رواية تشابك ارواح الفصل السادس عشر16بقلم امينة محمد


رواية تشابك ارواح

 الفصل السادس عشر16

بقلم امينة محمد

 الانهيارات تثاقلت، والآلام تزايدت، والأوجاع التهبت، وها أنا دون خليل يواسي، وقلب يَحن، ويدين تُربت، وعناق دافئ، أنا الوحيد بين شتات الحياة وأجيجها، أبحث عن الأمان فلا أجد له طريقًا، كل الطرق مغلقة واحدًا فقط به أشواك، فما باليد حيلة؛ يجب أن أعبره لأكمل سير الحياة لعليٌ أجد حينما أصل بر الأمان!

_"وربنا أنا لسه متعافتش من العلقة اللي فاتت!"
قالها «حمزة» بسخرية وترقب الرجال يقتربون منهم مستعدًا للنزال الآن، وبدأت حلبة ملاكمة في وجههم؛ بعضًا من لكماتهم على العديد من لكمات الرجال!
سحب «عبدالله» سيخ حديد من الأرض وبدأ يهددهم به وهو يمرره أمام وجههم دون إصابة مع صراخ «مروان» له:
"متجبش الناهية دلوقتي ياعبدالله!"
أنهى جملته متلقيًا لكمة في وجهه الوسيم، ليردها للذي ضربه وهو يتراجع للخلف يحاول أن يرى أي من اللذين أمامه سيضربه أولًا ليتفادها، بينما «حمزة» يحاول أن يسدد للذي أمامه ضربة فيتلقاها بخمسة وقال بنزقٍ متألمًا:
"وربنا عشرة على أربعة مش رجولة، دي قلة أدب على فكرة!"
بينما رابعهم لا يُحسد، لديه قوة بدنية رائعة من ذهابه للنادي الرياضي باستمرار، ولكن تعبه الجسدي يغلبه فيحاول تسديد بعض اللكمات لهم وبعضًا بقدميه!
مع تحريك السيخ في وجههم وضرب واحدًا منهم به بقدمه، كان يتحرك نحو السيارة التي أتوا بها، وفتح أبوابها جميعها، ثم ضرب رجلًا بالسيخ في رأسه ليقع صريعًا لا يعلم إن كان حيًا أم ميتًا ثم ركبها وقاد بها تجاههم جميعًا صارخًا:
"اركبوا بسرعة!"
_"كنت هتخبطنا إحنا كمان ياعم!"
قالها «حمزة» بنزقٍ، «فعبدالله» بالفعل كاد يصطدمهم ولكنهم تفادوه وركبوا سريعًا وغادر بهم المكان بأكمله مُغلقين أبواب السيارة عليهم، استند كل واحدٍ منهم في تعب يحاولون التقاط أنفاسهم.
نبس«حمزة» من بين لهاثه بسخرية:
"نادر الحيوان لما جه قال الحاج وليد الأنصاري عاوز يصفي كل حاجة ويتناقش معانا، إزاي مكنلش لمّاحين من كلمة الحاج دي، هما يعرفوا الإسلام والحج وكدا!"
مسح الدماء التي خرجت من شفتيه بتأوهٍ صامت، كان أقل ضررًا فيهم، بينما «مروان» لديه كدمة في خده قريبة من عينه اليمنى، «وآسر» لديه جرح بسيط في شفته، بينما «عبدالله» لديه بعض الخدوش أيضًا مع كدمة في عينه!
أردف «مروان» حانقًا بألم وهو يمرر يده على كدماته:
"أيدهم تقيلة موت!"
رد عليه «حمزة» بسخطٍ:
"علقة متجيش حاجة جنب اللي خدتها منهم وأنا في شغلي، دوقوا شوية دوقوا"
هدر بوجهه «آسر» بحنقٍ:
"إحنا مال أبونا ياعم؟"
ابتسم «حمزة» ابتسامة جانبية ماكرة قائلًا:
"إيه ياعريس خايف على جمالك ولا إيه؟"
كان الرد من «عبدالله» الذي لكمه في بطنه بغضبٍ وهو يرد زافرًا:
"اكتم بقى يالا، أبو كبدة الكلاب اللي فدماغك دي"
_"يابن الناس الطيبة!"
تأوه قائلًا ذلك بسخطٍ وتبدل المزاح لجدية عندما شعروا بخطورة الموقف للتو، وعندها نبس «عبدالله» بتيه:
"وبعدين، هو وليد هيلطش للكل كدا؟ هنعمل إيه في الحوار ده؟"
أجابه «مروان» شاردًا بتنهيدة فيما قد يحدث بعد ذلك، فهو لا يعلم ما كانت نية «وليد» بالفخ الذي صنعه لهم؛ أكانت موت أم مجرد شجار فقط يضع بصماته عليهم:
"الحوار ده مافيش عليه دليل إن دول رجالة نادر أو وليد، أو حتى هما اللي ضربونا، مافيش كاميرات بتسجل، وأكيد الرجالة دي هتقف في صفهم لو أتجابوا برضو!"
هنا تدخل «آسر» الذي كان يدور بعقله ذلك السؤال الذي دار بعقولهم جميعًا، ونبس بسؤاله:
"تقصد منبلغش؟ طب وبعدين يعني، ماهو هيزيد فيها وهيبدأ يلطش للكل، زي ما مسكوا حمزة مرة لوحده ومرة تانية وكلنا سوا، هيمسك كل واحد فينا لوحده تاني"
نظر له «مروان» الجالس جواره بنظراتٍ حائرة:
"عندك حق، بس لو جرينا بلغنا مش هيفيد بحاجة، وتاني حاجة هنبان عيال وإحنا بنجري نطلب مساعدة وكأننا مقدرناش نعمل حاجة!"
