
رواية بعينيك اسير
الفصل الثاني والاربعون42
بقلم شهد الشوري
جذبوا فارس بقوة ليقف أمام أبو عدنان الذي رفع يده بغل ليضربه لكن فجأة و قبل أن يفعل اي شيء توقف عندما استمع لصوت محرك سيارة قادم من بعيد انوارها بدأت تخترق الظلام وتقترب ببطء حتى توقفت تمامًا !!
الجميع كانوا في ترقب ينتظرون ما سيحدث فُتح باب السيارة و نزل منها آخر شخص توقع فارس أن يراه في تلك اللحظة انه "سفيان " الذي اقترب منهم بخطواته الهادئة و نظراته الثاقبة و لم يبدو عليه أي توتر
نظر إليهم جميعًا ثم قال بصوت هادئ لكنه مليء بالقوة بعدما توقع ما يحدث و هو ينظر لفارس :
الليلة تتفض وكل واحد يروح بيته سليم احسن
ضحك أبو عدنان بسخرية لاذعة و صوت ضحكته كان مليئًا بالتهكم والغضب وهو يقول:
وانت مالك اهلك ، مين انت !!
رد عليه سفيان بابتسامة باردة تخفي خلفها الكثير :
تصدق بالله...انت جيت في الوقت المناسب انا كنت هموت و اضرب حد وشكلها من نصيبك
لم يستطع أبو عدنان ولا رجاله استيعاب ما حدث حيث باغته سفيان بلكمة قوية كانت كافية لتطرحه أرضًا في ثانية واحدة
ما إن سقط قائد الرجال تشتتوا و عمت الفوضى، في تلك اللحظة انقض فارس على أقربهم و من هنا بدأت المعركة، الضربات تتبادل بين الطرفين، صرخات مختلطة بأصوات اللكمات والتكسير
دقائق قليلة مرت لكن بدت وكأنها ساعات، انتهى كل شيء كان رجال أبو عدنان ممددين على الأرض يئنون من الألم ، ووجوههم مليئة بالدماء بينما أبو عدنان كان مرميًا بينهم عاجزًا عن الحركة بالكاد يلتقط أنفاسه !!
جلس فارس على مقدمة السيارة، يلتقط أنفاسه بصعوبة بعد المكالمة التي أجراها مع كارم ليطلعه على ما حدث بإيجاز، و إلى جانبه، جلس سفيان بصمت، يشاركه نفس التعب ونفس الثقل لم يكن هناك حديث بينهما، ولم تكن هناك نظرات تُبادَل كأن المكان غرق في سكون ثقيل، لا يقطعه سوى صوت أنفاسهما المتسارعة
مرت الدقائق بطيئة، وكأن الزمن نفسه قد توقف، حتى وصلت سيارات الشرطة، تتقدمها أضواءها الساطعة التي مزقت عتمة الليل....نزل كارم من إحدى السيارات برفقة عناصره، وعيناه تفحصان المكان بدقة، قبضوا على أبو عدنان ورجاله بلا مقاومة تُذكر، وقبل أن يغادر مع الشرطة، توقف للحظة أمام فارس، ناظرًا إليه نظرة تحمل في طياتها الكثير من اللوم !!
عادت السكينة إلى المكان بعدما رحل الجميع، تاركين فارس وسفيان وحدهما في مواجهة الفراغ الذي يحيط بهما، جلس كلاهما في صمت، يحملان أثقال اللحظة، لا يعرف أحدهما كيف يكسر هذا الجدار السميك من الصمت
كان فارس يكافح ليجد كلمات شكر لسفيان، بينما سفيان لم يكن يعرف كيف يبدأ الحديث، وأخيرًا، قطع سفيان الصمت قائلاً بنبرة هادئة، مبتسمًا قليلاً :
مبروك....انك هتكون اب !!
اومأ له فارس بهدوء وبعد لحظات من الصمت خرجت من فمه كلمة بدت وكأنها ثقيلة عليه :
شكرًا
اومأ سفيان بصمت، فتأهب فارس للمغادرة، لكن ما إن وقف وبدأ يمشي حتى شعر بآلام حادة في قدمه، فأطلق آهة قصيرة تعبر عن ألمه، لاحظ سفيان ذلك فورًا، فاقترب منه يسأله بنبرة قلقة :
ايه مالك؟!
رد عليه فارس بضيق، محاولًا إخفاء ألمه :
مفيش
رغم صمته، لم تفارق عينا سفيان فارس، الذي بالكاد خطا خطوة أخرى قبل أن يتكرر الألم، هذه المرة، لم يتردد سفيان، أمسك به وأجبره على الاستناد عليه رغم اعتراضه، ثم قاده إلى السيارة وأدخله برفق، وتولى هو القيادة
جلس فارس صامتًا بجانبه، عاجزًا عن القيادة بسبب إصابته، والشعور بالضيق ينهش قلبه لأن من يساعده الآن هو شخص يكن له الكراهية
في طريقهم إلى المنزل، كسر سفيان الصمت وسأله بجدية :
مين الناس دي، كانوا بيتخانقوا معاك ليه ؟
التزم فارس الصمت لدقائق، ثم بصعوبة بدأ في سرد ما حدث باختصار شديد، وبعد أن انتهى، كان رد سفيان الوحيد :
انت غبي!!!!
رد عليه فارس بحدة وهو ينظر له غضب :
إنت بتقول إيه ؟
تجاهل سفيان غضبه، واستكمل حديثه بنبرة هادئة :
أنا مقولتش حاجة غلط، انت فعلاً غبي، ازاي تدخل واحدة زي دي بيتك وهي المفروض غريبة، وجوزها معروف إنه خطير، ازاي تسيبها مع مراتك اللي حامل في ابنك، إزاي أمنت مراتك تقعد معاها في بيت واحد، يأما انت ش فارق معاك، يا إما إنت فعلاً غبي !!!!
قاطعته نظرات فارس الغاضبة، الذي كان يجز على أسنانه من شدة الانزعاج من إهانة سفيان له
لكنه فضل الصمت وفي المقابل، صمت سفيان أيضًا، وعندما وصلا إلى البناية، ساعد سفيان فارس على النزول من السيارة، ورافقه حتى وصل إلى شقته
فُتح الباب بواسطة ميان التي شهقت بقوة ما إن رأت هيئة فارس، وسألتهم بقلق وخوف شديد :
حصل إيه، إنتوا اتخانقتوا تاني ؟
رد فارس عليها بصوت حنون محاولًا تهدئتها :
حبيبتي ما تتخضيش....مفيش حاجة ؟
تقدمت ميان بسرعة نحو فارس لتحاول أن تسنده، لكن سفيان تدخل بسرعة ومنعها بلطف، قائلاً وهو ينظر إلى الأرض حتى لا يُشعر فارس بالغضب :
ما ينفعش تسنديه....انتي حامل، وهو تقيل عليكي !!
