رواية الدكان الفصل الثاني والسبعون72 بقلم منال محمد سالم

رواية الدكان 
الفصل الثاني والسبعون72
 بقلم منال محمد سالم 
ســـــاد صمت ثقيل بينهما طوال المسافة المتبقية من وصولهما، لم يتبادلا فيها الحديث إلا بكلمات مقتضبة فقط، حرص على عدم إزعاجها، ولجأت هي إلى الصمت الإجباري، هو باغتها باعترافه الصريح بحبه لها، وهي عجزت عن استيعاب الموقف، ظلت تفرك أصابع كفيها بتوتر بادٍ عليها، فلم سبق أن تقدم إليها أي أحد بعرض للزواج، حتى من تعرفهم من زملاء بالعمل كانوا يتعاملون معها بطريقة رسمية بسبب أسلوبها الجاف في المعاملة، مر ببالها موقف واحد محرج لأحد أقرباء أحد الأطفال ممن تستذكر معهم حينما أراد رؤية وجهها أثناء شرحها للدرس، فاستنكرت طريقته الفظة، واعتذرت عن إكمال الدرس الخصوصي.

اختلس دياب النظرات نحوها، راقب ارتباكها بتوجس مزعوج، اعتقد لوهلة أنها ربما تفكر في طريقة للاعتذار منه بصورة لبقة عن الارتباط به، انقبض قلبه بقوة لمجرد التفكير في هذا الأمر، سحب زفيرًا عميقًا ليدعم به نفسه قبل أن يكسر الحاجز الجليدي بينهما هاتفًا بحرج:
-أنا .. مش مستعجل منك على أي رد، بس.. بس محتاج كلمة تطمني ولو شوية
لم تستدر نحوه، وظلت محدقة للجانب متحاشية النظر إليه، زاد تخوفه من رفضها، فتابع بتوسل خفيف:
-عشان خاطري بس، قوليلي رأيك ايه في اللي سمعتيه مني؟
أجابته بجفاء تام:
-يعني عاوزني أرد أقول ايه؟
همس برجاء:
-أي حاجة تريحني!
رفضت بسمة الالتفات نحوه قائلة بجمود:
-معنديش حاجة أقولها!
سألها بتوجس كبير:
-يعني انتي ممكن ترفضيني؟
رد باقتضاب غامض:
-معرفش
نظر نحوها متسائلاً بارتباك:
-طب، موافقة مبدئيًا عليا؟
أجابته بإيجاز:
-مش عارفة
شعر بأجواء الرفض تلوح في الأفق، فهتف مستسلمًا:
-اعتبري إني مقولتش حاجة!
ردت بفتور وهي تكتف ساعديها أمام صدرها:
-يكون أفضل!
استمر الصمت سائدًا بينهما لبرهة حتى مل منه دياب، أراد أن يبوح لها بإحساسه خلال زيجته السابقة عله يكسب جولة معها، فيرق قلبها إليه، تنهد ببطء، ثم استطرد حديثه هاتفًا بصوت حزين:
-بسمة، أنا عاوزك قبل ما تقولي رأيك تعرفي حاجة مهمة!
انتبهت لصوته، وحانت منها التفاتة سريعة نحوه، فرأت تعابيره يكسوها الحزن، شعرت بغصة في حلقها، لكنها عاودت التحديق في الطريق أمامها متجاهلة ما رأته، تابع قائلاً بصعوبة واضحة في نبرته:
-لو.. لو هترفضيني يا ريت مايكونش بسبب ابني، هو مالوش ذنب، أنا مش بأدورله على أم، لأنها موجودة، ومقدرش أنكر ده!
شعرت بالحرج لكونه برر أحد أسباب احتمالية رفضها له، الاقتران بزوج منفصل لديه أبناء، تنفس بعمق، وأخرج زفيرًا يحمل الكثير من الهموم وهو يضيف بامتعاض:
-أنا كرهت فكرة الزواج والارتباط، جايز قليل أوي اللي عارف السبب، بس أنا حابب إنك تسمعيه مني، يمكن يفرق معاكي!
ضغطت بسمة على أصابعها بقوة مستشعرة الحرج الشديد من استرساله في أمور خاصة لا يستوجب عليها معرفتها، فقاطعته بتهذيب:
-لو سمحت، مافيش داعي....
قاطعها مصرًا على أن تصغي له هاتفًا:
-أنا دورت لنفسي على حبيبة، وافتكرت إن أم يحيى هي الانسانة دي، بس للأسف طلعت أكبر خازوق أخدته في حياتي!
انزعجت من وقاحة ألفاظه، فتنحنحت مرددة بخفوت:
-احم.. من فضلك!
تجاهل رجاؤها، وواصل بوحه بما يجيش في صدره قائلاً:
-لعبت عليا ووقعتني في آآ... يعني مش عارف أجيبهالك ازاي ، بس كنت زي الأهبل مشيت وراها، وصدقتها، وعملت أكبر حاجة ندمت عليها، مكونتش عاقل، كنت طايش ومجنون!
تملكها الفضول لتعرف أكثر عنه، خاصة أن كلماته كانت غامضة وتحمل بين طياتها الكثير، ابتلع غصة مريرة عالقة في حلقه قائلاً بآسى:
-اللي اكتشفته بقى إنه عشان خاطر الفلوس ممكن تعمل أي حاجة، استغفلتني، ولعبتها صح عليا، ولاقت المغفل اللي يشيل الليلة كلها!
