رواية تشابك ارواح
الفصل الثلاثون30
بقلم امينة محمد
«عزيزي الإنسان»
للانتقام مزايا وعيوب، ولكنها كلمة ثقيلة على الآذان والقلوب، هنالك أشخاص يعميهم الانتقام بدرجة كبيرة فلا يرون ما أصبحوا عليه وكيف تغلل الشر لأعماقهم!
يقال عندما تود الثأر من شخصٍ ما، يتغلل لأعماقك شر لا متناهي، فإن كان هنالك خير يُقتل، وإن كان كثيرًا يقل، حتى يتمكن منك شيطانك، ويسوقك حيث الجحيم الأبدي؛ دُنيا وآخرة!
وقع صريعًا لا حول له ولا قوة، شره الكبير انتهى عند هذا الحد، بعدما فعل الكثير والكثير، مات رفقة الأسرار والخبايا داخله حتى لا تظهر لأحد، مات وغادر الحياة بعدما ظلم الكثير، بعدما فعل الجرائم، بعدما أنهى حياة الكثير!
انتهى «نادر»، وانتهى عقابه في الدنيا عند هذا الحد، وعندما تتسائل أي عقاب تلقى؟
يكفي أنه كان بنفسٍ أمارة بالسوء تسوقه حيث الجحيم، يكفي أنه كان شرًا لا يرى الخير، وهنا كانت نهايته بعدما وصل لحالة من اللاوعي من كثرة الثمل، وكيفية أخذ «رزان» له فقط بعيدًا عن هذا العالم.
_"صـــابر"
هدر بها «وليد» عندما وجد نفسه في مصيبة، ذلك الحارس الشخصي خاصته وذراعه الأيمن، أتى عندما سمع صوت رئيسه على الفور ورأى «نادر» أرضًا لا روح به، الدماء في كل الأرجاء فقط!
_"خدوه على شقته بالمسدس ده، وحطوا بصماته عليه كأنه منتحر، يــلا اتحركوا بسرعة!"
أومأ له «صابر» برأسه بعدما ازدرد بريقه الثقيل، كيف وصلوا جميعهم لهذا الحال وتلك النقطة؟
تحرك مُناديًا بعض الحرس وحملوا «نادر» بعدما اخذوا المسدس وتوجهوا به حيث شقته، بينما وقف واحدًا ينظف المكان جيدًا من الدماء.
تحرك «وليد» لغرفته يفكر ويفكر، كيف سيتخلص من كل تلك المصائب التي وقعت على رأسه على حين غفلة؟
رفع هاتفه يتحدث مع أحد رجاله ليحجز له طائرة خارج البلاد الليلة، الليلة يجب أن يرحل عن هنا.
بينما في شقة «نادر» وضعوا جثته هناك وتركوا المسدس بيده بعدما نظف «صابر» من عليه بصمات «وليد»، ثم رحلوا كأن شيئّا لم يكن ولم يحدث!
وقف «صابر» يتحدث رفقة «وليد» عما حدث:
"بقولك ياباشا، الولا فتحي ده جاي بعد شوية أنا بفكر في حوار كدا لو هينفع!"
_"حوار إيه؟"
سأله «وليد» الذي بدى الضغط على ملامحه بتعبٍ واضح، ليجيبه الآخر:
"بفكر أقوله يجي على هنا، ويلبس هو قضية نادر وإنه قتله، ونبلغ البوليس ويطب عليه، الولا ده غبي وهيتعبنا معاه، هيتاخد متلبس متلبس!"
همهم مُفكرًا ثم وافق سريعًا، فهو لا يعنيه «فتحي» أو غيره، وكذلك نفذ «صابر» كل شيء بعدما تحدث رفقة «فتحي»يخبره أن يأتي لبيت «نادر» لأنهم ينتظرونه هناك.
على الجانب الآخر، كان «فتحي» يستعد للخروج من المنزل فوجد أمامه «مديحة» بوجهها الشاحب المُتعب، فهي في الآونة الأخيرة تثاقلت بها الحياة بسبب حملها منه، وبدأت أمها تؤنبها وتصرخ بها أغلب الوقت وتقول عنها ما لا يُقال!
_"أنتِ جاية ليه، هو أنا مقطعتش الورقة اللي بينا وخلصنا؟"
قالها بحدة في وجهها، فبكت بثقلٍ وهي تُجبه بخيبة:
"متسبنيش أنا حبيتك من كل قلبي وفي المقابل يكون ده جزاتي؟ طب ليه؟ ذنبي إيه، ابنك اللي في بطني ده لما يجي على وش الدنيا هقوله إيه؟"
ابتسم بسخرية بينما يجيبها متشدقًا:
"وأنا مالي ياما، إيه يثبتلي إنه ابني أصلًا، اللي خلاكِ توافقي تتجوزيني عرفي يبقى عملتيها قبل كدا كتير وبعد كدا عادي، بقولك إيه الشويتين دول مش على فتحي اللي عارفك!"
صفعة قوية كانت من نصيبه، صفعة كإجابة عما قال، ذلك الوغد الذي يشكك في أدبها وأخلاقها:
"أخرس ياكلب، أخرس، والله يا فتحي أنت ما حصلت ربع راجل أصلًا، ربنا يبتليك بمصيبة من حيث ما تدري ياشيخ، أبوك لأبو معرفتك الهباب!"