زفر فارس بضيق واضح، فوجود سفيان في المكان بالنسبة له شيء مكروه خاصة في وجود ميان !!
تعاملت ميان بهدوء، وأشارت لسفيان نحو غرفة النوم، وما ان دخلوا إليها ساعد سفيان فارس على الاستلقاء بحذر، كان الألم ظاهرًا بوضوح على ملامح وجه فارس، فانهارت ميان بالبكاء بصمت، دون أن تصدر منها كلمة واحدة
في هذه اللحظة، دخلت جنة الغرفة و سألت بقلق :
إيه اللي حصل؟ مالك يا دكتور فارس !!!
اقتربت جنة ببطء نحو فارس، ومدت يدها لتلمس الكدمة في قدمه لكن فارس أبعد قدمه بسرعة، وكان واضحًا ضيقه مما كانت ستفعل
شعرت ميان ايضاً بالانزعاج من تصرف جنة، لكنها لم تظهر أي رد فعل مدركة أن الوقت ليس مناسبًا لهذا النوع من المشاعر بسبب تعب فارس
بنبرة مليئة بالخوف، قالت ميان :
انا هتصل بالدكتور
لكن فارس قاطعها وهو يحاول أن يخفي المه ويطمئنها عليه :
الموضوع مش مستاهل....دي كدمة بسيطة وهتروح ما تقلقيش !!
لم تقتنع ميان تمامًا، و كانت ستتصل بالطبيب حتى تدخل سفيان قائلاً بجدية :
انا اتصلت بالدكتور، وهو قدامه خمس دقايق وهيكون هنا
كان رد فارس على حديثه حادًا :
وانت مين سمح لك تتدخل اصلاً !!!!!!
وقفت ميان صامتة، غير راغبة في الدخول في نقاش أو تصعيد الموقف رغم ان هي الأخرى لم تكن تطيق سفيان...إلا أنها شعرت بضرورة شكره على وجوده ومساعدته لفارس
لم تكن تعرف ما إذا كان هناك شجار بينهما أم لا لكنها كانت متأكدة أن سفيان كان على الأقل واقفًا بجوار زوجها في هذا الموقف الصعب
نظرت إلى فارس بنظرات عتاب مشيرة إلى أنه كان فظًا في حديثه معه وقبل أن يتمكن سفيان من الرد
رن جرس الباب فتحت جنة ودخل الطبيب الذي بدأ بالكشف على فارس وبعد أن فحصه بدقة كتب له الدواء اللازم لعلاج الجرح في قدمه والكدمات التي على وجهه
شعر فارس حينها أنه قد بالغ في رد فعله تجاه سفيان ورغم أنه لا يحبه ولا يطيقه ، إلا أنه لم يستطع تجاهل حقيقة أن سفيان ساعده في وقت الحاجة
فقال للطبيب قبل أن يغادر وهو يشير لسفيان :
لو سمحت، اكشف عليه كمان !!
في البداية رفض سفيان لكن فارس أصر بحزم مما دفعه في النهاية للقبول كشف الطبيب عليه سريعًا وطمأنه بأنه بخير.....ثم غادر بعد الانتهاء
بينما كان الجميع في حالة من الصمت، لاحظ سفيان شيئًا غريبًا جنة التي كانت تقف على جانب الغرفة تراقب كل حركة بينه وبين ميان وكلما اقتربت ميان منه أو وضعت يدها عليه كانت نظرات جنة تتغير لتصبح مليئة بالغضب والحقد و كأن شيئًا بداخلها يشتعل !!!
طلب سفيان من ميان بهدوء دون النظر إليها :
ممكن شوية مايه !!
لم ترد لكنها أومأت برأسها وغادرت الغرفة بهدوء دون أن تنطق بكلمة تبعتها جنة التي، قبل أن تغادر اقتربت من فارس وقالت بصوت حاولت أن تجعله ناعمًا قدر الإمكان :
ألف سلامة عليك يا فارس، قصدي يا دكتور فارس والله خوفتني عليك، الحمد لله انها عدت على خير
قالت كلماتها، ثم غادرت الغرفة لكن فارس لم يرد عليها، وبقي هو وسفيان في الغرفة وحدهما
نهض سفيان ليقف ثم قال بجدية :
أنت غلطت لما دخلت الست دي بيتك وصدقني من اللي شايفه، احب اقولك هيحصل من وراها مشاكل بينك وبين ميان
قالها ثم غادر تاركاً فارس يفكر في حديثه وهو يعلم انه تسرع بمجيئه بتلك الفتاة لتبقى بمنزله !!
التقى سفيان بميان عند خروجه من المنزل، فاستوقفها بهدوء قائلاً :
خلي بالك من البت اللي في بيتك يا ميان، نظراتها ليكي مش مريحة أبداً، وعينيها على فارس، فتحي عينك وحافظي على بيتك وجوزك
همت ميان بالكلام، لكنه قاطعها قائلاً بصدق :
مش قصدي أشكك في فارس وانه ممكن يستجيب ليها أو يفكر فيها حتى، أنا قصدي إنها ممكن تعمل بينكم مشاكل، ولو مش مصدقة، جربي وقربي من فارس وهي موجودة وشوفي رد فعلها
اكتفت ميان بالصمت، وقبل أن يغادر سفيان استوقفته قائلة :
كنت فاكرة انك ما هتصدق وتقلبني على فارس
ابتسم سفيان بهدوء وقال :
ممكن يكون حصل اللي حصل بينا في الأول، بس ده ما يمنعش إنه راجل بجد وبيحبك، وعمل اللي أنا مقدرتش أعمله معاكي وجوده جنبك بيسعدك، وده مش بس أنا اللي شايفه، ده الكل شايفه....أي حاجة تفرحك يا ميان هعملها، لأنك دلوقتي مش بس بنت خالتي، أنتي أختي، والأخ ما يهموش غير سعادة أخته
صمتت ميان ولم تجب، فتابع سفيان بهدوء :
عارف ان قلبك مش صافي ناحيتي، ويمكن عمره ما هيصفى، وده حقك، بس لو في يوم قدرتي تسامحيني، سامحيني...و أنا موجود دايماً كأخ ليكي
أومأت ميان برأسها بصمت فقال أخيراً قبل أن يغادر ويغلق الباب خلفه :
ربنا يسعدكم مع بعض، وإن شاء الله البيبي يوصل بالسلامة وتفرحوا بيه
على مقربة منهما كانت جنة جالسة في غرفتها
الأضواء خافتة والجو هادئ كانت تحتسي كوباً من الشاي وهي شاردة الذهن تحاول الهروب من دوامة الأفكار التي تسيطر عليها منذ أيام
كانت دائماً تشعر بأن هناك شيئاً ناقصاً في حياتها شيئاً لا تملكه، موجود لدى غيرها وميان.....ميان كانت تجسد كل ما كانت هي تحلم به
سألت نفسها بصوت خافت :
ميان أحلى مني في إيه عشان يكون عندها كل ده
كان صوت فارس وهو يتحدث عن ميان وعشقه لها يتردد في أذنيها كالصدى حبه لها كان واضحاً في كل نظرة وكل كلمة يقولها عنها، شعرت بغصة في قلبها....غصة مليئة بالغيرة.....والحقد !!!