التوى ثغره للجانب ليضحك بتهكم:
-بس حظها المهبب إن الكلب مازن قال على السر، ماهو اتفاق بينهم، ولولا إنها كانت حامل في يحيى كنت طلقتها ساعتها!
طالعته بنظرات أسفة ومزعوجة من تلك المكيدة المحكمة التي أوقعت أعقل الشباب في فخ الحب ببساطة، تابع مضيفًا بتنهيدة منهكة:
-مقدرتش أكمل حياتي معاها، كل لحظة كنت بأشوف وشها فيها بأفتكر غباءي، مطولناش كتير، واطلقنا بعد حادثة مرات منذر الله يرحمها!
استدار ناحيتها ليسألها بجدية:
-أكيد انتي فاكرة المشاكل اللي كانت وقتها مع عيلة أبو النجا والكلب مجد؟ ماهو كان على عينك يا تاجر!
ضغطت على شفتيها قائلة بحرج:
-أها.. كنت لسه صغيرة!
أكمل بتريث:
-ومن وقتها وأنا خدت عهد على نفسي مخليش أبدًا واحدة تقرب مني، ولا أتجوز تاني!
صمت عمدًا ليجذب انتباهها، ونجح بسهولة في هذا، فابتسم ابتسامة باهتة وهو يقول بنبرة ذات مغزى:
-بس الظاهر قلبي مطاوعنيش!
حدقت بسمة مباشرة في عينيه، مشدوهة بما يقوله، فواصل بحذر دون أن يخفي ابتسامته العذبة:
-انتي ظهرتي في حياتي، وشوية شوية عرفتي تدخلي قلبي، وتسيطري على عقلي!
تورد وجهها من غزله المتواري، فأبعدت نظراتها بعيدًا عنه، توسلها قائلاً برجاء:
-أنا مش طالب منك كتير، عاوز بس فرصة أعبر بيها عن مشاعري!
بدت متخبطة من كم الذكريات التي تلقاها عقلها دفعة واحدة، فهتفت بنزق نابذة فكرة الارتباط:
-بس إنت هاتحطني دايمًا في مقارنة معاها
رد مستنكرًا تفكيرها السطحي:
-مين قالك؟
عللت قائلة بحدة:
-ده المتوقع، الجوازة التانية بتكون مظلومة و.....
قاطعها بانفعال طفيف:
-استحالة، الجوازة الأولى من الأول كانت غلط، مافيش حاجة فيها كانت صح، جايز ابني اللي طلعت بيه منها!
-بس...
-ماتحكميش على الحاجة من غير ما تجربيها
ردت عليه بنبرة جافة:
-وليه أجرب حاجة مش مضمونة؟ أنا لو اختلفت مرة معاك هاتعاملني على إني مراتك ولاء، وجايز تتهور عليا زي ما شوفتك قبل كده، صدقني صعب تفصل بينا!
هتف مؤكدًا بقوة:
-مش هايحصل!
هزت رأسها معترضة وهي تقول بجمود قاسٍ:
-مش قادرة أصدقك، سامحني!
تأكد في تلك اللحظة من رفضها، لكنه لم يفقد الأمل بعد، فسألها يائسًا:
-هو انتي جربتيني؟
أجابته بجدية تامة دون أن ترمش بعينيها:
-مش حابة أجرب حاجة هاخسر فيها!
وخزة حادة ضربت بقلبه لمجرد تصريحها بأن ارتباطهما محكوم عليه بالفشل، فسألها بإحباط:
-انتي شايفة كده؟
صمتت مطولاً قبل أن تجيبه بإيجاز:
-ايوه! أنا أسفة!
انطفأ وميض عينيه، ولمعت حدقتيه إلى حد كبير تأثرًا بما قالته، بل الأحرى أن نقول أن الحزن قد خيم سريعًا على قسماته، ازدرد ريقه قائلاً بجمود زائف:
-طيب
أدركت أنها كانت قاسية معه إلى حد كبير، لكنها لم تستطع أن تخدعه، أو حتى أن تتلاعب بمشاعره وهي لا تشعر نحوه بأي شيء، سيشكرها لاحقًا لكونها كانت صادقة معه، لكن مُحال أن تكون كطليقته السابقة، ممن يتلاعبن بقلوب الرجــال.
بعد برهة وصل بها إلى المنطقة الشعبية، لم يتجرأ على قول المزيد، فقد لذة الحديث معها، فهو لن يجدي بأي حال، وخسر جولة أخيرة في اكتساب قلبها، وأثرت هي الصمت، فلا حاجة إلى إضافة ما لن يفيد.
أوقف السيارة عند مدخل بنايتها قائلاً بهدوء رغم حزنه:
-حمدلله على سلامتك
ردت عليه بابتسامة متكلفة:
-الله يسلمك
ترجلت سريعًا من السيارة سائرة بخطوات متمهلة مستخدمة عكازها الطبي لكن أوقفه صوته الصائح:
-شوية وهابعت حد يطلع الحاجات دي فوق!