قام بخنقها حيث حاوط يده حول رقبتها بقوة بغلٍ واضح:
"عارفة، والله أخلص عليكِ وما يرفلي عين، غوري من هنا احسنلك!"
كانت تحاول إبعاده عنها بكل الأشكال بينما تغير لونها للشاحب أكثر لعدم قدرتها على التنفس، ثم تركها هو بدفعة قوية وغادر من أمامها لتعود أدراجها بكل حسرة وندم عما فعلت!
وصل بخطى سريعة نحو منزل صديقه رفقة «حمزة»، وقلبه يتآكل من الخوف على «آسر»، خاصةً أنه يعلم أن تعبه شديد وبالتأكيد أتته الحالة التي كانت لديه وهو بمنزله، ظل يردد الأذكار على لسانه وهو يلهث بشكلٍ قوي.
وصل عند المنزل وطرق الباب حتى فتحته «مرام» بدموعها المنهمرة على خديها في حزنٍ جلي، وإبتعدت من أمام الباب ليتجه هو وخلفه «حمزة» نحو «آسر» المُلقى أرضًا ورأسه بين أحضان أمه
_"ارفعه معايا يا حمزة!"
قالها «مروان» بعدما تنهد بحسرة على صديقه المسكين، ورفعوه على الأريكة، جلس جواره «مروان» يمسد على شعره بحنو بالغ، وتحرك «حمزة» سريعًا يجلب له الماء مع نواح أمه ببكاءها:
"ماله يا مروان، آسر ماله يابني، هيبقى كويس صح؟"
أومأ لها بأدبٍ وتنهيدة خرجت من أعماقه وهو يُجيبها ليُطمئن قلبها:
"اه يا خالتي، هيكون كويس والله متقلقيش!"
ثم تناول كأس الماء من «حمزة» وبدأ يضع البعض منه على وجه صديقه وهو يقرأ القرآن ليوقظ الذي بداخله إن أراد ذلك، وقد كان حينما بدأ «آسر» يهمهم بتعبٍ، جلس «حمزة» على طرف الأريكة ورفع «آسر» من خصره يسند ظهره عليه، كان جسده يرتجف داخليًا وخارجيًا وفتح عيناه بتعبٍ يطالع «مروان» بنظراتٍ لم يكن بها سوى الحسرة الساخرة على حياته بأكملها، أغمض عيناه واستند على «حمزة» وهو يردد بتعبٍ مقهور:
"حظي في الدنيا قليل يا صاحبي، اللي عشت معاها سنين طلعت السبب في كل حاجة بشوفها، اللي أمنتلها على حياتي وأسراري وعلى كل حاجة تخصني، هي السبب فتعبي ده، هي السبب فأني بموت يوميًا، طلعت السبب في كل حاجة وحشة في حياتي يا مروان، اتخذلت يا مروان بشكل صعب!"
صديقه مقهور، ويقال أن قهر الرجال شديد، فالرجل بطباعه قوي من الداخل، يملك قدرة التحمل عكس المرأة التي تمتلك مشاعر رهيفة رقيقة، القهر يعتلي ملامحه، ويغلف قلبه!
ربت «حمزة» على كتفه بتنهيدة قوية وهو يحاول مواساته:
"صلي عالنبي ياصاحبي واستهدى بالله، الحمدلله ربنا ظهرلك حقيقة كل حاجة عشان متفضلش مخدوع كتير، الحمدلله على الحاجات دي عشان نكمل حياتنا إزاي صح، ده ابتلاء واكيد ربنا هيجازيك عليه خير، قوله يامروان!"
أمسك «مروان» كفي «آسر» بين راحتيه التي شعت بالدفء الشديد لقلب صديقه، وبدأ يتحدث بينما ينظر نحوه بنبرة دافئة:
"ربنا سبحانه وتعالى بيقول في كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم "وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ" يعني إيه؟ يعني ربنا اختارك يحطك في البلاء ده اختار أنه يبتليك بزوجتك بحاجة عظيمة هي عملاها، تعرف اللي هي عملته ده حاجة عظيمة وكبيرة من الكبائر، محتاجة تقعد قدام شيخ وترجع تاني تتشاهد وتدخل المِلة من أول وجديد، ربنا سبحانه وتعالى بيقول يا آسر؛ فاستمع لما يوحى، يعني اسمع للي ربنا عاوز يوصلهولك، وإزاي ربنا عاوز يوجهك، ويحيي جواك روح جديدة خالية من كل حاجة، بلاء يا آسر لعله سبب من تخفيف ذنوب كتير عندك بينك وبين ربنا، وربنا اختارلك إنه يستر عليك في مقابل إنه يبعتلك بلاء زي ده"
سحب نفسًا عميقًا وأكمل بصوته الأجش الرخيم:
"مقدرش اقررلك البلاء ده حاصل ليه، بس أقدر أقولك إن كل بلاء بيحصل بتدابير، بشكل دقيق جدًا، وبحكمة إحنا كبشر منقدرش نستوعبها إلا في وقتها، ومهما حاولت أنت عشان تعرف ليه وإزاي، مش هتقدر غير في وقت ربنا عايزه، وهتعرف وقتها إن إختيار ربنا هو أسلم إختيار، وأحسن إختيار ليك"
_"طب وبعدين، أنا تعبت؟"
قالها «آسر» بحزنٍ شديد، ليجيبه الآخر بينما يربت بكفه على يد صديقه، صوته يولج لقلب الجالسين جميعًا، ليس لقلب «آسر» فقط:
"وبعد الإختبار في دعاء، في قرآن، ربنا سبحانه وتعالى جعل لنا القرآن والدعاء عشان نرتاح، نعمة كبيرة يغفل عنها كتير والله يا آسر، نعمة وجودهم في حياتنا متتوصفش، ربنا قال «قال ربي أشرح لي صدري، ويسر لي أمري»، أنا عارف إنك تعبان أوي لدرجة أن قلبك مقبوض وواجعك، ومافيش مشكلة إنك تتعب كدا وتبكي حتى لو عاوز، عيط يا آسر لو هيريحك!"