تتحدث مع نفسها بصوت خفيض مليء بالمرارة :
نفسي في راجل يحبني ربع الحب اللي فارس بيحبه لميان...يحميها ويكون سند ليها !!
دمعة انحدرت على وجنتها مسحتها بسرعة لطالما تمنت شيئاً بسيطاً...زوجاً يحبها ويشعر بها و....
فجأة، توقفت و لمعت فكرة في ذهنها كشرارة نار لماذا لا تحاول أن تكون مكان ميان !!
أليس من الممكن أن يحبها فارس فهي أجمل من ميان ولديها صفات أفضل بكثير !!
تعرف كيف تهتم به أكثر، وتجيد جعله يشعر
باهتمامها، وهي أيضاً أصغر سناً منها أليس من الممكن أن يعجب بها فارس !!
وضعت يدها على بطنها وشعرت بنبض خفيف، انه جنينها الذي يذكرها فقط بأيام العذاب والذل التي عاشتها مع والده سألت نفسها محاولة إقناع نفسها بأن الأمر ممكن :
هو فارس هيقبل بيا وبابني!!!!
كان عقلها مليئاً بالأفكار المتضاربة، ولكن شيئاً واحداً كان واضحاً أمامها......انها احق بفارس من ميان !!
شعرت بروح جديدة تتسلل إلى داخلها، وكأنها وجدت أملاً جديداً...فارس، الحب الذي كانت تتمناه، الحماية التي كانت تبحث عنها
نهضت من مكانها، ونظرت إلى نفسها في المرآة
كانت عيناها تلمعان بتصميم جديد ابتسمت ابتسامة خفيفة، وشعورها بالغيرة تحول إلى تصميم وضعت يديها على بطنها مرة أخرى.......وعينيها تلمعان برغبة ماكرة !
بعدما علمت ميان بما حدث مع فارس وأنه نجا بمساعدة سفيان في اللحظة الحاسمة، لم تستطع السيطرة على دموعها التي انهمرت بغزارة من شدة خوفها وقلقها عليه حينها، احتضنها فارس برفق وربت على شعرها ليهدئ من روعها، مطمئنًا إياها :
أنا كويس يا حبيبتي متخافيش خلاص كل حاجة هتنتهي قريب !!
بعد لحظات هدأت ميان و هي بين ذراعيه بينما كان فارس يداعب شعرها بحنان، وفجأة سألته بصوت هاديء :
ينفع دلوقتي أتكلم مع فارس صاحبي، مش جوزي وحبيبي !!!
عدل فارس من جلسته وسرعان ما انتبه لحديثها باهتمام فرفعت وجهها إليه، ما زالت بين أحضانه، ترددت قبل أن تتحدث خشية أن تغضبه :
حاسة ان غضبي من سفيان مبقاش زي الأول...بحس إن قلبي بدأ يهدى، مسامحتش، بس في نفس الوقت مش قادرة أشيل كل الكره ده
ثم أكملت وكأنها تخاطب نفسها :
يمكن عشان قلبي اتملى بحبك....والقلب اللي مليان بالحب ميعرفش الكره أبداً.....فاهمني
حرك فارس رأسه مؤكدًا ولكن في داخله، لم يكن مرتاحًا لتلك الكلمات، فقد شعر بالضيق لأنها تحدثت عن سفيان وفكرت فيه
اعتدلت ميان في جلستها، وأحاطت وجهه بيديها بحب ثم قالت معتذرة :
أنا آسفة لو زعلتك بس والله كنت محتاجة أطلع اللي جوايا يا فارس
ابتسم فارس برقة، وداعب أنفها باصبعه قائلاً :
مقدرش أزعل منك يا سكر
ابتسمت ميان بحب وراحت تطالع عينيه بحب ثم رددت بعد لحظات من الصمت بصوت هادئ مليء بالعاطفة :
أنا معاك دايمًا، قلبي وروحي ملكك
توهجت لحظتهم بالحنان والرومانسية غمرتهما لحظات من السكون الرقيق، و كأن العالم من حولهما قد تلاشى بدأت أنامل فارس تتحرك برفق على شعرها، فيما راحت ميان تتأمل ملامحه بعيونها المليئة بالحب همست له بصوت خافت :
كل لحظة معاك بتخليني أحبك أكتر وأكتر...أنت الأمان اللي كنت بدور عليه طول حياتي
ابتسم فارس وضمها بقوة إلى صدره هامساً بصدق :
وأنتي الحب اللي مفيش زيه.....انا مكنش هيبقى ليا وجود من غيرك
عانق فارس ميان بحب، وغفا الاثنان في أحضان بعضهما البعض، حيث غمرتهما السكينة والطمأنينة
في المستشفى، بدأت بسمة تتحرك ببطء من غيبوبتها في تلك اللحظة، كانت الممرضة التي تهتم بها تتفقد حالتها بشكل دوري وقد لاحظت حركتها فطلبت الطبيب على وجه السرعة وما ان دخل الطبيب أجرى الكشف عليها و أعلن انها بدأت تفوق من غيبوبتها
عم الفرح بين الجميع، ضحى وأفراد عائلة يزن لكن كان هناك شيء ناقص انه "يزن" الموجود في الغرفة المجاورة لها، فاقدًا للوعي مغمورًا بالمحاليل بسبب سوء تغذيته وعدم اهتمامه بصحته خلال فترة غياب بسمة، كان حاله محزنًا ويعكس مدى معاناته....
بعد فترة جلست ضحى بجانب بسمة، تحضنها بكل شوق، وهي تبكي بحرقة بينما بسمة كانت صامتة كأن عقلها في عالم آخر وفجأة، سألت بصوت حزين ومجروح :
مسألش عليا ولا حتى اطمن مش كده....ما فرقتش معاه !!!!
كانت ضحى في حيرة لا تعرف كيف ترد هل تخبرها بحالة يزن....أم تصمت !!
لم يكن لديها خيار سوى أن تقول الحقيقة فقصت عليها ما حدث طوال فترة غيابها
شعرت بسمة بألم عميق يخترق قلبها، الوجع يتسلل إلى كل جزء من كيانها، كانت تحمل في قلبها همومًا لا تنتهي وقلقًا متزايدًا عليه، لكن رغم هذا، قررت أن تختار كرامتها فوق كل شيء، وأن تمضي قدمًا في حياتها، لم ترغب في أن تكون عبئًا عليه، ولن تجبره على البقاء
اكتفت بما كانت عليه، واكتفت من كل شيء بينهما، واختارت أن تترك كل شيء خلفها، وأن تبدأ من جديد في مكان بعيد عن الجميع، حيث تجد الراحة والسلام الداخلي
عندما استفاق يزن من فقدانه للوعي وجد نفسه محاطاً بالأجهزة الطبية والمحاليل التي كانت مرتبطة بجسده....حاول أن يجمع شتات عقله المتعب وسأل بصوت ضعيف عن بسمة !!