استدارت ببطء نحوه قائلة باعتراض:
-مالهاش لازمة
رد بنبرة جافة متطلعًا نحوها بنظرات ذابلة:
-دي زيارة لأهل العروسة، مش لينا
ألمها أن تراه هكذا، شعرت بأنها جنت عليه بقسوتها الحادة، فبدت متوترة عن زي قبل، استشعر من نظراتها نحوه شيئًا غريبًا، ظن أنها ربما تحتاج للتحفيز الإيجابي لتفكر فيما قاله بجدية، فتمسك بذلك الإحساس، وترجل من السيارة، تفاجأت من نزوله، لكن أدهشها أكثر إصراره حينما قال برجاء:
-بسمة، أنا مش عاوزك تكوني مضايقة من اللي قولتله، بس ده حقيقي شعوري ناحيتك، حاولت كتير أخبي، بس مش عارف، أنا فعلاً بأحبك أوي، وعمري ما تخيلت نفسي أحب واحدة تاني بعد اللي حصلي!
زادت حمرة وجهها من اعترافه في الطريق العام أمام الجيران، خشيت أن يسمعها أي أحد من المارة، فتحرجت منه قائلة بتذمر:
-لو سمحت، أنا مش حابة الطريقة دي!
نظر لها مطولاً معمقًا نظراته نحوها وهو يتوسلها باستعطاف:
-يا ريت تفكري فيا يا بسمة، اديني فرصة!
ازدردت ريقها هامسة بحرج:
-عن اذنك!
تسمر في مكانه يتابعها وهي تختفي أمام ناظريه، أخرج تنهيدة حارة من صدره محدثًا نفسه بتبرم:
-شكلي بدل ما أكحلها عميتها!
توترت أنفاسها من إصراره على ملاحقتها باعترافه بحبه لها، تنفست الصعداء لوصولها إلى منزلها لتهرب من حصاره لها، شعرت بخيبة الأمل لأنها لم تستطع صرف تفكيره عنها، أخرجها من تفكيرها المزعوج صوت جارتها خضرة التي استوقفتها على الدرج مرددة:
-ازيك يا بسمة؟ كويس إني لامحتك يا بنتي
سحبت نفسًا عميقًا لتضبط به حالها متسائلة بتوتر طفيف:
-خير، في حاجة؟
ابتسمت لها قائلة بحماس:
-ايوه، الكتكوتة رنا عندي!
تعجبت من وجودها لديها، فسألتها باستغراب شديد:
-ليه؟ هي نيرمين فين؟
أجابتها ببساطة وهي تشير بيدها:
-راحت مشوار كده، وسابتها عندي، أنا قولت أعرفك لأحسن نازلة السوق و...
قاطعتها بسمة قائلة بجدية:
-كتر خيرك! هاتيهالي يا خالتي، أنا هاخد بالي منها، وتسلمي على تعبك معاها!
ردت بود معهود منها:
-تعب ايه بس، دي حاجة بسيطة!
انتظرتها عند عتبة الباب مترقبة حضورها بالرضيعة التي كانت غافية، تناولتها منها بحذر بذراعها، وانحنت برأسها لتقبلها، ثم أمالتها على كتفها وتشبثت فيها جيدًا.
تساءلت خضرة بفضول:
- أومال أمك فين؟
أجابتها بإرهاق قليل:
-مع أسيف بنت خالي في البلد، وراهم حاجات بيخلصوها هناك!
ردت خضرة قائلة:
-طيب بلغيها سلامي لحد ما أشوفها
-يوصل بأمر الله، عن اذنك!
قالتها وهي تواصل صعودها بتمهل حذر على الدرج حتى وصلت إلى باب منزلها.
لاحقًا عادت نيرمين من الخارج لتأخذ رضيعتها من جارتها، لكنها تفاجأت بوجودها مع أختها، اعتقدت أن الجميع قد عادوا من تلك الزيارة القصيرة، فأكملت صعودها بحماسة محاولة معرفة اخر المستجدات التي حدثت في غيابها، لكن زادت غرابتها حينما رأت بسمة بمفردها تطالعها بنظرات حادة، انتابها الفضول لمعرفة السبب، وقبل أن تفهم منها، سألتها بسمة بجدية:
-كنتي فين يا نيرمين؟ وسايبة بنتك ليه عند الجيران؟
ردت عليها أختها بتساؤل متلهف:
-قوليلي الأول انتو رجعتوا كلكم؟
دنت منها نافية:
-لأ، في حاجات جدت هناك، بس انتي مردتيش عليا! كنتي فين؟
تفرست أكثر في ملامح وجهها، فرأت تلك الزرقة التي تغطي عينها، وكدمة أخرى بارزة فيه، فسألتها متخوفة:
-الله! مال وشك؟
زفرت بعمق مظهرة تأففها، ثم ردت بامتعاض:
-اصبري وهاحكيلك
صف سيارته عند الناصية، ثم طالع وجهه في المرآة الأمامية قبل أن تقع عيناه صدفة على طيفها، امتعض وجهه بشدة، وزاد عبوسه، لم يتوقع أن يراها بعد أخر مرة طردها فيها، نفخ بغيظ متمتمًا مع نفسه:
-هو أنا كنت ناقصها!
ترجل من السيارة، فلمحته ولاء من على بعد، رسمت ابتسامة مشرقة على وجهها، هي جاءت اليوم متأنقة، متعمدة أن تفرض نفسها عليه، أن تعيد ما مضى بينهما، علها تستميل قلبه نحوها، وستلجأ إن ضاقت بها السبل إلى حيلتها الدائمة، مصلحة صغيرهما التي تتطلب التضحية من أجله.