حرك «حمزة» رأسه للمقعد الخلفي وهو يطالع «مروان» وهدر بسخرية:
"ما إحنا فعلًا مقدرناش نعمل حاجة اهو"
تطلع به «مروان» بنظرة اخرسته كانت حادة بعض الشيء، يشرح له ماهية مافعلوه لينهال عليهم «وليد» بالضربات تلك:
"هم مستخدمين قوة، وإحنا رايحين مديين الأمان، مخدناش معانا مطاوي ولا نيلة، وعلى رأيك قول للحرامي احلف ونادر لما جه دخل علينا بدخلة الحاج وليد، كل اللي بنعمله دلوقتي أساليب ضغط عليه علشان كده بيفكر إزاي يهدنا، بس مقدرش؛ فهو عمال يخبط وخلاص في أي حاجة!"
أكد على حديثه «عبدالله» بقوله بجدية ثم تحول لسؤالٍ بعبوسٍ:
"مروان معاه حق، وإلا مكنوش طلبوا مننا إننا نتنازل عن الأراضي، هو إيه العربية الغريبة دي اللي عند بيت محسن؟"
أجابه «حمزة» بعدما أخرج تنهيدة قوية دون تمهيدًا للمسكين الذي جواره:
"العريس اللي جاي لتسنيم"
لم يردف الآخر بل ظل نظره مُعلقًا على السيارة حتى تجاوزها، ولم يفق سوى على قول «مروان» بنبرة جامدة تنبهه:
"ربنا يتمملها على خير لو فيه نصيب ويفرح محسن بعياله كلهم!"
وقفوا بالسيارة أمام البناية وتفرقوا جميعًا نحو منازلهم، بينما هو سار رفقة «مروان» تجاه شقته وعقله في حياة أخرى، يُفكر كيف سيتخطى تلك الجملة التي قيلت قبل قليل، أتاها شخصًا آخر من الممكن أن توافق عليه وتُنهي كل لحظة كانت بينهما،
تنهي كل حبٍ بينهما فتحوله لبغضٍ،
تنهي كل النور ليتحول لظلامٍ،
ومعه الأمل متحولًا ليأسٍ،
بينما الأمان تحول لذعرٍ،
وتفاقم العشق تحول لغضبٍ،
واليقين في أن تكتمل تلك العلاقة، أصبح حلمٌ لن يحلم به بعد اليوم!
كان هنالك شخصٌ يقف بيده الجهاز اللوحي يتابع كل ما حدث للتو بينهم وبين رجاله، بابتسامة ساخرة تعتلي ثغره والشر يخرج من عينيه، أطفئ الجهاز وأخرج هاتفه ووضعه على أذنه بعدما اتصل بشخصٍ:
"الو يانادر، من بكرا تجيب عمال وتبدأوا تشتغلوا في المصنع، المصنع ده لازم يتبني ويخلض في أسرع وقت"
صمت يستمع للطرف الثاني وهو يقول:
"اسمع اللي بقولك عليه، وسيلين بنتي أنا هجيبها بطريقتي قريب عشان فيه حوار مستنيها، يلا اتكل على الله عشان العيال دول مش عايزين غير كدا، أنا هوريهم مين وليد الأنصاري!"
______
بينما في ذلك المنزل الذي يقال أن به زفاف سيتم، كانت تجلس بشعورٍ غريب، شعور تمقته لذاتها اليائسة المُتعبة التي ترغب بالراحة الأبدية، كانت تجوب ببصرها بين والدها وأخيها الجالس بملامح هادئة بعض الشيء، ترى تفاعل والدها رفقة ذلك الشاب بلا مبرر:
"وأنت يابني أن شاء الله ليك شقة صح؟"
أومأ برأسه ممرًا نظراته بين والدها وبينها بشكلٍ غريب:
"أيوه عندي واحدة صغيرة كدا لحد ما ربنا يكرم ان شاء الله، هو مش لسه بدري شوية عالكلام في الحوار ده؟"
تقوس حاجبي «تامر» في انفعال، فهو الآن يمقته لمقت اخته له، ويكره تلك الجلسة ولكنه مجبور إحترامًا لوالده، يود أن يضم المسكينة تلك بين أحضانه ويواسيها:
"بدري إزاي، ما إحنا لازم نكون فاهمين كل حاجة ولا هو هنرميلك أختي كدا؟"
تدخلت والدة المدعو بالعريس في قولها بتشدقٍ ساخر كامرأة مصرية أصيلة:
"لا طبعًا يابني حقكوا، أهدى ياسعيد يابني، إحنا بس ياحاج مُحسن بنقول أنتو بتشتروا راجل يعني، وكل حاجة هنتفق عليها، إحنا جايين العريسين يتعرفوا على بعض وكدا"
أخرج «مُحسن» صوتًا من حلقه يتنحنح بابتسامة خفيفة:
"آه طبعًا بنشتري راجل ودكتور قد الدنيا، عمومًا ممكن يقعد هو وتسنيم هنا في الصالة قدامنا"
نظر نحوها يحثها على الوقوف والتحرك قدمًا مع عريسها، عريس الغفلة الذي لا تطيق النظر لوجهه!
تحركت نحو الصالة وجلست على الذي يقبل شخص واحد، بينما هو جلس على الأريكة ذات الطراز المصري القديم وابتسم لها يتابع ملامحها وجسدها بجراءة:
"عاملة إيه؟"
_"كويسة"
أجابته باقتضاب ليومئ برأسه متسائلًا:
"باقيلك سنتين في صيدلة صح؟ ناوية على شغل؟"
أومأت برأسها وهي تشيح بصرها عنه قائلة على سؤاله فقط:
"آه سنتين، آه أكيد ناوية أفتح صيدلية"
التوت شفتيه بابتسامة خفيفة وهو يتحدث عن نفسه:
"أنا شغال حاليًا في المستشفى كدا لحد ما أفتح عيادتي ان شاء الله، عايش دلوقتي مع أمي واخويا في بيت العيلة، وأبويا ميت بقاله أربع، ليا شقة وكدا زي ما قولت لأبوكِ جوا، لحد ما اوسعها يعني"
بتنهيدة خفيفة أومأت برأسها على حديثه، لا تريد التحدث برفقته أو محاولة لفتح أي نقاش بينهما، فتحدثت على مضضٍ:
"أنا أمي برضو ميتة الله يرحمها، ربنا يوفقك، أنت ناوي تتجوز على طول ولا هنقعد لحد ما أخلص كلية؟"
_"ممكن على أواخر السنة الأخيرة ليكِ لو فيه نصيب نتجوز، على حسب ما أخلص حالي وأنتِ كمان يعني، عشان تتفرغي لبيتك!"