لكنه م يتلقى اي رد بعد وقت كان يعتدل بجلسته يريد الذهاب إليها فردت عليه والدته بصوت هادئ لكن مع لمسة من الحزن :
بسمة سابت المستشفى....هي و ضحى، مشيوا من غير ما حد يحس ومحدش يعرف عنهم حاجة !!
تجمدت الكلمات في أذن يزن وأصابته صدمة شديدة، بدا وكأن العالم من حوله توقف للحظة، وجميع الأصوات تلاشت في أفقه، تراكمت مشاعر الندم والخسارة في قلبه، كأنها حمل ثقيل لا يستطيع تحمله، خسر الآن بسمة كما خسر همس من قبل!!!!!
عينيه امتلأت بالدموع وهو يشعر بثقل الوحدة والألم، مُدركًا أنه فقد شخصين مهمين في حياته، ليس بسبب الظروف، بل بسبب عدم قدرته على التعامل مع مشاعره
استفاق فارس في الصباح الباكر يتأمل ميان وهي غافية بين ذراعيه بنظرات مليئة بالعشق والافتتان ظلت عيناه تطوفان على ملامحها الهادئة لفترة طويلة وكأنه يريد أن يختزن هذا المشهد في ذاكرته للأبد
بصعوبة، تحرك وترك السرير بحذر حتى لا يوقظها، متجهًا إلى المطبخ ليُعد الإفطار، رغم التعب، تحامل على نفسه، مدركًا أن الحمل متعب عليها والخادمة في إجازة
بينما كان فارس يجهز الإفطار دخلت جنة إلى المطبخ تسأله بصوت لا يخلو من الصدمة :
دكتور فارس حضرتك بتعمل الفطار بنفسك كنت قولي وانا احضره ليك بنفسي
رفع فارس نظره نحوها للحظة ثم عاد لما يفعل، قائلاً بهدوء:
مفيش تعب أنا متعود على كده من زمان، روحي انتي اقعدي وخمس دقائق والفطار هيكون جاهز تكون ميان كمان صحيت
جلست جنة على الكرسي الموجود في المطبخ بغيظ عند ذكر ميان وسألته بمكر ظناً منه انه سيشعر بالضيق من ميان :
ميان مش بتعرف تطبخ....أنا بصراحة من ساعة ما دخلت البيت مشوفتهاش في المطبخ
ابتسم فارس ورد عليها :
بتعرف بس حاجات وحاجات
شعرت جنة بالدهشة من رد فعله الهادئ وسألته :
ده مش بيضايقك
رد عليها فارس وهو يعد الطعام، وابتسامته لم تفارقه، قائلاً بصدق :
أتضايق لو أنا روحت اتجوزت واحدة عشان تكون خدامة ليا....انما أنا اتجوزت اللي بحبها، خدتها ملكة من بيت أبوها، وواجب عليا إنها تفضل ملكة في بيتي....الطبخ و شغل البيت مش بيقلل من الست عارف بس الحمد لله أنا قادر أخليها ما تعملش أي حاجة وظروفي كويسة يبقى ليه أتعبها هي من نفسها بتحاول وبتتعلم على قد ما تقدر لأنها حابة كده....لكن لو مش حابة، دي حاجة ترجع ليها
ثم غرق في تأملاته، وكأنه يخاطب نفسه، بنبرة مليئة بالعشق والحنين، ناسيًا وجودها في المطبخ، وقال بصوت خافت : كفاية بس هي تكون جنبي
شعرت جنة بغيرة شديدة وحقد كبير تجاه ميان، فقررت أن تلفت انتباه فارس إليها بأي وسيلة !!
فجأة، وقفت وأظهرت علامات التعب، متأوهة بصوت منخفض وكأنها على وشك الإغماء، انتفض فارس بسرعة، واقترب منها وأمسك ذراعها بحذر قبل أن تسقط وفي لحظة خاطفة، ألقت بنفسها في حضنه، وكأن الأمر حادثة غير مقصودة !!!
كان فارس على وشك إبعادها بغضب، لكن قبل أن يفعل، دخلت ميان فجأة ورأتهما، توقفت في مكانها، وعيناها اللتان كانتا مشعتين بالحب والحنان عندما استيقظت وتذكرت ليلة أمس، تحولت الآن إلى نظرات مشتعلة بالغيرة والغضب فصاحت بغضب وغيرة واضحة :
فارس!!!
ابتعد فارس بسرعة وهو لا يزال ممسكًا بيد جنة لمنعها من السقوط، وهو بالكاد يستطيع الوقوف بسبب آلام ساقه نادى على ميان محاولًا تهدئتها :
ميان، تعالي ساعديني....جنة دايخة
رفعت ميان حاجبها في شك واضح، وهي تنظر إلى جنة التي كان من الواضح عليها أنها تمثل
ربما لم تكن ميان لتلاحظ التمثيل لولا أن سفيان كان قد لفت انتباهها
اقتربت ميان من فارس، ثم دفعته برفق بعيدًا وهي تقرصه في يده التي كان يمسك بها جنة، نظرت إليه ببرود يخفي خلفه بركانًا من الغضب، وقالت بنبرة حادة :
سيبني، أنا هساعدها
ساعدت ميان جنة حتى وصلت بها إلى غرفتها، وألقتها بحذر على الفراش ثم وقفت بجانبها تنظر إليها بنظرات مملوءة بالمعاني الخفية وقالت بلهجة ساخرة ومغزى واضح :
ألف سلامة عليكي يا حبيبتي ارتاحي...خدي بالك بقى وابقى سلي نفسك واتفرجي على شادية تمثيلها أحسن بكتير ركزي مع حركاتها.....زي ما أنا بركز مع غيري
خرجت ميان من غرفة جنة وهي غاضبة بشدة، عيناها تلمعان بالغيرة والغضب اندفعت نحو المطبخ حيث كان فارس، وبدون تفكير رفعت سكينًا في وجهه وصرخت بغضب حارق :
عارف يا فارس لو لمستها بإيدك دي تاني، أو كلمتها، أو حتى وجهت لها نظرة، أنا هقطعك حتت بالسكينة دي، ومحدش هيعرفلك طريق
نظر فارس إليها محاولًا تهدئتها، وبدأت ابتسامة خفيفة تتسرب إلى وجهه، يحاول كتم ضحكته بصعوبة :
اهدي يا حبيبتي مالك، تقمصتي دور المرأة والسطور كده ليه !!