اقتربت منه بخطوات متعجلة لتسد عليه الطريق، فتنحى جانبًا مظهرًا عن عمد اشمئزازه منها، نظر لها شزرًا وهو يسألها بفنفور:
-واقفة كده ليه؟
ردت عليه برقة مصطنعة:
-أنا مستنياك من بدري يا دياب!
رمقها بنظرات حادة متسائلاً بغلظة:
-عاوزة ايه؟
تنهدت في وجه قائلة بدلال:
-أشوف ابني! أنا جاية أستأذنك الأول، ومرضتش أطلع إلا لما انت توافق!
حدجها بنظرات نارية، ثم تراجع خطوة مبتعدًا عنها هاتفًا بازدراء:
-تقدري تكلمي أمي وهي هتخليكي تشوفيه!
اقتربت منه مجددًا لتقلص المسافات بينهما، ثم وضعت يدها على صدره تتلمسه بحذر، نظرت في عينيه قائلة بهمس رقيق:
-دياب، أنا عاوزاك تسامحني، حرام نعمل كده في ابننا!
وضع يده على كفها نازعًا إياه عنه، ثم أرخى أصابعه عنه مبديًا سخطه بشدة، ورد عليها قائلاً بتجهم:
-ابننا كويس من غيرك!
أزعجها تصرفه الغليظ معها، لكنها تحملت إهانته قائلة بعتاب:
-يعني يرضيك يتربى بالشكل ده؟ شوية هنا، وشوية هناك!
رد بصلابة غير متأثر بحركاتها المصطنعة:
-نصيبه كده
أشـــاح بوجهه بعيدًا عنها متجنبًا النظر إليها، فتحركت للجانب لتصير قبالته، وبحركة مباغتة مدت أناملها نحو ذقنه لتدير رأسه في اتجاهها متسائلة برقة:
-دياب، ايه رأيك لو ... لو رجعنا لبعض؟
ضرب أناملها بعنف ليبعدهم عنه هاتفًا باستنكار منفعل:
-شكلك شاربة حاجة على الصبح!
فغرت شفتيها مدهوشة:
-نعم، أنا؟
تابع هادرًا بشراسة مخيفة وقد استشاطت نظراته:
-أو مخك فوت، مين اللي يرجع للتاني؟
انكمشت على نفسها من طريقته المهددة، وأوضحت له مقصدها بحذر:
-دياب، أنا خلاص هاخلع مازن، وهأبقى حرة، يعني في قدامنا فرصة نرجع لبعض ونربي ابننا سوا!
رمقها بنظرات دونية أشعرتها بحقارتها، ثم هتف بصلابة:
-عندك! الأسطوانة المشروخة دي مابقتش تاكل معايا، حلي مشاكلك بعيد عني، وانسي انك عرفتيني أصلاً!
هربت الدماء من وجهها بعد تحطيمه لآمالها هاتفة بتوسل:
-ليه بس؟ اديني فرصة أصلح اللي فات!
هدر فيها بعصبية:
-وأنا نسفت اللي فات ده من مخي، إنتي مرحلة ونستها، وكفاية أوي إني سامحلك تقفي تكلميني كده!
شعرت بخفقة قوية تضرب قلبها من طريقته القاسية، هي ظنت ببساطة أنها مازالت تملك سحرها الأنثوي، فستجذبه بيسر إلى أحضانها، وتغافلت أنه لم يضمر لها سوى الكره والبغض، رمقها بنظرات مهينة متابعًا بتهديد عدائي:
-لولا إن بيني وبينك يحيى، كان زماني عملت حاجات كتير أقلها إني أدفنك حية!
شهقت مصدومة من تهديده لها:
-ايه؟ تدفني؟
رد عليها بازدراء قاسٍ:
-يدوبك! ده اللي يليق بواحدة رخيصة باعت نفسها للفلوس، وللي دفع فيها أكتر!
أشار بسبابته إلى هيئتها متعمدًا الحط من شأنها واحتقارها:
-بصي لمنظرك دلوقتي، موميا، بشعة، الواحد يقرف يبص لواحدة زيك!
دفعها من كتفه بقوة مضيفًا بانزعاج:
-اوعي من سكتي لأحسن نفسي جزَّعِت!
حدقت فيه مصدومة من قطعه كل حبال الوصــال بينهما، هو سد الطريق عليها تمامًا كي لا تكرر تلك المحاولة، أدركت في تلك اللحظة أنها بالفعل خسرت أخر أحلامها وأصبحت لا شيء .سردت لها بإيجاز تعرض حاتم لها بعد ذهابهم، وكيف اختطف الرضيعة من بين أحضانها، وإلحاقه للأذى بها، بالإضافة إلى تطاول والدته وأخته عليها، حذفت الحزء المتعلق باعتداء ناصر عليها، كي لا تشمت أختها فيها، وفضلت أن تضعه طي النسيان، فهو ليس بالأمر المحمود لتكرره،
انزعجت بسمة بشدة مما سمعته، لكن لا يقارن هذا بحالة الغضب العارمة التي سيطرت على أختها الكبرى فور علمها بعقد قران منذر، شهقت صارخة بعصبية ضاربة صدغيها بقوة:
-ايه؟ كتب كتاب؟ وازاي يوافق على كده؟!
