض) دي، غيي(غير) إنه باعت تهديد صييح(صريح) ليا أصلًا"
شهقت والدته بفزعٍ وهي تربت على ظهره بحنانٍ بالغ:
"بعد الشر عنك ياحبيبي، يهددك ده إيه، ميعرفش أنت مين ولا إيه!"
أشار لها «سيد» برأسه لتهدأ ثم أعاد نظره نحو ابنه وهو يتسائل بهدوءٍ:
"طب أفرض مقبلش؟ أصل وليد الأنصاري برضو تقيل في البلد ومش بسهولة تعرف توقعه، شوف أنت بقالك قد إيه بتحاول ومش قادر"
_"ما أنا هسيب دي عليك بقى يا حاج، حاول بس معاه يابابا وشوف هتوصل معاه لإيه، هو بيعزك ومعتقدش بيحب حد قدك"
حاول وضع بعض الكلمات المعسولة في ذهن والده الذي اكتفى بالايماء برأسه بإيجاب وعينيه شاردتين بعيدًا، يُفكر في تلك الخطوة التي ستساعد ابنه وتساعده بنفس الوقت في حفظ حياة ابنه بعيدًا عن أذى «وليد».
استأذن منهم «أنس» وتحرك نحو الدرج وصعد أدراجه لغرفته ولكنه قبل أن يتوجه لها سمع صوت ضحكاتٍ عالية تخرج من غرفة أخته التي تصغره، صوت ضحكات وقعها مميز على أذنيه، يحفظها ظهرًا عن قلب، لم يجد نفسه سوى وقدميه تجره نحو الغرفة ويطرق الباب بخفوت حتى أستمع لقول أخته تُجيب:
"أيــوه؟ أدخل!"
دلف ببطءٍ وبداخله يتمنى ألا يراها، بداخله ألف شعور متناقض، مابين الاشتياق والنفور، وبين الغضب والفرح، رفع بصره ووجدها تجلس بهيئتها التي لم تتغير رفقة أخته، مرتدية فستانًا من اللون الابيض يُزينه ورود، كان يصل لبعد ركبتيها بحدٍ كبير، شعرها الطويل بلونه الأسود الفحمي يزين ظهرها مفرودًا في هيئته التي اعتاد عليها، وكأنه استغرق وقتًا في التأمل ولم يفق سوى على صوت أخته ومبادلة الأخرى له النظرات:
"أنس، أنت معانا ياحبيبي؟"
أومأ برأسه بابتسامة خفيفة وهو يُجيبها بصوتٍ ثابت ضاغطًا على حروفه وكأنه يتقصد إخراجها بشكلٍ سليم ولكن حرف الراء يخونه دومًا:
"آه ياحبيبتي، أنا لسه واصل بس البيت وقولت أشوفك لأني طلعت الصبح من غير ما أشوفك، معبفش(معرفش) إن عندك ضيوف"
نقل بصره بينهما حتى استقر عليها وهي تسأله بصوتٍ خجل خفيض:
"أزيك يا أنس؟ مافيش حمدلله عالسلامة طيب، ده أنا بقالي سنتين برا مصر!"
رُسمت السخرية على وجهه، واعتلت الكسرة ملامحه، يعلم جيدًا كم استغرقت تلك الحمقاء بالخارج، فهو كان يعد تلك الأيام حتى يصل لليوم الذي ستعود به مجددًا لتكن أمام ناظريه، ولكنه كابر بصوتٍ ساخر يُجيبها:
"بجد والله؟ مخدش بالي معلش، حمدلله عالسلامة عمومًا يا «شذى», welcome back to Egypt!"
أرادت الضغط عليه من الداخل، فمازالت نظرة العشق تنبع من عينيه وهو يطالعها الآن، فتحدثت بنبرة خافتة:
"بس دي مش من قلبك، بتقولها كدا تأدية غرض ولا إيه ياندى"
كانت أخته تتابع تلك الكلمات التي تخرج من أفواههما لتقابل بعضها في منتصف الطريق وتتعارك في شجارٍ عنيف يخفف من ثقل الشجار الفعلي الذي قد يحدث بينهما، فأجابت بتوترٍ لأنها تعلم أن«أنس» لن يصمت إلا عندما يكسر حاجز الكبرياء الذي لديها:
"لا طبعًا ياشذى، أنس مش قصده..."
