الفصل العشرون20
بقلم امينة محمد
قبل أن أغمض جفوني، رأيتك تبتسم أمامي وكأنها المرة الأخيرة التي أراك بها، رأيت ملامحك عن كثبٍ أكثر من قبل، أرى أن عينيك البُنية تشع بوهجٍ يأسرني، ولحيتك الخفيفة تخطف قلبي من أعماقه، بينما رسمة ملامحك تجذبني نحوك حتى دون أن أعرف إلى أي الحُفر سأقع، أنت مميز، فريد وغريب يا صاحب البُنيان القوي، يا مَن سُلب قلبي لكَ ولأجلك.
ها أنا اليوم أودع كيانًا مُحطمًا، كان به أنا وأنتَ، كنا كالأميران في عالمنا الخاص، حتى أتى الشرير نحو حياتنا، سلبها وأنهى كل ما لذ وطاب بها، دمر روحي وقتل نفسي، حتى أنني لم أعد أعلم من أنا؟ سلب كل شيء ولم يترك لي سوى سؤالٍ مُحير؛ هل لي بأنت أم أنني سأظل مُحاصرة في الظلام؟
لم أكن يومًا طائشة، بل كنت كنجمة ساطعة في سماء الوقار، وحملته في ذاتي وتجليت به منبثقًا على مظهري، ولكنني كحديدٍ جُذب لمغناطيسٍ لم يكن مثلي أو يُشبهني بل كان قاسيًا، جُذب لمن اطفئ رونق روحي وقتل حصوني، لم يكن لي مكان لألوذ له، حتى جئت وكنت لي الحصن الذي حمى القلعة من السرقة، وكأنني قطعة نادرة بداخلها تخف عليها من السرقة، ولكن لم يدم طويلًا لأنني اليوم سأترك نفسي لأغادر.
صوت صفير سيارة الإسعاف دوى في أرجاء المكان، بينما هو يقف مصدومًا غير قادرًا على الحركة ولا فهم ما يدور في الإرجاء، يديه مملوءة بالدماء فقط، دمائها الذي لمسه عندما اقترب منها أرضًا لم يستوعب ما حدث لها، عندما وصل بدراجته النارية ووجدها أمام سيارة «نادر» يحاول إفاقتها بصدمة هو الآخر، الإسعاف يسير أمامه في سرعة جنونية حتى يصل بها للمستشفى لتنجو من الموت.
شعر بسيارة «نادر» تتخطاه خلف الإسعاف ليذهب لها، لم تعطه صدمة الأمر الفرصة لينهال عليه بالضربات، ولكن الآن يجب وبكل سرعة أن يصل لها ليطمئن ويُطمئن قلبه، ولكن قبلًا أمسك هاتفه واتصل بوالدها «شوكت» يُخبره عما حدث لابنته ثم ركب الدراجة النارية وغادر سريعًا خلف الإسعاف للمستشفى!
ترجل من عليها يرى الهرج والمرج يدور بالمستشفى للحالة شديدة الخطورة التي وصلت الآن، تحرك نحو الداخل خلفهم لا يعرف كيف تحملته قدماه ليصل إلى هناك، ولكنه كان أقوى الآن من أي شيء بجسده يُذكره بها وهي كالجثة الهامدة أمام عينيه تنزف الدماء على الأرضية الترابية وهي بلا حركة، لم تنازع حتى لدقيقة واحدة، الدماء التي تلطخ بها منها عندما أقترب وأدار جسدها نحوه ليرى عينيها الموصدة بارتياح وكأنها كانت تطلب الموت وأتاها.
وصل مع وصول والدها السريع لقرب بيته من تلك المستشفى التي أخبره عنها «حمزة» وولجا سويًا للداخل، ولكن كانت قدمي «حمزة» السريعة متوجهة ناحية «نادر» الذي أمسكه من تلابيب ملابسه وسدد له لكمة حُرة قوية ثم الثانية وهدر بوجهه بإهتياج وإنفعال شديد:
"أنت السبب، أنــت اللي خبطتـها قدام عيني وعين الناس كلها في الشـارع، وحيــاة ربنا لأبلـغ عنك البوليـس وما أنا سايبـك يا نادر"
حاول الآخر فك قيده من الهائج كالثور أمامه لا يقبل أن يتركه، توتر الجو وتوترت الأوضاع فجأةً من الناظرين وحتى من «شوكت» الذي حاول التدخل بقوله:
"أنت بتقول إيه يا حمزة؟"
كان «حمزة» يضغط بكلتا يديه على جسد «نادر» يلصقه بالحائط وهو يقول بمقطٍ وقوةٍ وصوتٍ عالٍ نسبيًا:
"اللي سمعته ياعمي، نادر كان بيجري ورا رزان بعربيته وخبطها وقعت في الأرض مبتتحركش، وحياة أمي رزان لو حصلها حاجة لـ هتبقي سواد عالكل، هتبقى سواد على راسك يا نادر عشان أنت لسه معرفتش مين حمزة الشافعي اللي لما حد بيقرب من حاجة تخصه بيتعفرت إزاي"
وأخيرًا دفعه «نادر» بقوة بعيدًا وهو يستنشق الهواء الطلق وقال بجمودٍ:
"أنت عبيط، تخصك دي إزاي؟ دي مـراتي بتهرب مـني وجريــت وراها عشان أجيبـها، أنا محاولتـش أقتلها"
تحدث «شوكت» بحدة وهو يرفع إصبعه بوجه «نادر» قائلًا بوجهٍ محمرٍ أثر الغضب الجامح:
"أنت قولت إن بنتي مش عندك امبارح، معنى كدا إنك كداب، وأنا والله ماهرحمك يا نادر على اللي عملته في بنتي ده!"