ردت عليها بهدوء:
-الظروف حكمت!
وضعت يديها على رأسها مرددة باستنكار:
-مش ممكن! يعني... يعني خلاص هايتجوزوا؟
نظرت لها بسمة بتعجب، ثم وضعت يدها على خصرها قائلة بتأكيد:
-أكيد مافيش هزار في الموضوع ده!
كزت نيرمين على أسنانها بقوة مطلقة سبة لاذعة:
-بنت الـ.....، خلاص خدته ليها!
اغتاظت بسمة من إهانتها لها، فصاحت معنفة إياها بحدة:
-انتي من الأول عارفة إن مالكيش فرصة معاه، وعلقتي نفسك بحبال الهوا الدايبة!
أولتها نيرمين ظهرها صائحة بانفعال شديد ضاربة بيديها على فخذيها:
-سيبني لوحدي، مش عاوزة أسمع حاجة، خلاص هيتجوزوا، يادي النصيبة اللي حلت على نافوخي!
أرادت بسمة أن تثير فضولها أكثر علها تصرف انتباهها عن تلك اليتيمة التي تقاسي الأمرين بمفردها، فهي ليست بحاجة إلى اعتراضات أختها الساخطة، ولا نقمها الدائم، دنت منها هاتفة بغموض:
-طب خدي المفاجأة التانية!
ردت نيرمين بإحباط جلي وهي تلقي بثقل جسدها على أقرب أريكة:
-هو في أكتر من كده!
دنت منها بسمة لتحدق في عينيها بنظرات مريبة، ثم حركت رأسها للجانب قائلة بتسلية وهي تبتسم لها بعد أن كتفت ساعديها:
-أيوه، في
كانت كمن تلقت صفعة قوية في وجهها، وضربة موجعة في صدرها وذلك حينما أخبرتها أختها الصغرى باعتراف دياب بحبه لها، وكيف أنها صدته بجمود قاسٍ ورفضت بإصرار عرضه المغري للزواج، رمقتها بنظرات نارية مشتعلة انتوت فيها إحراقها حية، هبت واقفة من مكانها لتقبض على ذراعيها، ثم هزتها بعنف صارخة فيها بتوبيخ حاد:
-انتي مجنونة، وقولتيله لأ؟
نفضت بسمة يديها الممسكتين بها مبررة بضيق:
-ايوه عملت كده!
رمقتها بنظرات أكثر ضيقًا وهي تضيف مفسرة:
-ازاي اتجوز واحد مش حاسة ناحيته بحاجة؟
كورت نيرمين قبضتها، ولكزتها بحنق في كتفها متابعة تعنيفها:
-انتي غبية .. ده دياب أخو منذر! مش أي حد!!!
تأوهت من ضربتها، فوضعت يدها على كتفها لتفركه قليلاً مخففة من حدة الألم، ثم ردت بفتور متعمدة استفزازها:
-عادي يعني
خرجت نيرمين عن شعورها، فأمسكت بها من ذراعها مجددًا لتجذبها نحوها، وصرخت بها بعصبية:
-يا متخلفة، بقى واحدة زيك تجيلها فرصة زي ده وتقول لأ، إنتي فعلاً مجنونة، لأ وفقرية زي البومة التانية!
أغاظها هجومها الغير مبرر عليها، بالإضافة إلى تعاملها معها بخشونة غير مقبولة، فأزاحت يدها بعيدًا عنها هاتفة باحتجاج:
-ملكيش دعوة، أنا حرة
-لأ مش حرة، إنتي غبية وباصة تحت رجليكي ، حد يرفس النعمة برجله!
نظرت لها شزرًا قبل أن ترد عليها بندم واضح على محياها:
-أعوذو بالله منك، تصدقي أنا غلطانة إني بأقولك حاجة
رمقتها نيرمين بنظرات أكثر سخطًا وهي تقول:
-يا ريتك ما قولتي، ده انتي حرقتي دمي بزيادة!
كزت بسمة على أسنانها كاظمة غيظها في نفسها، فكرت للحظة في أن تستفزها، فهتفت بنزق مظهرة ابتسامة متشفية:
-طب جهزي بقى نفسك عشان الفرح، عاوزين نشرف العروسة!
احتقنت مقلتي نيرمين على الأخير، وهدرت بغل:
-أجهز نفسي، قولي ألبس اسود، دي جنازة مش جوازة!
في نفس الأثناء، وقفت زوجة الجزار أسفل البناية القاطنة بها بسمة وعائلتها رافعة رأسها للأعلى، ومحدقة في شرفة منزلهن الخاوية بأعين لا تنتوي خيرًا مطلقًا، ألقي القبض على زوجها، وتم الزج به في السجن بتهمة التحريض على القتل، وأصبح موقفه حرجًا بعد ظهور تلك الدلائل التي تشير إلى تورطه، حملت زوجته الذنب كله على عاتق تلك التي كانت تتربص به وتتشاجر معه، فهي الملامة الوحيدة فيما أصابه وحل به من خراب.
أخذت نفسًا عميقًا استخدمته في إخراج صوتها المنفعل صارخة بكل ما أوتيت من قوة لتجذب الأنظار إليها:
-تعالوا يا ناس، اسمعوا كلكم واعرفوا الأشكال الـ ...... عايشة وسطكم!
