رواية بعينيك اسيرالفصل السابع والعشرون27بقلم شهد الشوري

رواية بعينيك اسير
الفصل السابع والعشرون27
بقلم شهد الشوري
صباح" اسم تردد في ذهن صلاح مرارًا، وكيف له ألا يعرف صاحبة هذا الاسم، وهي كانت الخطأ الوحيد الذي ارتكبه في ماضيه، ذلك الخطأ الذي كاد أن يفتك بعائلته ويدمر أسرته، بل كاد أن يجعله يفقد زوجته التي يعشقها

نظرت له احلام بصدمة، فبادلهانفس النظرة وياسمين ويزن يتبادلان النظرات بعدم فهم
سألت ياسمين والدها :
مين صباح دي يا بابا؟
تنهد صلاح بعمق ونظر لأبنته بندم، ثم قال :
صباح دي احقر شخصية ممكن تقابليها في حياتك
صمت للحظات، ثم قال بحدة :
صباح كانت شغالة هنا من زمان، وفي فترة من الفترات حصلت بيني وبين والدتكم مشاكل كبيرة بسببها، كنا هنطلق، وساعتها مكنتووش انتوا جيتوا على الدنيا لسه، في الفترة دي احلام كانت سابت الفيلا وراحت عند أهلها، وفي يوم أسود كنت راجع مش في وعيي، صحيت الصبح لقيت صباح في سريري ومكنتش عارف ده حصل إزاي، لكن وقتها والدتكم جت صدفة للأسف وشافتنا سوا وطلبت الطلاق، والمشاكل زادت بينا اكتر، لكن الحمد لله كان في خدامة تانية حكت كل اللي حصل، وقالت إنها شافت صباح وهي بتستغل اني مكنتش واعي للي بيحصل حواليا، ووهمتني إني قربت منها، طردتها اول ما عرفت الحقيقة، وفكرت إن الموضوع خلص على كده، لكن بعد فترة، أنا ووالدتكم الأمور اتصلحت بينا وكانت حامل بس.....
سأله يزن بتوجس :
بس ايه؟
تنهد والده وتابع بحزن :
لكن في يوم، صباح هجمت على أمكم في غيابي، وفقدنا أخوكم قبل ما يشرف حتى على الدنيا، أخذت جزاءها ودخلت السجن، ومن بعدها معرفش عنها أي حاجة، ماكنتش أعرف أصلاً إنها كانت مخلفة، حتى عاصم يعرف الموضوع ده، لأنه هو اللي تابعه بنفسه زمان
رددت بسمة بزهول :
بس هي كانت مفهمة نادر وماما ان حضرتك كنت مواعدها بالجواز وضحكت عليها واتجوزت غيرها وأنها لما جت عشان تنتقم منك لأنك شرفها سجنتها سنين ونادر كان عاوز ينتقم من حضرتك عشان فاكرك كنت سبب فراقه عن امه السنين دي كلها عنه وفكر انك انت اللي بعت ناس يخلصوا منها في السجن عشان متفضحكش !!!
نفى صلاح برأسه عدة مرات وقبل ان يتحدث صرخت احلام عليها بغضب واحتقار :
نفس الحقارة اللي فيها فيكي انتي والزبالة التاني، أنتوا الاتنين مش جايبينها من بره، ربنا ينتقم منكم، دمرتوا حياة ولادي الاتنين، وسرقتوا من عمرهم سنين في كدب وخداع
بينما كان يزن يقف في مكانه مصدومًا، وكذلك ياسمين، كانت أحلام تدفع بسمة بقسوة للخارج، وتغلق الباب في وجهها
اقترب صلاح من يزن يصرخ عليه بغضب:
هي دي اللي سبت همس عشانها، هي دي اللي جيت انهارده عشان تطلب رضايا انا وامك عشان تتجوزها، طلعت زبالة ولا تسوى، وضيعت سنين عمرك عليها !!
تمسكت ياسمين بيد والدها قائلة بحزن و شفقة :
بابا كفاية عشان خاطري، يزن كمان ضحية
رد عليها بغضب:
لأ مش ضحية، ايه اللي يجبره يسيب بنت لوحدها في موقف زي ده، كان حد ضربه على ايده ، ولا هو اللي اختار بنفسه، اللي حصل فيه ده ذنب همس واللي عمله فيها
لم يكن الصمت الذي أحاط به سوى انعكاسٍ للعاصفة التي اجتاحت قلبه، وقف مصدومًا، مذهولًا، وكأن كلمات بسمة كانت سيفًا مزق ستار الوهم الذي عاش فيه لسنوات، كانت الحقيقة أمامه قاسية، لا ترحم، تروي حكاية خداعٍ لم يتوقعه
رنت كلمات والده في أذنيه، وتذكر همس وما فعله بها، والآن بسمة فعلت به الأمر ذاته، ذات الغدر، ذات الخيانة، وكأن القدر قرر أن يُلقنه درسًا موجعًا
لم يكن الألم في الخديعة فحسب، بل في إدراكه أنه لم يكن أفضل ممن جرحهم، استشعر ثقل أفعاله وهي تعود إليه كظلٍ لا ينفصل عنه
من إن فتحت سميحة باب المنزل، حتى تجمدت في مكانها من هول المفاجأة، كانت ابنتها سيلين تقف أمامها، شاحبة الوجه، الدموع تتسابق على وجنتيها، والكحل الأسود يشوه ملامحها البريئة، حالتها مزرية، ثيابها غير مرتبة، وحجابها ملقى على رأسها بإهمال، وكأنها تحمل أثقال العالم كله على كتفيها، وأمامها حقيبة ملابس كبيرة
ضربت سميحة بيدها على صدرها، وقالت بفزع :
يا ساتر يارب، ايه اللي حصل يا سيلين، مالك يا بنتي
ارتمت في أحضان والدتها وهي تبكي بحرقة، ومن بين شهقاتها العالية، لم تستطع والدتها أن تلتقط سوى كلمات متقطعة وهي:
قصي طلقني يا ماما
شهقتها سميحة وقال بصدمة :
يا مصيبتي، طلاق ايه!!
لم تشعر بعدها سوى بتراخي جسد ابنتها بين يديها، فاقدةً للوعي، سقطت بها أرضًا وهي تصرخ بفزع :
كمال، الحقني يا كمال
ركض كمال مفزوعًا من غرفته، وهو يهتف بقلق :
في ايه يا سميحة!!!