قاطعها وهو يضم ذراعيه لصدره مستندًا على باب الغرفة واعتلى ثغره ابتسامة لزجة تكاد تفتك بالذي يراها، بنبرة ماكرة بين طياتها الكيد:
"آه فعلًا مش من قلبي، أصله زي ما تقولي كدا مقفول عليه في الحفظ والصون لحد يستاهله يعني ياشذى، أنتِ أكيد مبتفهميش في الحوايات(الحوارات) دي، عايزة حاجة ياندى ياحبيبتي؟ ابقي أدي شذى عصير ليمون فريش، بيهدي الأعصاب عشان أعصابها هتفوي(ر) دلوقتي"
ثم تحرك بخطى جامدة نحو غرفته واظلمت عينيه بحدة، تتردد بأذنيه جملتها منذ أن كانوا مازالوا في الجامعة وهو يعترف لها بحبه بعينين مُغرمتين، ولم تقابله سوى بقولٍ ساخر حاد، جعل قلبه يتفتت:
"أنتَ عايزني ارتبط بواحد كل ما هيتكلم هيضحكوا عليه، لأ طبعًا يا أنس مننفعش لبعض!"
تمامًا كان هذا هو ذنبه بالنسبة لها، ولكن قلبه الخائن مازال يعشقها كأنها لم تكسره يومًا وتقطعه لأشلاء، همس بينه وبين نفسه بنبرة بها الولِع:
"كل مية(مرة) بشوفها بحس إني بحبها لأول مرة، دي احتلت قلبي وبَنت فيه بيت وسكنته"
رفع كفه يضعه بخصلات شعره يمرره للخلف وهو يسب نفسه بسخطٍ:
"أنت والحب يا أنس اللي هيوديك ويا(ورا) الشمس والله، استغفر الله العظيم، بس برضو هروح ويا(ورا) الشمس عشانها عادي"
تحرك نحو مرحاض غرفته مُمسكًا بمنشفته غارقًا في أجواءه الخاصة.
بينما في الغرفة المجاورة تجلس بوجهٍ محمر و«ندى» تحاول ارضائها بقولها برقة:
"متزعليش والله حقك عليا، أنس أصله الفترة الأخيرة بقى دبش شوية، متزعليش منه هو قلبه أبيض وطيب أوي"
بعينين دامعتين ووجه حزين أردفت مُعبرة عما بداخلها في أسى شديد:
"برضو يا ندى يقولي كدا؟ يعني أنا جاية بحكيلك وبقولك إني جاية أصلح غلطي عشان عرفت إني كنت غلطانة وندمت إني زعلته مني ورفضته الرفض ده، بس هو شكله بيحب حد وإلا مكنش رد عليا كدا"
تنهدت «ندى» بحرارة وهي تقترب أكثر جوار «شذى» مُمسكة بيديها بين راحتيها بابتسامة خفيفة:
"يابنتي والله ما بيحب حد، بس قولتلك متستنيش من أنس يجي يقابلك بالحضن والكلام الحلو يا شذى، أنا وأنتِ عارفين أخويا كويس وعارفة إنه عنده حتة غرور ميرضاش يكسر نفسه مهما كان، معلش والله كل حاجة هترجع زي ماهي وأنا مش هسيبكم غير لما اجوزكم!"
تنهدت «شذى» ووضعت رأسها على كتف رفيقتها الحبيبة التي كانت ومازالت المقربة لقلبها، ولكنها تذكرت كلمته التي اغاظتها بشدة لتقول بغيظٍ:
"لا وبيقولك هاتيلها عصير ليمون فريش، شايفني إيه يعني أعصابي تعبانة وبشد في شعري!"
ضمتها «ندى» وهي تربت على كتفها بنزقٍ:
"لا ياحبيبتي أنا اللي بشد في شعري، أنا فعلًا هجبلك واحدة أنتِ هتنفجري جنبي"
_"يوووه يا ندى، متهزريش!"
قالتها والاشتعال يتطاير من عينيها لتضحك «ندى» عليها بقلة حيلة ومازالت يديها تربت على ذراع الثانية!