صفقت بكلتا يديها بقوة لتجذب الانتباه وتشد الأنظار نحوها، ثم تابعت بصوتها الهادر الحقود:
-اتفرجوا وشوفوا اللي عاملة نفسها البت الطاهرة الشريفة العفيفة، وهي مية من تحت تبن!
نجحت في مسعاها، وبدأ المارة في التجمع حولها لمعرفة تفاصيل تلك المعركة الكلامية القائمة، مررت سريعًا أنظارها عليهم، ثم عاودت رفع رأسها وهي تكمل صراخها اللاعن:
-منك لله يا بنت الـ.....، شغلتي جوزي في الرايحة والجاية لحد ما جاب أخره منك!
صدرت همهمات جانبية فضولية لمعرفة عمن تتحدث، وانكشف الغطاء عن هوية الشابة العابثة حينما صرحت علنًا:
-اطلعي يا بنت عواطف كلميني، اطلعي قصاد الناس دي كلها وانكري إنك كنتي شغلاه، إنتي السبب في اللي جراله، لعبتي عليه وبلفتيه تحت باطك عشان توقعيه، فعلاً ياما تحت السواهي دواهي!
انتبهت بسمة إلى تلك الصراخات المسيئة عمدًا إليها، فخرجت للشرفة متحفزة للاشتباك مع من تدعي عليها بالزور، فهدرت بصراخ متعصب:
-راجل مين ده اللي أبصله، بقى بتسمي جزار البهايم ده راجل، روحي ارمي بلاكي على حد تاني غيري، أنا أشرف منك ومن عيلتك كلها!
أشارت زوجة الجزار بذراعها مرددة بصياح هائج:
-المعدولة طلعت أهي، اتفرجوا يا ناس على البجحة عديمة الرباية!
زادت من حدة نبرتها ورمقتها بنظرات نارية مضيفة:
-ده ريحتك فاحت والحتة كلها لازمًا تعرف وساختك!
لم تتحمل المزيد من الاتهامات الباطلة، فصرخت فيها بسمة بنبرة مهددة:
-لمي لسانك بدل ما أنزلك، وأوديكي اللومان، ده أنا جزمتي برقبتك يا .......
قاطعتها زوجته غير مكترثة بها:
-انزليلي يا ......، خليني أفش غلي فيكي! يا بايرة يا معنسة!
ردت عليها بتحدٍ:
-والله لأوريكي!
أمسكت نيرمين بأختها وجذبتها عنوة بعيدًا عن حافة الشرفة هاتفة بسخط:
-خشي جوا يا بسمة، عاجبك الفضايح دي!
ردت عليها باحتجاج ناقم:
-فضايح ايه؟ ده أنا هافرج عليها التايهين، بقى واحدة جربوعة زي دي تكلم عني أنا كده!
لوت نيرمين ثغرها للجانب صائحة بازدراء:
-احنا اتجرسنا واللي كان كان!
وضعت يدها على رأسها ضاغطة عليها بقوة وهي تكمل بحسرة:
-زمانت الحتة كلها بتجيب في سيرتنا دلوقتي!
صاحت بها بسمة بنفاذ صبر وهي تلوح بيدها بانفعال:
-اللي عنده كلمة يقولها في وشي، غير كده قطع لسانهم كلهم لو اتكلموا عني بالباطل!
نظرت لها أختها شزرًا وهي تعاتبها بجفاء:
-يا ريتك يا فالحة كنت وافقتي على دياب قبل ما الكلام يطلع عليكي! هيبص في وشك إزاي؟
تفاجأت بسمة بما رددته، هي تفكر فقط في مسألة الزيجة المنتهية قبل أن تبدأ، وتعنفها لكونها أفسدت فرصتها رغم أنها نبذت الفكرة قبل أن تستمر، احتقنت دماؤها، واستشاطت نظراتها، ثم هدرت بغضب مستنكر:
-انتي بتقولي ايه؟
حدجتها نيرمين بنظرات تحمل الاحتقار قائلة:
-بعد اللي حصل ده مافيش راجل هايفكر يقربلك! وهاتعنسي يا فالحة، افرحي بنفسك!
اغتاظت أكثر من طريقتها التهكمية، فردت بتشنج:
-هو انتي مفكرة إني مستنية دياب يجيبلي حقي، أنا أقدر.....
قاطعتها نيرمين مشيرة بيدها:
-معدتش ليه لازمة الكلام، هي خلصت خلاص!
نظرت بسمة لأختها بأسف، هي دومًا تنظر للأمور من نطاق محدود، فهزت رأسها مستنكرة تصرفاتها الجامدة، رمقتها مجددًا بنظرات أخيرة محبطة وهي تقول:
-انتي معمركيش هاتحسي بحد أبدًا!
سرد على والدته باختصار مقابلته الخاطفة مع طليقته السابقة، وكي صدها بوقاحة فظة ليسد عليها الطريق تمامًا، أعجبت بتصرفة العقلاني وعدم تجاوزه معه قائلة بارتياح كبير:
-أحسن إنك مشيتها، بلاش خوتة دماغ
رد دياب قائلاً بضجر:
-جاية تصيع عليا!
زم فمه للأمام مضيفًا بحنق واضح:
-اياكش تولع بجاز هي وأمها، ربنا ياخدوهم خلينا نرتاح!