قالها مع ابتسامة رأتها غريبة وهو يختم حديثه، ونطق مكملًا حديثه:
"مش عارف هيهمك ولا لأ بس أنا كنت خاطب قبل كدا وفركشت، لمدة أربع شهور تقريبًا"
سألت بفضولٍ علها تجد أي عيب به لتنهي تلك الزيجة:
"ليه؟"
_"مكناش متفاهمين، وأهلها كانوا داخلين على طمع!"
قالها ببساطة لتسأل مجددًا باستغراب:
"طمع على إيه يعني؟"
أجاب باقتضاب وبنبرة وجدتها غريبة نقلت لها الاشمئزاز له:
"طلباتهم كانت كتير، وأنا من البداية قولت هجيب اللي هقدر عليه وكانوا عايزين أنا اللي أفتحلها العيادة!"
أبعدت بصرها عنه بعدما استشفت حديثه ومغزاه، وداخلها فقط يقول بينها وبين نفسها 'فتحوا راسك يابعيد!'
كان بملامح شرقية غليظة حادة، بشعرٍ خفيف وعينين عسليتين يضع فوقهما نظارة طبية، أتتها الجراءة لتسأله:
"يعني لما نتجوز مش أنت اللي هتفتحلي الصيدلية؟"
هز رأسه بنفي وبنبرة واثقة أجابها:
"لا طبعًا، أبوكِ يفتحها!"
_"آه"
قالتها بشرودٍ وغادرت ذكراها نحو قول الحبيب وهو يحاول أن يُرضيها هي ووالدها بقوله:
"والله اتجوزك بس وافتحلك اجمدها صيدلية في الحارة وبرا الحارة، باسمك كدا ينورها .. الدكتورة تسنيم مُحسن، والله أحلامك دي كلها أنا هحققها حتى لو كانت إني أجيبلك نجمة من السما هجيبها لأجل عيونك"
مؤلم الواقع عندما تتعايشه، وأكثر ألمًا عندما يعطيك دروسًا أقوى منك!
مرت تلك الليلة وغادر من بيتها ولم تجلس هي للحظاتٍ حتى، بل دلفت سريعًا نحو غرفتها دون التحدث مع أحد، تهرب من الجميع وتتخذه أسلوب حياة في حزنها، وكأنها خائفة من وجودها وسطهم، بالرغم من أنهم عائلتها وأمانها!
_________
يقولون في الرحلات فلتصحبك السلامة، وها أنا برحلة لا أعلم متى سأصل سالمًا، متى ستصل رحلتي على أرضها التي ستنبع بما تشتهيه نفسي، وتحبه ذاتي، أم أنها ستظل عالقة في السماء بلا هبوط، بلا نجاة!
طرق الباب بخفوتٍ لأنه يعلم بأن أمه نائمة الآن، ولكن بعض الاحتياط واجب إن كانت هي مستيقظة حتى لا تفزع من دخوله المفاجئ، ثم أدار المفتاح ببطءٍ بالباب ودلف ليجدها تقف أمامه مبتسمة، عندما لمحته بذلك الشكل المُدمي اختفت ابتسامتها وتوسعت حدقتيها بصدمة وكادت أن تصرخ فزعة ولكنه أوقفها بتقدمه نحوها مشيرًا لها بأن تصمت بنبرة متوجسة:
"ششش أهدي أهدي متصوتيش عشان أمي متصحاش هتقوم مفزوعة، أنا كويس دي كانت خناقة بس!"
رفعت يدها اليمنى لتضعها على جروحه ولكنه أبعد وجهه تلقائيًا وهي تقول باضطراب:
"خناقة إيه ياحمزة أنت متبهدل!"
_"قصدك متطرشم"
قالها بتنهيدة وهو يمرر يده بخصلات شعره ويتابع توترها البادي على وجهها وخوفها عليه، أكمل حديثه بنبرة تحمل الطمأنينة لها:
"أهدي بجد أنا كويس، قولتلك مجرد خناقة كدا وعدت على خير، هي عشان الجروح القديمة فـ وشي لسه مكنتش اتلمت فأتفتحت تاني بس أنا كويس"
أومأت بتنهيدة قوية وهي تحاول تصديقه ومازالت تتأمل تلك الملامح المُتعبة أمامها والتي مُلأت بالجروح لتغطي على وسامته، نبست بصوتٍ خافت:
"طب أقعد، أنت مكلتش لسه وأنا خلصت المكرونة بالبشاميل لقيتك نزلت، هجبلك طبق كُل"
أومأ لها بابتسامة وتحرك نحو المرحاض يغسل يديه ووجهه من الدماء وهو يرى ما أصابه مؤخرًا، لم يرد اخافتها عليه لأنها الآن تستقوى به، وإن فعل ستحمل همه مع همها الكبير، تحرك نحو الخارج جالسًا على الطاولة وهو يُخرج من جيبه علبة السجائر ليشعل واحدة، ولكن هنالك يد سحبتها من يده ليرفع بصره نحوها باستغراب منتظرًا تبرير، ففعلت ذلك بتنهيدة وهي تجلس على الكرسي الذي أمامه مباشرةً ووضعت على طاولة الأكل "السُفرة" سجارته وعلبة الإسعافات الأولية:
"كُل الأول وبعدين دخن، دي هتسد نفسك عن الأكل"
أخرجت القطن وبدأت تمسح له الدماء التي مازالت على وجهه، بينما هو يتابع ملامحها عن قُربٍ بتأملٍ واضح، لا يستطع الآن أن يشيح بصره بعيدًا عنها، وكأنها ساحرة وهو المسحور، وسُحر بسحرها الفاتن!