لكنه توقف فجأة عندما رأى ابنته فاقدة للوعي بين يديها، فاندفع نحوها وحملها بسرعة إلى الداخل، يسألها بفزع :
حصل ايه؟
ردت عليه بنحيب وهي تساعده على وضع سيلين على السرير وتعدل من وضع جسدها :
والله ما أعرف يا كمال، قالت قصي طلقني، وبعدها وقعت من طولها، يارب جيب العواقب سليمة
أخذ كمال زجاجة المياه، ونثر القليل منها على وجه ابنته، وبعد دقائق قليلة، فتحت سيلين عينيها ببطء، لكن سرعان ما عادت تبكي وتنتحب بقوة، متذكرة ما حدث
ربت كمال على رأسها بقلق وسألها برفق :
مالك يا بنتي، فيكي إيه، وقصي إزاي يسيبك تنزلي بالحالة دي، وطلاق إيه اللي أمك بتقول عليه
ردت عليه سيلين ببكاء شديد، وندم ينهش قلبها بلا رحمة :
قصي طلقني يا بابا
تجمد كمال في مكانه، وسألها بصدمة :
طلقك ليه، وايه اللي حصل عشان يعمل كده
لم تجب، فرفع صوته يسألها بنفاد صبر وقلق :
ردي عليا، فهمينا إيه اللي حصل؟
بدأت سيلين تقص عليهما ما حدث، وما ان انتهت، رددت والدتها بنحيب :
كلمه يا كمال، قوله يخزي الشيطان، ما يهدش بيتهم عشان
غلطة، قوله دي ساعة شيطان وراحت لحالها، وخليه يردها
لكن كمال رد عليها قائلاً بحدة، وهو يضرب كفًا بكف :
اكلمه، أقوله إيه يا سميحة، أقوله انا معرفتش اربي بنتي، بنتي اللي دايمًا جايبة المشاكل لنفسها وهدت بيتها بايديها، أقول له يرجع بنتي اللي غلطت وعيبت فيه، وقالتله انت مش راجل
ثم صرخ بغضب شديد مع نهاية حديثه :
اكلمه أقوله إيه، والغلط مننا، احنا اللي معرفناش نربيها كويس يا سميحة
ثم غادر الغرفة صافعًا الباب خلفه بقوة، تاركًا الاثنتين تغرقان في نحيبهما، إحداهما نادمة على ما فعلت، والأخرى ترتجف خوفًا مما سيحدث عندما يعرف الناس بخبر طلاق ابنتها للمرة الثانية!
كان عمار يجلس بجانب فراش سفيان في المستشفى، يراقب حالته بعينين شاردتين، بينما يملأ المكان صمت ثقيل، منذ الأمس لم يفارق شقيقه للحظة بعد أن تعرض لنوبة تنفس حادة كادت أن تودي بحياته، مرت لحظات، ثم دخل قصي وهو يحمل اكواب القهوة، فبعدما علم ما حدث لسفيان بالأمس، لم يفارقه للحظة
أخذ عمار كوب قهوته من قصي، ثم قال :
قصي روح انت بقى، زمان سيلين قلقانة عليك
رد عليه قصي ببرود :
متخافش مش هتقلق....طلقتها!!!
وقف عمار فجأة، وكأن الكلمات سقطت عليه كالصاعقة، بقي للحظة دون أن يتحرك، ثم قال بصوت خافت وزهول :
طلقتها، وبتقولها ببساطة كده عادي، ولا كأنك عملت مصيبة
نظر إليه قصي للحظة، ثم قال بضيق :
مش مصيبة ولا حاجة ده العقل بعينه، وحتى ده قليل اوي بالنسبة للي حصل منها
ردد عمار بضيق وحدة:
فين العقل في كده فهمني، انتوا الاتنين بتحبوا بعض، واتجوزتوا بعد سنين فراق، تقوموا تطلقوا بسهولة كده بعد جوازكم بشهور، ده جنان رسمي
رد عليه قصي بغضب :
قولها هي الكلام ده مش ليا، بس صدقني مفيش فايدة منها، هي اللي بغبائها دمرت حياتنا وضيعت اي فرصة ممكن تجمعنا مع بعض تاني
زفر عمار بضيق، لا يفهم ما يحدث من حوله، آخر يطلق زوجته فجأة، وآخر يرقد على سرير المستشفى، وأخرى تزوجت بالأمس، بات يرى أحداثًا غريبة، فما الذي سيحدث اليوم أيضًا؟
ما ان علمت فريدة بما حدث لسفيان ذهبت له على الفور وأخذت تربت على خصلات شعره بحنان قائلة بمواساة وغضب من ميان :
ماتزعلش نفسك يا بني، دي متستاهلش اللي انت عامله في نفسك ده عشانها، لو كانت بتحبك بجد زي ما بتقول، كانت هتسامحك، لكن دي كأنها ما صدقت وراحت اتجوزت علطول
أبعد يدها عنه بجفاء قائلاً بزهول وغضب :
طب قولي كلام غير ده يا فريدة، لو حد مشكوك في حبه فهو انا مش هي، وانتي سبب من اسباب دمار حياتها، وانا قبلكم كلكم
ثم تابع بقهر و ندم :
انا اللي بيعتها الأول يا فريدة، انا اللي اخدتها بذنب مش ذنبها، انا اللي سمعت كلام عليها وصدقته من غير ما اسألها حتى، وكأني ماصدقت، وفوق كل ده روحت اتجوزت غيرها
صرخت عليه بغضب :
انت لسه بتدافع عنها، حد غيرك كان المفروض يشكك في حبها ليه من البداية، دي اتجوزت غيرك بعد ما كانت قرفانا كل شوية انها بتحبك و....
