رواية جعلني ملتزمةالفصل الاول1بقلم اسراء جمال
في زحام الحياة، أحيانًا ما تأتي الصدمات من حيث لا نحتسب، لتغير مسار يومنا، وربما مسار حياتنا بأكملها. على رصيف مهجور، حيث يلف الصمت المكان وتختفي أشباح البشر، كانت "شذى" تقف، تنتظر وصول من وعدها بمجيئه، لكن القدر كان يخبئ لها لقاءً مختلفًا، لقاءً لم يكن في حسبانها، وكان كفيلًا بأن يشعل شرارة غضبها.
كانت شذى تقف على قارعة الطريق، تنتظر قدوم أحدهم إليها في ذلك المكان الخالي من المارة. كانت عقارب الساعة تزحف ببطء، وكل دقيقة تمر تزيد من ضيقها. وفجأة، ودون سابق إنذار، ارتطم بها شخص عابر، لم يلقِ بالًا لوجودها، فكان الاصطدام عنيفًا بما يكفي ليثير حنقها. رفعت شذى رأسها بحدة، وعيناها تقدحان شررًا، ثم صاحت به بغضب لم تتمالك نفسها من إظهاره: "إيه يا عم أنت! مش تفتح وأنت ماشي؟ أنت أعمى ولا إيه!؟"
لم يرفع الشاب بصره إليها، بل ظلّ مطأطئ الرأس، وكأن الأرض ابتلعت كلماته. تحدث بصوت خفيض، يملؤه الأدب والهدوء: "أنا آسف يا آنسة، ما كان قصدي والله. كنت مشغول بالموبايل، معلش." ثم همّ بالمغادرة، تاركًا إياها واقفة وقد كادت تغلي من الغيظ. لكن شذى لم تعر اعتذاره أي أهمية، واستوقفته بعصبية، وكلماتها تخرج حادة كشفرة: "آسف! أصرفها منين آسف دي إن شاء الله؟ وبعدين ماشي عامل لي فيها محترم وباصص لي في الأرض عشان تخبط في البنات ويقولوا عليك محترم ومش قصدك! أنا عارفة الحركات الزبالة دي كويس."
تنهد الشاب بنفاذ صبر، وما زال بصره مطأطئًا عنها، لم يجرؤ على رفعه. قال بصوت بدأ يغلبه الضيق: "والله يا آنسة، ربنا أعلم بالنوايا. وعن إذنك بقى لأني مش فاضي للكلام ده." ثم تركها تغلي من الداخل بسبب ردوده التي زادتها حنقًا، ورحل دون أن يلتفت. ظلت شذى واقفة تنظر إليه وهو يبتعد، وعيناها تتبعان ظله بغل وحقد دفين، وكأن هذا اللقاء العابر قد زرع بذرة كراهية في قلبها.
بعد دقائق قليلة، قطعت صمت المكان ضوضاء محرك سيارة فارهة توقفت بجوارها. كان السائق شابًا يبدو عليه الثراء، ضغط على كلاكس السيارة لتلفت انتباهها. توجهت شذى إليه بضيق، ودلفت إلى السيارة بعصبية، ثم أردفت بصوت عالٍ: "أنت كنت فين كل ده وسايبني واقفة في الشارع كده، واللي يسوى وما يسواش يخبطوا فيا؟"
رد الشاب ببرود، وهو ينظر إليها بوقاحة لم تخفَ على شذى: "وطي صوتك يا شذى وما تخلينيش أتغابى عليكي. العربية عطلت مني وكنت بحطلها بنزين. إيه حصل مصيبة عشان اتأخرت شوية على سعادتك؟"
نظرت شذى إليه باشمئزاز، وقالت وهي تشعر بالغثيان من المكان والحديث: "طيب يلا اطلع خلصني، أنا اتخنقت من الشارع ده." وانطلقت السيارة، تاركة خلفها الغضب والضيق يسيطران على شذى.