كان الآخر منشغلًا بالإتصال بالشرطة كما توعد «لنادر»، وبالفعل أجاب أحدهم عليه وبدأ يحكي له بإستفاضة مع ما حدث، وأيضًا أوصلت إدارة المستشفى للشرطة كل شيء دون علمهم لأن الفتاة أتت لهم في حادث ويجب التحقيق بالأمر وبمَن اصطدم بها!
انتبه «نادر» لما يفعله «حمزة» ثم أجاب «شوكت» بضيقٍ:
"أنا حُر، مراتي وأنا حُر فيها"
_"أنا هوريك حُر إزاي يا نادر، أنا هوريك"
قالها «حمزة» بتوعدٍ قبل أن يتحرك قليلًا بعيدًا عنهم يتحدث رفقة «عبدالله» ليذهب للشرطة ويخبرهم بما حدث، وبعدما أنتهى من التحدث معه عاد حيث «نادر» و«شوكت» وهو يطالعه ببغضٍ شديد، يكرهه كما يكره العمى تمامًا ويبغضه، ولو طال به الأمر لأنهى حياته الآن في يده ولكنه لن يضيع نفسه الآن.
كان «نادر» يود التحرك والمغادرة ولكن «حمزة» منعه سريعًا بوقوفه أمامه وهو يقول بسخرية:
"على فين، لسه البوليس جاي وبعدين أبقى أمشي براحتك!"
أنهى جملته مع قدوم أفراد الشرطة للمكان، وصلوا بتحدث إدارة المستشفى لهم عن وجود حادث كبير وصل للتو للمستشفى؛ اقترب واحدًا منهم وهو ينظر نحو «حمزة» و«شوكت» وأيضًا «نادر»:
"اتعرف بحضراتكم جميعًا، وصلنا بلاغ من المستشفى بأن المدام اللي لسه واصلة جاية عن طريق حادثة، حضراتكم عرفتوا مين عمل كدا أو شوفتوا العربية اللي خبطتها"
أومأ له «شوكت» وهو ينظر له ثم «لنادر» بمقتٍ:
"أنا أبوها ياباشا، اللي عمل كدا واقف معانا أهو، نادر المصري!"
قوس الضابط حاجبه باستغراب ليردف «نادر» قائلًا بحنقٍ:
"مراتي يا باشا، وكانت بتهرب من البيت وجريت وراها بعربيتي وخبطتها بالغلط، مراتي بتهرب مني وعايز اجيبها!"
تدّخل «حمزة» بسخرية وهو يطالعه من أعلاه لأسفله كمَن يعاين شيء ما:
"وهي بتهرب ليه من بيت حضرتك، أكيد مبتهربش من فراغ يعني!"
سأله الضابط هذه المرة وهو ينظر صوبه:
"وأنت مين؟"
_"أنا حمزة الشافعي، أنا اللي ساعدتها من أول مرة هربت فيها لحد ما أبوها يرجع من دبي، جوزها بيعنفها يا بيه، بيعاملها بشكل مُهين جدًا وهتقدر تشوف ده بعينك عليها لما تطلع من العمليات أو تسأل الدكتور بنفسه، أنا صديق للعيلة"
انهى حديثه بإضافة جملة صديق للعيلة مع ابتسامة جانبية شقت فمه، فلن يعترض عليها «شوكت» ولن يتدخل وقتها «نادر» في الحديث، بل كان حديثه صحيحًا مائة بالمائة، حتى أنه أعترف على نفسه بأنه من ساعدها وقتما هربت في المرة الأولى!
تحدث الضابط بقوله بهدوءٍ:
"إحنا مضطرين حاليًا نلقي القبض عليك، لحد ما المدام تصحى وناخد أقوالها في حوار العنف ده، ولوقتها أنت هتشرفنا يا أستاذ نادر!"
_"أشرفكم؟ أنتو متعرفوش مين نادر المصري ولا إيه؟ عايزني أنا بنفسي أجي معاكم الحبس؟"
قالها «نادر» بحدة شديدة موجهًا للضابط والعساكر معه، ولكن الآخر أشار برأسه للعساكر قائلًا بسخرٍ:
"إن شاء الله هنعرف قريب مين نادر المصري حضرتك، اتفضل معانا بهدوء وبسكوت عشان إحنا في مستشفى مليانة مرضى، أحسن ما تبقى المعاملة بشكل تاني مختلف مش هيعجب حضرتك خالص يعني .. كونك نادر المصري وكدا"
ثم اقترب العساكر منه مُمسكين إياه وأخذوه معهم وهو يرمق «حمزة» بنظراتٍ متوعدة كمَن يود أن ينهال عليه بالضربات والتعذيب مثلما كان يفعل معها، يود أن يُخرج عليه كل ما هو قاسٍ حتى يُنهي وجوده.
وقف «حمزة» قرب الغرفة التي بها «رزان» تُجري الآن عملية كبيرة وحياتها ما بين الحياة والموت، لا يعلم إن كانت ستنجو أم أن الطبيب سيخرج ليُنهي كل شيء عند ذلك الحد!
همس بينه وبين نفسه بضعفٍ بشكلٍ غير مألوف، فهو عرف نفسه دومًا بالقوة والشخصية الشديدة:
"متمشيش يا رزان، عشان خاطري متمشيش، أنا لسه فيه حاجات كتير مقولتهاش ليكِ واكتشفت ده متأخر، لسه معرفتيش مين حمزة كويس وأنا لسه معرفتش مين رزان كويس، رزان وحمزة لسه ليهم قصة مكتملتش يا رزان"
شعر بيد توضع على كتفه فألتفت سريعًا ليرى مصدرها ولم يكن سوى «شوكت»، تنفس «حمزة» بعمقٍ استعدادًا للتحدث معه ونبس بصوتٍ خفيضٍ هادئ:
"ربنا يقومها بالسلامة يا شوكت بيه!"