قاطعها قائلاً بحدة وغضب :
فرق كبير بين اللي انا عملته واللي هي بتعمله يا فريدة، لأن اللي ميان بتعمله رد فعل على اللي انا عملته معاها
ثم تابع مواجهاً اياها بالحقيقة :
كفاية بقى تيجي عليها عشاني، استغلتيها زمان عشاني وكنتي بتحبيها ولما خرجت عن سيطرتك وكلامك بطل يجيب معاها نتيجة بقت عدوتك، خليكي صريحة يا فريدة وواجهي نفسك بالحقيقة، ميان اتظلمت واللي هي بتعمله دلوقتي نقطة في بحر من اللي احنا عملناه فيها
استفاق فارس في صباح اليوم التالي، بعدما أمضى الليل كله يفكر فيما هو مقبل عليه، أغلق عينيه متذكراً ما حدث في الأمس، حين انتهى الزفاف، وودعهم أفراد العائلة بابتساماتهم الدافئة
ما ان دخلت ميان برفقته من باب المنزل، حتى بدأت تحك جلد يدها بتوتر، نادمة على تلك الخطوة التي لم تكن مستعدة لها ابدًا، لكنها انتفضت فجأة بذعر مبتعدة للخلف، حين وضع يده على كتفها برفق
تمتم فارس بصوت مرح وهادئ :
مالك، اتخضيتي ليه، انا مش بعض والله
نفت برأسها، وقالت بتوتر :
مش بخاف
ابتسم بخفوت، وقال:
طب، ادخلي غيري هدومك على ما أجهز العشا
كادت أن ترفض، لكنها أدركت أنه إذا فعلت، فلن تجد وقتاً للهروب مما هي مقدمة عليه، فأومأت برأسها ثم دخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها بالمفتاح، فشعر فارس بالضيق من تصرفها، ولم يعلق
بعد فترة طويلة، كانت جالسة على الفراش، تحرك قدميها بتوتر شديد، وتقبض بديها بقوة على طرف بيجامتها السوداء الحريرية
ما ان سمعت صوت طرقات على باب الغرفة، انتفضت في مكانها وقالت بتوتر :
نعم
سألها فارس بقلق:
انتي كويسة، اتأخرتي كده ليه
توجهت بصعوبة نحو الباب، وفتحته ببطء، لتجد فارس واقفاً أمامها، ينظر إليها بتمعن، وعيناه مليئتان بالإعجاب والهيام، حركت يدها برفق لتزيح خصلات شعرها خلف أذنها في حرج، متجنبة النظر في عينيه، فابتسم قائلاً بهدوء :
يلا العشا جاهز
أومأت له برأسها، وتقدمت أمامه نحو طاولة الطعام، بينما جلس هو الآخر، يراقب ارتجاف يديها من التوتر، فتنهد بعمق ثم نهض قائلاً بلطف ليخفف من قلقه ا:
انا تعبان وهموت وأنام، هدخل أغير هدومي
أومأت له بسرعة، وما إن دخل إلى الغرفة حتى تنفست بارتياح، بقيت جالسة في مكانها مدة طويلة، وعندما تأكدت أنه قد نام، نهضت ببطء، وسارت على أطراف أصابعها، ثم فتحت باب غرفته بحذر، وعندما رأت أنه نائم على الفراش والأنوار مطفأة، ابتسمت بسعادة، وسارعت لتجميع الأطباق وتنظيف الطاولة، ثم دخلت غرفة أخرى مجاورة ونامت هناك، وهي تعلم أن راحتها مؤقتة، لكن الأهم ان اليوم قد مر، وهذا هو الأهم
بينما فارس شعر بها ولم ينم طوال الليل، يفكر في القادم، يبدو انه أمامه الكثير، والنتيجة غير مضمونة، سيفشل أو ينجح، وهو يتمنى حقًا أن تكون الأخيرة، فإن حدثت الأولى، سيكون الأمر مؤلمًا وصعبًا جدًا
في المساء توالت الزيارات عليهما من أقاربهما، جذبت همس ميان لغرفتها، ولحقت بهما لينا وأغلقت الباب خلفها، فغمزتها همس مرددة بمشاكسة وهي تجلس على الفراش :
مبروك يا عروسة
منحتها ميان ابتسامة صغيرة، بينما كانت لينا تنظر لها بعتاب صامت، فسألتها ميان بحزن :
انتي لسه زعلانة مني
أشاحت لينا بوجهها بعيداً، وقال بضيق:
انتي شايفة إيه
اقتربت منها ميان لتعانقها عنوة وهي تقول باعتذار :
حقك عليا، متزعليش مني
تنهدت لينا بعمق، ثم قالت بحزن :
مش زعلانة منك يا ميان، أنا زعلانة عليكيؤ شايفاكي ماشية في طريق آخره هيوجعك أكتر من الأول
ردت عليها ميان بسخرية مريرة :
مش هيجرى أكتر من اللي جرى
نفت لينا برأسها، تواجهها بالحقيقة، قائلة بحدة :
لأ، هيجرى، هتظلمي حد زي ما إنتي اتظلمتي زمان، دخلتي فارس جوه انتقامك من سفيان والكل عارف انه اتجوزك مش جواز صالونات ولا معرفة، لا هو حاسس ناحيتك بمشاعر، وقبولك للجواز معناه إنك عطتيه أمل إنه ليه فرصة معاكي
ثم سألتها بسخرية :
يا ترى بقى وانتي بتفكري تنتقمي إزاي من سفيان، فكرتي في فارس، ولا بقيتي أنانية زيك زيهم، ومفرقتيش عنهم حاجة
قبل أن تتحدث ميان، سبقتها لينا قائلة بحدة :
هتقولي ظلموني، هقولك انتي كمان بتظلمي فارس
عاتبت همس لينا قائلة:
كفاية يا لينا، مش وقته الكلام ده
جلست ميان على الفراش خلفها، تضع رأسها بين يديها حزينة، فاقتربت منها لينا قائلة برفق :
متزعليش مني يا ميان، أنا بقول كده والله عشان خايفة عليكي ويهمني مصلحتك
ردت عليها ميان بحزن وهي ترتمي في أحضانها :
من غير ما تحلفي، أنا عارفة
غيرت همس الموضوع قائلة بمرح :
المهم، سيبك من ده كله، هتقضوا شهر العسل فين؟
"شهر عسل" قالتها ميان بتوتر وصدمة
فسألتها همس بحماس :
مستغربة ليه، ده الطبيعي، هو انتوا ما اتفقتوش مع بعض هتسافروا فين ولا ايه
نفت برأسها بضيق، فتابعت همس بحماس :
طب حطوا من ضمن القايمة جزيرة بالي، طول عمري نفسي أروحها، يالهوي على جمالها
رددت لينا بهيام هي الأخرى :
عندك حق والله يا همس، أنا كمان نفسي اروحها اوي
ردت عليهما ميان بفتور :
بس أنا مش عايزة أروح في أي مكان!!
صمت الاثنتان بحزن، لطالما كان هذا حالها منذ ما حدث، لا ترغب بأي شيء ولا تريد شيئاً، حتى انها لم توافق على السفر إلى شرم الشيخ إلا لأن همس تحتاجها !