في الجهة الأخرى من المدينة، دخل عبد الرحمن منزله، يشعر بضيق شديد من تلك الفتاة المغرورة المتعجرفة، وكلماتها السامة التي ألقتها في وجهه، واتهاماتها الباطلة التي لا أساس لها من الصحة. ظل يتمتم بصوت مسموع، يستعيذ بالله: "أستغفر الله العظيم يا رب، هي كانت ناقصاها دي كمان؟ ربنا يهديها."
سمعت شقيقته حياة كلماته غير المفهومة، فاقتربت منه بمرحها المعتاد، وقالت بابتسامة واسعة: "مالك يا عبدو، أنت بتكلم نفسك ولا إيه يا دكتور؟ هما الطلبة اللي في الكلية خلوك تهلوس للدرجة دي؟"
نظر عبد الرحمن إليها بابتسامة حانية، وقال: "حياتي، أنتِ هنا من إمتى؟"
غَمزت حياة بمشاغبة، وقالت: "من ساعة 'هي كانت ناقصاها دي كمان'. هي مين دي كمان ها؟ مين دي ها؟ مين؟"
ارتفعت ضحكات عبد الرحمن عاليًا على فضول شقيقته الذي لا ينتهي، وقال لها: "ما هتتغيريش أبدًا، طول عمرك هتفضلي فضولية وزنانة كده."
تظاهرت حياة بالزعل المصطنع، وقالت: "أنا زنانة وفضولية يا أبيه؟ طيب أنا زعلانة منك ها بقى."
احتضنها عبد الرحمن بحنان، وقال: "طيب يا ستي ما تزعليش، ده موضوع كده هبقى أحكيلك عليه بعدين. المهم دلوقتِ، صليتي العشا ولا لسه؟"
ردت عليه حياة بابتسامة واسعة، وقد نسيت زعلها: "صليتها من بدري وجهزت العشا كمان، ومستنياك علشان نتعشى سوا."
قال عبد الرحمن: "طيب يلا يا ستي نتعشى وأحكيلك على اللي حصل معايا."
توجه عبد الرحمن وحياة إلى طاولة الطعام ليتناولا طعامهما سويًا. وأثناء تناولهم للطعام، بدأ عبد الرحمن يقص على حياة ما حدث معه منذ قليل. اشمأزت حياة من تلك الفتاة، ونطقت بغيظ: "أما قليلة الذوق بصحيح، ومعندهاش بربع جنيه رباية."
رد عبد الرحمن يزجرها بحدة: "حياااة! عيب كده، مينفعش نسيء لحد مش موجود. دي اسمها نميمة وغيبة، والدين نهانا عن كده. أهي هي دلوقتِ أخدت حسنات، وأنتِ أخدتِ سيئات، ويوم القيامة بتيجي تاخد من حسناتك وتديكي سيئاتها."
ابتلعت حياة ريقها بخوف، وقالت: "لا لا خلاص، مش هعمل كده تاني أبدًا، مش هغتاب ولا هنم على حد أبدًا أبدًا..."
أردف عبد الرحمن بمرح، وهو يرى أثر كلماته عليها: "شطورة يا حياتي." ثم أكمل بنبرة تشجيع: "يلا بقى روحي نامي عشان لما أجي أصحيكي لصلاة الفجر تبقي فايقة، وكمان تلحقي تجهزي نفسك قبل ما تروحي جامعتك، بدل ما كل يوم بننزل متأخرين أنا وأنتِ كده بسبب نومك للساعة 10 يا أستاذة."
ردت حياة بلماضة: "الله، ما كل يوم بصحى أصلي الفجر وأقولك هنام شوية صغننين وأبقى صحيني قبل ما تلبس عشان أجهز وما أأخركش، وأنت تقول لي نامي، وبعدها تنسى تصحيني تاني غير أما تلبس وتدخل تلاقيني نايمة. قولتلك قبل ما تلبس صحيني عشان نجهز إحنا الاثنين في نفس الوقت وما أأخركش."
