رواية الدكان الفصل الثالث والسبعون73 بقلم منال محمد سالم

رواية الدكان 
الفصل الثالث والسبعون73 
بقلم منال محمد سالم
جلست منزوية في أحد الأركان بمنزلها محدقة بنظرات خاوية في تلك الورقة التي لم يعد لها أي قيمة، اعتقدت أنها ملكت الدنيا باستحواذها على مبلغ كهذا، لكن تحولت أحلامها إلى سرابٍ حينما اكتشفت الخدعة، كان "الشيك" بدون رصيد، خدعها بسذاجة ليضمن عدم تقدمها بأي شكوى ضد أخيه، وانطليت عليها الأكذوبة بسهولة، هربت من عينيها عبرات خائنة، فمسحتها سريعًا قبل أن تراها ابنتها وتكتشف الأمر.

دنت منها ولاء متفرسة في تعبيراتها الحزينة، ومتأملة بفضول حالتها الشاردة، وقفت أمامها لبرهة منتظرة أن تشعر بوجودها، لكنها كانت كمن في عالم آخر، فصاحت باستغراب:
-ماما! مالك في ايه؟
انتبهت شادية لوجودها، فاضطربت بدرجة ملحوظة، وازدردت ريقها بتوتر وهي تطوي الورقة لتدسها في جيبها دون أن تنتبه لها ابنتها، سريعًا عمدت إلى إخفاء حزنها، وقوست فمها لتظهر ابتسامة باهتة وهي ترد:
-مافيش يا بنتي
لم تقتنع الأخيرة بما قالته، فسألتها بفضول:
-شكلك مش طبيعي، هو في حاجة حصلت؟
أسندت رأسها على مرفقها قائلة بتبرم:
-لأ، بس يحيى واحشني وكده!
جلست ولاء إلى جوارها مخرجة تنهيدة عميقة من صدرها وهي تضيف:
-أنا هاحاول أرتب مع جليلة ميعاد نشوفه فيه!
انعقد ما بين حاجبيها باستغراب من جملتها الأخيرة، واستدارت برأسها نحوها لتنظر في عينيها قائلة بجدية:
-احنا مش معانا الحضانة، يعني من حقنا ....
قاطعتها ولاء بحدة:
-ماما، أنا مش عاوزة مشاكل تاني مع دياب، خليني أحاول أرجع المياه لمجاريها معاه!
توقفت لتسحب نفسًا أخرًا وهي ترجع رأسها للخلف متابعة بيأس:
-ولو إن ده صعب يحصل دلوقتي!
بدت جملتها مريبة لوالدتها فسألتها مهتمة:
-هو انتي كلمتيه تاني؟
ردت باقتضاب غامض:
-يعني!
انتصبت أكثر في جلستها، وسألتها بتلهف علها تروي فضولها الثائر:
-وعرف إنك هاتخلعي مازن؟
-اه
سألتها باهتمام أكبر:
-ها ورأيه ايه؟
أغمضت ولاء عينيها حسرة، ابتلعت غصة عالقة في حلقها لترد بمرارة:
-ولا فرق معاه!
لامتها شادية على تهورها قائلة بانزعاج:
-انتي اتسرعتي، كنتي اصبري مع مازن شوية و....
ملت من طريقتها التي تستثير أعصابها، فهبت واقفة من مكانها، والتفت برأسها ناحيتها لتصيح مقاطعة بانفعال:
-ماما! كفاية تحكمات في حياتي، أنا خدت القرار وانتهيت!
زفرت بعدها بصوت مسموع قبل أن تسرع في خطواتها وتتركها بمفردها، تابعتها شادية بأعين منكسرة وهي تختفي من أنظارها متمتمة بتحسر كبير:
-مش انتي بس اللي انتهيتي!
لوهلة شعرت بانفصـــال تام عما يحيط بها، وكأن العالم قد بات خاليًا إلا من كليهما، حدقت فيه بأعين لامعة، وأحست بتلك الدقات العنيفة التي حمست قلبها وزاته نشاطًا وعنفوانًا، هو صرح بعشقه لها دون سابق إنذار، بلا زيف أو تجميل، أحبها كما هي، استشعرت تلك السخونة الشديدة التي انبعثت من وجهها، فخمنت أنه صار كثمرة البنادورة من فرط الخجل.