لكن ميان جزت على أسنانها بغضب وقالت :
اسكت يا فارس ماتعصبنيش أكتر ،جرب واعملها، وأنا والله لأدبحك !!
في تلك اللحظة اقترب فارس منها بلطف ممسكًا يديها بحذر ثم أخفض السكين قائلاً بصوت خفيض محب لها ولكل ما فيها :
وأهون عليكي
ترددت ميان للحظة، وضعفت أمام صدق مشاعره، نظرت إليه بعينيها المليئتين بالعاطفة وقالت بصوت هادئ وصادق :
عمرك ما تهون عليا أبدًا يا فارس
ابتسم فارس بسعادة غامرة، وامتلئت عيناه حبًا وامتنانًا لوجودها بحياته
بعد وقت كان فارس وميان ومعهما جنة جالسون على الطاولة يتناولون الطعام بصمت قطعته جنة قائلة بابتسامة لفارس :
فارس....قصدي الدكتور فارس حضرلنا الفطار بنفسه، بجد لذيذ اوي، انتي مش ناوية تتعلمي الطبخ اكتر يا ميان !!!
رفعت ميان عينيها ببرود زائف ثم ردت عليها بنبرة هادئة لكن مغزاها واضح :
احنا متعودين على كده، مرة هو ومرة أنا، ميفرقش ربنا يبعد عننا العين بس
جنة حاولت تدير دفة الحوار مرة ثانية وعينيها على فارس قائلة بمكر لتوضح له ان ميان لا تصلح او تجيد مهام الزوجة :
نصيحة مني يا ميان، الراجل بيحب الست تكون شاطرة في كل حاجة، خصوصًا في الطبخ ده شيء مهم اوي بالنسبة ليه
نظرت لها ميان بابتسامة زائفة، ثم قالت بنبرة ذات مغزى :
أكيد، بس تعرفي، فارس بيحب حاجات تانية برده، زي إن الست تكون واثقة في نفسها وما تحاولش تثبت نفسها على حساب حد تاني
نظرت إليها جنة بغيظ وقالت :
ماشي، بس مهما كان الأكل والطبيخ جزء مهم دي حاجة كل راجل يحب يشوفها في مراته
مالت ميان للأمام قليلاً ونظرتها كانت ثاقبة وهي تقول بهدوء :
اكيد لكن الأهم اننا بنعمل كل حاجة مع بعض، من غير ما حد يحس إنه محتاج يثبت أي حاجة للتاني الراحة في العلاقة أهم من مين بيعرف يطبخ
صمتت جنة بغيظ و لم تجد رد بينما فارس ابتسم بصمت و هو مستمتع بالحوار بينهما
تراجعت ميان للخلف و هي ترتشف من كوب العصير الخاص بها غير مبالية الأخرى......بالنسبة لها الحوار انتهى !
اخذ فارس اليوم بأكمله اجازة
كانت ميان جالسة في الصالة بجانبه مستمتعة بالمشاهدة كان فارس الذي كل فترة وأخرى كان يمسك يدها بلطف ويلثم كف يدها، ثم يضع يده على بطنها برقة، كأنه يريد أن يخبر طفلهما المنتظر بأنه هنا و يحبه
بينما كان الجو هادئاً ورومانسياً تسللت جنة من خلفهما ترتدي بيجامة مريحة بدون حجاب شعرها القصير الناعم يتمايل بلطف بالكاد يصل إلى عنقها التفتت ميان بسرعة عندما شعرت بخطوات جنة
بينما كان فارس لا يزال مشغولاً بالفيلم، تحدثت ميان بنبرة حادة خرجت منها دون إرادة، نتيجة الغيرة التي شعرت بها عندما رأت هيئة جنة وان فارس قد يراها بهذا الشكل :
جنة نسيتي طرحتك ولا إيه، فارس هنا !!
اقتربت جنة منهما بجرأة وعيناها تلمعان بتحدي ثم قالت بصوت هادئ متعمدة أن يظهر فيه لمسة أنثوية جذابة :
عارفة ،أنا أصلاً لبست الحجاب غصب مكنتش محجبة....ابو عدنان هو اللي فرضه عليا ، وحالياً هو مش موجود ومفيش حاجة تغصبني عليه فليه ألبسه
شعرت ميان بالغضب بينما فارس بدوره بدا محرجًا لم يكن يعرف كيف يرد أو يتصرف في هذا الوضع الحساس
الجو امتلأ بالتوتر و حاولت ميان كتم مشاعرها بصعوبة لكنها أدركت أن الوضع لم يعد يحتمل الصمت
دخل فارس غرفته بهدوء غير مبالٍ بنظرات جنة الغاضبة والمليئة بالغيظ لأنه لم ينظر إليها ولو للحظة حتى !!
لاحظت ميان مدى استياء جنة من تجاهل فارس لها، فرمت كوبًا زجاجيًا على الأرض بقوة مما أحدث صوتًا مدويًا !!!
ارتعبت جنة من صوت التحطم فقالت بفزع :
مش تخلي بالك يا ميان !!
رددت ميان بهدوء لم يريح الأخرى :
تعرفي يا جنة، لما كنت صغيرة كان عندي كلبه !!
نظرت إليها بدهشة لحديثها الذي ليس بمحله لكنها لم تقاطعها فتابعت ميان حديثها الذي كان يحمل بين طيات الكثير :
كانت كلبه صغيرة لقيتها في الشارع، خدتها، ونضفتها، واعتبرتها صاحبتي واختي
صمتت لثواني ثم تابعت فجأة بنبرة حادة :
كانت طماعة، تخيلي كانت عاوزة تسرق حب بابا مني وكانت تعمل كل حاجة عشان تلفت نظره وتخليه يحبها هي ويبعدني انا عنه
كانت جنة تستمع لها بصمت فتابعت ميان بهدوء يسيق العاصفة :
عارفة لما لاحظت كده عملت إيه !!
مجددًا لم ترد فوقفت ميان فجأة أمام جنة قائلة بشراسة اخافت الأخرى :
مسكتها و فتحت الشباك ورميتها وماتت ، لأنها كانت طماعة وفكرت تاخد حاجة مش بتاعتها وبدل ما تحمد ربنا بقى انها لقت اللي يفتحلها بيته.....طمعت اكتر
ثم نظرت إلى جنة بتحدي وأضافت قائلة :
دي كانت كلبة ما بالك لو انسان، ده انا اكله بسناني، انا بدعي علطول ان اللي قدامي ميغلطش عشان ميشوفش قلبتي لان لو شافهاظ...ربنا يعنيه على اللي هيشوفه مني
شعرت جنة بعدم الارتياح و الربية من الكلمات القوية التي خرجت من ميان التي تجاهلتها وغادرت بثقة غير مبالية بتأثير كلامها على الأخرى
دخلت ميان على فارس الغرفة و علامات الغضب والغيرة بادية عليها قائلة بعصبية :
شوف بقى يا فارس، اللي اسمه عدنان ده دخل السجن خلاص...انا مش مجبورة أستحمل وجود اللي اسمها جنة دي في بيتي !!!