اقترب «آسر» يحتضن «مروان» واضعًا رأسه على كتفه مُخبئًا عيناه في صديقه، وللمرة الأولى أمام الجميع، يجهش هكذا باكيًا، منتحبًا، مُتمسكًا بكنزة «مروان» كطفلٍ صغير ضائع!
«ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلي هارون»، طلب الرفقة أمر وواجب على كل إنسان أن يجد رفيقًا يواسي ويُساند، ليشدد به الله أزره، ويشركه في أمره؛
«هارون أخي».
ربت «مروان» على ظهر صديقه بحنية بالغة، ونطق بصوته المتلبك لرؤية الآخر في هذا الوضع، من داخله يرتجف هو الأخر، من داخله ينتحب لأجل أخيه:
"عيط يا آسر، عبر عن اللي جواك يا أخويا، مافيش مشكلة إنك تتعب ويضيق بيك الحال، أنت إنسان ليك قدرة على تحمل الصعاب، أنت إنسان ليك مشاعر، أنت إنسان يا آسر"
عزيزي الإنسان؛
لا تتجرد من إنسانيتك،
لديك مشاعر تود أن تخرج،
لها الحق عليك بأن ترى منك التعبير عنها،
عزيزي الإنسان؛
لا تحرم نفسك من حق الضعف، البكاء، الخوف،
فما بعد ذلك لن يكون سوى قوة، شجاعة، أمان،
عزيزي الإنسان؛
انهض لتبدأ بروحٍ جديدة مُرممة، نقية،
لتبدأ بقلبٍ يشبه السماء في وسعها،
وروح تشبه البحر في عمقه،
فاسكن لاختيار الله، واستمع لما يوحى.
كانت تقف كما المقيدة تمامًا، لا تعرف كيف تتصرف ولا ماذا تفعل وهي تراه للمرة الأولى بهذا الضعف، ما فهمته حتى الآن أن «رنا» فعلت شيئًا كبيرًا كالسحر، ولكن عقلها يآبى التصديق، والآن هي بين نارين، أولهما الخوف من القرب منه خاصةً بعدما صرخ بها قبل قليل، والثاني القلق عليه وعلى حالته.
ابتعد عن أحضان صديقه ومسح وجهه بشكل جيد، ونبس بصوته المقهور:
"مش طايق أقعد في البيت دلوقتي، هقوم أغسل وشي وننزل نروح نقعد مع عبدالله شوية نطمن عليه!"
أيد «حمزة» فكرته بتشجيعٍ وابتسامة:
"حلو ده، تغيير جو ياعم يلا، قوم يا هندسة!"
ابتسم «آسر» بتنهيدة ثقيلة وتحرك نحو المرحاض بعدما ألقى نظرة على «مرام» التي تتابعه بنظراتها هي الأخرى، تخطاها حتى وصل وغسل وجهه ثم التفت ليجدها خلفه، فهي لحقته لتطمئن على حالته التي هلع قلبها عليه، سألته بتوترٍ من التحدث معه:
"أنت كـ..كويس دلوقتي؟"
أومأ لها برأسه بعدما تنهد وهو يرفع يده يضعها على خدها بقوله بنبرته المتعبة التي خرج معها الإرهاق بشكلٍ كبير:
"أنا آسف على كل حاجة شوفتيها، بس أوعدك والله نخلص من كل ده وهعوضك، هعوضك عن كل حاجة حصلت في حياتنا"
وضعت يدها فوق يده التي على خدها وتحدثت بصوتها المهزوز الذي بدى وكأنها ستبكي، بعينيها الخضراء اللامعة التي تجمعت بها الدموع:
"أتمنى إنك تكون بخير يا آسر، وكل حاجة بعدها هتكون بخير وربنا هيعوضنا جميعًا، متزعلش نفسك!"