همهم بمشاكسة قائلًا بنبرة خفيضة:
"ايدك خفيفة عالجرح، دي تتحط عالجرح يطيب"
توسعت ابتسامتها بخفة وقابلت عينيها الخضراء عينيه البُنية بدرجتها الفاتحة، في اتصالٍ تتحاكى به العيون دون الحاجة للألسن بأن تنطق، قطع ذلك وهي تضع المطهر على وجهه ليؤلمه قليلًا فتأوه بصمتٍ:
"المطهر ده بيلسع"
تنهدت بحزنٍ عليه وهي تردف بنبرة هادئة:
"معلش استحمل بس شوية، هو عشان الجرح بس ملتهب ياحمزة فبيلسع"
تحمل على مضضٍ ذلك الوجع البغيض من المطهر الذي سبّه بسره حتى لا يُفسد براءتها بألفاظه النابية، تركها تكمل ما تفعل بوجهه الذي لم يعد وسيمًا أبدًا:
"أنا بعت لأبوكِ تاني النهاردة، على أساس جاي آخر الأسبوع وأحنا النهاردة الأحد أصلًا، معرفش مبلغنيش بحاجة ليه بس كلمته تاني لحد ما نوصل لحل!"
أخرجت تنهيدة من أعماقها وهي تشعر بأنها عالقة في الظلام، لا ترى النجاة قريبة ولا الموت أقرب، الشعور ذلك بالنسبة لها أقسى من عدم معرفتها بماذا سينال قلبها في النهاية:
"مش عارفة، ممكن يكون مشغول في الشغل عشان لو هيسيبه وينزل، أصل الشركة في دبي غير هنا وهناك يعتبر كل حاجة مُعتمدة على بابا"
أومأ برأسه مبتسمًا يواسيها بنبرته الحنونة، لأنه لمح التيه يسبح في عينيها للحظاتٍ:
"كل حاجة هتبقى كويسة ان شاء الله، متقلقيش .. فين البشاميل بقى؟"
ابتسمت بودٍ له، ثم وضعت الأدوات الإسعافية التي اخرجتها في مكانها وتحركت من أمامه تجلب له الطعام بعقلٍ شارد ونفسٍ مضطربة، تحمل بين ثناياها التيه الذي لا مفر منه، تحملت الكثير والكثير مع «نادر»، بل عاشت كل ما هو قاسي ومُميت معه، تتذكر تلك الليالي التي كان يصفد يديها في الفراش أرضًا ويتركها طوال الليل في الظلام وحدها تناجي ربها، تلك الليالي التي كان ينهال عليها بالضرب الشديد ثم يتركها تحاول التقاط أنفاسها التي تصارع الحياة التي أهلكتها، تلك الليالي التي كان يغتصبها ويتركها مُتألمة مُتوجعة لا تقوى على فتح عينيها.
حاولت إخفاء دموعها بسحبها لنفسٍ عميقٍ من الأكسجين الذي يحاوطها، وخرجت بالطعام له ووضعته أمامه بابتسامة بالكاد زينت ثغرها:
"ألف هنا"
كادت أن تغادر من أمامه ولكنه أمسك يدها وهو يشير لها بعينيه ناحية الكرسي الذي يجاوره في ابتسامة بسيطة:
"اقعدي يا رزان"
نظرت ناحية الكرسي وله مجددًا ثم جلست تراقبه بعينين حائرتين لا تعلم أتحكي ما يجول بقلبها الآن أم تصمت وينتهي بها المطاف تصارع بين ذكرياتها وأفكارها حتى تغفى في سبات عميق، ولكن بقوله بحنية جعل من عينيها تناجيه أن يسلبها من تلك الظلمات للنور:
"أحكي .. احكيلي وأنا هسمعك"
ضمت شفتيها على بعضهما تحاول إخراج الكلمات بشكلٍ منسق، ولكن للحظة همست داخلها 'تبًا للكلمات المنسقة وتبًا للمشاعر المرتبة، ومرحبًا بكل ما هو عشوائي بدموعٍ حارقة!'، وعند ذلك الحد اردفت بنبرة غير متزنة، لا تحمل الثبات بتاتًا، بها الإنهيار:
"أنا بس كنت .. كنت بفكر في كذا حاجة، كنت بفكر في اللي حصل مع نادر، هو مبيروحش من بالي بس للحظة حاسة كأني محتاجة أهرب من كل حتة ومن نفسي كمان، أنا معرفش شخص زي ده مريض جه قدامي إزاي ووافقت عليه، بس هو مكنش كدا في الأول لما رسم عليا الحب وأنه بيحبني، وبعدين اتبدل 180 درجة وخلاني قطعت علاقتي بأهلي، أنا بشمئز منه ومني، وبخاف أوي من اسمه لما بيجي قدامي، كنت الأول لما بسمع حد في البيت بيقول نادر بيه جه كنت بترعب وجسمي بيفضل يرتعش ودلوقتي آه هربت منه وبعدت بس لسه بترعب ... ده كان .."
لم تقوى على إكمال الحديث بينما هو بيده الدافئة امسك كفها ووضع يده الأخرى فوقهما، يمد لها الحنان والدفئ فقط، بيدين دافئتين مثل قلبه وبعينين لامعتين تنقل لها العواطف المواسية بكل معانيها، وبنبرة خافتة أردف لها:
"بس أنا مبقتش عايزك تفكري فـ كل ده، فكري في اللي جاي واللي عايزة تعمليه وأنتِ خلصانة منه وبعيدة عنه، فكري فـ كل حاجة حلوة هتعيشيها بعد كدا مع أهلك وأحبابك، الإنسان مننا لازم يعيش تجارب كتير تخليه يقوى، وأنا متأكد إن التجربة دي على قد ما وجعتك على قد ما قَوتك ومش هتخليكِ تقعي تاني بسهولة، اكرفي بقى لنادر عشان هو نهايته وحشة أصلًا ومش هيطولك تاني، رزان أنتِ تستحقي كل الحلو وكل حاجة طيبة عشان قلبك طيب، بس إحنا كلنا متوزع علينا حاجات هتوجعنا لازم نتقبلها ونعديها"
ثم سحب نفسًا عميقًا وهو يربت بيده التي تعتلي كفها بحنية كبيرة:
"لو استسلمتِ لليأس اللي محاوطك مش هتقدري تقومي تاني وتشوفي الحاجات الجميلة في الحياة، والحاجات الجميلة دي زيي مثلًا!"