كان هناك سؤال واحد يجتاح ويثير فضول الآخر، حيث نبس به:
"أنت عرفت منين اللي حصلها ياحمزة؟ يعني إيه وصلك لكل ده!"
تنهد الآخر قبل أن يجيبه وهو يتذكر قراره في الذهاب لمنزل «نادر» فقط ليراقب الأوضاع لا غير:
"كنت جاي بيت نادر عاوز أراقب الجو وأشوف الدنيا إيه وهقدر ألمح رزان ولا لا، اكتشفت أنها أصلًا طالعة بتجري بتهرب، كنت راكب موتسيكل وجريت وراهم بس وهي بتعدي قدامي الطريق نادر دخل فيها بعربيته، وقعت في الأرض منطقتش وسايحة في دمها"
أومأ برأسه «شوكت» وهو حزين يائس على حظ ابنته الذي امتلكته في هذه الحياة، لا يعلم كيف ستنجو وتتعافى من كل ما حدث في حياتها مؤخرًا، ولكنه سيبحث عن ضوء ينير طريقها الملتوي في عتمة الظروف التي اجتاحت حياتها، سيسعى بكل غاية وعزم ليُعيد إليها روحها التي كانت موجودة قبل زواجها من «نادر»، سيُعيدها حيث شغفها وحياتها الوردية.
صدح صوت هاتف «حمزة» فأمسكه ليجد أن المُتصل «عبدالله» الذي أخبره بأن يذهب لقسم الشرطة ويتحدث معه ليُخبره عمّا سيخبرهم به، أجابه سريعًا بتنهيدة:
"أيوه يا عبدالله، خلاص البوليس جه هنا وخد نادر، طلعت إدارة المستشفى مبلغة!"
استمع لحديث الآخر ثم أجابه وهو يرفع كفه نحو شعره مُمسكًا خصلاته بين أصابعه يُعيدها بقوة للخلف:
"لا أنا مش هتحرك من هنا قبل ما أطمن عليها، متقلقش عليا لو حصل حاجة هكلمك علطول يا عبدالله، روح أنت لشغلك يا صاحبي ربنا يخليك يارب!"
وبعد مُحايلات في الحديث أغلق معه الإتصال واستند على الحائط ضاممًا يديه لصدره يغمض عينيه بحزن شديد، يشعر بأن العالم بأسره يقع على عاتقيه الآن، الحزن يغمر قلبه كما الطوفان يغمر الأرض.
_______________
الصدمة احتلت ثنايا قلبها كالعاصفة الهادرة، هبطت عليها كصاعقة كهربائية ساحقة من السماء لتحرق جسدها بدون رحمة، يقول صديقه الآن بأن حيوانها الأليف قُتل، وعلى يد من؟
والدها الحبيب؛ نفسه الذي يُنهي كل فرص مسامحتها له عن كل شيء يفعله وفعله في حياتها وحياة هؤلاء الناس الأبرياء، والآن يُرسل لها هدية زواجها كلبها مقتولًا، لماذا الحياة تختار لها دومًا الصعب فالأصعب، هي فقط تعيش بين ركام الصعاب.
كادت أن تقع في وقفتها فتناولتها يد «مروان» سريعًا مُمسكًا بها وهو يردف بنبرة سريعة:
"سيــلين!"
رفعت بصرها ببطءٍ له، وهمست بصوتٍ هادئ ضعيف تملكه الأسف والأسى:
"خليني أنزل أشوفه، بالله عليك"
أومأ لها برأسه فقط وساندها بشكلٍ جيد ورفع بصره ناحية «آسر» مجددًا ينبس بنبرة هادئة بتنهيدة:
"هننزل وراك يا آسر!"
تنهد «آسر» هو الآخر واكتفى بالايماء مُتحركًا للأسفل بينما «مروان» مشى بها ناحية أقرب كرسي وجعلها تجلس عليه، وولج للداخل لثوانٍ معدودة ثم خرج بوشاح وضعه ضمن ملابسها التي جلبها لها، وضعه بعشوائية على رأسها ليتدلى على جسدها يُغطي الملابس المنزلية خاصتها التي تكونت من بنطال واسع قليلًا وسترة بأكمامٍ، رفعت عينيها سريعًا تُقابل عينيه ليهمس وهو قريب منها:
"أنتِ لابسة بيجاما ومينفعش تنزلي بيها كدا، قومي يلا"
أومأت برأسها له وتحركت معه نحو الأسفل لترى كلبها مُلقى ارضًا عند باب البناية، مُتلقيًا رصاصة في جسده، لا حركة له ولا حتى أنفاسٍ تخرج منه، كان لونه الذهبي بشعره الكثيف ملطخين بالدماء، مسكين الحيوان الذي لم ينجُ من يد «وليد» هو الآخر.
مالت بجسدها نحوه بتيهٍ كالزهرة الضائعة في العاصفة الشديدة، وهي تربت على رأسه بيدها الصغيرة الناعمة، وهمست بضعفٍ، وعيناها تحملان الصدمة والحزن الذي غمرها:
"حقك عليا يا بيلا، مقدرتش أساعدك منه ياحبيبتي، حقك عليا والله مكنش قصدي يحصلك كدا، أنتِ عارفة أنا كنت بحبك إزاي صح؟ كنت بحبك أوي أوي يا بيلا، أنا آسفة، هو عمل فيكِ كدا ليه، طب أنتِ ذنبك إيه، هي ذنبها إيه يا مروان؟"
نادته في آخر كلماتها ليقترب منها يلف ذراعيه حول كتفيها ويرفعها لتقف قريبة منه مُتنهدًا بثقلٍ:
"مريض، أبوكِ ده إنسان مريض، خلاص أهدي أهدي"
كانت تبكي بحرقة، كبكاء أم فقدت ابنها وقُتل أمام عينيها وداخلها غل لن يُشفى ولن يغتفر الذنب أبدًا في يومٍ من الأيام، تبكي كمن ضاع منه أثمن شيء يملكه، تبكي دون هوادة، تبكي بقهرٍ شديد.