نظر إليها بجدية وقال بهدوء :
انا اتسرعت وغلطت لما جبتها هنا، فعلاً قعدتها طولت وما يصحش وجودها معانا...انا طلبت من بابا يشوف لها شغل في الأوتيل عنده مع سكن طبعا اهو يكون بعيد عن أبو عدنان وأبوها....بابا هيرد عليا بكره الصبح ولو كده هسفرها ليه في اقرب وقت
صمتت للحظة، فسألها فارس بفضول :
ليه قلبتي عليها وعايزاها تمشي !!
جلست ميان بغضب ثم قالت :
لأنها مش كويسة، ونظراتها مش مريحة، بحس ان عينيها على كل حاجة عندي يا فارس، بس كنت بكدب نفسي، لكن النهارده اتأكدت....بتتكلم وكأني حياتي ملكها البنت دي مش كويسة، وعينيها مليانة حقد، ده غير ان البجحة عينيها منك انت !!
اومأ لها بصمت قائلاً باعتذار :
حقك عليا الغلط عندي من الأول، سيبسني يومين بس وانا هتصرف وامشيها
اومأت له قائلة بهدوء :
متعتذرش يا فارس انت مغلطش انت كان قصدك خير بس هي اللي مقدرتش ده وطمعت في اللي مش ليها، انا كمان شاركت معاك في القرار ده لما صعبت عليا ووافقت !!!
صمت الاثنان غافلين عن جنة التي انسحبت من امام باب غرفتهم بعد أن سمعت حديث فارس وميان لم تفهم تفاصيل الحديث بوضوح سوى أنهم قرروا ابعادها وانها اصبحت مكشوفة امامهما
فكرت طويلاً حتى توصلت إلى حل يمكن ان يخرجها من الموقف ويطيل مدة بقائها، دخلت لغرفتها بصمت !!!!
مضى بعض الوقت، ما يقارب النصف ساعة تقريبًا، حتى ارتفع فجأة صوت صراخها في أرجاء المنزل، هرع فارس وميان نحو مصدر الصوت، ليصطدما برؤية جنة ساقطة على الأرض في غرفتها، وتنزف دمًا بغزارة
بدون تفكير، حملها فارس بسرعة، متحاملاً على نفسه، تبعته ميان بقلق شديد !!
بعد دقائق وصلوا إلى المستشفى نُقلت جنة على الفور إلى غرفة العمليات بعد الفحص السريع وقفت ميان بجانب فارس امام غرفة العلميات، وقد نست كل شيء وشعرت بالآسف تجاهها عندما تذكرت كيف دخلت هي الأخرى لتلك الغرفة منذ عام واكثر وكيف خرجت منها !!!!
بعد وقت، خرج الطبيب وعلى ملامح وجهه ارتسم التعب والحزن. اقترب منهما، ثم قال بصوت هادئ، لكنه مثقل بالأسف :
النزيف كان شديد، وحاولنا بكل الطرق نوقفه، لكن للأسف مقدرناش ننقذ الجنين، المريضة الحمد لله حالتها مستقرة هننقلها أوضة دلوقتي وتقدروا تطمنوا عليها
وقفت ميان في مكانها مذهولة، وكأن الزمن قد توقف للحظة، تجمدت الكلمات في حلقها، بينما امتلأت عيناها بالدموع التي لم تجد طريقها للنزول، رفعت رأسها إلى السماء، داعية لها بالصبر، فيما فعل فارس الشيء نفسه
لا يعرفان كيف سيواجهانها بما حدث!!
دخل سفيان بيت أماليا بخطوات مترددة يشعر بثقل كل خطوة، كان يدرك أن المهمة التي جاء من أجلها لن تكون سهلة ابدًا !!
استقبلته والدة أماليا بوجه جامد، وعلى جانبها وقف علي، شقيق أماليا الكبير، الذي سبق أن أخبرته والدته عن طلب سفيان ليد شقيقته. أكدت له ضرورة وجوده أثناء هذا اللقاء، نظرًا لغياب والدها في الوقت الحالي
ما ان قام علي ليرد على مكالمة عمل مهمة حتى بادر سفيان بالحديث قائلاً بدون مقدمات :
انتي اكتر واحدة عارفة إني اتغيرت....واني مبقتش نفس الشخص اللي كان في الماضي، ليه رافضة !!
نظرت إليه والدة أماليا بنظرة حادة مليئة بالازدراء ثم قالت بصوت غاضب مرتفع :
عشان دي بنتي، بنتي اللي تستاهل راجل أحسن منك مليون مرة، ناقصها إيه عشان تتجوز واحد متكونش هي أول فرحته، وتاخد واحد زيك كان متجوز قبلها بدل الوحدة اتنين وحكاياته معاهم مشرفة
صمتت للحظة ثم أضافت بغضب متصاعد :
انت اصلاً بتستهبل ولا إيه حكايتك، فاكر عشان عالجتك هسلمك بنتي وارضى بيك زوج ليها !!
في تلك اللحظة دخل علي من الشرفة على صوت الصراخ، وتابع الحوار بعينين متسعتين، يحاول أن يستوعب ما يجري، بينما أماليا تقف بينهما مزهولة من قسوة حديث والدتها !!!
رد عليها سفيان بصعوبة متحسسًا كل كلمة :
أنا شاري بنتك و.....
صرخت عليه والدة أماليا بصوت قاسٍ موجهة حديثها إلى سفيان :
وأنا معنديش بنات ليك يا سفيان، انا مش مستغنية عن بنتي عشان ترجعهالي بملاية تحت رجلي أنا وأبوها وأخواتها مطلقة، روح شوفلك حد غير بنتي!!!!
عم الصمت الغرفة فجأة، وكأن الهواء قد تجمد من شدة التوتر !!!!!!!
وقف سفيان بلا حراك عيناه تعكسان مشاعر من الانكسار والألم كان يعرف أن الطريق للارتباط بأماليا محفوف بالعقبات، لكن لم يتوقع أن يكون بهذه القسوة !!!
كان الجو مشحونًا بالتوتر، تنظر أماليا لوالدتها بحيرة بينما تتطاير الكلمات بين سفيان ووالدتها كسهام حادة، قلبها يخفق بشدة، مشوشة من الصدمة، لا تستطيع تصديق ما تسمعه، فلم تكن تتخيل أن الرجل الذي أحبته قد يحمل ماضي بهذه القسوة !!!
سألت أماليا والدتها بصوتٍ مرتجف، متمنية أن يكون ما سمعته ليس حقيقيًا :
ملاية ايه، وكلام ايه اللي انتي بتقوليه ده يا ماما !!