ابتسم بمجاملة لها ابتسامة بسيطة، فهو غير قادر على الابتسام حتى الآن، غير قادر على القيام بأقل الأشياء:
"صحيح، حلمت بحلم غريب، حلمت إن أنا وأنتِ في مكان شكله حلو، بس كنا صغيرين شوية وكنت وقتها حاسس إني مبسوط أوي وأنا معاكِ زي ما بكون مبسوط في العادي وأنا معاكِ، بس كان غريب، يعني ليه الحلم ده دلوقتي"
حركت كتفيها بلا علم، هي فقط كل ما توده الآن أن تراه بخير، كما يجب أن يكون دومًا وسط من يُحب، وفي عمله، ورياضته المفضلة:
"طب كويس إنه حلم كويس، بس بينا كلام كتير لازم نتكلمه، خصوصًا كل حاجة مخبيها عني، ولا إيه؟"
أومأ لها برأسه مُكتفيًا بتلك الإجابة مع نفس الابتسامة البسيطة، ثم تحرك نحو الرفاق حيث أمه تسأل «مروان» بقلقٍ:
"أنت متأكد إنه كويس يا مروان؟"
أجاب هو بدلًا من صديقه، واقترب حيث تجلس أمه يقبل رأسها بقوله بتنهيدة:
"أنا كويس والله ياحبيبتي متقلقيش، ادعيلي بس يا أمي!"
_"بدعيلك كل الوقت والله، ربنا ينتقم من كل ظالم!"
قالتها بحسرة، فتنهد هو بثقلٍ وأشار للشباب بأن يتحركوا وقد كان بالفعل!
بينما بالغرفة كانت نائمة أرضًا، شاردة في اللاشيء، لا ملامح لها، فقط الصمت يعتليها منذ أن رماها هنا بعدما أفرغ عليها شحناته، تتذكر وتُعيد بعقلها اليوم الذي رأته به، سلب قلبها وعقلها، حاولت مرارًا وتكرارًا أن تجعله يقع في حبها ولكنه آبى تمامًا.
لحقته في كل مكان كصديقة له، وكان يصدها في بعض الأحيان، يتحدث معها في البعض الآخر كزميلة في الدراسة، حتى تخرج من جامعته وبدأ العمل، لحقته للشركة ولكنها لم تكمل العمل بها حينما أخبرت أمها عنه وأقترحت عليها بأن تجلب منه شيئًا لسحرٍ ستفعله ليحبها، اعتادت «رنا» على ذلك رفقة أمها التي عملت هكذا لسنينٍ طوال، ووقع المسكين في الفخ، فخ السحر السفلي!
ضحكت بعدما تذكرت، ضحكت سخرية على حالها وعلى حبها الذي ضاع هباءً، لا الحرام يدوم، ولا الخداع يكتمل، وحبل الكذب قصير!
في الصدف يقال العِبر، فقد تجمعنا صدفة تهون علينا الحياة بأكملها وتكون خيرًا من عشرة سنين.
وصل لمنزل «أنس» بعدما هاتفه وعرف منه ما حدث لسيارته، جلس في الحديقة يعبث بهاتفه ولكن هناك من جذب عقله بشكلٍ أكبر، تلك التي تجلس في شرفة غرفتها رفقة الحاسوب خاصتها تشاهد فيلمًا!
أيعقل أن يكون هناك جمال خاص بشخصٍ واحد فقط؟
ماعرفه عن شخصيتها هو بعض الجنون ممزوجًا ببعض الهدوء، كانت كالندى الذي تساقط في حياته على غفلة، أي سحر فعلته تلك ليجعله كما الشارد بها هكذا؟
أيقظه من غفلته قدوم «أنس» يرحب به:
"حضية'حضرة' اليائد"الرائد' أهلًا وسهلًا!"
صافحه «إياد» بابتسامة ونبس بصوتٍ هادئ بعدما خرج من شروده العميق:
"أهلًا يا أنس، إيه حصل فجأة؟"
تنهد «أنس» بقوله بعدما جلس على الكرسي المقابل «لإياد» متسرسلًا فيما حدث:
"والله أنا كنت يايح'رايح' المحكمة، وفجأة لقيت عيبية'عربية' جاية بسيعة'بسرعة' شديدة، طييت'طيرت' عيبيتي'عربيتي'"
هز «إياد»رأسه بتفهمٍ، وسأله ليعلم بمن سيكون شكه:
"شاكك في مين؟"
_"ومين غيي'غير' وليد، عاوز يخلص مننا كلنا!"
قالها «أنس» بسخطٍ واضح، ثم أخرج من جيبه بعض الأوراق وفتحها أمام «إياد»، وبدأ يشرح له بقوله ولكن تلك المرة بجدية أكثر، حيث خرج منه الراء بشكلٍ أوضح، فهو له فترة يحاول التمرن عليه وحده، دون مساعدة من أحد، فقط لأنه يحب نفسه كما هو، يعشق ذاته!
_"الورق ده يثبت إن الورق اللي عمله وليد كله متزور، بابا اتصرف وجابه من الراجل اللي بيزور لوليد، بس هو برا مصر يعني، ماعلينا دلوقتي ده معايا، وامبارح أنا روحت المحكمة وتابعت القضية واحتمال يكون فيه جلسة الأسبوع الجاي!"
أومأ له «إياد» وهو يقرأ كل الأوراق المُقدمة له من «أنس» ثم سأله بعدما رفع بصره من الأوراق له:
"وقضية عهد، ثابت اشتغل فيها؟"
أجابه «أنس» وهو يضع الأوراق مجددًا في الحقيبة التي أخرجها معه:
"أيوه، الحاج إبياهيم'إبراهيم' أداله أدلة كتير!"