ربتت جليلة على كتفه مرددة بحذر:
-متفكرش فيها!
تنهد مطولاً ولم يضف المزيد، وألقى بثقل جسده على أقرب أريكة محدقًا أمامه بنظرات شاردة، راقبته أمه باهتمام، وبالطبع دفعها الفضول لتعرف ما الذي صار بالبلدة الريفية بالضبط، ضاقت نظراتها متسائلة بمكر:
-ها قولي حصل ايه بالظبط هناك؟
رد على تساؤلاتها بإجابات مقتضبة، فشعرت أن هناك خطب ما به، فسألته بإلحاح أكبر وحاصرته حتى اضطر أن يقص عليها ما حدث مؤخرًا مع بسمة.
نظرت له بإشفاق متمتمة:
-ما انت اللي غشيم، حد يقولها كده
فرك مقدمة رأسه قائلاً بتبرم:
-كنت هاعمل ايه بس، الكلام طار من مخي و...
قاطعته جليلة هاتفة بتفاؤل:
-خلاص أنا هاحاول اكلمها وأشوف دماغها!
نظر لها بفتور مرددًا بيأس:
-مافيش داعي
أصرت على مفاتحتها مجددًا بطريقتها الخاصة قائلة:
-أنا ليا لي سكتي معاها، وبعدين هي هتلاقي أحسن منك فين؟
رد ساخرًا:
-هاتقولك في كتير، بس النِفس!
ضحكت من إضحاكه لها،واقتربت منه لتنحني على رأسه مقبلة إياه بحنو أمومي، ثم رددت مداعبة:
-الله يحظك يا حبيبي!
تنهد قائلاً باستسلام:
-يالا، اللي حصل حصل!
أحاطت جليلة ابنها من كتفيه مؤكدة بثقة:
-اطمن يا دياب، إن شاء الله خير
-يا رب، دعواتك يا أمي!
اقتحم الصغير جلستهما الخاصة ليجلس في حجر أبيه متسائلاً ببراءة:
-انت ناوي تتجوز مس بسمة يا بابا؟
نظر له دياب بغرابة وهو مقطب الجبين، ثم عبث بخصلاته القصيرة متسائلاً باهتمام:
-انت عرفت منين؟
أجابه الصغير يحيى مبتسمًا:
-صوتكم عالي!
ضمه إلى صدره، وقبله بشغف، ثم أخرج تنهيدة عميقة من صدره هاتفًا:
-لو ربنا سهل!
تحمس الصغير مرددًا بمرح:
-يا ريت يا بابي، عشان تحل الواجب بتاعي كله لوحدها!
ضحك من براءته مداعبًا:
-بتدور على مصلحتك زي أبوك، ناصح!
هتفت جليلة قائلة بجدية:
-تعالى يا يحيى هنا خلي أبوك يرتاح شوية
عبس الصغير بوجهه معترضًا:
-بس مش لحقت أشوفه!
رد عليه دياب بهدوء وهو يقبله من وجنته:
-إن شاء الله يا حبيبي هانقعد كلنا سوا، هاخلص بس اللي ورايا وجايلك!
ابتسم يحيى هامسًا:
-ماشي يا بابي!
بادل والده قبلات كثيرة بعد أن ضمه، ثم نزل عن حجره ليعود إلى غرفته، ظل دياب جالسًا بمفرده شاردًا يفكر في رفضها له، كسا الحزن تعابيره، وبدا بائسًا إلى حد كبير بعد استعادته لتلك الأحداث في عقله، نظرت له والدته من بعيد بإشفاق، لم يتحمل قلبها رؤيته هكذا، وعقدت العزم على تيسير السبل من أجل ابنها كي تحقق مراده.
دفعها تلهفها وشوقها إلى الاقتراب من ذلك المكان الذي اعتادت الجلوس فيه مع والديها الراحلين، رغم تخوفها من تأثير ذلك على نفسها إلا أنها فضلت ألا تضيع الفرصة هباءً، وتستعيد ما مضى علها تروي اشتياقها إليهما، حدقت في الشجرة التي كان يستظل بها أبيها بنظرات مطولة، ثم أخرجت من صدرها تنهيدة عميقة، التفتت برأسها نحو عمتها الواقفة على مقربة منها قائلة بابتسامة باهتة:
-بابا كان متعود يقضي اليوم كله تحت الشجرة دي!
زادت ابتسامتها تدريجيًا وهي تضيف:
-وكنت أنا وماما بنستناه لما يخلص عشان نروح ناكل معاه!
أصغت عمتها لها دون مقاطعة مستمتعة بتلك الذكريات التي لم تعرف عنها شيئًا، واستشعرت من طريقة حديثها عن عائلتها أنها عاشت ذكريات سعيدة وطيبة، طالعتها بنظرات ودية حينما هتفت بحماس:
-ماما مكانتش حابة تتحرك إلا معاه، وبالا كان بيحبها أوي!
انضم إليهما منذر، وحرص على عدم إزعاج أسيف حتى تستمر في استرسالها دون خجل، نظرت له عواطف بترحيب، فأشار لها بسبابته كي لا تنطق، فامتثلت لأمره الصامت، وفضلت أن تنسحب لتترك لهما مساحة من الحرية للتقارب سويًا، رمقها بنظرات ممتنة على موقفها المتفاهم، وثبت أنظاره على حبيبته التي لم تشعر بوجوده خلفها.