________
جريمة بشعة، تلك التي تتداول بيننا وعلى ألسنتنا، بالكاد تحدث يوميًا لمعظم فتياتنا؛ «الاغتصاب» لم يكن سوى قتل لروح على قيد الحياة، تهتز لها الأبدان من حولنا وليت القانون يُحاسب صاحبها، ولكننا في غفلةٍ فيخرجون من المبررات الباطلة آلاف، منها أن الفتاة هي السبب، وأخرى لأنه مريض نفسي، بالطبع أعزائي من يفعل تلك الجريمة فهو مُجرم يُعاقب، ومريض نفسي يحتاج لعلاج!
أغلق على نفسه باب غرفته وتحرك ناحية خزانة ملابسه يعبث بها حتى وقعت يده على خزنة مُغلقة بأحكام، فتحها بتروي وأخرج منها عدة صور تخص ابنته الحبيبة، ابنته المفقودة، نظر للصور بقهرٍ شديد وفي أذنيه يتردد صوتها بمرحٍ في الإرجاء، كانت مدللة أبيها وتحبه حبًا كبيرًا، صوت ضحكاتها التي كانت تملأ المنزل وتملأ قلبه، قطعة منه غُدر بها وقُتلت، كان يُحمل نفسه الذنب لأنه لم يستطع حمايتها، ثم يعود أدراجه مُعتذرًا من الله تائبًا لأن عمر ابنته انتهى لذلك الحد وعادت من حيث أتت، عادت للمكان الذي سيرجع له كل البشر.
أخرج بعد تلك الصور والذكريات التي داهمته ملف تحاليل وشريحة ذاكرة، مُتذكرًا ذلك اليوم الأليم الذي حمل فيه ابنته بين ذراعيه وهرع بها نحو المستشفى ليجد أملًا في ابقائها على قيد الحياة، وبعد حالات الهرج والمرج بالمستشفى لقدوم تلك الفتاة المذبوحة أتاه إتصالًا من «وليد»:
"أنت طبعًا عارف هتعمل إيه؟ القضية دي لو اتفتحت وحياة ربنا يا إبراهيم لأخلص على عيالك واحد واحد، وأنت عارف إني رجالتي برا كتير وأقدر أعملها، ده غير إنك معكش دليل يثبت إنها كانت عندي ولا حصلها كدا عندي صح؟ يبقى لما يجي الظابط يحقق معاك، هتقول بنتي معرفش كانت فين ورجعت كدا، يلا يا إبراهيم البقاء لله، متعزش على اللي خلقها!"
حينها تم إجراء فحص الطب الشرعي وتوصل الأطباء بأنها تعرضت للانتهاك والاغتصاب، وتم إجراء عينات الـDNA الخاصة بمن لمسها، بالإضافة بأنهم وجدوا لحم ذلك الشخص بين أظافرها وتم إخراج تلك التحاليل، ولكن لا وجود لمشتبه به حتى يتم التطابق معه بتلك التحاليل، فأخذها بين يديه عائدًا أدراجه نحو منزله بخيبات أمل، خائفًا على بقية عائلته!
مرت شهورًا ووصله في يومٍ من الأيام ظرف به كارت ذاكرة، تذكر عندما اشترت له أبنته واحدًا ليضع عليه صورهما سويًا لأن ذاكرة هاتفه نفذت، وضعه بدلًا منه ليجد أمامه مقطع فيديو بوجود ابنته في بيت «وليد» يتم جرها من شعرها وضربها، ثم دفعوها لغرفة بالحديقة ودلف خلفها رجلًا لم تظهر ملامحه!
دليل قاطع بأنها كانت هناك وما حدث لها كان ببيت «وليد الأنصاري»، الأدلة تزداد بين يديه ولكن الخوف كان أكبر خاصةً بأن «وليد» ترك بصمته على أبنائه -عبدالله ومروان- في يومٍ من الأيام بضربه لهما في طريقٍ مهجور عندما ذهبا له ليتشاجرا؛ وكأنه يُذكر «إبراهيم» بما قد يفعله بهما!
يبدو أن الموعد حان،
ووجب الانتقام بدلًا من الصمت،
انتهى الصمت وانتهى معه الضعف!