ضحكت رغمًا عنها من بين دموعها التي إتخذت مجرى واضحًا على خديها، بينما هو ابتسم بتوسعٍ عند رؤية تلك الضحكة الرقيقة منها، ثم همس بينه وبين نفسه في سخطٍ:
"معرفش نادر إزاي جاله قلب يعمل فيها حاجة وهي بالرقة دي، ده محتاج سلك كهربا يمسكه يهزه شوية وينشفه لحد ما نخلص منه"
فكرة شيطانية وردته وهو أن يجعل «نادر» يُمسك بسلك كهرباء ليغادر الحياة، وليت الأفكار تُحقق دومًا، غموها بطرف عينه لضحكتها تلك:
"ألعب، أوعى الضحكة!"
أكمل مزاحه عندما ضربته برقة فوق يده:
"آآه، الحق عليا، أكليني بقى عشان دراعي واجعني أوي"
بنظراتٍ ماكرة مرحة تابع الصدمة تنبع من عينيها وهي تنطق اسمه بتحذيرٍ:
"حــمزة!"
عبس بتشدقٍ وأمسك الملعقة يتذوق المعكرونة التي أعدتها:
"خلاص يوه متبصيش كدا، هاكل أنا .. بس إيه الحلاوة دي وربنا دي أجمل مكرونة بالبشاميل أكلها في حياتي"
ضحكت بخفة وهي تهز رأسها بقلة حيلة له ولدعاباته تلك، كاذب فهو يحب الطعام الذي تعده أمه ولكنه يحاول أن يُجاملها ليُغير لها مزاجها!
طالعته وهو يأكل والابتسامة تعلو فمها، خفيف على الروح قريب للقلب؛ هما الصفتان اللتان شعرتا بهما عندما عاشرته، يا لحظها من ستكون له!
__________
صعد بخطواتٍ خفيفة نحو شقة أمه بابها مازال مفتوحًا، يبدو وكأنها لم تنم حتى تطمئن عليه عندما يعود، سحب نفسًا عميقًا للمواجهة بوجهه المُحمل بالكدمات ودلف لها، عندما لمحته شهقت بعنفٍ من فزعها:
"يالهوي، إيه اللي في وشك ده يابني؟"
جلس جوارها مُمسكًا يديها بين راحتيه ببسمة بسيطة:
"أنا كويس متقلقيش، بس اتعملنا كمين كدا لما روحنا عند المصنع بتاع وليد الأنصاري، طلع سايبلنا هناك رجالة وخدنا اللي فيه النصيب كلنا!"
إنها أم ورأت أبنها أمامها بذلك الشكل الذي جعل قلبها ينقبض، أخبرته بتنهيدة متحسرة:
"يابني أنا قولتلك طلع إيدك من الحوار ده، كفاية الشباب هما شايفين المشكلة وبيحاولوا يحلوها، أنت مش قد الحوارات دي يا آسر وبعدين أنت اليومين دول تعبان وفيك اللي مكفيك!"
تبدلت ملامحه لأخرى منزعجة من حديثها، وهز رأسه يؤنبها بقوله:
"لا طبعًا، أنا مش هطلع ايدي من الموضوع ده، أنتِ مش فاكرة الحاج إبراهيم عمل معانا إيه بعد موت أبويا ولا إيه، وإزاي كان واقف جنبنا! وعبدالله ومروان برضو مسبونيش، أقوم أقولهم لا معلش أنا برا الحوار عشان تعبان شوية!"
تنهدت على حال ابنها الذي تخاف عليه من الهواء بل تود أن تخفيه بين أضلعها:
"أنا خايفة عليك، مش قصدي تنكر جميلهم، أنا أم وأكيد قلبي هيتفزع لما الأقيك جاي في نص الليل بوشك كله كدمات كدا، وقتها هبقى عاوزة أخبيك بعيد عن كل المشاكل"
ابتسم بحنان يطمئن قلبها قلبها وهو يربت على ذراعها:
"متقلقيش عليا أنا زي الفل، هطلع أخد دش وارتاح عشان الإجازة اليومين اللي كنت واخدهم خلصوا، وهرجع بكرا الشركة والجيم كمان"
قبل أن يتحرك تحركت هي تحمل حقيبة سوداء مغلفة بإحكام، وكانت كبيرة بعض الشيء:
"طب معلش، طلع دي لمرام معاك، وآه صح خد ده نسخة من مفتاح شقتها خليه مع مفاتيحك!"
تطلع بنظراته المترقبة على تلك الحقيبة وعلى أمه أيضًا، وتناول من يدها الحقيبة ناظرًا للمفتاح:
"ما بلاش المفتاح حبقى أخبط عليها وخلاص"
أمسكت يده ووضعت بها المفتاح بقولها بتشدقٍ:
"يوه خبط على مراتك، خلي معاك المفتاح يا ابني الله يهديك"
تنهد وأخذه منها وهو يوميء برأسه فقط، ثم تحرك لشقتها بقدمٍ يقدمها وأخرى يؤخرها حتى وصل لشقتها بالطابق الثالث، أخرج المفاتيح ودلف لها بخطى ثابتة يراقب أنحاء الشقة ليرى أين هي، ترك الحقيبه جوار الأريكة وتقدم نحو غرفتها فوجدها واقفة أمام المرآة تنظر لنفسها بشرودٍ لدرجة أنها لم تلاحظ وجوده، كانت ترتدي فستانًا باللون الأزرق يتناغم مع شعرها المنسدل وعينيها الخضراء جعلها كفراشة تتطاير حول الزهور.
بصوتٍ خفيض تحدث حتى لا يفزعها:
"مرام؟"
_"ها!"