وجه بصره ناحية «آسر» المُتأثر بمنظر الدماء التي تخرج من الكلب، وبمنظر قتله حتى أنه يبدو وكأن الأمر أتعبه قليلًا، أردف بهدوءٍ:
"آسر، شوف حد يدفن الكلب، وروح أرتاح باين عليك تعبان، أنا طالع"
_"تمام، ربنا معاكم"
قالها «آسر» وتحرك سريعًا قبل أن يشعر بتعبٍ أكثر، بينما هو جذب معه «سيلين» وتوجه بها لشقتهما مجددًا، جلست على أقرب أريكة قابلتها ووضعت وجهها بين راحتي كفها وهي تبكي بأسى، تنهد واقترب منها جالسًا جوارها ورفع يده ووضعها فوق ظهرها يربت عليها بحنانٍ:
"كفاية عياط يا سيلين، خلاص مات وأنتِ متقدريش تعملي حاجة، وبالنسبة لأبوكِ استغفري ربنا كتير له ولأعماله الكتير، مهما كان ده أبوكِ وأحنا لازم نبر الوالدين، أنا عارف إن الموضوع صعب وتقيل عليكِ بس مافيش فأيدك حاجة تعمليها دلوقتي!"
رفعت وجهها له ليُقابله احمراره وانكماشه بسبب بكاءها الشديد، وفرقت شفتيها تنطق بحسرة كبيرة:
"طب هو ليه بيعمل معايا كدا، عشان عرف من عمو إبراهيم إني هتجوزك فقال يقهر قلبي على أكتر حاجة بحبها يعني يامروان، ليه عمل فيا كدا، أنا كل حاجة بتحصل معايا الفترة دي بسببه هو، كل حاجة أنا بشوفها دلوقتي بسبب أعماله هو!"
أومأ مؤكدًا على حديثها وهو يُجيبها بتنهيدة:
"حقك، بس متزعليش نفسك كدا، خلاص اللي حصل والكلب مات، حقه عند ربنا يوم القيامة، الكلب هياخد حقه من أبوكِ بنفسه كمان، متزعليش نفسك واستهدي بالله كدا"
اقتربت بجسدها لتلتصق بجواره وهي تمسك يده بين يديها تضغط عليها بقوة، وتحدثت بترجي له واستعطافٍ شديد:
"متسبنيش ارجعله تاني، مش عايزة والله العظيم أرجع وأروح لكل اللي بيحصل هناك ده، أنا اتغيرت ولو روحت هناك هو هيطلع عليا كل اللي فات كله، مستبنيش له يا مروان، أنا مبقتش عايزة أرجع زي ما أنا زمان، ومش عايزة أرجع أحس بغُربة تاني في بيتي، أنا حاسة بالأمان هنا في بيتك، مش هتسيبني صح؟"
ترددت كلماتها كنغماتٍ متكررة تسقط على أذنيه، وكانت عيناها الزرقاوان تسحرانه مثل السحر، حديثها اخترق قلبه وعقله كالسهم، تشابكت أعينهما بعواطفٍ جارفة منها رفقة نظراته الكامنة، وجد من نفسه يوافقها برأسه في محاولةٍ لتهدئتها بكلماتٍ هامسة، ومازال أثر الخدر يؤثر عليه بقوة:
"مش هسيبك، أهدي طيب، كل حاجة هتبقى كويسة ومش هترجعيله تاني ولا هترجعي لحياتك دي تاني طالما أنتِ مش عايزة، محدش يقدر يجبرك على حاجة مش عيزاها وخليها حلقة فـ ودانك، تمام؟"
هزت رأسها له واقتربت تُريح رأسها على كتفه وهي تسحب نفسًا عميقًا ليدلف لرئتيها يُزيل الثقل المُحمل فوقها وعلى عاتقيها، قربه بالنسبة لها الآن كالنسيم الذي يُزيل الأعباء.
______________
دائمًا ما يكون هنالك سهمٌ مؤلم يخترق قلبك، لا يمكن لأي شيء أن يداوي جرحك خاصةً وإن كان من شخصٍ قريب منك، حتى لو تسامح الكون بأسره مع ذلك الشخص، وقد يداويك شيء بسيط عوضًا عن جرح كبير اخترق قلبك، فقط ياصديقي الفكرة مَن كان صاحب الجرح.
وصل للبناية وصعد مُفكرًا عند مَن سيذهب الليلة، فهو اليوم تشاجر رفقة «رنا» بسبب غيرتها الزائدة التي تمكنت منها بسبب «مرام».
_"لا يا آسر، أنت بقيت أغلب الوقت عندها، هو أنت يعني مش ملاحظ إنك نستني بعد ما اتجــوزتها ولا إيه؟"
ابتعد من أمامها يجلس بكل برودٍ على الأريكة مُمسكًا بجهاز تحكم التلفاز وهو يُجيبها بهدوءٍ:
"لا، وبعدين أنا قولتلك هتجوزها مش عشان الخلفة بس، مرام دلوقتــي مراتـي على سنة الله ورسوله زيها زيك يا رنا، لو عايزة تفتحي في المواضيع دي تاني ياريت بلاش عشان بتعصبني وبتخنقني والله"
أتت أمامه تحجب الرؤية عنه رؤية التلفاز وهي تصرخ بوجهه بغضبٍ:
"لا إحنا اتفقنا إنك هتتجوزها عشان تخلف بس، مش هتفضل مراتك كتير أنا مش هستحمل ده، هي مش هتيجي تاخدك كدا على الجاهز ولا تضيع كل اللي عملته معاك عشان حُبنا يكمل!"