_"حقك على عيني يابنتي، سكت تلت سنين عشان خايف أخوكِ وحبيب قلبك يحصلهم حاجة، ما هما برضو ولادي وربيتهم معاكِ ياحبيبتي، حقك عليا، بس والله العظيم ما حد ساكت على حقك وكلنا هنجيبه وترتاحي في قبرك ياعهد، سامحيني ياحبيبة قلبي، أشوفك في الجنة يا ملاك"
_______________
عائدًا إليك يا الله، تائبًا من الذنوب والخطايا والمعاصي، مُرتجيًا رضاك وعفوك، أنا العبد الضعيف، أنا العبد التواب، أعود إليك في كل مرة نادمًا عما فعلت، طالبًا بكل رجاءٍ السماح والرضا، أنا الذي خدعتني مظاهر الحياة، لعبت بنفسي الأمارة بالسوء، ولكنني استيقظت من غفلتي، استيقظت داعيًا ألا أعود للذنب مجددًا!
كانت تجلس على سجادة الصلاة مُمسكة بالورقة التي أعطاها لها بها آيات السكينة تقرأها بكل تآني وهدوءٍ، فتنعكس على قلبها بالسكينة، وكان مقابلها الغصة المؤلمة التي جعلتها تشعر وكأنه كانت بالقاع وها هي الآن تحاول التسلق حتى تصل لأعلى قمة الجبل حتى ترى النور الذي سيُغير حياتها.
شعرت وكأنها تود البكاء بحرقة، ولكن من سيحتضنها الآن؟ من سيربت على قلبها ليواسي تلك المسكينة التي لم ترى يومًا الحنان والعطف؟
همست بينها وبين نفسها مُناجية ربها بنبرة هادئة تحمل الندم:
"سامحني يارب على كل حاجة غلط عملتها، أنا مكنتش أعرف والله إني في غلط وبعمل كل الذنوب دي، أنا تايهة ومش عارفة أقول إيه ولا أعمل إيه، بس أكيد يارب عارف إني محتاجة كل الدوشة اللي جوايا دي تهدى وعارف إني ندمانة وبتوب من كل اللي بعمله، سامحني على اللي بابي عمله في كل الناس دول، مش عايزة اتحاسب معاه على ذنبه"
لمحت «فاطمة» تقف عند المطبخ تنظر نحوها، فابتسمت ابتسامة خفيفة لها تُزين ثغرها بتلبُكٍ وهي تقول بصوتٍ خفيض:
"أساعد حضرتك في حاجة ياطنط؟"
هزت رأسها بنفي واقتربت تجلس على الأريكة التي تجاور «سيلين» الجالسة أرضًا في مكان الصلاة، ثم تحدثت بنبرة هادئة مازالت تتذكر تلك الكلمات اللاذعة الذي قالها ابنها -«عبدالله»- عن أخته قبل موتها:
"لا تسلمي، كملي صلاة أنتِ"
كانت «سيلين» تود أن تتحدث معها، ولو لثوانٍ معدودة فقط تعبر عما بداخل قلبها وكيانها المكسور المجروح، ولكنها ترددت في أن تصدها السيدة التي بالتأكيد تبغضها الآن، ولو فعلت لكُسرت أكثر، ولكن الشجاعة تمكنت منها وتحدثت بصوتٍ مهزوزٍ مملوءٍ بالأسف:
"هو حضرتك ياطنط مش زعلانة مني صح؟ أنا والله مكنش ليا أيد فاللي حصل لعهد، أنا أصلًا مكنتش أعرف إن بابا كدا، عبدالله ابن حضرتك عاوز يقتلني، صدقيني لو ده هيريحكم مني أعملوها، أنا كدا كدا دلوقتي ميتة، ولو رجعت لبابي هبقى ميتة برضو، بس ممكن متحطنيش معاه في نفس الدايرة دي؟"
نكست رأسها أرضًا وهي تُردد بخذلانٍ:
"ان شاء الله عهد في الجنة، لما بشوف حزنكم عليها بتمنى لو كنت أنا اللي مُت وهي فضلت عايشة وسطكم، عالأقل هي شايفة الحب والحنان منكم ودلوقتي حزنكم عليها، لكن أنا مكنش ده في حياتي ومش هشوفه أبدًا، فلو كان ده اللي حصلي بدالها كان هيكون أحسن"
ثُم رفعت بصرها مجددًا بعينين دامعتين بقهرٍ مُتسائلة:
"طنط هو أنا لو دعيت ربنا إني أموت هيبقى حرام عليا؟ أصل أنا تعبت أوي أوي وعايزة أروح لماما، بس أنا مش عارفة هيبقى حرام عليا ولا لا، وأنا مبقتش عايزة أعمل حاجة حرام"
رفعت «فاطمة» يدها تربت على ظهرها ثم على رأسها المُغطاة برداء الصلاة وضمتها من رأسها لأحضانها تمسد عليها بحنانٍ بالغ:
"حقك عليا، زيك زيي دلوقتي، محتاجة بنتي وأنتِ محتاجة أمك، متدعيش على نفسك يابنتي، حرام عليكِ ادعي ربنا بالصلاح ويرزقك بحد يعوض قلبك المكسور ده، معلش يابنتي معلش، الدنيا مبتديش حد كل حاجة!"