نطقت بها بفزع والتفتت له فور نطقه لاسمها، تقدمت له بخطواتٍ ثابتة وهي تسأله بدهشة:
"يا لهوي وشك ماله؟"
أجابها بهدوءٍ ومازالت عينيه مسلطة على ذلك الأزرق القصير الذي يلتف حول جسدها الضئيل، وأجاب بهدوء:
"ولا حاجة"
وباستغراب احتل ملامحها التي تقوست مُتسائلة:
"هو أنت دخلت إزاي؟ هو أنا كنت سايبة باب الشقة مفتوح!"
هز رأسه بنفي وطمئنها ثم أشار بعينيه للفستان يسألها بترقب:
"أنتِ بتعملي إيه؟"
كانت عينيها داخل عينيه تحديدًا وهي تجيبه ببساطة:
"بشوفه حلو عليا ولا لأ، أصل بقيت بشوف كل حاجة بلبسها وحشة، أو أنا بقيت في نظري وحشة"
عقد حاجبيه بتلك المشاعر السلبية بها، فهي إن أقسم أن ملامحها لم يرى مثلها سيُصدق قسمه، لديها ملامح فاتنة وجميلة، ثم قال صادقًا:
"حلو عليكِ أوي، ليه بتقولي كدا؟"
ابتسامة خفيفة زينت ثغرها وكأنها طفلة أعطاها شخص ما حلوى ففرح قلبها، ثم شكرته بودٍ:
"شكرًا يا آسر، كلامك ده فرحني أوي"
أومأ برأسه والتفت يشير على الحقيبة التي كانت سببًا بتواجده هنا وفسر لها سريعًا:
"الشنطة دي أمي بعتهالك ..أنا نازل"
أمسكت يده سريعًا وتشير ناحية كدماته المُدمية وقالت بخفوتٍ:
"طب استنى أعملك الكدمات دي، أدخل أغسل وشك وهعقمهالك على طول وانزل!"
أراد الرفض ولكنه شعر بما قد يؤلم قلبها برفضه، فأماء برأسه وتحرك للمرحاض وغسل وجهه بالماء الفاتر، ثم رفع بصره ينظر ناحية المرآة يتابع ملامحه، انتقلت عينيه لشيء لفت نظره خلفه؛ ولم تكن سوى سُتره له قديمة، تقوس حاجبيه باستغراب والتفت نحوها ممسكًا إياها بين يديه، خرج من المرحاض على خروجها هي الأخرى من غرفتها بالقطن والمعقم، لمحت السُترة بين يديه واستمعت لسؤاله:
"هي دي بتعمل إيه هنا؟"
نظرت لعينيه واقتربت له ممسكة إياها من يديه ووضعتها جانبًا، ثم جلست على الأريكة ليجلس أمامها وبدأت بكل هدوءٍ تمسح الدماء من على وجهه بينما هو ينتظر منها أجابة:
"مجاوبتيش!"
وضعت المعقم على القطنة ثم على وجهه مُجيبة ببساطة:
"جت هنا بالغلط"
_"متكدبيش أنا عارفك لما بتكدبي، بُصي في عيني وجاوبي يا مرام"
قال بصرامة فشعرت بتلك الحدة في كلماته لتجيب بعدما تنهدت:
"بس أنا مش كدابة، هي فعلا كانت تحت عند خالتو بقالها فترة واتحطت مع حاجتي بالغلط، فسيبتها هنا"
همهم بهدوءٍ وسأل بنبرة أقل حدة من السابقة وكأنه يحاول تصليح خطئه بانفعاله عليها:
"فيكِ حاجة طيب؟ شكلك كدا مرهقة وتعبانة"
اكتفت بهز رأسها بنفي، لا ترغب في إخراج تلك المشاعر الفياضة التي داخلها الآن أمامه، فهو مازال لا يتقبل وجودها كشريكة، بل يراها كزوجة ثانية فقط، أبعدت يدها عن وجهه بعدما انتهت من تضميد جروحه وقالت:
"لا مافيش، أنا كويسة متقلقش"
سحب نفسًا عميقًا شاعرًا بذلك التخبط داخلها والذي يحدث الآن داخله أيضًا، واقترب نحوها يلثم جبهتها فأغمضت عينيها على أثرها تستشعر كل لمساته، كانت عينيه مغمضة ولم يشعر سوى بذلك الحلم البغيض الآن بشكلٍ جديد «لمرام» ومخيف أيضًا، ابتعد عنها فورًا كمن لدغه حيّة، لترتسم ملامح الاستغراب على وجهها متسائلة:
"مالك؟"
أجابها باختصارٍ مُقتضبًا:
"مافيش، تصبحي على خير"
ثم تحرك سريعًا لأسفل بعقلٍ شارد، لم يرى «رنا» في الإرجاء، فدلف سريعًا نحو غرفتهما ليراها نائمة في وضعها الملائكي بالنسبة له، تذكر شكل الأخرى بعينين حائرتين في ذلك الوضع الذي يراها به، الثقل يزداد فوقه يومًا تلو الآخر، بينما الثانية ظلت تتابع تحركه بتلك السرعه باستغراب، وكسره لها بذلك الشكل الذي وكأنه ينفر منها، حتى بات موجودًا أمامها الآن، أي حظوظ تمتلك؟
كانت دومًا تحاول أن تحلق كفراشة دون ملل أو كلل، ولكن الحياة لها رأي آخر في جعلها تعاني من الألم!
__
للنهاية دومًا شعور مختلف عميق،
نهاية مطاف وبداية غيره على أمل أن تجد الحياة طريقًا لقلبك لتزيل الهموم وتزرع محلها الحبور،
رفقة النور الذي سيولج لقلبك من الله،
لتقوم من مراحل الإنكسار نحو مراحل النهوض،
برحيل الأحبة اعتقدت أن تلك نهاية القصة،
ولكنها لم تكن سوى بداية النور الذي تجهله والخير القادم،
دع النور يدلف لقلبك، فمازال للقصة بقية لم تُحكى.