تعب من الضغط على الراء في كلامه فترك حروفه تخرج كما المعتاد.
_"تعرف إيه هي؟"
سأله «إياد» بفضولٍ، فذلك الرجل الكبير خلفه أسرار كثيرة، حركت بداخله الكثير ليعرف عنه، فأجابه «أنس»:
"الحاج إبياهيم'إبراهيم' معاه فيديو كامل متصوي'متصور' للوقت اللي كانت فيه عهد في بيت وليد، وطلعت مقتولة!"
_"بس؟"
قالها «إياد» باستنكار ليهز «أنس» رأسه بنفي:
"فيه تاني، خصوصًا قضية الاغتصاب قبل قتلها، الحاج معاه تقاييي' تقارير' بتثبت إن بنته تم اغتصابها قبل قتلها، كل ده شوفته مع ثابت، وإن شاء الله وليد لابس إعدام يعني لابس!"
رفع «إياد» بصره بنظرة خاطفة حيث تتواجد «ندى» وقال بتنهيدة:
"خير، يارب نلحق نتجوز!"
هكذا عبر عن حاله ليُكمل معه الأخر بهيامٍ مُتذكرًا حبيبة القلب:
"والله بجد، عاوز اتجوزها!"
ضحك «إياد» بصخبٍ عليه وقام من مكانه ليغادر وهو يقول بمزاحٍ:
"دا أنت واقع، يارب تتجوزها ياسيدي، يلا همشي أنا!"
ثم تحرك بسيارته بعدما نظر لها ليجدها وأخيرًا انتبهت لوجوده، فابتسم بتوسعٍ ولا يعلم لماذا، ولكن من داخله قرر الابتسام لأنها لمحت سيارته وظل بصرها معلقًا عليها حتى غادر!
أصدقاء نحن أم إخوة، في كل الحالات نقف جوار بعضنا البعض!
كانوا الأربعة يجلسون في غرفة «عبدالله» الخاصة، كل منهم بوادٍ مختلف، وللصدفة أن جميعهم يتذكر كيف تكونت تلك الصداقة القوية.
حيث في عقل الهادئ المتزن تذكر ذلك المشهد الذي راوده، عندما كانوا مراهقين، وأعماهم بين العاشرة والخامسة عشر حيث كان ذلك فرق السن بينهم، كان بسيطًا.
_"ولا والله لو ما اتحركت ولعبت معايا الكورة لأزعلك!"
قالها «حمزة» موجهًا حديثه «لمروان» الجالس عند باب البناية ينتظر حبيبة قلبه أن تنزل للشارع وتلعب رفقة اصدقاؤها:
"مستني عهد تنزل، عمو قالي خلي بالك منها يامروان، وأنا هخلي بالي منها"
_"أنت مستفز، قوم يلا، آسر نزل وعبدالله أخوها أهو، أنت هتستناها بقى!"
ثم جذبه معه ليبعده «مروان» عندما لمح «عهد» بضفيرتها تخرج من البناية والابتسامة واسعة على فمها، ركض لها «مروان» يقف أمامها:
"هتلعبي؟ خلي بالك من نفسك، لو حد زعلك تعالي قوليلي!"
ابتسمت الصغيرة ببراءة وهي تحرك رأسها مجيبة:
"ماشي، باي باي"
وركضت من أمامه ليجد صاحب النار يقترب منه، يغار عليه من صغرهما، جذبه خلفه وهو يقول:
"اتحرك يا أخويا عشان نلعب أم الماتش"
ذكرى لطيفة، جمعتهم يلعبون بالكرة كما أعتادوا من صغرهم، ذكرى غللت الدفئ في قلبه وروحه.
بينما «عبدالله» راودته تلك الذكرى التي كانوا بها فوق سطح المنزل، يركضون خلف بعضهم ووقع وقتها «آسر» وجُرحت ركبته، فركض «حمزة» وجلب له القطن والمعقم بينما جلس «مروان» أمامه يحاول تضميد جرح صديقه.
_"اجمد ياض، أنت خيخة ولا إيه؟"
قالها «عبدالله» بسخطٍ ليجعل صديقه يقوى، وحينها بالفعل أظهر «آسر» القوة بالرغم من وجعه من المعقم الذي آلمه:
"لا أنا جامد يا أخويا، خليك فحالك!"
_"دماغكم كلكم فيها كبدة كلاب!"
لزمة في لسانه من صغره، أراد بها إثارة الحنق في نفوس أصدقائه ليزداد الحب والمشاكسة بينهم.
مرت ذكرى لطيفة على بال «حمزة» عندما وصل باكيًا لهم، يشرح لهم سبب بكائه:
"أمي بتقول لأبويا نمشي من الحارة، مش عاوز اسيبكم وامشي!"
ربت «مروان» على كتفه بحنانٍ يواسيه:
"مش هتمشوا يالا، هتروحوا فين يعني؟ مكانكم هنا وهيفضل هنا، أنت مش هتسيبنا وهنفضل سوا"
ثم ضمه يحتضنه وربت كلا من «آسر» و«عبدالله» على ظهره، وظلوا جالسين هنا في مكانهم المفضل، مكانًا تعاهدوا على اللقاء به وسط زرع كثير في الحارة!