بعد أن غادر الجميع، دخلت ميان للغرفة على الفور وأغلقت الباب خلفها، فتنهد فارسخ بضيق ثم جلس على الأريكة يشاهد التلفاز بملل، هو ليس ممن يفضلون الجلوس في المنزل لوقت طويل، يشعر بالملل حقاً
يريد أن يذهب لأي مكان، لكن لو توافق هي، أغلق التلفاز ثم اقترب من الباب حاسماً أمره، سيطلب منها المجيء
طرق على الباب ثلاث مرات، ففتحت له، وسألته بتوتر متحاشية النظر له :
نعم يا فارس، محتاجة حاجة
سألها بابتسامة وكلمات ذات مغزى :
مش زهقانة خصوصاً وإنتي قاعدة في الأوضة لوحدك من امبارح
كان يقصد بحديثه أن تجلس معه لا أكثر، لكنها ظنت أنه يتحدث عن نومها في غرفة أخرى وأنه يريدها أن تصبح زوجته، فحكت يدها مرة أخرى بتوتر شديد، تبدد وحل محله الزهول عندما سألها فارس بحماس :
أنا زهقان، تعالي ننزل نتعشى برة ونقعد على البحر شوية، ولو عاوزه تروحي أي مكان مفيش مشكلة
نظرت لساعة الحائط قائلة بتعجب :
دلوقتي، الساعة تسعة يا فارس!!
ابتسم قائلاً بعد اكتراث :
ايه يعني الساعة تسعة، مش نص الليل ولا حاجة، وحتى لو نص الليل، انتي نازلة مع جوزك، إلا بقى لو إنتي مش عاوزة تنزلي معايا
أزاحت خصلات شعرها خلف أذنها، وقالت بتوتر :
هدخل ألبس
أومأ لها بابتسامة، ثم غادر هو الآخر ليبدل ثياب المنزل بأخرى مناسبة للخروج، ارتدى قميصاً أبيض وبنطالاً من الجينز الأسود
خرجت ميان هي الأخرى بنفس الوقت، فضحك فارس بخفوت ما إن رأى ما ترتديه، فقد كانت ترتدي مثله بنطالاً أسود لكنه واسعاً يشبه التنورة، ومن أعلى كنزة بيضاء بأكمام طويلة، وواسعة
جذبها برفق خلفه وأغلق الباب، يشعر بالحماس على عكسها تمامًا، لقد فقدت شغفها بكل شيء، تشعر بالفتور تجاه كل ما حولها.....لم تعد كما كانت في السابق
رددت عليا بحزن وهي تجلس على الفراش بجانب رأفت الذي يعبث بهاتفه :
رأفت، فارس وميان كل واحد فيهم نايم في اوضة
قطب جبينه، وسألها :
عرفتي منين؟
ردت عليه بحزن :
دخلت اوضة الضيوف عشان اظبط هدومي، لقيت هدوم لبنتك في الاوضة وكمان الفستان اللي كانت لابساه متعلق فيها
تنهد رأفت بعمق واكتفى بالصمت فعاتبته قائلة:
هو انا كنت بقولك، عشان تسكت يا رأفت
رد عليها بهدوء :
اللي بنتك عملته كان متوقع يا عليا، لسه مخدتش عليه، وخصوصاً بعد الفترة اللي مرت بيها، سيبيهم يصرفوا أمورهم
مع بعض، ومتتدخليش
ردت عليه بضيق :
ازاي مش عايزني اتدخل و أنا شايفة بنتي بتدمر.....
قاطعها قائلاً بهدوء :
بنتك مطلبتش النصيحة، دي حاجة بينها و بين جوزها يا عليا، سيبهم يصرفوا امورهم مع بعض زي ما قولتلك، ومهما كان، الوضع ده مش هيدوم كتير، بنتك كل اللي محتاجاه شوية وقت، وانا متأكد من كلامي
تمتمت عليا بقهر :
منه لله اللي كان السبب طول ما هو عايش بنتي هتفضل تتعذب، نفسي تنساه بقى وتبتدي حياتها من جديد
رد عليها رأفت بهدوء :
بنتك اتخلصت من حبه يا عليا لأنه اتحول لكره خلاص، اللي ناقص بس انها تتخطى اللي حصل، وتشيل من دماغها فكرة الانتقام
سألته بصدمة :
هي اتجوزته عشان تنتقم من سفيان
ضحك رأفت بخفوت، ورد عليها :
كنت فاكرك اذكى من كده يا عليا، أكيد اتجوزته عشان تنتقم من سفيان ما هو مش معقول بنتك اللي زمان اتحايلتي عليها كتير توافق على العرسان، توافق على فارس وسط كل البلاوي اللي اتعرضت ليها دي
تنهدت بحزن، وصمتت، فربت رأفت على يدها، وقال :
اطمني يا عليا، فارس عارف بكل ده وعارف انها متجوزاه عشان كده، وانا فهمته كل حاجة قبل ما يتجوزها، وقالي انه كان متأكد انها وافقت عشان كده برده
ابتسم بخفوت، وقال:
قالي انا شاري بنتك وهفضل معاها وهحاول ومش هيأس، دي هي اصلاً اللي هتزهق مني، ولحد ما يجي اليوم اللي بنتك تقول طلقني بلسانها ساعتها بس هبعد
تمتمت عليا بسعادة :
ربنا يهدي بنتك بس يا رأفت، والله انا قلبي مرتاح لفارس وحساه عوض ربنا ليها على كل اللي شافته، ربنا يحميهم هما الاتنين ويهديهم لبعض
أمن على دعائها، ثم أغلق هاتفه وجذبها إلى أحضانه، وهو يشعر بالتفاؤل من القادم، فالأهم بالنسبة له أن بزواج ابنته من فارس، سيضمن ابتعاد سفيان عنها للأبد!