بكت بحرقة، فبكت معها «فاطمة»،
بكاء لو سمعته الحجارة لتفتت، يكسر القلوب ويُدميها،
بكاء المقهور من صعوبات الحياة وتجاربها،
وكأنهما يعوضان بعضهما بما فَقدا.
عناق طويل ممزوجًا ما بين الحنان المُعطى، والقهر المسلوب، عناق تخرج به «فاطمة» الأمومة على المسكينة، وتُخرج به «سيلين» الاحتياج على المغلوبة أمرها.
_____________
وضعت بين اختيارين يؤرقان نومي ليلًا، وضعت بين حبيبتين إحداهما يعشقها قلبي، والثانية أكره أن يمسسها أذى، فما باليد حيلة في الاكمال نحو إرضائهما وارضاء ذاتي التي تعبت!
وصل للمنزل بعدما ظل جالسًا لبعض الوقت رفقة صديقه «مروان» يتحدثان بتلك الأمور الكثيرة التي وضع هو بها، ولج لشقة أمه فوجدهم جميعًا هنا، ألقى السلام وجلس على الكرسي المجاور لأمه:
"السلام عليكم، عاملين إيه؟"
أجابته «رنا» بابتسامة زينت ثغرها عندما رأته الآن:
"بخير ياحبيبي، إيه كنت فين كدا؟"
_"مع الشباب"
أجابها باقتضاب ونظر نحو «مرام» التي ابتسمت بخفة له وأبعدت بصرها نحو «رنا» فوجدتها تطالعها بضيقٍ بطرف عينها، ولكن بطريقة لم تلحظها سوى «مرام» التي أبعدت بصرها بتنهيدة، تحدثت أمه تقطع ذلك الصمت:
"الدنيا تمام صح؟ فيه جديد في الحوارات اللي بتحصل!"
هز رأسه بنفي بتنهيدة ومرر يده على شعره ثم أنزلها على نظارته الطبية يضغط عليه ناحية أنفه، ثم نظر ناحية «مرام» مطولًا حتى قرر التحدث بهدوء:
"نفسي رايحة للتشيز كيك اللي بالفراولة اللي بتعمليه، هجبلك حاجته دلوقتي واعملي النهاردة!"
عبست «رنا» وتحدثت سريعًا شاعرة بنيران الغيرة من طلبه من «مرام» خصوصًا:
"طب ما أعملك أنا..."