زفر بضيقٍ بعدما تذكر تلك المشاجرة التي انتهت بينهما بأنه ترك لها الشقة وغادر بعدما شعر بتعبٍ نفسي وتوترٍ غير طبيعي اجتاحه، فقرر أن يريح أعصابه وجسده عند مَن تتقبله في كل حالاته.
دلف بخطوات هادئة لمنزلها بعدما فتح بابه بمفتاحه الخاص، أغلق الباب خلفه والتفت ليجدها تخرج من المطبخ وفي يدها طبق فواكه وتنظر له بإستغراب وقلق جلي:
"في إيه يا آسر؟ كل حاجة كويسة؟"
بالطبع من حقها أن تقلق لقدومه في هذه الساعة المتأخر، كان يمر عليها يوميًا يطمئن ويجلس معها قليلًا ويغادر، اكتفى بالايماء لها واقترب بخطوات هادئة نحوها:
"متقلقيش كل حاجة كويسة، بس كنت جاي اقعد معاكي شوية"
كانت تتابع حدقتيه بشكٍ ولكنها فضلت الصمت عمّا به حتى يتحدث، أردفت بخفة:
"وماله تشرف، اتفضل طيب نقعد"
كادت تتحرك ولكنه اعادها أمامه مجددًا وهو ينظر لعينيها بتخبطٍ واضح وتيهٍ:
"بس انا مش كويس"
ابتلعت غصتها لنبرته المهزوزة تلك، كان يشاركها دومًا أحزانه قديمًا ويتهرب من العالم لها ليحكي عما يؤلمه، ولكن الآن لماذا عاد لعادتهما تلك مجددًا.
كادت ان تتحدث ولكنه وضع أصبعه على فمها يمنعها وهو يقول بتعبٍ واضح:
"مش عايز اتكلم في حاجة دلوقتي أرجوكِ، أوعدك أول ما نصحى الصبح هنتكلم فكل اللي تحبيه، بس أنا دلوقتي محتاج أنام في حضنك، أنا محتاجك يامرام"
تنهدت بعمقٍ فهو بالفعل يبدو عليه التعب، وضعت طبق الفواكه جانبًا وقلبها يتراقص فرحًا لذلك الإعتراف الذي لم تعهده يومًا ولم تحلم به من الأساس.
_"طب أهدى طيب عشان متتعبش، أنت مش كويس اليومين دول خالص يا آسر، لازم تكشف"
أمسك يدها وجذبها معه ناحية الغرفة وهو يُجيبها في محاولةً منه لإنهاء الحوار:
"هكشف، هعمل كل اللي أنتو عايزينه، بس عاوز أنام، عاوز أنــام يا مــرام!"
مُتعب،
يشعر بالإرهاق من كل تلك المحاولات الشاقة والطريق الوعر،
وكأنه يسير في دوامة الخوف من أن يكون الهدف خاطئًا،
حيث بذل جهدًا جبارًا دون أن تجد روحه السكينة المطلوبة.
استيقظ بعد مدة فزعًا يتصبب العرق، الكوابيس لا تتركه أبدًا في الآونة الأخيرة ولكن هذه المرة كان مختلفًا، رأى شخصًا يرتدي عباءة سوداء يُغطي رأسه، وتبدو وكأنها امرأة وليس رجلًا، يجلس أمام النار يرمي بها شيء ما جهله تمامًا ولكنه كان يجعل شدة النار تعلو شيئًا فشيء، بينما هو كان مُقيد اليدين والقدمين، وأيضًا مُكمم الفم، كانت نظراتها له مرعبة، يشعر وكأنها مألوفة ولكنه لم يعرف من هي!
تحرك من جوار النائمة نحو المطبخ يشرب بعض الماء فلمح يده ترتجف بشكلٍ شديد، نظر بتمعنٍ لكفه المرتجف بسبب رعشة قلبه وكيانه من الداخل، اجتاحه الغضب والسخط لذلك التعب البادي عليه، ضرب بيده عرض الحائط بقوة وأنفاسه علت أكثر فأكثر.
التوتر تملكه أكثر فبدأ يستغفر في سره بلسانٍ ثقيل بالكاد استطاع تحريكه، جلس أرضًا يضم قدميه نحوه وأنفاسه المضطربة تهدئ قليلًا وكأنه تُسلب من جسده، أي الكوارث تلك التي يمر بها فيبدو ضعيفًا هشًا أمامها؟
مرت نصف ساعة على جلسته بتلك الوضعية حتى استقام في جلسته ليبدأ بالتحرك مجددًا محملًا بالخيبات واستلقى جوارها يتأمل وجهها وملامحها التي تقترب أن تكون ملائكية وهي نائمة، أي ملامح تمتلك هي؟
ملامح ناعمة، رقيقة، جذابة، حتى هي كذلك!
غفى بعد مدة من التداخلات القوية التي كانت بعقله حتى هزمته!
________
اعتقدت أن الحبيب سيعود معي، ولكنني الآن أعود متعب العينين دون الحبيب، حاملًا فوق أكتافي أثقالًا تخصني وتخص الحبيب!
في صباح يوم جديد مر على قلوبهم جميعًا بثقلٍ غير طبيعي، فالقريبة لقلوبهم جميعًا في العناية المُشددة تحت الملاحظة المُستمرة لسوء أحوالها الصحية، أتى للمستشفى بعدما غادرها فجرًا يُبدل ملابسه ويطمئن على أمه وعاد حيث ترك روحه ليطمئن عليها!
وجد أمها وأختها «روان» رفقة «شوكت» في حالتهم المُستاءة، يبدو وكأن الصدمة حلّت عليهم جميعهم دون رأفة.