عادوا من الخارج، والابتسامة ترتسم على شفتيهما. كادت ميان أن تدخل الغرفة، لكنه استوقفها قائلاً بابتسامة جميلة:
استني، إيه رأيك نسهر شوية في البلكونة؟
أومأت له بتردد، فقال بحماس، وهو يشير إلى الغرفة:
طب غيري هدومك على ما أعمل حاجة نشربها
بعد وقت قصير، كانت تجلس في الشرفة تنتظره، حتى جاء من خلفها فوجدها تضع يدها على كتفها، يبدو أنها تشعر بالبرد، وضع الأكواب من يده على الطاولة بجانب الشرفة، ثم توجه إلى غرفته وعاد بمفرش صغير، واقترب منها وبرفق حاوط كتفيها به
انتفضت ميان بفزع عندما شعرت بيدين تلامسان كتفيها، فهدأ فارس من روعها قائلاً برفق :
ده أنا، متخافيش
أومأت له ثم شكرته وهي تضم الغطاء عليها، جاء بالأكواب ثم أعطاها واحداً، والأخر له، طال الصمت لدقائق، فسألها محاولاً فتح اي حديث معها :
قوليلي، صحيح انتي كنتي طفلة عاملة إزاي، يعني هادية ولا شقية
ضحكت بخفوت ثم سألته بابتسامة جميلة سحرته :
تفتكر إنت كنت إزاي، خمن كده
ضحك قائلاً بمرح :
كنتي طفلة مشاغبة وشقية، وبصراحة استبعد هادية دي خالص
ضحكت بخفوت وهي تحرك رأسها بنعم، ثم سألته بفضول:
ليه خمنت كده
نظر إلى داخل عينيها قائلاً :
والدتي دايماً كانت تقولي أنا وأختي، وإحنا صغيرين، بكره تشوفوا الأدوار هتتبدل، الشقي فيكم بكره هيبقى الهادي والعكس، ومرت الأيام، وفعلاً كلامها كان صح
تنهد ثم تابع حديثه بابتسامة :
بس عندك انتي، عرفت ان مش الكل بيمشي عليهم الكلام ده، لأن اللي يشوفك دلوقتي بهدوءك ده يقول كانت بنوتة شقية وهي صغيرة، لكن من بعض المواقف اللي بسمعها من الكل قبل ما تمري بالفترة دي، كانت المواقف دي كلها شقاوة، وده معناه انك كنت شقية وأنتي طفلة، وحتى لما كبرتي
مازحته بابتسامة لطيفة :
كل أم بتقول لولادها نفس اللي مامتك قالتله
ثم تابعت بحنين واشتياق :
ماما كمان كانت بتقولي كده، أنا ومروان اخويا الله يرحمه، هو كان هادي أوي وهو صغير، وكنت أنا أعمل كل مصيبة والتانية، وهو يشيل مكاني
ثم تابعت بحماس، وهو ينصت لها باهتمام كبير :
عارف، زمان قبل ما التليفون التاتش يظهر بقى، واللاب والحاجات دي، كان ساعتها في كمبيوتر، وماما كانت من الأمهات اللي بتقول ممنوع اللعب عليه، وأول ما الدراسة تبدأ كانت بتشيله من أوضتنا وتدخله في أوضة الضيوف، وفي يوم نزلت هي وبابا من البيت رايحين مشوار، وكنت أنا مع مروان والدادة بتاعتنا في البيت لوحدنا
اعتدلت بجسدها، تضم قدميها، وتقص له البقية بحماس، خاصة عندما رأت أنه منصت لها باهتمام :
اتسحبت انا براحة، ودخلت أوضة الضيوف، وشغلته. بس فجأة لقيت الفيشة بتاعته ضربت وطلعت نار، والستارة اللي ورا اتحرقت، الظاهر كان في حاجة بايظة فيه، قعدت أصرخ وأول واحد دخل عليا كان مروان، بعدها، الدادة دخلت وخرجتنا بره لما شافت النار، مسكت في معظم الأوضة، واتصلت بالمطافي، وبابا وماما طبعاً عرفوا، ولما سألوا مين اللي عمل كده، مروان خاف عليا ومن نفسه قال أنا اللي عملت كده، يومها ماما عاقبته ومنعته انه ياكل معانا على السفرة لمدة أسبوع، ومفيش تليفزيون كمان لمدة شهر
ثم تنهدت بحزن، وتابعت بحنين لتلك الأيام :
عاقبت انا كمان نفسي زيه، كنت باخد الأكل وأدخل آكل معاه، وما اتفرجتش على التليفزيون، بس على فكرة المصيبة دي مش حاجة جنب اللي كنت بعمله، والعقاب اللي هو بيتعاقبه
مكاني، لحد ما كبرنا، كان كده، بيشيل عني دايماً، ولما مات حسيت بالخوف والوحدة
ترحم عليه بصوت خفيض، فأمنت على دعائه قائلة لتغير مجرى الحديث :
بصراحة مش عارفة أخمن إنت بقى كنت هادي ولا شقي وأنت صغير
سألها فارس : ليه ؟
ردت عليه بمرح :
مش عارفة، إنت دلوقتي هادي ولا شقي، يعني أول مرة شوفتك عند كارم، كان باين إنك هادي كده ورزين، لكن بعد اللي حصل من شوية، بسحب كلامي، أصلك كنت مجنون على الآخر
ضحك قائلاً بمرح وكلمات ذات مغزى :
في واحدة متبقاش عارفة طباع جوزها، ستات إيه دي بس يا ربي، خلاص يا ستي انا كل يوم في نفس الوقت ده ونفس القعدة دي، هحكيلك شوية عني، وإنتي نفس الكلام، إيه رأيك؟
أومأت له بصمت، فتابع حديثه بمرح . :
انا بقى. كنت طفل هادي جداً، عارفة الطفل الخنيق، والتقيل في نفسه كده، والكلمة تطلع منه بالعافية
ضحكت بخفوت وهي تستمع إليه وهو يقول بقرف:
كنت أنا بقى الطفل ده، الكلمة بتطلع مني بالعافية، وتقيل كده في نفسي، وعلى طول قاعد بذاكر، والولاد كلها يلعبوا وانا قاعد وسطهم أتابع بس من غير ما أشارك، وكارم كان على طول بيتشل مني ومن تصرفاتي، لأن أنا وهو عكس بعض تماماً، الصراحة هو طول عمره كده، الفرق إنه عقل بس شوية صغيرين مش أكتر، تخيلي أنا كل ما بفتكر تصرفاتي زمان بقرف وأتغاظ من نفسي أوي
ثم تابع بحنين لشقيقته الراحلة "اوركيد" :
بس أوركيد، الله يرحمها، كانت عكسي تماماً، كانت شقية زيك، ولما كبرنا، اتبدلت الأدوار، هي اللي عقلت، وأنا اللي اتجننت
سألته بفضول واهتمام :
انت ليه مش عايش مع والدك ووالدتك في شرم الشيخ، وقاعد بعيد عنهم
رد عليها ببساطة :
لأن والدي لما اشترى الأوتيل في شرم الشيخ، كنت أنا أسست مستشفى خاصة بيا هنا، ومتجوز، وحياتي كلها هنا، فكان صعب أسيب كل ده وأروح معاهم