ردت عليها والدتها بنبرة أكثر قسوة :
لو فاكرة نفسك التانية في حياته تبقي غلطانة، قبلك كان على ذمته اتنين، وفي وقت واحد كمان، هو مش بالبراءة اللي أنتي شايفاها دي، ده أذى كتير وعمل بلاوي، لو سمعتيها هتفكري مليون مرة قبل ما تربطي اسمك مع اسم واحد زيه!!
صمتت قليلاً ثم أشارت إلى سفيان وتابعت بحدة :
قولها ماضيك المشرف، قولها عملت إيه في ميان وازاي دمرت حياتها ولولا فارس وقف جنبها وخلاها تقف على رجليها من تاني.....كانت ضاعت
ثم تابعت باحتقار :
قولها ازاي قتلت ابنك بإيدك، احكي يلا ولا أقول أنا عمايلك !!!!
كانت أماليا في حالة من الذهول والصدمة لم تستطع التحدث حاولت تجميع كلماتها لكن صوتها اختنق في حلقها كل ما استطاعت قوله لسفيان بصوت مهزوز غير مصدقة ما تسمعه :
الكلام ده صح، انت ساكت ليه.....ما تتكلم !!!
صمت سفيان وعيناه موجهتان إلى الأرض لم يكن لديه أي دفاع يقدمه، صمته كان اعترافًا بكل ما قالت والدتها التي تابعت بغضب :
ضربها واعتدى عليها زي الحيوانات، ورماها تحت رجلين أبوها بملاية وقدام الكل، عمل كل ده وهو عارف إنها حامل، اتهمها في شرفها وكان بيشك فيها، مخلاش مكان مفضحهاش فيه، وهي المفروض قريبته يعني مرعاش إنها لحمه ودمه انتي مش هتكوني أغلى منها في يوم من الأيام
ثم تابعت بقسوة غير عابئة بشيء كل ما يهمها ان تخرجه من قلب ابنتها وتجعلها تكره نهائياً :
ده غير ماضي الست الوالدة المشرف وعمايلها، ده كله على بعضه مينفعكيش يا أماليا هو مش شبهك انتي تستاهلي الأحسن يا بنتي، هتظلمي نفسك معاه
حاول سفيان ان يتحدث لكن الكلمات لا تخرج من بين شفتيه وقفت أماليا بصعوبة أمامه قدماها تهتزان كأنهما لا تقويان على حملها نظرت إليه بعينين تملؤهما الحيرة والرجاء كأنها تتوسل إليه أن ينفي ما سمعته للتو، فخرج صوتها مهزوزًا وهي تقول :
أنت عملت كده فعلاً، دافع عن نفسك، قول إن ده محصلش وهي بتقول كده عشان تخليني ارفض !!
لكن سفيان ظل صامتًا عيونه مثبتة على الأرض لم يستطع أن يرفع نظره ليواجهها كان شعور الخزي يثقل على صدره، كأن جبالاً قد أطبقت عليه
صمته كان أبلغ من أي كلام و مع هذا الصمت تأكدت أماليا من أن كل كلمة قالتها والدتها.....كانت حقيقة !!
كانت صدمتها أكبر من أن تستطيع استيعابها الرجل الذي أحبته لم يكن فقط قاسيًا بل وحشًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى
تراجعت خطوة للخلف، وضعت يدها على صدرها كأنها تحاول أن تمنع قلبها من الانفجار :
غلطت لما قولت إن الماضي مايفرقش معايا
همست لنفسها كأنها تحاول إقناع نفسها بما سمعته كيف ستعيش مع رجل ارتكب كل هذه الفظائع !!
كيف ستؤمن على نفسها معه بعدما عرفت حقيقته !!
التفتت ببطء لتنظر إلى والدتها والدموع تملأ عينيها كانت نظراتها مليئة بالحزن والألم
ثم نقلت نظرها إلى شقيقها علي الذي كان يقف متجمدًا في مكانه محاولاً استيعاب الموقف
اختنقت أماليا بالكلمات وأحست وكأن الحروف تختنق في حلقها.....عاجزة عن الخروج
لم تكن بحاجة إلى كلمات الآن فقد كانت عيونها بدموعها الصامتة تقول كل شيء، كانت تعلم انها لن تستطيع الاستمرار في هذا الوضع وان عليها ان تتخذ قرارًا !!
في تلك اللحظة أدركت أماليا أن الحب ليس كافيًا ليبرر البقاء مع رجل بلا رحمة، رجل لا يستحق حتى أن يُمنح فرصة لتبرير أفعاله، كان قرارها واضحًا حتى لو كان صعبًا كان عليها أن تحمي نفسها وتبعد عن هذا الجحيم.....مهما كلفها الأمر
فرددت بصعوبة قبل ان تذهب لغرفتها :
انا مش عاوزاه يا ماما !!!
تبع علي شقيقته لكنه توقف عند الباب، بعدما سمع صوت المفتاح، وما إن أصبحت بمفردها حتى انهارت في بكاء مرير
اعترفت أخيرًا لنفسها بالحقيقة التي ظلت تنكرها
ليس اعجاب ما تشعر به نحوه كان حباً صادقاً
كيف ستعيش الآن مع تلك الحقيقة وذلك الألم.....يا ليتها لم تراه ابدًا !
وقف سفيان خارج الغرفة، يشعر بألم عميق كأن وجعه يتضاعف مع وجعها، كان يتوقع رد فعلها هذا، لكنه كان يأمل أن تمنحه فرصة، ان تصدق بأنه تغير، تمنى لو أنها لم تعرف شيئًا عن ماضيه على الإطلاق !!
التفت إلى والدتها التي كانت تقف خلفه، وعيناه مملوءتان باللوم والعتاب، كيف يمكنها أن تكشف كل ما بينهما بهذا الشكل، ألم تكن تعرف أن كل كلمة بينهما يجب أن تبقى سرًا !!
سألها سفيان بحزن وألم :
عملتي كده ليه، انتي دكتورة وعارفة إن كل كلمة بتتقال بينا سر، ومفيش حاجة تطلع برا، انا مغلطش، لما حسيت بمشاعر ناحية بنتك بدل ما الف وادور جيتلك وطلبت إيدها منك
همت والدتها بالكلام لكنه قاطعها قائلاً بصوت مليء بالوجع :
فضلتي تقوليلي طول الوقت، انت مش وحش يا سفيان، كنت ضحية الظروف ووالدتك هي السبب، واللي عملته أثر عليك......كنتي دايمًا تقوليلي إني مش وحش واني بتحسن، وشايفة التحسن والتغير عليا لكن أول ما جيت أطلب إيد بنتك نسيتي كل اللي قولتيه وعايرتيني بالماضي وياريته كان بيني وبينك بس !!