وجه حديثه «لشوكت» بتساؤل هادئ:
"الدكتور مقالش حاجة عن حالة رزان لسه؟"
هز الآخر رأسه بنفي يُخرج زفيرًا قويًا من فمه، بينما عيني «روان» كانت مُعلقة عليه حتى أتت ووقفت أمامه وهي تتحدث ناظرة له بمعاينة:
"سمعت إنك هنا من امبارح، هي رزان غالية عليك أوي كدا؟"
طالعها شزرًا فهو لا يشعر تجاهها بالراحة منذ أن تحدث رفقتها عبر الإنترنت حتى يُخبرها بما حدث لأختها طالبًا النجدة:
"آه خير يعني إيه سبب السؤال الغريب ده؟"
هزت كتفيها بلا مبالاة تُمثلها بشكلٍ جيد، وظلت عينيها مُعلقة عليه وهي تجيبه على سؤاله:
"عادي أصل أنت قولت بتساعدها بس من جوزها، غريب إنك لسه لحد دلوقتي هنا، إحنا خلاص معاها!"
قبل أن يتحرك ليستند بجسده على الحائط نظر لها من أعلاها لأسفلها وهو يقول بحنقٍ:
"هو أنا واخد من منابك بقعدتي هنا طيب؟ لو كدا قوليلي عادي أنا مش فارق معايا، بس متقلقيش مباخدش حاجة حد، أنا ليا حاجتي لوحدي ومميزة!"
أغضبها رده بتلك الطريقة، فزفرت وهي تقول بحدة خفية قليلًا:
"لا بس من حقي أعرف أختي تعرف مين ومتعرفش مين!"
زفر بضيقٍ وعاد يقف أمامها تحديدًا وهو يرد لها حديثها بحدة أكبر:
"أنا مصدع، ومبحبش زن الدبان فوق دماغي وأنا مصدع، فمتزنيش كتير وخلينا في الهم اللي إحنا فيه ولما أختك تفوق ان شاء الله بالسلامة، نبقى نشوف الحوار ده أنا وأنتِ وماما وبابا وناهد وكلنا"
ابتعد يستند على الحائط لقليلٍ من الوقت ثم تحرك من مكانه تجاه الخارج وهو يُخرج من جيبه علبة الدخان ووضع في فمه سجارة ليُدخنها خارج المستشفى بأكملها يُفكر في حديث أختها بذلك الشكل، سيظل خلفها حتى يعرف ماهيتها وأسرارها!
____________
عاد من النادي الرياضي بملابسه الرياضية مُمسكًا بزجاجة المياه بيده يشرب منها وهو بطريقه لغرفته، ولكنه استمع لصوت أنوثي غير أخته عرفه سريعًا؛ لم يكن لسواها التي يحمل تجاهها مشاعر مختلطة بين الحب والبغض، بين إنه يود القرب والبُعد!
توجه ناحية الغرفة التي هما بها وأخرج صوتًا يعلن عن تواجده ثم ولج وهو يتحدث رفقةً «ندى» وكأنه لا يعلم بوجود الأخرى:
"ندى حبيبتي أنا... أوه، Welcome شذى"
أشار بيده مبتسمًا بشكلٍ سمج ليضايقها بردوده، فردت عليه بنبرة هادئة:
"هاي يا أنس، عامل إيه يارب تكون كويس؟"
أومأ برأسه وتوسعت ابتسامته ومازال بصره مُعلقًا عليها، واستند بجسده على الباب وهو يُجيبها:
"كويس جدًا كمان الحمدلله، إن شاء الله أنتِ اللي كويسة؟"
أومأت بتنهيدة حارة واخفضت بصرها أرضًا دون إجابة، شعر بوخزٍ يحتل قلبه لرؤيتها هكذا دون أن يعرف ما بها، أشار بعينيه لأخته يسألها عمّا بها فهزت كتفيها بلا علم، همهم قبل أن يتحدث:
"طيب، كنت عايزك ياندى تعمليلي عصيي'عصير' عشان هاخد شاوي'شاور' وأمشي على شغلي، عايز ليمون بنعناع، وابقي صُبي منه لشذى شوية، هيعجبها"
قامت «شذى» من مكانها وهي تُمسك بحقيبتها قائلة:
"لا شكرًا يا ندى يا حبيبتي، أنا ماشية أصلًا اعملي لأخوكِ اللي هو عايزه!"
وقفت «ندى» سريعًا معها وهي تسألها بتنهيدة قوية مُمسكة بيدها:
"يابنتي طب أنتِ لسه جاية من شوية، اقعدي هعمله أو تعالي معايا المطبخ نقف سوا وقوليلي مالك!"
ابتسمت لها «شذى» بودٍ وهي تربت على يدها بخفة مُجيبة بهدوءٍ:
"متقلقيش أنا كويس، كنت جاية أشوفك بس!"
ثم تحركت ولكنه وقف أمامها يمنعها فرفعت بصرها سريعًا له تسأله بنظراتها فقط، فتنهد بخفة وهو يسأل بنبرة بها بعض الحنية مُختلطة بالهدوء:
"مالك؟ حد مزعلك! قوليلي هيفعلك'هرفعلك' عليه قضية تجبله إعدام!"
_"ارفعها على نفسك، أنت اللي مزعلني!"