بينما اليائس تذكر تلك الذكرى التي مرت على باله تُذكره بشكل أكبر بحلمه، عندما وصل لهم يُخبرهم بأن «مرام» اليوم صنعت له مع أمه شطائر لذيذة:
"مرام شاطرة في الطبخ، عملتلي حاجات حلوة أوي، عارفين بتعمل مع ماما تشيز كيك حلو أوي، هخليها تعمله في يوم وناكله سوا!"
_"وأنت مالك مركز مع مرام ليه كدا!"
كانت تلك المشاكسة من فِيه «حمزة» المشاكس من صغره، وحينها أجابه «آسر» بسخطٍ:
"بنت خالتي، وصحبتي، وبحبها أكيد!"
_"آآه بتحبها، امم"
مشاكسة أخرى جعلت من «آسر» يركض خلفه وضحك عليهما الاثنين الأخريين!
تلك الصداقة تكونت بعد الكثير والكثير، بعد اللحظات الجميلة والأخرى الحزينة، تكونت بشكلٍ قوي، بحبالٍ بينهم لا يمكن قطعها.
_"ساكتين ليه؟"
سأل «مروان» بتنهيدة قوية وهو يمرر بصره عليهم جميعًا، ليبدأ «عبدالله» هذه المرة بسؤاله الذي تذكره فجأةً:
"مروان صحيح، أنا في مرة كنت بتكلم مع محسن واتعصبت، وقولتله تسنيم زي أختي ومتحرمة عليا، معرفش طلعت مني كدا في لحظة غضب أنت عارف مببقاش عارف بقول إيه!"
_"وأنت شايف إن كلامك صح؟ أنت حرمتها عليك!"
قالها «مروان» بتنهيدة لأجل صديقه الذي لا يفكر قبل أن ينبس بما يجول بداخله، فهز «عبدالله» رأسه بتأنيبٍ، ليجبه «مروان» بينما يسند ظهره على الأريكة التي يجلس عليها:
"هو غلط كبير يا عبدالله، والمفروض تكون فاهم وواعي أنت بتقول إيه قبل ما تقوله، فيه حاجات كتير بتتقال وأحنا في لحظة غلط مافيش فيها رجعة، عليك دلوقتي كفارة يمين، ولازم تعمل ده قبل ما تكتب كتابك على تسنيم، اطعم مساكين أو اشتري ليهم كسوة، واستغفر ربك وخلي بالك من كلامك بعد كدا!"
تنهد «عبدالله» بندمٍ وأجابه بابتسامة:
"ماشي، هعمل كدا ان شاء الله خلال الفترة الجاية، كدا كدا لسه شوية على كتب كتابي أنا وتسنيم طول ما أنا في الحالة دي"
_"أنت مش هتطلق سيلين؟"
سأل بذلك السؤال «حمزة» الذي كان بصره معلقًا في اللاشيء ثم نقله «لمروان» الذي قوس حاجبه باستغراب:
"أطلقها ليه؟"
_"هو أنت مبسوط معاها، صارحنا وقول إنك مبتبقاش مبسوط مع حد غيري، أقصد غيرنا؟"
قالها بحنقٍ، ليضحك «آسر» عليه بينما يقول بتنهيدة:
"يابني هو مروان كان واعدك بالجواز وخلف معاك، ما تتهد يا حمزة، يارب تتجوز عشان تهدى!"
_"مش لما تتطلق وعدتها تخلص!"
قالها بسخطٍ وهو يذم شفتاه، ليتنهد «مروان» يتخطى ذكر «رزان» مجددًا على لسان «حمزة»:
"اتلم ها، اتلم، وبعدين لا مش هطلق سيلين، أنا مبسوط معاها، سيلين ملهاش حد غيري دلوقتي، وأنا حاسس معاها براحة والحياة ماشية الحمدلله"
هذه المرة تحدث «آسر» بقوله بابتسامة:
"ربنا يسعدكم ياصاحبي، ويعوضك خير"
شكره «مروان» ودعى له بالمثل، واكتملت تلك الجلسة لبعض الوقت أيضًا وغادر كل منهم لبيته ليناموا، نومًا هنيئًا!
_"وليد بيه، أنت ممنوع من السفر!"
قالها «صابر» بتلبكٍ خوفًا من رد فعل «وليد» الذي بالفعل صرخ بوجهه:
"أنت مجنون، مين ده اللي مانعني من السفر، أنا وليد الأنصاري"
تنهد «صابر» يشرح له بقوله:
"للأسف عشان آخر حوار حصل واحتمال يستدعوك للنيابة، أنا شايف إن ساعدتك تفضل في البيت الفترة دي، لحد ما الدنيا تهدى خصوصًا حوار نادر!"
_"اقفل، غور"
صرخ بها ثم أغلق الإتصال وجلس يفكر في كل شيء، يشعر وكأنها النهاية، بالتأكيد هي النهاية!
رفع هاتفه يتصل بأحد رجاله مجددًا يخبره بأن يفعل تلك الخطة كما يجب، كما يجب أن تكون!
ملحمة كبيرة بيننا، الظروف تعيق حياة أحلم بها يوميًا رفقتك، كل شيء يقف ضدي، حتى أنتِ!