قاطعها بحدة خفيفة وهو مازال بصره مُعلقًا على «مرام»:
"لا مرام هتعمل، أنا بحبه من أيدها"
أومأت له «مرام» بابتسامة خفيفة مُجيبة عليه:
"آه طبعًا ممكن، متجبش حاجة، أنا كنت جايبة الطلبات من فترة ومكنتش عملتها هقوم أطلع أعمله"
ثم نظرت نحو «رنا» وتنهدت من أعماقها ثم تحركت من مكانها تحت نظراته للأعلى، بينما هو نظر نحو «رنا» وابتسم بخفة قائلًا:
"هسبقك عالشقة، عن أذنك يا أمي"
وتحرك هو الآخر نحو شقته مُمسكًا بالحقيبة التي وضع بها زجاجات الماء المقروء عليها القرآن وخبئها بعيدًا عن الأنظار، وولج ناحية الغرفة يبحث بأغراض «رنا» قبل صعودها عله يجد أي شيء؛ فالشك يحاوطه الآن من كل إتجاه ومن كل شخص، وعندما شعر بتواجدها توقف وتحرك ناحية المرحاض يغسل وجهه ويديه ثم عاد للغرفة يُبدل ملابسه لأخرى بيتية وتوجه «لرنا» مبتسمًا:
"العلاج ماشي معاكِ تمام؟"
أومأت برأسها ثم تحدثت بنبرة عاتبة:
"مقولتليش ليه أعملك أنا؟ اشمعنى طلبت من مرام؟"
ضمها نحو صدره يربت على شعرها بحنانٍ وهو يقول:
"مش عاوز اتعبك، أنا عارف إن وقفتك الكتير بتتعبك، ارتاحي"
عانقته بقوة وهي تقول بابتسامة واسعة؛ فحديثه راقها وأعجبها جدًا:
"ربنا يديمك ليا يارب ياحبيبي!"
جلس معها قليل من الوقت وغادر الشقة وهي بالغرفة بعدما أخبرها بصوتٍ عالٍ نسبيًا:
"شوية وجاي يا رنا"
توجه بخطواتٍ ثابتة نحو الأعلى، ودلف للشقة بالمفتاح الذي معه دون أن يصدر أي صوت، متوجهًا لها بالمطبخ بهدوء بشكلٍ أفزعها عندما استدارت له كاتمة صوت صرخاتها بوضع يديها على فمها، اقترب نحوها وخفف عنها:
"أهدي مش قصدي اخضك!"
تقصد ضمها له فأمسكت بيده بقوة التي تساندها وهي تقول بلهاثٍ عميق:
"كنت سرحانة في اللي بعمله يا آسر حرام عليك، مش هتبطل تخضني"
ابتسم واقترب يقبل رأسها بحنية بالغة خرجت من أعماقه وهو يبرر فعلته:
"مش قصدي والله فكرتك سمعتي صوت باب الشقة، سرحانة في إيه؟"
ابتعدت عنه قليلًا ولكنه سرعان ما جذبها نحو أكثر مجددًا مُصرًا على قربها منه لتبدأ توترها منه وهي ترفع عينيها نحو عينيه تحديدًا:
"مافيش، سرحانة بس في كذا حاجة كدا يخصوني يعني!"
_"وهو اللي يخصك ميخصنيش، أنتِ بقيتي مراتي!"
قالها بأصرارٍ غريب، فأبتلعت غصتها وهي تومئ برأسها تجيب عليه:
"آه طبعًا، بس قصدي يعني كنت بفكر في ماما وبابا وكدا، هو في .. إيه؟"
سألته بإرتباك بينما هو ظلت عينيه مُعلقة رفقة عينيها الخضراء، ترك الموضوع الأساسي بتمويه ماكر وهمس بصوتٍ خفيض مُتلاعب:
"مع إن عيني خضرا زي عينك، بس أول مرة أشوف عين بالجمال ده، هو أنا عيني حلوة زيك كدا؟"
ضمت شفتيها لداخل فمها ثم اخرجتها وأومأت برأسها له تقول بنبرة مُغيبة:
"جميلة اوي بصراحة!"
لعب على وترها الحساس، أيعقل أن يكون يخرج من فم المحبوب كلماتٍ هكذا ساحرة؟
تحدث بصوتٍ أجش سلب كيانها:
_"يبقى ابننا أكيد عينه هتبقى ساحرة!"
مجددًا شعرت بغصة ولكنها مؤلمة من لذة السعادة، وليس من الخوف، جذبها معه نحو غرفتها راسمًا معها أساليب من العشق مختلفة!
لُعبة جديدة بدأها للتو، ولن تنتهي إلا بأنتهاء الشر ذلك من حياته، يلعبها رفقتهما حتى يصل لحلٍ واضح لمن يحاول أذيته، وسيلعبها رفقة الجميع أيضًا!