كان يقف في الشرفة صباحًا يسقي الزرع بنفسٍ مضطربة بعض الشيء بسبب ما حدث بالأمس، الآن هو يعاني من بعض الشكوك تجاه الأمور التي تسير بشكلٍ معاكس بالنسبة لهم، كان لديه بعض الأمل في استرداد الحق ولكنه الآن يخاف ألا يُعيده ولا ترتاح روحها في قبرها، كلما تذكر ما أصابها قبل موتها يصيبه غصة مؤلمة تقف في حلقه دون تحرك، يثقل قلبه وأنفاسه حينما يتذكر ذلك، فتصيبه القشعريرة ويشعر وكأنه يود أن يفتك «بوليد» وجميع رجاله، أخرج من جيبه عود الثقاب ووضعه عند طرف فمه يضغط بفكه عليه، لمح عينين تتابعه فألتفت لها وعند رؤيته بتلك الكدمات شهقت بفزعة:
"What the? مين عمل فيك كدا؟"
تابعها هذا الصباح تبدو بحالٍ أفضل عن الأمس، واجابها باقتضابٍ:
"خناقة"
سألته بدهشة وهي تتابع كل تلك الكدمات على وجهه، وداخلها خائف من أن يكون والدها السبب، حينها سيكون الكيل طفح ولا مبرر لهم بكل ما يفعلوه معه:
"خناقة مع مين تعمل فيك كدا؟"
أومأ برأسه وعاد يصوب بصره تجاه الزرع وهو يسألها:
"عاملة إيه النهاردة؟"
أجابته وعينيها مازالت عليه، وكأنها مسلوبة من أعماقها تجاهه، تشعر وكأنه مرحلة من مراحل التعافي من ضغوط الحياة:
"كويسة الحمدلله، هو أنت ليه بتحط الكبريت في بوقك؟"
عاود تمرير بصره عليها وعلى ملامحه المُتسائلة، ثم أزال العود من فمه يجيبها بهدوءٍ:
"عشان بضغط على فكي لما بكون مضايق، وبضغط عليه بدل الفك عشان بيتعبني، بحطه هو والسواك، عارفة السواك؟"
أومأت برأسها مبتسمة ابتسامة خفيفة ثم تحدثت مستفسرة:
"آه عارفاه، طب أنت مضايق ليه؟ هو بابا كلمك تاني ولا حصل حاجة؟"
شرد بتلك الذكريات التي كانت تراوده رفقة الأفكار البائسة، ثم بنبرة هادئة أجابها:
"لا، بس شكلها خلاص النهاية، شكلك هتمشي لأن وجودك مافيش منه فايدة خلاص، ولا حتى بالنسبة لأبوكِ"
للحظة توقف الزمن من حولها، ألم يكن ذلك ماتريد أن يحدث؟
ألم يكن ذلك ماتمنت يوميًا، ولكنها الآن لا تود، تشعر وكأنها رُبطت هنا بهم ولا تود الرحيل!
همست بعدها بنبرة ضعيفة مرتجفة:
"همشي؟ طب وحقكوا يعني؟"
لم يلحظ عليها تلك الغصة، بل أجاب بعينين شاردتين على الشارع بالاسفل:
"ربنا عادل وهيجيب حقنا أن شاء الله، مافيش فايدة من تحطيم سفينة غرقانة أصلًا!"
قصد بتلك الجملة تحديدًا أنها لا شيء بالنسبة لأبيها، بالمعنى الحرفي لا شيء، لم يرى خوفه عليها ولم يرى ولعته في عودة ابنته سالمة!
وجه بصره نحوها ونبس بهدوءٍ ليهرب من أمامها:
"يلا عن أذنك أنا عندي شغل"
ثم تحرك وتركها تصارع وحدها ذلك الشعور المُبهم المتناقض، بين أنها المغادرة وبين البقاء، أن تبقى ولو كأنها غريبة في عالم يعرفون بعضهم جيدًا ولا أحد يعرفها!
___________
أنهوا صلاة العصر وتوجهوا ناحية المجلس حيثما أتى «ثابت» وبعده بقليلٍ «أنس النجار» الذي وصل بهيئته المتألقة، مرتديًا معطفًا لونه بيچ وأسفله قميصًا باللون الأسود وبنطال قماشي بلونه الأسود أيضًا، ألقى التحية عليهم جميعًا وهو يرى الجالسون أكثر من المرة السابقة:
"مسا على الجميع"
من عرفهم الآن هم «الحاج إبراهيم» و«مروان» وأيضًا يجلس جواره «حمزة» ويجاوره «عبدالله» وأيضًا «آسر» الذي كان يرتدي ملابس رسمية هو الآخر، فهو أنهى عمله وأتى لهم بعدها، تابع الجميع بنظراتهم وحينها عرّف عنه «مروان» بنبرة هادئة:
"ده المحامي أنس النجار"
سأله «ثابت» بنبرة مندهشة:
"مش ده محامي وليد؟"
هنا أجابه «أنس» وهو يرسم على فمه بسمة خفيفة مُجيبًا:
"كُنت، سيبته من زمان ومبقتش بشتغل معاه"
_"لخلافات؟"
سأله «ثابت» ليومئ «أنس» فقط برأسه، ثم توجهت أنظار الآخر ناحية «الحاج إبراهيم» يستنبط منه الأمان نحو ذلك الشخص، فوجد أن هنالك إماءة خفيفة تخبره أن الوضع آمن، فتحدث «ثابت» بما اتى ليخبرهم به:
"قضية الورق المتزور من الحكومة بأزالة الأرض وقعت عشان وليد قدم ورق تاني بيقول فيه إنه أشترى منكم الأرض دي، وأنه مطلعش قرار من الحكومة ولا حاجة، الموضوع ده كان هيكون فيه خطورة بالنسبالنا لأنه كان هيكون إتهام إننا اللي زورنا بس أنا خلصته بالعافية، دلوقتي القضية اتحولت لتزوير ورقة بيع وشراء أنه محدش باع الأرض دي بالذات إن أرض مجمعة لناس كتير مش شخص واحد، تاني حاجة قضية قتل عهد اللي لسه المحكمة مستنية أي أدلة"
تدخل «أنس» بحكمة وفطنة لم تخلو من الحرف الضائع بالنسبة له - حرف الراء- قائلًا:
"على أساس إن قرارات الدولة في إزالة الأراضي ناصفة للشعب يعني؟ دي بتهد بيوت ناس مبتلاقيش حاجة بعدها، بس ماعلينا الدولة ياما ظلمت غلابة، دلوقتي حوار تزوير الورق بتاع بيع الأرض أنا أقدر أثبت أنه مزور، لأن وليد كان بيزور عند حد أنا أعرفه كويس والراجل ده تقيل في البلد، أبويا عارفه برضو هكلمه ويشوف حل للموضوع ده معاه، وأنتو ممكن تجمعوا صحاب الأرض يروحوا يتكلموا ويقدموا أقوالهم إن دي أرضهم وأنها ملكهم ومحدش باعها لوليد، أنا مش عارف معملتوش كدا من الأول ليه، بالنسبة لحوار عهد .. أنا شاهد على يوم موتها، ووقتها وليد أعترف بالنص قدامي أنه دبحها، أنتو معاكوا أي أدلة تانية؟"
نظروا جميعًا نحو «إبراهيم» الذي تطلع «لأنس» بنظراتٍ حائرة مابين الإفصاح أم الصمت عليها الآن حتى يحتاجوا لها، وقرر أن يصمت بقوله:
"معايا دليل أيوه، غير أصلًا أدلة تانية بتثبت أن وليد هو اللي عمل كدا زي إن يومها الكل كان شاهد إن عهد عنده، وكمان فيه شهود بتثبت إن العربية اللي جت رمت عهد هنا هي تخص وليد الأنصاري!"