وصل للمستشفى بعدما أنهى عمله في الشركة التي تعين بها وارتاح في العمل بها، كان وصوله مع وصول «روان» هي الأخرى لتزور أختها، مثل أنه لم يرها ولكنها لحقته سريعًا تناديه:
"حمزة؟"
زفر بشكلٍ خفي ساخطًا والتفت ينظر لها:
"إيه ده، روان؟"
أومأت له وسارت خلفه تسأله بابتسامة واسعة:
"عامل إيه؟"
من داخله يود أن يفتك بها، ومن خارجه مشمئز من التحدث معها، ولكنه أجبر نفسه على الإجابة عليها:
"كويس الحمدلله، جاية لرزان مش كدا؟"
أومأت بلطافة بينما تحاول تزيين حديثها في حبها لأختها، حب كاذب:
"آه، بصراحة جاية أطمن عليها، رزان ملهاش غيري إحنا أخوات وصحاب أوي يعني"
_"اها قولتيلي، حلو"
قالها بسخرية خفية في حديثه، ووصلا عند باب الغرفة التي بها «رزان»، طرق الباب بخفوتٍ وعندما لمحها ارتسمت على محياه ابتسامة واسعة، لم تخرج سوى لأجلها، أقترب يصافح والدها الذي كان هذه المرة بملامح هادئة، جذب الكرسي وجلس جوارها مبتسمًا:
"مساء الفل، عاملة إيه النهاردة؟"
كان بصرها معلقًا عليه منذ أن ولج لهنا، ولكن عندما جلس أبعدت بصرها بهدوءٍ:
"كويسة!"
هكذا أجابت، منذ أن تحدثت رفقة الطبيبة وهي مازالت تراه يستحق الأفضل منها، ارتسم على ملامحه الاستغراب وقوس حاجبه بشكلٍ هادئ يسأل:
"أكيد؟ مش شايف كدا؟ ومبترديش على تليفونك ليه!"
انتبهت لخروج والدها من الغرفة يسحب معه «روان» بشكلٍ مُقلق، وعادت تنظر «لحمزة» تقول بهدوءٍ:
"عادي ياحمزة، سيباه بعيد عني وكويسة!"
_"هو أنا تقيل ولا إيه؟ امشي مش حابة وجودي!"
نبس بتلك الكلمات التي شعر بها بداخله، فأخرجها سريعًا لتعلم ما الذي وصله منها، وما صدمه أنها هزت كتفيها بلا مبالاة:
"براحتك!"
طريقة غريبة، لم تروقه منها، ولكنه آبى المغادرة بقوله بسخرية:
"طريقة حلوة تبعديني عنك، بس وحشة برضو، ومش هبعد يا رزان، أنا هفضل معاكِ!"
_"مينفعش تفضل معايا، أنت عملت كتير أوي عشاني وأنا مش قادرة اردلك ده، فضلًا ياحمزة متصعبش علينا الأمور!"
قالتها هذه المرة بحسرة، لا تريده أن يعاني رفقتها، هي تعيش في ملحمة قوية بينها وبين ذاتها وجروحها، وقرر هو الإعتراف بقوله:
"لا معلش، متصعبيش انتِ الأمور يا رزان، عشان مافيش حاجة صعبة غير إننا بنعافر ضد رغبتنا، وأنا مش عاوز كدا، أنا هفضل متمسك برغبتي وكوني عاوز أكون معاكِ، مش عاوزة دي حاجة ترجعلك، أمي بتقول عليا لزقة، هلزق فيكِ!"
لمعت عيناها بضعفٍ، وضغطت بيديها على بعضهما بقوة من شدة الضغط الذي تشعر به، وأجابته بنبرة مهزوزة:
"حمزة، أنت تستاهل حد يحبك بجد، يكون جنبك وسليم، محدش مشاعره خلصت، متهان بالمعنى الحرفي، متستاهلنيش!"
استند يهز رأسه بنفي، يحاول أن يجعل تلك الفكرة تصل لها بشكلٍ أكبر، يود أن يجعلها تترسخ بعقلها دون الخروج منه:
"لا ملكيش دعوة أنا استاهل مين ومستاهلش مين... رزان أنا أخترت وأنا لما بختار وبعافر لحاجة مبسبهاش، الكلام ده مش وقته ومكنتش عاوز أقوله بالشكل ده ولا في الوقت ده، بس أنا..."
كاد أن ينطق بذلك ولكنه وجد الباب يُفتح على مصرعيه من «شوكت» الذي رمى بتلك القنبلة هنا، ممسكًا «بروان» من معصمها بقوة:
"نادر اتقتــل"
مشاعر مضطربة كما البحر، يثور قليلًا، ويهدأ قليلًا، تتمسكه العواصف فيأكل الجميع!
كما الحاضرة في حياته، غائبة في قلبه، عالقة في عقله، والحنين سيد اللحظات بينهما، العالم واسع والأراضي كثيرة، ولكن الوطن واحد، هو الوطن.
كانت تقف في المطبخ تحاول إعداد أي شيء مما تعلمته منذ أن أخذت هاتفها منه، فهي تجلس على مقاطع الطبخ تحاول تعلم أي شيء كما الصغيرة!