سألته بتردد وفضول:
انا أعرف إنك كنت متجوز، بس معرفش اي حاجة عنها، انتوا ليه سيبتوا بعض
تنهد بعمق، ثم قال بهدوء :
كانت بنت خالتي، والدتي في فترة فضلت تلح عليا أتجوز، وأنا مش بالي الموضوع أصلاً، بس عشان أريحها، وافقت قولت بنت خالتي، ومتربين سوا وأعرفها وأحسن ما أتجوز حد من بره ما أعرفش طباعه، وفعلاً اتجوزنا، بس للأسف ما اتفقناش خالص، وانفصلنا بهدوء
كانت على علم ببعض الأشياء من والدة كارم، التي ألقت بكلمات وسط الحديث، إن زوجته السابقة كانت صعبة الطباع، وكانت المشاكل لا تفارقهما طوال فترة الزواج، وهنا احترمته وقدرت له ذلك الموقف، أنه رفض الحديث عن ابنة خالته وزوجته السابقة بطريقة غير لائقة
تلقائيًا، قارنت بينه وبين سفيان، هي أيضاً كانت ابنة خالته، وماذا فعل بها، خاض بعرضها أكثر من مرة أمام الجميع وأهانها، لكن فارس عكسه تمامًا
التقط كوب الشوكولاتة الحارة الخاصة بها، وأعطاها إياها قائلاً بهدوء:
اشربيها يلا، زمانها بردت
أومأت له وبدأت ترتشف منه بصمت، وما إن وضعت الكوب، حتى ضحك بخفوت عندما تلطخت شفتيها العليا بالمشروب على شكل شارب، فبعفوية، انتقل بكرسيه ليكون على مقربة منها، ثم مد يده تجاه شفتيها ليزيله بأصبعه، مردداً بمرح :
زي الأطفال بالظبط
شعرت بالحرج والخجل الشديد من تصرفه، كان لمسه لشفتيها في البداية حركة عفوية، سرعان ما تحولت إلى رغبة ملحة بداخله للتقرب منها، ابتلع ريقه وظل محدقًا بها، يمرر أصبعه عليها برفق، وفي لحظة غاب فيها عن الوعي، وحاوط بيديه وجنتيها ثم مال برأسه قليلاً ليقترب منها، لكنه توقف فجأة عندما انتفضت ميان واقفة وقالت بتوتر :
الوقت أتأخر، وأنا عايزة أنام، تصبح على خير
قالت ما قالت، ثم فرت هاربة إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها بالمفتاح، بعد أن رأت نظراته التي تحمل رغبة في القرب، ففعلت ذلك كضمان إذا حدث أو صدر منه شيء
بينما فارس زفر بضيق، وشعر بالحرج، خاصة بعدما رأى في عينيها نظرات رفض صريحة لقربه، وما فعلته لم يكن خجلًا، بل رفضًا قاطعًا
في صباح اليوم التالي
كانت همس تجلس بالمكتبة الخاصة بالجامعة تذاكر بعض دروسها بذهن شارد وحينما عجزت عن التركيز نزلت لكافتريا الجامعة حتى تحتسي قهوتها وهي تتجاهل عن عمد همسات الجميع عليها وكم تتألم منها
شعرت بأحدهم يجذب مقعداً بجانبها، نظرت للفاعل لتجده كارم الذي قال بابتسامة :
الجميل قاعد لوحده ليه
تنهدت ثم قالت بهدوء :
لينا مجتش انهاردة، وميان أكيد مش هتيجي، فحضرت لوحدي وكنت بشرب قهوة وهكمل باقي المحاضرات اللي عندي وبعدها هروح
صمتت للحظات ثم سألته بفضول:
انت بتدخل الجامعة هنا ازاي، دول بيطلعوا روحنا عشان ندخل، ولازم اللي يدخل يكون معاه الكارنيه ولو حد معانا يبقى لازم اثبات صلة القرابة، وموال كبير
تراجع بظهره للخلف يضع قدم فوق الأخرى، وهو يقول بفخر وثقة :
بيقولوا اني ظابط يا دكتورة نص كوم انتي، نفسي أعرف هتشتغلي ازاي دكتورة وانتي ابسط الحاجات اللي المفروض تخمنيها معرفتيش، دكاترة آخر زمن والله
سخرت منه قائلة بغيظ :
خليني ساكتة وخلي الدفاتر مقفولة يا حضرة الظابط، اصل مش هيبقى حلو في حقك اللي هيتقال
رد عليها بلا مبالاه :
انا كلي مميزات يا حبيبتي، مفيش فيا عيوب
اومأت له، وقالت بسخرية :
عندك حق بس مش غريبة ان راجل طول بعرض وظابط قد الدنيا لسه لحد انهارده بيخاف من الفيران
رد عليها بتهرب :
محصلش دي كلها مجرد اشاعات
اومأت له قائلة بابتسامة واسعة :
اشاعات اه، طب اكدب على حد ملكش معاه سابقة لا وكمان سابقة منيلة بنيلة، ده انا فاكرة ان مرة واحنا صغيرين كنا بنلعب في اوضتك ولقينا فار قومت انت طلعت تنط فوق السرير من السرير وتصرخ من الخوف....ده انا ما خوفتش كده، وحتى مامتك قالتلتي انك لسه بتخاف منهم لحد دلوقتي
رد عليها بقرف واشمئزاز :
فرق كبير بين الخوف والقرف يامقرفة انتي بالسيرة اللي فتحتيها دي د، انا كان ليا حق اخاف انما انتي مكنتيش خايفة عشان من نفس فصيلتهم
رمقته بغيظ شديد، فتنهد كارم وقال بهدوء:
على فكرة الضحكة اللي رسماها على وشك دي، وحكاية انك طلعتي من اللي انتي فيه بين يوم و ليلة والجو ده مش عليا، انا عارف كويس انك الضحكة دي قناع عشان متزعليش اللي حواليكي
ابتلعت غضة مريرة بحلقها ثم اشاحت بوجهها بعيداً عنه فأداره له من جديد حتى تنظر له وقال برفق :
مثلي قدام الكل زي ما انتي عايزة بس عندي انا مش هتقدري، لأني فاهمك اكتر من نفسك يا همس وعارف لما بتكوني مبسوطة بجد بتعملي ايه
تنهدت بحزن، ثم قالت بألم :
كلامهم وصوتهم وهما بيتهامسوا عليا بيقتلني يا كارم انا كل يوم بخرج من البيت بالعافية ولو طلعت منه بشوف جيرانا، اللي شمتان واللي زعلان عليا....وقتها بتقهر اوي
ثم تابعت بخزى من نفسها :
ساعات بتخطر على بالي حاجات كتير عشان انتقم منه زي ما عمل فيا والغريبة اني كنت معارضه ميان في رغبتها انها تنتقم من سفيان، بس مع الوقت لقيت جوايا نفس الشعور اللي هي حاسة بيه ونفسي أعمل كده
سألها بهدوء :
طب معملتيش كده ليه !!