قالتها دفعة واحدة بغيظٍ، قوس حاجبه وهو يرفع كتفه ببراءة قائلًا:
"لا أنا مزعلتش حد بصياحة'بصراحة'، اتأكدي تاني وأبقي قوليلي مين مزعلك وأنا ازعلهولك"
زفرت بضيقٍ وهي مازالت ثابتة على قرارها بعندٍ واضح ونبست:
"بجد يا أنس؟ أنت فاهم قصدي كويس وعارف وجودي حواليك ليه، أنا والله ندمت متعملش كدا"
عاد يستند بجسده على الباب يضم يديه لصدره وهو يُجيبها بنظراتٍ ثاقبة تحمل ألف معنى مُتأملًا ملامحها:
"معلش، أصل أنتِ هتيجي تخبطي وتقوليلي معلش يا أنس هقابلك بالحضن وأقولك خلاص سماح، دا أنا التنمي'التنمر' اللي شوفته في حياتي كله ببلعه وببلع معاه الزلط إلا بتاعك، عايفة'عارفة' ليه ولا أعيفك'أعرفك'؟ أكيد واضح ليه ياشذى، أصل معلش أبقي تعالي قوليلي بحبك يا أنس وأنا هقولك لا مبحبكيش ومينفعش تكوني شييكة'شريكة' حياتي، وبعدين سنتين كدا وأيجع'أرجع'، وأقولك سامحيني يا شذى سامحيني غلطت وعيفت'عرفت' غلطتي، وقتها هتفي في وشي، بس أنا مش هعمل كدا، عشان وشك جميل ميستاهلش غير الحلو اللي زيه، وأنا بقدي'بقدر' الحاجة الحلوة فـ مش هقابله غير بالحلو، عندي شغل عن أذنك"
التفت ليغادر ولكنه توقف ناظرًا لأخته يرمي بكلماته اللاهبة التي كانت كالنار بعد حديثه الذي يشبه القنبلة:
"اديها يا ندى عصيي'عصير' قبل ما تمشي لتشيط مكانها أصل وشها شوية وهينفجي'هينفجر'"
ثم تركهما وغادر المكان بأكمله ناحية غرفته يحاول ضبط أنفاسه المتلاحقة بعد رمي شحنته بوجهها.
وصلته رسائل لهاتفه من مصادر أراد أن يعرف منها معلومات عدة، فتح عينيه بصدمة عندما علم بشيء ما من الرجل الذي كَلفه بجمع المعلومات عن «وليد الأنصاري"
_"نهاي'نهار' أسود"
________
صوتها كنغمة موسيقية على الأذان، كان مُميزًا حتى بنطق كل حرفٍ يخرج من فمها، مُميزًا كإيقاع موسيقى مُحرمة على قلبٍ عشقها وحاول جُهدًا الإبتعاد عنها.
وضع الأطباق التي بها الطعام على طاولة المطبخ التي تتوسطه، ونادى بصوتٍ عالٍ نسبيًا عليها حتى يتناولا الطعام سويًا:
"سيليــن، بتعملي إيه يلا الأكل خلص!"
أتت سريعًا بابتسامة متوسعة تُزين ثغرها بهيئتها التي تشع نظافة ورائحة تُشبهها تمامًا:
"دخلتك للمطبخ غيرت ريحة الأكل لريحة شبه الياسمين، حلوة الريحة دي أوي!"
ضحكت بخفة، وجلست على الكرسي ليجلس هو الآخر على الكرسي الذي يُقابلها:
"أيوه ماهي الحاجات اللي كتبتهالك كان الشامبو والشاور جل بريحة الياسمين، دي ريحتي المفضلة أصلًا!"
همهم بتفهمٍ وبدأ يأكل بعدما سمى الله وفعلت هي الأخرى مثله، يبدو وكأنها تبدل أفعالها السيئة بتلك الجيدة التي التقطتها منه، فهنالك مثل يقول «من عاشر قومًا أربعين يومًا أصبح مثلهم»، وهي الآن تتحول من الفتاة التي لا تكترث لأي شيء بالحياة وتعيش الرفاهية، لتلك الآن التي تشاركه كل شيء في حياته من بداية الصباح وحتى موعد النوم ينفصلان لينام هو على أريكة الصالة وهي بالغرفة!
_"أكلك مميز، طعمه جميل أوي"
قالتها وهي تتذوق الأكل بفمها باستمتاعٍ واضح، فابتسم بخفة ونبس:
"ألف هنا يا سيلين!"
همهمت قبل أن تستفتح حديثها الذي حاولت جاهدة أن ترتبه لتقوله:
"هو أنتو وصلتوا لإيه مع أنس في حوار بابا؟"
نظر للطعام ثم لها وأستند بكوعه على الطاولة وهو يقول بينما في يده الثانية كوب الشاي يرتشف منه:
"أنس عرفلنا إن المحامي اللي كان شغال معانا هو الخاين اللي في الحارة بيوصل لوليد كل أخبارنا، ولسه بيظبط كام حاجة وهيجي كمان شوية أصلًا لشغل عشان يخلص كل حاجة ويرفع القضايا من بكرا"
همهمت بتفهمٍ وهي تردف بتنهيدة قوية:
"كل حاجة هتبقى كويسة ان شاء الله، كان نفسي أساعد بأي حاجة تانية بس أنا للأسف معرفش أي حاجة عن شغل بابا زي ما قولتلك"
أومأ لها بابتسامة خفيفة وهو يبتسم:
"عارف، خلاص حصل خير مبقناش محتاجين أي حاجة أكتر من مساعدتك بأنك عرفتينا على أنس لأنه شخص كويس جدًا، بس لو تخفي معاه ابتسامات وهزار وإنه صاحبك هيبقى أحسن"
تنحنحت قبل أن تقول بإحراجٍ وهي تلعب بخصلاتها:
"هو يعني، عشان متعودين وكدا إننا على طول كنا سوا وبنهزر سوا"
هز كتفيه وهو يُجيبها ونظراته مُثبتة عليها بشكلٍ وترها:
"التعود خلص خلاص، مافيش هزار بين ولد وبنت ولا صداقة أصلًا، بس ماعلينا كل ده خلص خلاص!"