ابتسم منذر لحيائها، وأسبل عينيه نحوها متأملاً خجلها المحبب إليه، واصل حديثه المسترسل قائلاً بتريث جاذب للأسماع:
-عارفة لما الواحد يحس فجأة إنه قلب دق كده من غير ميعاد!
أخفضت نظراتها مطرقة رأسها بحرج أكبر عاجزة عن الرد عليه رغم استمتاعها بما يقول، شعرت بدفء كلماته، بصدق إحساسه حينما قال:
-وده اللي حصل معاكي!
تنهد بعمق، ثم وضع يده على قلبه مضيفًا باشتياق ومشيرًا إليه:
-نفسي تحسي بده أوي!
رفعت أنظارها لتحدق في كفه الموضوع على صدره، زاد ارتباكها الخجل منه، ولم تعترض أبدًا على ما يبوح به، أو حتى على ما يفعله، وكأنها مخدرة تحت تأثير سحره الآسر للعقول قبل الأفئدة، كان على وشك إضافة المزيد لكن قاطع خلوتها الحاج إسماعيل الذي هتف بصياح مرتفع:
-أستاذ منذر، كويس إني لاقيتك هنا!
استدارت أسيف برأسها نحوه متحرجة باضطراب ملحوظ على تعابيرها من رؤيتها لها معه حتى وإن كان الأمر مقبولاً له، سارع منذر بالرد عليه ليجذب انتباهه إليه:
-اتفضل يا حاج إسماعيل، لسه كنا بنتكلم عن كرمك مع المرحوم رياض!
هز الأخير رأسه متأسفًا وهو يرد:
-ربنا يغفرله، كان راجل طيب فعلاً
أمن منذر على جملته قائلاً:
-يارب!
كورت أسيف قبضتها بقوة ضاغطة على أناملها المتوترة، وأشارت بالأخرى هامسة بصوت شبه متحشرج:
-أنا رايحة أشوف عمتي إن كانت محتاجة حاجة!
رد عليها الحاج إسماعيل مرددًا:
-وماله يا بنتي، واطمني الحريم كلهم مجهزينلك كل اللي يلزمك!
هتف منذر قائلاً بجدية:
-كتر خيرك يا حاج إسماعيل، هي مش هتحتاج حاجة، أنا متكفل بكل طلباتها
أصر عليه بشدة:
-دي عوايدنا يا ابني!
لم يجد بدًا من المجادلة معه، فمثل تلك الأمور تعد من الأعراف السائدة لديهم، وتجاهلها يعد نوعًا من الإهانة، أضــاف الحاج إسماعيل باهتمام:
-أنا رتبتلك ميعاد مع المأمور، أعدة ودية كده تاخد وتدي معاه في الحوار، بعد صلاة العشا في دوار العمدة على اعتبار إنك هاتعزمه على كتب الكتاب!
ابتسم منذر قائلاً:
-حلو أوي!
حدق الحاج إسماعيل أمامه متابعًا بعزم وهو يشير بيده موضحًا:
-احنا إن شاء الله هانعمل الصوان قصاد المضيفة عندي، في حتة فاضية و...
قاطعه منذر قائلاً بصرامة:
-سامحني إن كنت هاقاطعك، بس أنا عاوز منك خدمة
-أؤمرني
-الأمر لله وحده!
زفر منذر بعمق، ثم دس يديه في جيبي بنطاله ليحدق مباشرة في عينيه، تابع بثبات مشيرًا بحاجبه:
-أنا كنت حابب ننصب الصوان في أرض المرحوم رياض، عند الشجرة اللي كان بيقعد عندها!
اجتهد لينهي الكثير من الأعمال العالقة بالوكالة قبل أن يسافر مع عائلته للترتيب لحفل عقد القران، وقف على مقربة من مكتبه اثنان من عمالته مترددين في إخباره بما حدث من مشادات كلامية بين زوجة الجزار وابنة عواطف، فقد تابع كلاهما ما حدث، ولكنهما لم يتدخلا لأنها انتهت بتجاهل الأخيرة لها مما اضطر الزوجة في النهاية للانصراف،
عقد العزم أحدهما على إبلاغه، فتحرك بخطى ثابته نحوه هاتفًا بحذر:
-ريس دياب!