ردت عليه بخجل من نفسها :
مين قالك اني ما حاولتش اعمل كده، بالعكس حاولت مرة واحتقرت نفسي اوي بعدها ولقيت ان الشخص ده مايستاهلش مني كده، مايستاهلش استخدمه أداة أحقق بيها انتقامي، لأنه عندي اغلى من كده بكتير وياما وقف جنبي ونفسي يسامحني لما يعرف اني فكرت في كده
صمت للحظات ثم قال بهدوء :
هو عارف يا همس ومسامح وكفاية انك اتراجعتي وقولتي انه عندك اغلى بكتير
نظرت له بتوجس للحظات هل يعلم انها قبلت التقاط الصور معه عندما كانوا بشرم الشيخ من اجل ان ترفعها على مواقع التواصل الاجتماعي، لتثير غضب الآخر عندما يعلم انه ما فعل لم يؤثر بها، وانها تستطيع ان تعيش أفضل بدونه
اومأ لها قائلاً بابتسامة :
كنت عارف بتفكري في ايه وسكت عشان كنت عارف مش هتكملي فيه.....لأن همس مش كده
ابتسمت له بامتنان، فسألها مازحاً ليغير مجرى الحديث :
تعالي بقى نروح نتغدا مع بعض، و بعدها اوصلك على البيت بلا محاضرات بلا بتاع يا شيخة
سارت بخطوات هادئة إلى جانبه، وابتسامة عفوية تزين ملامحها، لكن تلك الابتسامة ما لبثت أن تلاشت فجأة، كما لو أن ريحًا باردة قد هبت على قلبها، توقفت مكانها حين ظهر أمامها يزن، كأنه انبثق من العدم، ملامحه صارمة ونظراته مشتعلة بعزمٍ لم تألفه من قبل.
لحظة اختلط فيها الماضي بالحاضر، والوجوه من حولهم غدت أشبه بجمهورٍ صامت، يتابع المشهد بعينٍ تفيض فضولًا وترقّبًا، كانت الأنفاس معلقة، وكأن الجميع ينتظر كلمة البداية في هذه المواجهة المصيرية، هي العروس التي تركت مكسورة في يوم الزفاف، وهو.العريس الذي فر قبل أن يفي بوعوده
كانت اللحظة ثقيلة، تتكثف فيها كل الكلمات التي لم تُقال، وكل الأسئلة التي أُخفيت خلف الصمت الطويل
تُرى، بأي كلمات سيبدأ حديثهما، وهل ستملك القدرة على المواجهة بعد كل ما جرى؟
"بتعملي ايه" قالها فارس بصوت ناعس، بعدما خرج من غرفته، ووجدها تقف بالمطبخ
ردت عليه ميان بهدوء وهي تضع لطعام على الطاولة :
حضرت الفطار، روح اغسل وشك و تعالى يلا قبل ما يبرد
اومأ لها بصمت وقبل ان يغادر التفت إليها مرة أخرى، وقال بابتسامة جميلة :
نسيت اقولك صباح الخير
ردت عليه الصباح بابتسامة صغيرة، وبعد دقائق قليلة، كان كلاهما يجلسان على طاولة الطعام، نظر فارس إليها بشهية، ثم قال :
شكله يفتح النفس، تسلم
ثم التقط كف يدها ولثمه برقة، مرددًا بابتسامة :
تسلم إيدك
سحبت كف يدها بتوتر وخجل، والتقطت كوب الماء ترتشف منه بحرج، فابتسم فارس عليها وبدأ يتناول الطعام وهو يسألها بفضول :
انتي بتعرفي تطبخي
نفت برأسها، وقالت بأسف :
مش اوي حاجات وحاجات، واللي مش عارفاه اكتر من اللي اعرفه
رد عليها ببساطة :
الحال من بعضه يعني، انا كمان بطبخ على خفيف
سألته ميان بحذر :
انت زعلت عشان مش بعرف اطب
قطب فارس جبينه وسألها :
ليه قولتي كده
رفعت ميان كتفها إلى الأعلى وقالت بهدوء:
يعني، أصل معظم الرجالة بيتضايقوا لما مراتتهم مايكونوش بيعرفوا يطبخوا
رد عليها ببساطة، وكلماته رغم بساطتها إلا انها زادت من احترامها له :
انتي بنفسك قولتي معظم مش كل، وبعدين فيه حاجات في الجواز أهم من الطبخ والكلام ده، لو انتي حابة تتعلمي براحتك دي حاجة ترجعلك، وانا أصلاً في كل الاحوال متفق مع شغالة هتيجي تساعدك من الأسبوع الجاي، سواء في طبخ او تنضيف، ولو حابة تجيبي تاني انا معنديش مانع
ثم تابع بجدية :
انتي أصلاً متركزيش مع التفاهات دي وركزي في دراستك عشان تجيبي تقدير كويس واللي هو امتياز ان شاء الله، ولو حابة اشرحلك اي حاجة انا معنديش مانع في أي وقت تعالي
ابتسمت له بامتنان وقالت :
شكراً يا فارس، انا بجد مش عارفه اقولك ايه
رد عليها بابتسامة هادئة ونظرات عاشقة يخصها بها وحدها :
ماتقوليش ومش كل حاجة اعملها ليكي تشكريني عشان انا ماعملتش غير الطبيعي يا ميان، هو انا لو قولتلك اني بحس انك بنتي مش بس مراتي، هتصدقيني
أومأت له برأسها، وهي تشعر بالتوتر والارتباك، خاصة عندما نظر إليها مطولًا بتلك الطريقة، فتظاهرت بالانشغال بالطعام، ليبتسم فارس عليها وهو يرى ارتباكها وحالتها
بعد الإفطار، نزلت ميان مع فارس إلى أحد المكتبات لشراء ما ينقصها من كتب ومراجع تحتاج إليها وعندما خرجت من باب المكتبة برفقته، لم تنتبه لحفرة صغيرة أسفل قدمها، فبشكل تلقائي، استندت بيدها على السور بجانبها، لكن لسوء حظها، كان عليه زجاج مكسور متناثر، فصرخت من شدة الألم، فهرع إليها فارس على الفور، وعيناه مليئتان بالفزع، وأخذ يتفحص يدها بسرعة بقلق شديد، وبسرعة أخرج منديلاً ولفه حول يدها، ثم أمسك بها برفق وساعدها على الصعود إلى السيارة، مرددًا بأسف والقلق ينهش قلبه:
معلش استحملي، خمس دقايق وهنوصل المستشفى، هي قريبة اوي منها
كان يردد كلمات متأسفة على حالها طوال الطريق، وبعد مرور خمس دقائق كما قال، وصل بها إلى المستشفى وأدخلها لقسم الطوارئ، كانت الطبيبة تضمد يدها بينما ميان تبكي من شدة الألم، فاقترب فارس وجلس بالقرب منها، يمسح دموعها برفق، فتمتمت بصوت ضعيف متألم :
بتوجع أوي يا فارس
ردت عليها الطبيبة برفق :
حطيتلك دلوقتي بنج ومش هتحسي بأي وجع ان شاء الله
اومأت لها وهي تضغط بيدها على الفراش، مر ما يقارب النصف ساعة وكانت تخرج من الغرفة تستند على يد فارس حتى لمحت بعيناها من بعيد سفيان يخرج من أحد الغرف برفقة عمار وفريدة، وأيضاً قصي !!