كانت تمسح الدموع التي انهمرت من عينيها بسبب البصل الذي تقطعه، وتتحدث بينها وبين نفسها بحسرة:
"أوف، هو ليه بيعيطني البصل ده، it's too much for a soft girl like me"
مسكينة التي تحاول أن تتعلم شيء من أجله، ولكن الأمر بالنسبة لها محبب لقلبها، ستفعل ذلك كربة منزل مجتهدة، وضعت الطعام في الإناء ثم على النار وتركته وغادرت المطبخ تنتظر وصوله في موعده.
وبالفعل نصف ساعة وولج للمنزل يقابلها بابتسامة واسعة:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عاملة إيه؟"
اقتربت سريعًا نحوه ووقفت أمامه تلثم خده برقة مرحبة به، فتوسعت ابتسامته لتلك الحركات العفوية والطاقة المفرطة التي تخرج منها وأجابته بترحيبٍ حار:
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حمدلله عالسلامة، أنا عملت أكل النهاردة!"
قوس حاجبه لذلك التطور السريع، وابتسم بخفة وهو يتحرك واضعًا أغراضه على الطاولة في مكانها ليظل بيته مرتبًا:
"بجد؟ طب كويس تطور حلو ده"
سارت خلفه كما اللاصق حتى دلفا لغرفته ووقفت جواره وهو يفتح الخزانة يخرج ملابس منزلية:
"أيوه، كنت عاوزة أقولك حاجة، هو أنا ممكن أكلم حد من البيت، هي صحبتي يعني بس شغالة عندنا في البيت وبتحبني، تجيبلي هدومي اللي هناك!"
نقل بصره نحوها وسألها بينما حاجبه مرفوع:
"ليه؟ هو أنتِ محتاجة هدوم؟"
هزت رأسها بإحراجٍ منه ومن طلبها للملابس، فتنهد هو بينما وقف أمامها تحديدًا يجبها:
"بس أنا اتفقت معاكِ وسألتك من يومين قولتيلي لأ، ليه مقولتيش، أنا عارف إن الهدوم قليلة هنا لسه بس أنا كنت مستني تقوليلي عاوزة إيه وتجيبي"
تنهدت بخجلٍ واخفضت بصرها عنه ثم رفعته تتحدث بنبرة منخفضة:
"ماهو أنا اتكسفت، وهدومي هناك كتير!"
_"مش هتنفعك، لو هدومك زي اللي جبتك بيها الحارة هنا مش هتنفع، ومش هتنفع حجابك، ولا مش ناوية تاخدي الخطوة!"
عرض عليها تلك الفكرة بحنية مبالغة، فأومأت له بقولها:
"ناوية وكنت هكلمك في الموضوع، طب أجيب عالاقل اللي ينفع"
هز رأسه بنفي، فهو رافض لتلك الفكرة تمامًا لأنه لا يود أي احتكاك «بوليد»، وأجابها:
"لا هننزل سوا تشتري كل اللي عيزاه، متقلقيش، هدخل أخد شاور ونشوف الأكل اللي عملتيه!"
ثم تحرك نحو المرحاض بملابسه ولكنه وجد الدخان يخرج من مطبخه، نست الطعام وواقفة الآن تفكر بعقلها الذي ذهب لعالم آخر:
"استر يــارب!"
قالها وتحرك نحو المطبخ سريعًا بينما هي تحركت خلفه عندما لمحت الدخان تصرخ بفزعٍ:
"متصوتــيش، هو كله صويـت"
ثم أزاح الإناء من على الموقد ووضعه في حوض الغسيل، وتنهد بحسرة ثم شكر ربه بأنه لاحظ ذلك، رفع بصره لها فوقفت كما المسكينة تطالعه، كما المُذنبة تمامًا بعينيها الدامعتين:
"أكلتي باظت!"
تنهد واقترب يضع يده على خدها برقة، يحاول مواساتها في محنتها تلك، أول أعمالها في مجال الطبخ انتهى بالفشل!
_"فداكِ حصل خير، خلاص، الحمدلله إني خدت بالي قبل ما أدخل الحمام، كان زمانك مطلعاني بخضة كنت روحت فيها المرة دي!"
تحدث بذلك يحاول أن يجعلها تضحك، فضحكت بالفعل على حديثه بابتسامة ثم نبست بحنقٍ:
"يوه، خلاص بقى كانت مرة بس!"
ابتسم بخفة وهو يطالع تلك الملامح المميزة التي تمتلكها عن قرب، ثم قال بتنهيدة:
"أقعدي بقى، هدخل أخد أم الدش ده وأطلع اشوف هناكل إيه"
ابتعدت تفسح له الطريق وولج هو للمرحاض ينعم بحمامٍ دافئ، ثم خرج لها وجلس جوارها على أريكة الصالة خاصته، أعطته هاتفها تُريه وصفة أكل سهلة وبسيطة:
"شوف دي، مكوناتها هنا وسهلة، إيه رأيك نعملها؟"
أومأ لها برأسه وهو يقرأ المكونات، ولسوء حظها عُرضت رسالة من رقمٍ مسجل باسم «عمار»:
«سيلي القمر، وحشتيني أوي يا قلبي!»