لم يلتفت نحوه، وسأله باقتضاب وهو يعيد ترتيب الأوراق على مكتبه:
-خير؟
حك العامل مؤخرة رأسه مجيبًا إياه بتردد:
-في حاجة حصلت كده، وكنت عاوز أعرفك بيها
نفذ صبر دياب من مماطلته، فصاح به بعصبية طفيفة:
-قول على طول أنا مش فايقلك!
-احم.. بنت الست عواطف!
انتبهت حواسه كليًا فور سماعه لتلك الجملة، وتوقف عما يفعل ليستدير نحوه متسائلاً بتوجس:
-مين؟
ابتلع العامل ريقه قائلاً بتخوف:
-الأستاذة!
ارتفع حاجبي دياب للأعلى، واتسعت حدقتيه بخوف كبير، وبلا وعي اقترب منه ليصيح فيه بشراسة:
-مالها؟ في حاجة حصلتلها؟ قول!
زادت سرعة حركة بؤبؤيه وهو يجيبه بتلعثم:
-أصل ..مرات الجزار جت و.. وكانت.....
لكزه دياب بعنف في كتفه هادرًا بنفاذ صبر:
-انطق بسرعة، في ايه؟
سرد له على عجالة ما حدث بينهما، فاستشاط الأخير غضبًا من تلك الإساءات الجارحة في شخصها، والتشهير بها علنًا على مسمع ومرأى من الجيران، برزت عروقه بدمائه الفائرة، واحتدت نظراته على الأخير، توجس العامل خيفة من تهوره، فأضاف بقلق:
-بس اطمن يا ريس، الأستاذة طنشتها و.....
صرخ به مقاطعًا:
-وأنا مش هاعدي اللي حصل ده على خير!
اندفع كالثور الهائج خارج الوكالة منحيًا العامل بقوة للجانب، فتوجس الأخير أن يتصرف رب عمله بطيش كعهده في مثل تلك الأمور.
ذرعت غرفتها ذهابًا وإيابًا بخطوات متعرجة وبانفعال ظاهر عليها بعد نجاح أختها في منعها من الخروج من المنزل للاشتباك مع تلك اللعينة التي تفوهت عنها بالأكاذيب، ضربت بقبضتها المتكورة ضلفة خزانة ثيابها عدة مرات لتفرغ شحنتها المكتومة بداخلها محدقة أمامها بأعينها المشتعلة، كزت على أسنانها محدثة نفسها بغضب:
-بقى واحدة زي دي تبهدلني كده!
لم تشعر بنيرمين وهي تقتحم عليها الغرفة هاتفة بحماس والذي يتنافى كليًا مع حالة النقم المسيطرة عليها قبل برهة:
-بت يا بسمة، اجهزي بسرعة
نظرت لها بعينيها الحمراوتين صائحة بغضب:
-في ايه؟
-دياب برا
-بتقولي مين
-عاوز يكلمك، ومستني في الصالون
-وده اللي جابوه
-هو ده وقت أسئلة، البسي بسرعة خلينا نعرف جاي ليه!
احترقت أعصابه لمجرد سماعه بالأمر، فماذا إن كان قد شهده بنفسه؟ نعم لأقام الدنيا وأقعدها حتى يأتي بحقها، بذل مجهودًا مضنيًا لضبط انفعالاته حتى يتمكن من الحديث إليها بنبرة عقلانية، ثبت أنظاره على باب الغرفة مترقبًا ولوجها بين لحظة وأخرى، طال انتظاره حتى أوشك على الانفجار، لكنها ظهرت في اللحظة الأخيرة.
نظرت له بسمة بضيق متسائلة بجمود:
-خير يا أستاذ دياب؟
حدق فيها متفرسًا إياها بنظرة شمولية وهو يسألها بتلهف:
-انتي كويسة؟ الـ...... دي عملتلك حاجة؟
انزعجت من سبابه النابي قائلة بتحذير:
-بلاش الكلام ده!