ابتسم عبد الرحمن لها، ثم أردف: "ماشي يا لمضة، هبقى أصحيكي قبل ما ألبس. يلا خشي نامي."
قامت حياة وتوجهت إليه، ثم قبلته من إحدى خديه، وأردفت تقول: "تصبح على جنة يا أحلى أخ في الدنيا دي كلها."
قبلها عبد الرحمن من جبينها بابتسامة، وقال: "وأنتِ من أهل الجنة يا حياتي..."
عبد الرحمن الأسيوطي: دكتور بكلية الحقوق، يبلغ من العمر ثلاثين عامًا. شاب ملتزم، ويعرف دينه جيدًا، ودائمًا ما يضع الله نصب عينيه. توفي والداه وهو لا يزال يدرس في الجامعة، وتركا له شقيقته حياة التي كانت في المرحلة الإعدادية آنذاك. ومنذ ذلك الحين، أصبح هو المسؤول عنها، وصار لها بمثابة الأب والأخ وكل شيء في حياتها. يدلعها دائمًا ويناديها "يا حياتي". وبالنسبة لحياة، عبد الرحمن هو أيضًا كل شيء في حياتها، أخوها وأبوها وكل دنيتها.
وصف عبد الرحمن: شاب طويل القامة، ذو بنية قوية وجسد ممشوق. وجهه قمحي اللون، وله لحية قصيرة. عيناه بنيتان فاتحتان، وتوجد في أسفل ذقنه علامة "طابع الحسن". أسفل رقبته تبرز تفاحة آدم. وجهه مستدير، وهو على قدر عالٍ من الوسامة والحياء.
أما حياة: فتاة على قدر عالٍ من الجمال. بشرتها ناصعة البياض، ووجهها مستدير ذو غمازتين. عيونها سوداء واسعة، ورموشها كثيفة. شعرها أسود حريري طويل، وهو بالطبع مغطى تحت خمارها. تبلغ من العمر 19 عامًا، وتدرس في السنة الأولى بكلية العلوم. فتاة على قدر عالٍ من التدين والالتزام والحياء، وهي في حالها تمامًا. لا تعرف سوى اثنتين في الجامعة: شذى ومنى. على الرغم من أن حياة لا تشبههما في اللبس ولا في الطباع، إلا أنهما تحبانها جدًا وهي تحبهما.
وفي مكان آخر، كان الليل قد أسدل ستائره السوداء على ملهى ليلي، حيث كانت الموسيقى الصاخبة تملأ الأجواء، والأضواء الخافتة ترسم لوحات من الفوضى. في هذا العالم المليء بقلة الحياء والإيمان، حيث الفساد والانحطاط الأخلاقي يسيطران، كانت شذى تتراقص وتتمايل مع رجل لا يليق تسميته إلا "بالخطأ". كان الاثنان يتمايلان على أنغام الموسيقى الصارخة، وكل منهما يحمل في يده كأسًا مملوءًا بما يسكر العقل ويذهب به، ويغضب الله.
مال عليها الرجل وهو يترنح، يجذبها من خصرها بقوة إليه، ليقربها بشدة، ورائحة فمه تفوح منها رائحة الخمر، وقال بصوت خشن: "بقولك إيه يا شذى، ما تيجي نروح سوي شقتي النهاردة نكمل باقي السهرة هناك؟"
ردت شذى عليه دون أن تعي شيئًا، وهي تترنح من جهة إلى أخرى، لا تدرك ما يدور حولها: "وماله يا، يلا نروح."
جذبها الآخر من يدها بمجرد أن نطقت بهذه الكلمة، وذهب بها حيث شقته. بعد وقت ليس بطويل، وصلا إلى شقته. دلفت شذى معه إلى الشقة، وكل منهما في عالم آخر، غارق في دوامة اللهو والضياع. جذبها من ذراعها، ودلف بها داخل حجرة النوم الخاصة به. ثم، بدون تفكير أو تروٍ، قذفها بعنف على التخت الموجود خلفها، وبدون تردد، هبط فوقها.