ما إن رأت سفيان حتى اشتعل لهيب الانتقام في قلبها، من جديد، فتمسكت بيد فارس، وقالت برقة، وبصوت متعب:
فارس، ممكن تشيلنيؤ حاسة إني دايخة ومش قادرة أمشي خالص
اومأ لها وبدون تردد انحنى يحملها برفق مردداً بقلق شديد :
طب طالما لسه تعبانة تعالي نكشف تاني ولو كده ممكن تعلقي محاليل انا اصلاً......
قاطعته قائلة بهدوء :
انا بس محتاجة ارتاح يا فارس، خدني ع البيت لو سمحت
أومأ لها برأسه، ثم بدأ يمشي بها وسط الجميع، وأغلب النظرات مصوبة نحوهما، لكنه توقف فجأة عندما رأى أمامه سفيان يستند على يد قصي، وعمار الذي ردد بصدمة :
إيه اللي حصل، انتوا بتعملوا ايه هنا، ميان انتي كويسه؟
سألها سفيان بقلق، والغيرة تلتهم قلبه بلا رحمة، وهو يرى فارس يحملها بين يديه، وهي تحاوط عنقه:
انتي كويسة
زفر فارس بضيق يملأ صدره، وعيناه تتابعان نظراتها التي تهرب منه، فعلم فورًا أنها جعلته يحملها عن قصد، لتثير غضب وغيرة سفيان!!!
سأله عمار بقلق :
مالها ميان يا فارس !!
رد عليه فارس بهدوء زائف :
كنا في مشوار، وبالغلط حطت ايدها على ازاز مكسور، فجينا نخيط الجرح
سألها قصي بهدوء :
انتي كويسة دلوقتي يا ميان
رددت فريدة بفظاظة :
ماهي كويسة وزي القردة اهي
نظر الثلاثة لها باستنكار،.فرد عليها فارس بتهكم :
طبعاً لازم تكون كويسة مش بعدت عن الهم اللي كانت عايشة فيه
كادت أن ترد عليه، لكنه لم يُعطها الفرصة، وغادر مُلقِيًا السلام على قصي وعمار فقط، فنظرت فريدة إليهما وهي تحترق من الداخل وقالت بغضب :
تلاقيها جت هنا مخصوص عشان تحرق دمه وتخليه يمرض اكتر، سوسه البت ومش سهلة، وسبحان الله ربنا رزقها باللي شبهها واد لسانه طويل
قاطعها سفيان قائلاً بحدة وهو يكور قبضة يده بغضب وغيرة تنهش قلبه :
خلصنا يا فريدة، خلينا نغور من هنا بقى
كانت النيران تشتعل في قلب سفيان، لا يكاد يلتقط أنفاسه بعد المشهد الذي شاهده، سيناريوهات كثيرة دارت في عقله، هل فارس اقترب منها؟ وهل سمحت له ميان بذلك؟
تساؤلات كثيرة لا تنتهي، لكن ما ظل عالقًا في ذهنه هو تلك النظرة....نظرة التشفي والانتصار التي رمتها به قبل أن تغادر برفقة الاخر
بينما على الناحية الأخرى، كان فارس يقود السيارة، مر الوقت فصمت ثقيل بينهما، هي تنظر إليه بين الحين والآخر، ترى قبضته التي كانت تتشبث بعجلة القيادة حتى تغير لون يده إلى الأبيض من شدة الضغط، في تلك اللحظات، شعرت بشيء يشتعل داخلها، شيء يشبه الشعور بالذنب، ومع كل ثانية تمر، كانت تعلم أن أول شجار بينهما بات قاب قوسين أو أدنى، لقد أخطأت، وعليها أن تتحمل ما سيحدث بعد أن يصلا إلى المنزل
خرجت سيلين من غرفتها بعد أن قضت وقتًا طويلاً تبكي وتنتحب بحرقة، والندم يعصر قلبها على ما فعلت، كيف كانت حمقاء لتلك الدرجة، كيف تشك بقصي بعد كل ما مروا به معًا
دخلت إلى المطبخ حيث كانت والدتها تعد الطعام، وهي تبكي وتنتحب بحسرة هي الأخرى، رفعت سيلين زجاجة المياه من باب الثلاجة، وعندما قربتها إلى شفتيها لتشرب، شعرت بدوار مفاجئ يكاد يفقدها توازنها، ترنحت في مكانها وسقطت الزجاجة من يدها، فالتفتت سميحة بفزع، لترى جسد ابنتها يتهاوى إلى الأرض!!!
صرخت بصوت عالٍ، تنادي على زوجها، الذي ركض مسرعًا إلى المطبخ، حاملاً إياها بين يديه إلى الغرفة، محاولًا إفاقتها، لكن دون جدوى، فرددت سميحة بفزع :
بسرعة يا كمال روح هات الدكتورة اللي فوقينا البت مش كويسة خالص
ركض كمال على الفور، وفي دقائق كانت الطبيبة تجلس بجانب سيلين تفحصها بعناية، وبعد لحظات، بدأت سيلين تستعيد وعيها، فبادرت الطبيبة بطرح عدة أسئلة عليها، وعندما انتهت، نظر كمال إليها بقلق شديد، وسألها بصوت يرتجف من التوتر :
خير يا بنتي، طمنينا
ردت عليه الطبيبة بابتسامة هادئة، محاولة تخفيف التوتر عنهم :
خير يا راجل يا طيب، بنتك بس مجهدة شوية، وأنا شاكة في حاجة، بس لو حابين نتأكد أكثر، يفضل تعملوا تحليل وتكشفوا عند دكتورة مختصة
سأل كمال وسميحة في نفس اللحظة بقلق :
حاجة ايه، كفى الله الشر ؟
ردت عليهم بابتسامة مطمئنة :
خير إن شاء الله.....بس الظاهر كده انها حامل!
بينما في فيلا آل مهران، دخل محامي العائلة يخبرهم بأسف ذلك الخبر الصادم :
الباقية في حياتكم، نادر بيه اتوفي
تعليقات



<>