تطلع له «أنس» بنظراته الثاقبة التي تحمل الشك تجاه ما يخفيه ذلك الرجل المُسن، ما معه ليس بهين ولكنه لن يرمي أوراقه بتلك السهولة أمام الجميع، لذلك وجه بصره نحو «مروان» الذي كان يطالع عمه، رفقة «عبدالله» أيضًا الذي نبس:
"طب يا بابا حضرتك معاك أدلة تثبت إيه؟"
نظر نحوه ثم لملامح الاستغراب التي تعتلي وجوه الجميع وهو يقول بنبرة هادئة:
"وقت ما نكون محتاجين نطلعها هنطلعها ياعبدالله، متقلقوش!"
كان يتحفظ بعض الشيء على تلك الأسرار بسبب تفكيره بوجود الخائن الذي أخبره عنه «مروان» والذي لم يعرف حتى الآن من هو، شعر «مروان» بذلك التخبط الذي داخل عمه وتذكر ذلك الأمر هو الآخر وهو يردف بخفة واقفًا مكانه:
"أنا شايف إننا دلوقتي نجيب بنته ونمشيها من هنا مبقاش ليها لازمة، وسيبوا الحوار ده دلوقتي لحد ما ثابت يشوف القضية بتاعت التزوير هتمشي إزاي أصلًا وزي ما أقترح أنس الناس تروح تقدم أقوالها بأن دي أرضهم!"
تفوه «ثابت» الذي تحرك من مكانه هو الآخر مُعلنًا مُغادرته:
"أنا شايف كدا برضو، والحاج أنا على تواصل معاه أصلًا وقت ما أحتاج أي حاجة هبلغه، وبمناسبة إن الأستاذ أنس خلاص معانا، أكيد هو عارف حاجات تانية كتير غير أنه يومها كان شاهد على قتل بنت الحاج وليد!"
تطلع به بنظرة ذات مغزى يقصد بكلامه بأن «أنس» يعلم أسرار وخفايا أخرى يُخبئها فاومئ له بإيجاب برأسه ثم تحرك «ثابت» مُغادرًا المكان بأكمله.
كان يجلس يتابع الحديث الذي بين الجميع هُنا، حتى وصلته رسالة لهاتفه وفتحها من «والد رزان» وكان محتواها بأن طائرته معادها غدًا وسيأتي ليأخذ منه ابنته!
وفي تلك الأجواء الهادئة التي تم إعلانها من الجميع بصمتٍ رهيب، تقدم «أنس» ناحية «مروان» ومال يهمس له بتساؤل:
"هو في إيه، أنا كان لسه عندي كلام عاوز أقوله على فكرة يخص الحوارات دي، هو أنتو بتتكلموا بألغاز ليه؟"
همس له «مروان» بنفس النبرة الخفيفة مُجيبًا:
"فيه بينا خاين، ووصل لوليد أننا متفقين معاك، وليد بعتلي وقالي أنه عرف وأننا منقدرش نعمل حاجة أصلًا، وكان باعتلك تهديد، ما أنا قولتلك امبارح!"
_"تهديد؟ أنا امبارح مكنتش مركز ولا إيه!"
قالها بترقب ثُم احتدت عينيه وهو ينظر ناحية «مروان» وهمس مجددًا:
"حلو تهديد بتهديد، أنا هعمل دلوقتي اللي فدماغي!"
ثم تحرك وجلس جوار «الحاج إبراهيم» قائلًا بنبرة ثابتة:
"فيه عرض عايز أعرضه عليكم، وليد اليومين دول بيجهز لجوازة سيلين بنته من رجل أعمال كبير هيكسب من ورا الصفقة دي مليارات وكل فساده هيزيد في البلد، لو بوظتوله الجوازة دي ممكن يجيله جلطة أقل حاجة!"
ضغط على حديثه وكأنه يوجهه للخائن تحديدًا حتى يصل الحديث «لوليد» ويدور حول نفسه بأن هنالك من رجاله يخونه أيضًا ويُخبر «أنس» بكل جديد في حياته
تبدلت ملامح الجميع من بينهم «إبراهيم» الذي تسائل باستنكار:
"ودي نعملها إزاي يا أنس باشا؟"
_"جوزوها لحد من الحارة من هنا، دي مش بس تجلطه، هتجبله سكتة قلبية علطول!"
تعليقات



<>