رد عليها معللاً:
-معلش أنا مش مستحمل وجايب جاز من اللي سمعته، بس قسمًا بالله لـ....
قاطعته قائلة بصرامة وهي تخطو نحو أقرب أريكة:
-خلاص الموضوع انتهى، وأي حد هيفتح بؤه بكلمة أنا قادرة أقطع لسانه وأخرسه
سلط أنظاره عليها متابعًا عدم اكتراثها بحالته النفسية التي تستعر حتى بلغت أشدها أمامها، وهدر بعصبية بائنة ملوحًا بذراعه:
-بسمة، أنا دمي بيتحرق من أي حاجة تمسك، مش بأقدر أمسك نفسي، و......
ألقت بجسدها على الأريكة محدقة فيه بجمود، ثم قاطعته بجفاء:
-احنا مش قفلنا على الموضوع ده!
راقبتهما نيرمين من الخارج مسترقة السمع لحديثهما، لم تكن بحاجة لتفسير ما يقولان، فأصوات الاثنين كفيلة بإسماع المنطقة بأكملها، تابع دياب هاتفًا بإصرار:
-أنا لسه عند طلبي ومغيرتش رأيي
ردت معترضة بعناد أكبر:
-وأنا سبق ورفضت عرضك!
صرت نيرمين على أسنانها هاتفة بحنق بائن:
-يخربيتك، هاتضيعيه من ايدك، بلاش العند يركبك السعادي!
رد دياب متحديًا رفضها الصارم:
-وأنا مش هيأس!
أغمضت عينيها مبدية إرهاقها وهي تقول بفظاظة
-هاستأذنك أنا تعبانة وعاوزة أرتاح!
أغاظه أسلوبها المستفز وتعمدها إظهار جفائها نحوه، بل حز في قلبه أنها تعامله هكذا بقسوة، فدنا منها متعمدًا حصارها في مكانها وإرباكها، تفاجأت باقترابه الشديد منها، ففغرت شفتيها مصدومة منه، انحنى بجذعه للأمام قليلاً مسندًا كفية على مقبضي الأريكة ليضمن بقائها تحت سيطرته، حدقت فيه باندهاش مرعوب، وازدردت ريقها بتوتر رهيب، رمقها بنظرات قوية تحمل العزيمة والإصرار وهو يقول مؤكدًا بثبات:
-وماله، بس أنا هافضل حاطط عيني عليكي!
شعرت باحتباس أنفاسها، باضطراب شديد يجتاحها، بجفاف حلقها خلال تلك اللحظات الثقيلة، كانت الأسعد إليه، والأكثر توترًا بالنسبة لها، لوى ثغره مبتسمًا للجانب ليزيد من تأكيد نيته نحوها قبل أن يرخي ساعديه ويعتدل في وقفته، رمقها بنظرة أخيرة قبل أن يتركها في تخبطها وينصرف..
أوصلته نيرمين للخـــارج شاكرة إياه على زيارته العاجلة، ثم عادت إليها لتحدجها بأعين مغلولة، ثم هدرت توبخها بعنف:
-اتهبلتي، ومخك لسع، الراجل جاي لحد هنا يتقدملك تاني، وتطرديه، أكيد بوز الإخص بهتت عليكي، إنتي مكونتيش كده!
صاحت بها بسمة بعصبية:
-ابعدي عني، أنا مش طايقة حد!
تابعت قائلة بغيظ:
-ده السند والحماية، افهمي بقى!
اختنق صوتها للحظة حينما تذكرت وضعها الاجتماعي الحالي، فهتفت بمرارة:
-ولا عاوزة حالك يبقى زيي، مطلقة ومحدش راضي بيكي! لأ ومعاكي عيلة!
سدت بسمة أذنيها رافضة الإنصات لها، وصرخت فيها باهتياج واضح:
-يووه، نيرمين، بلاش الكلام ده! أنا مش عاوزة كده! مش دي أحلامي، مش ده اللي أنا عاوزاه
ضربتها نيرمين في كتفها بقوة متمتمة بسخط:
-اتأمري يا خايبة براحتك لحد ما النعمة تزول من وشك!