أكملت أسيف قائلة بتنهيدة متأثرة:
-أد ايه كان عظيم معها، عمره ماتكسف منها، بالعكس كان بيفتخر إنها مراته، وإن أنا بنته!
جمد أعينه عليها متابعًا باهتمام ما تبوح به، فهي فرصة طيبة ليعرف عنها أكثر، سحبت نفسًا عميقًا لتضبط به انفعالاتها المتأثرة خاصة بعد أن لمعت عيناها بقوة، بدت نبرتها مهتزة وهي تقول:
-ياما لعبت هنا، أحلى ذكرياتي كانت معاهم، بس.. خالي فتحي ربنا يسامحه استكتر ده عليا!
أزعجه بشدة ذكر ذلك المقيت الذي سبب لها الأذية، وحفر في عقلها ذكريات أليمة، بصعوبة واضحة عليه سيطر على أعصابه، وفضل ألا يصدر صوتًا، أخرجت من صدرها تنهيدة أكثر حزنًا وهي تقول:
-كان نفسي يكونوا معايا أوي، عارفة يا عمتي، ماما كانت بتفكر تشتريلي فستان فرح، بس بصراحة أنا مكونتش عاوزة كده، كنت حابة ألبس فستانها!
اختنق صوتها نوعًا ما وهي تقول:
-حتى الأمنية دي كمان اتحرمت منها!
استدارت فجأة للجانب لتحدق في وجهها، فصدمت من رؤيته، شهقت بتوتر، ورمشت بعينيها بحرج كبير، وبلا تردد سألته بارتباك:
-انت.. انت هنا من امتى؟
ابتسم لها بعذوبة قائلاً بتريث:
-من بدري!
توترت بشكل ملفت للأنظار من حضوره المباغت، وزاد احمرار وجهها حتى بات ككتلة ملتهبة من الحرج، همست بتلعثم:
-أنا.. هاروح أشوفه إن كانوا... محتاجين مساعدة
تحرك منذر سريعًا ليعترض طريقها قائلاً بلطف:
-ممكن نتكلم شوية!
تسمرت في مكانها مجبرة، وأخفضت نظراتها قائلة بخجل:
-أستاذ منذر!
ابتسم لها قائلاً برجاء ودود:
-ينفع نشيل التكليف بينا
أسبلت عيناها نحوه متحرجة أكثر منه، فتابع موضحًا محاولاً إقناعها بوجهة نظره بطريقة عقلانية:
-يعني كوضع مؤقت! الناس هنا هايقولوا ازاي هايتجوزوا ولسه بينادوا بعض بالألقاب؟ شكلها غريب!
هزت رأسها بتفهم، وأخفضت نظراتها لتحدق في أي شيء إلا هو، زفر مطولاً رافعًا رأسه للأعلى، ودس يديه في جيبي بنطاله، أردف قائلاً بهدوء:
-المكان هنا حلو!
حدقت أمامها قائلة باقتضاب:
-ايوه!
-تعرفي أنا شكلي هاحسدك إنك اتربيتي في مكان زي ده!
اكتفت بالابتسام دون أن تعلق عليه، وظلت مثبتة أنظارها في الخضرة الممتدة على مرمى البصر، التفت ناحيتها ممتعًا عينيه بقربها الساحر، شعرت بأنظاره عليها رغم عدم استدارتها، فحافظت على ثباتها كي لا يزيد حرجها، بدا عقلها في صراع كبير محاولاً الوصول إلى طريقة مثلى في التعبير عن امتنانها له لمساعدتها إياها دون تأخير، شعرت بصعوبة الأمر رغم بساطته، عضت على شفتها السفلى كاتمة توترها، فابتسم لعفويتها.
تجرأت للحظة قائلة بخفوت رغم اهتزاز نبرتها:
-أنا.. كنت حابة أشكرك على كل حاجة عملتها عشاني!
اهتم بما تقوله مبتسمًا، فلأول مرة تظهر له تقديرها لمواقفه، فركت أصابع كفيها معًا وهي تكمل بارتباك أكبر:
-أنا عارفة إني ضايقتك كتير، وساعات كنت يعني متسرعة معاك، وانت.. استحملت مني حاجات محدش يقبلها على نفسه!
أخرج يده من جيبه، ووضعها على رأسه ليمررها بثبات خلال خصلاته قائلاً بهدوء:
-ولا يهمك!
أغمضت عينيها متمتمة بخفوت مضطرب:
-وفي كل مرة كنت بأقع فيها في مشكلة، كنت .. بتقف معايا حتى لو في بينا خلافات!
طالع تعابير وجهها بنظرات متيمة، ورد عليها هامسًا بصدق:
-اللي بيحب حد بيحبه زي ما هو كده!
فتحت عينيها مستديرة نحوه بخجل كبير، فعمق منذر نظراته أكثر نحوها لتصبح هي محاصرة بين وميض عينيه المتقدتين شوقًا لتذوق حبها الدافئ، أحست بنظراته تخترقها، تصيبها مباشرة في قلبها، تزيد من نبضاته، وتؤكد لها وجود شيء ما في كيانها، توترت بشدة من حضوره القوي، فتنهد مضيفًا بنبرة عاشقة صادرة من فؤاد ذاق لوعة الحب:
-وأنا حبيتك كده
تعليقات



<>