_____________
ظل يحاول أن يصل للعهد الذي أخذه على نفسه بأنه ملكًا لحبيبة قلبه «عهد»، ولكن الحياة اختارت له ضوء القمر ليولج لحياته، اختارت له أن يكمن سر الرحلة رفقتها، ورفقة قلبها المكسور، فيصبح ضمادًا لها، وهي نورًا لقلبه!
حل المساء كانت تجلس رفقة «فاطمة» بعينين لامعتين بسعادة، ورفقتهما تجلس «تسنيم» التي أتت قبل قليل ترمي بهمومها عند المرأة التي بها رائحة أمها الطيبة لصداقتهما القوية التي دامت لسنين، ولم تجد أحن منها لتشكو لها همها الكبير الذي حاولت ألا تذكر اسم ابنها فيه، فمنذ تلك المشاجرة العنيفة التي دارت بينهما، وهي تحاول ألا تذكر اسمه حتى لا تؤنب ضميرها أكثر.
تحدثت رفقة «سيلين» في محاولة للتقرب منها لتكتسب صديقة تحكي رفقتها في الأيام الصعبة، ولكن الآن وجدوا اقتحام ذكوري من ثلاث؛ «مروان»، «إبراهيم»، «عبدالله» الذي حالما شعر بوجودها جلس بعيدًا عنهم جميعًا حتى لا يختلط بها.
دون تمهيد لأي شيء تحدث «إبراهيم» بصوتٍ أجش صريح:
"أنس اقترح فكرة، كانت الفكرة مترتبة على حاجة تانية، وليد الأنصاري مجهز لسيلين جوازة من رجل أعمال وهياخدها من هنا يجوزها، أنس أقترح أنها تتجوز حد من هنا من الحارة عشان دي ممكن تحرق أبوها، أنا جاي وبقول كل حاجة وبوضوح عشان يبقى كله على المكشوف"
زوج؟
عند ذكرها نظرت فورًا «لمروان» الذي انتبه لنظراتها، فتسائلت بصوتٍ مُرتبك:
"طيب هو مين الـ person ده؟"
صمت احتل المكان لعدم فهم الكبار لها فتحدث «مروان» بتنهيدة وهو يطالعها بطرف عينه:
"تقصد مين الشخص ده .. ما تقولي الشخص قولتلك عودي لسانك عالكلام العربي، قولي الشخص البني آدم الإنسان العريس، شايفة كام كلمة تنفع!"
كان ينظر لها في نهاية حديثه بسخطٍ، فابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تومئ له برأسها ليجيب هذه المرة «إبراهيم»:
"لسه مش عارفين، بس يعني هنشوف حد ابن حلال ..."
_"مروان"
قالتها دون تفكير، ساذجة، أحرجت نفسها من نظراتهم جميعًا التي تعلقت عليها، حتى هو نفسه نظر لها بصدمة لذكر اسمه هكذا دون أي رد فعل، فتسائل ببلاهة:
"مروان مين؟"
ضمت شفتيها وقررت أن تُخرج بعض الجراءة التي كانت لديها سابقًا وهي تقول:
"مروان أنت، أنا موافقة اتجوزك أنت، أنا مش هوافق على حد تاني غيرك، حتى لو هتطلقني بعدها بس أنا محتاجة أكون معاك فترة طويلة تمسك بأيدي وترجعني للطريق الصح زي ما بدأت معايا، محتاجة اتعافى!"
الصمت عاد يحتل المكان وأصبح سيده!
صدمة، أم أنه تعجب لأمر تلك الفتاة!
_______________
مرحبًا صغيري في الغابات المملوءة بالبشر!
كان خارج الحارة يـُنهي بعض الأوراق التي سيحتاجها غدًا في تقديمه للعمل بتلك الشركة التي أخبره عنها صديقه، وصل نحو شقته ليجد الباب مفتوح فتعجب لأمره وتحرك وهو ينادي بصوتٍ هادئ:
"مام..."
توسعت حدقتيه وهو ينظر على أمه المُلقية أرضًا تنزف الدماء من فمها، هرع نحوها وصرخ بفزع:
"مامــا، إيه حصــل؟"
كانت تتنفس الصعداء، ضربوها الأوغاد
"رزان يابني، جوزها خدها بالضرب من هنا ومشي!"
رائحة غريبة انتشرت بالارجاء،
إنها رائحة الغدر!
تعليقات



<>