صمت قليلًا ثم تابع بحزن وحدة :
بدل ما تفضلي تقولي شعارات درستيها يا دكتورة اتعلمي الأول تطبقيها في الواقع
ردت عليه والدتها بحزم و برود :
أنا أم وبنتي عندي أهم منك ومن أي حد سواء كنت بعالجك أو لا، عرفت ماضيك أو معرفتوش، أنت مش الشخص اللي أتمناه لبنتي ولا أتمنى إنها تكمل حياتها معاك
نظرات سفيان كانت مشحونة بالوجع والخسارة، لم يكن يتوقع هذا الرد القاسي من امرأة ظلت تدعمه طوال الوقت حتى أصبح الماضي، الذي كان يظنه طيًّا، سيفًا مسلطًا على رقبته، ينكأ جراحه ويعيده إلى لحظات كانت يتمنى لو أنها لم تعود
عندما أخبروا جنة انها فقدت جنينها انهارت في نوبة بكاء مريرة وكأن قلبها تحطم إلى آلاف القطع حاولت ميان تهدئتها مدركة الألم الذي تمر به فقد عاشت هذا الوجع من قبل لكن كلماتها لم تكن كافية، كانت ميان تشعر بكل دمعة تنزل من عيني جنة كأنها تعيد تجربة فقدانها الخاصة مرة أخرى !!
مرت الأيام ببطء في المستشفى، يومان من الحزن والوجع، ولم يفارق جنة الإحساس بالفقد للحظة، رغم كل محاولات ميان وفارس لمواساتها....بقي الألم عالقًا في صدرها، ثقيلًا وكأنه لن يزول أبدًا
في اليوم الثالث، قررت جنة مغادرة المستشفى، كان وجهها شاحبًا، ونظراتها تائهة،عادت إلى بيت فارس، وما إن أصبحت في الغرفة بمفردها، حتى نقلت بصرها بين الأرض والفراش تحولت نظرات الحزن في عينيها إلى نظرات أخرى مليئة بالانتصار....لأنها أخيرًا حققت مرادها !
كان فارس جالسًا في غرفة مكتبه، مستغرقًا في عمله، حتى فاجأه صوت الباب يُفتح دون استئذان، رفع رأسه ليجد سفيان يدخل الغرفة بخطى ثقيلة، وجهه عابس، ودون أن يلتفت إليه توجه مباشرة نحو الأريكة، جلس عليها ثم ارتمى إلى الوراء، واضعًا رأسه بين يديه في صمتٍ ثقيل، كأنما يحمل همومًا لا تُحصى
حاول فارس السيطرة على نفسه، لكنه لم يستطع إخفاء ضيقه وحنقه، فسأله :
ايه اللي جابك؟
أطلق سفيان تنهيدة طويلة، وكأنها تحمل أوزانًا ثقيلة من الألم، لكنه لم ينطق بكلمة، كان فارس على وشك أن يطلق سيلاً من الكلمات الحادة، لكنه فجأة توقف عندما رأى الحزن مرسومًا بوضوح على وجه سفيان
رغم كل ما يكنه فارس من مشاعر كره تجاهه، شعر ببعض الشفقة تتسلل إلى قلبه، وبدلاً من الصراخ في وجهه، حاول كبح غضبه بسؤال خرج منه وكأنه مرغم على النطق به :
اه اللي حصل؟!
رفع سفيان رأسه ببطء، وعيناه تكادان تشعان بالألم والندم، وقال بصوت خافت مملوء بالوجع :
أنا لحد إمتى هفضل أتحاسب على اللي عملته، عارف إني غلطت، لكن ندمت وتوبت، ومين فينا مش بيغلط
نظر إليه فارس، ثم رد عليه بحدة :
غلط عن غلط يفرق، بلاش أفكرك إنت عملت إيه...خلينا ساكتين أحسن
تنهد سفيان بتثاقل وكأنه يحمل ثقل الدنيا على كتفيه، واستطرد :
مبقتش طايقة تبص في وشي، لما عرفت الماضي بتاعي، حسيت إني اتعريت قدامها، مكنتش قادر أرفع عيني في عينها،قلبي وجعني على وجعها، مديلها كل الحق في ردة فعلها، بس كنت أتمنى لو فضلت جنبي وصدقت إني اتغيرت
صمت قليلًا، فسأله فارس بهدوء :
بتحبها ؟
تنهد سفيان، ورد عليه بحيرة وتعب :
والله مش عارف إذا كان حب ولا احتياج، بس حاسس بوحدة من غيرها، حاسس إن يومي مفيش فيه أي روح
انحنى فارس إلى الأمام وسأله بحذر :
ايه اللي حصل بالظبط ؟
أخذ سفيان نفسًا عميقًا، وقص عليه كل ما حدث، فرد عليه فارس بجدية :
هتظلمها معاك لو مش متأكد من مشاعرك، بلاش تاخد الخطوة دي لحد ما تحدد انت عاوز ايه
حرك سفيان رأسه نافيًا ثم قال :
أنا مقولتش جواز، فترة خطوبة، أيًا كانت المدة اللي تحددها لو كل واحد ارتاح للتاني واتأكد من مشاعره نتجوز
نظر إلى الأرض بنظرة خالية كأنه يحدث نفسه :
بس عارف، برجع أقول لنفسي إيه الهبل ده، دي تستاهل الأحسن مني
صمت لبرهة ثم همس بألم :
أي بنت في الدنيا تستاهل الأحسن مني....هو في واحدة أصلاً هترضى تحط اسمها جنب اسمي بالماضي بتاعي ده، دي تبقى مجنونة
ثم رفع رأسه قائلاً بتوسل لفارس بعد لحظات من الصمت : كلم والدتها، قولها إني عاوز أشوف أماليا....قولها إني موافق على أي شروط تقولها...قولها إني محتاج بنتها....قولها والله إني اتغيرت
قبل أن يستطيع فارس الرد، اقتحمت ميان الغرفة دون أن تطرق الباب كعادتها !
بعد يومٍ طويلٍ مرهقٍ في العمل، عاد كارم إلى منزله، جسده يئن من التعب وعيناه محملتان بثقل الساعات الطويلة، قلبه يشتاق لرؤية حبيبته المجنونة، لكنه فوجئ بعدم وجودها فصعد إلى غرفته، وما فتح الباب، أبصرها تخرج من الحمام، تضع يدها على بطنها في حركة توحي بالألم، كان وجهها شاحبًا، وعيونها عليه بنظرة ضبابية
في تلك اللحظة، وقبل أن ينطق بكلمة، سقطت همس على الأرض فاقدةً الوعي!!!!
ركض بسرعة نحوها، وحملها بين ذراعيه، ثم وضعها على الفراش، وقلبه ينهشه القلق والخوف، حاول أن يوقظها، لكنه فشل، فستر جسدها بثوب الصلاة برفق، ثم حملها بحذر، كأنها أغلى ما يملك في العالم، وركض بها إلى المستشفى وكل ما يشغل تفكيره هو سلامتها فقط