أخرج هاتفه على رنين من «أنس» ووضعه على أذنه مستمعًا للثاني الذي أخبره بأنه سيأتي لهم في المساء ليخبرهم بشيء مهم لأنه لديه عمل هام الآن، وأنه يود أن تكون معه «سيلين» بتلك المقابلة، لأن هنالك شيء يجب أن تعرفه.
_"أنس هيجي آخر النهار، بس عاوزك تكوني حاضرة عشان فيه حاجة تخصك هيقولها، أما نشوف اخرتها مع أنس، أنا نازل شغلي!"
قالها وهو يتحرك من مكانه زافرًا بينما هي تحركت رفقته تودعه عند الباب بابتسامة:
"إن شاء الله خير، متقلقش!"
________
منذ آخر مرة علمت بأن أختها تتحدث مع شخصٍ ما دون علم الآخرين وهي تُراقبها وتُراقب أوضاعها، تحركت للغرفة حيث اختفاء «تارا» لبضع دقائق مرت دون أن تخرج، لحقتها في خفاءٍ حتى لا تشعر بها ووقفت تستمع لأختها تتحدث رفقة شاب ما.
_"يابني بقى بطل هزار سخيف، أنا النهاردة بس قولتله عايزة ملخص لمادة دكتور زفت ده، غير كدا أنا مليش كلام معاه، هو أنت بتغير ولا إيه ياحبي!"
أنهت كلماتها بضحكة سخيفة ثم عاودت التحدث مجددًا بقولها بغنجٍ:
"طب متزعلش، هبعتلك صورتين لسه متصوراهم حلوين أوي، متع نظرك بجمالي!"
صمتت لثوانٍ ثم أكملت حديثها:
"بس بقى متكسفنيش الله، يلا هقفل عشان تسنيم هنا مش في الكلية، وأنا مش ناقصة صداع!"
وأغلقت الإتصال بينما تحركت «تسنيم» سريعًا من مكانها نحو الخارج مُمسكة بهاتفها وعقلها شارد بعيدًا بأختها التي يبدو وكأنها تُنهي نفسها بنفسها، وجدت «سعيد» السمج كما أسمته يرسل لها رابطًا وتاركًا لها رسالة:
"بصي الحوار ده، شكله مهم يخص الصيادلة!"
زفرت بضيقٍ وضغطت على الرابط لتجد بداخله وصفة لكيفية طهي البيتزا، عبست بسخطٍ وهي تردد بينها وبين نفسها:
"إيه ابن العبيطة ده كمان، بيتزا إيه عالمسا"
تركت هاتفها جانبًا عندما وجدت «تارا» تقترب وتجلس جوارها مبتسمة ابتسامة واسعة وهي تطالع هاتفها، تحدثت بنبرة هادئة:
"تارا، فيه حاجة مخبياها عني؟"
_"لأ مافيش، وأنا عايزة اقعد ساكتة شوية ياتسنيم، سبيني فحالي قومي ذاكري أحسن"
قالتها سريعًا وعينيها بالهاتف لتردف «تسنيم» بتنهيدة قوية:
"بس أنتِ قاعدة عالتلفون عادي، اشمعنى معايا مش عايزة تتكلمي؟"
زفرت الثانية بحنقٍ وابتعدت من أمامها قائلة:
"أنا هقوم أحسن يا تسنيم وخليكِ أنتِ قاعدة!"
وتركتها وغادرت الصالة نحو غرفتهما بينما زفرت الثانية بتنهيدة قوية، حزينة على الحال الذي وصلوا له جميعًا، وكيف أصبحوا لا يتحملوا كلمة من بعضهم!
__________
وصل «آسر» بخطى بطيئة لمنزله بعدما ترك «عبدالله» الذي ظل بداخل ورشته يتحدث رفقة «حمزة» ليطمئنوا عليه وعن أحواله، لمح أمه تغادر البناية في هذا الوقت الذي بالنسبة لهم مُتأخرًا، فقوس حاجبه باستغراب وخبئ نفسه بشكلٍ جيد حتى لا تراه وهي تغادر، وبالفعل تحركت بعيدًا عن البناية وتبعها دون معرفتها حتى وهي كانت تحاول الالتفاف حولها بكثرة!
وجدها تقف مع سيدة ما تأخذ منها شيئًا في حقيبة سوداء ثم تحركت لبيت «حكمت» أم «مديحة» وصعدت لأعلى، منذ متى وهي تذهب لها، فبالعادة «حكمت» هي التي تأتي لها تلتصق بهم لتعرف أخبار المنزل بأكمله، راوده الشك في أكثر من شيء وعاد أدراجه للمجلس، لا يطيق المنزل الآن فهو لم يدخله منذ الصباح، بعدما ترك «مرام» صباحًا نائمة دون ان يوقظها وغادر للصالة الرياضية لممارسة الرياضة، ثم لعمله ثم «لعبدالله»!
ذهب ناحية المجلس حيث الإجتماع الذي سيدور بينهم وبين «أنس» والبقية حتى يرى أمه متى ستعود ليسألها لماذا ذهبت ويحاصرها بأسئلته.
ولج للمجلس وجلس يستند برأسه للخلف فيها كل ضجيج العالم الآن، انتبه لقدوم «أنس» ثم تبعه «مروان» رفقة «سيلين» فظهر الاستغراب على ملامحه وملامح البقية؛ «إبراهيم» و«عبدالله» و«عبدالستار» وأيضًا «مُحسن».
جلسوا جميعًا ليسأل «مروان» بفضولٍ:
"في إيه يا أنس، طلبت نتجمع وقولت اجيب معايا سيلين! خير؟"
نظر لهم جميعًا بترقبٍ قبل أن يفجر قنبلته في وجوههم:
"اللي اكتشفته أنه ..أبوها قتل أمها"