احتقنت نظراتها نحوها لأنها تحاول التلاعب بأفكارها وتوجهيها نحو أمر بعينه، وهي رافضة لذلك المبدأ من الأساس، أن تكون مجرد زوجة لأحدهم دون مشاعر مسبقة نحوه، كما أن تجربة أختها الفاشلة في الزواج دومًا تلوح في الأفق، تذكرها بعواقب التسرع وسوء الاختيار دون تأنٍ أو تعقل.
ضاقت أعبن نيرمين نحوها، وتابعت مرددة بامتعاض ناقم على كل شيء:
-ياريت حظي كان ربع حظك، مكونتش ضيعت الفرص دي من ايدي
رتب له لقاءً مدبرًا مع مأمور المخفر في منزل العمدة ليتمكن من الحديث معه بأريحية دون أي رسميات ليعرف ملابسات حرق منزلها، بات كل ما يخصها شاغله حتى وإن كان تافهًا من وجهة نظر أحدهم، بدا الحوار بينهما حذرًا مرتبًا، لكنه استشف منه الكثير، أهمها أن الحادث مدبر ويقف وراءه مجهول ما رغم أنه لا توجد استفادة صريحة من تدميره.
تحولت شكوكه نحوه هو تحديدًا -القريب ذو القلب المتحجر- بات شبه متأكد من كونه المتسبب به، وبحكم خبرته من كم المعارك التي اشتبك بها، رجح كفة الانتقام ورد الاعتبار عن طريق إشعاله، لكنه لم يصفح عما بداخله ريثما تصبح ظنونه حقيقة.
صافحه المأمور قائلاً بود:
-فرصة سعيدة إني شوفتك أستاذ منذر
رد عليه بثبات جاد:
-الشرف ليا يا باشا!
أضــاف المأمور قائلاً بهدوء:
-أتمنى اللقاء ده يتكرر تاني
رد عليه مبتسمًا:
-أكيد، لو جيت البلد لازم أشوف حضرتك!
بادله نفس الابتسامة مرددًا باختصار:
-باذن الله!
التفت ناحية مضيفه الشيخ الوقور هاتفًا:
- ماشي يا عمدة، متشكر على كرمك معايا
رد العمدة قائلاً بترحاب:
-نورتنا يا سيادة المأمور!
أضاف المأمور قائلاً:
-أشوفك على خير يا حاج إسماعيل!
عقد الأخير ما بين حاجبيه مرددًا:
-ما لسه بدري يا باشا
لوح بيده مبررًا:
-يدوبك، انت عارف المركز والمشاكل اللي بتحصل بين الأهالي على حاجات ماتذكرش!
رد عليه متفهمًا:
-الله يكون في العون
ثم اصطحبه إلى الخارج شاكرًا إياه مجددًا على زيارته الأليفة، ترقب منذر عودته ليفاتحه من جديد في ذلك الأمر الذي طرحه عليه قبل وقت سابق،
سأله بجدية:
-ها يا حاج إسماعيل عملت ايه في اللي قولتلك عليه؟
سحب الأخير نفسًا مطولاً ثم لفظه دفعة واحدة قبل أن يجيبه بامتعاض:
-المشكلة إن الأرض اتباعت للحاج فتحي وهو ...
قاطعه منذر بإصرار صارم:
-طب سبني أتكلم أنا معاه
هز الحاج إسماعيل رأسه معترضًا:
-بس أفتكر إنه مش هيوافق
التوى ثغره للجانب مرددًا بثقة تامة:
-لأ هيوافق! اسمعها مني!
تعجب من تلك الثقة البادية عليه وكأنه قد ضمن الحصول على موافقته رغم يقينه من حدوث العكس، ومع ذلك وافق على ترتيب موعد معه.
بتأفف ظاهر عليه، اضطر أن يقابله بعد تدخل رفيقه كوسيط بينهما، لكنه لم يخفِ تبرمه من تلك الزيارة الغير مرحب بها أبدًا، وجلس أمامه عابس الوجه مكفهر الملامح، بدا منذر غير مكترث بما يظهره نحوه من مشاعر بغض، فالمهم بالنسبة له أن يحقق لها رغباتها، تابع قائلاً بثبات متعمدًا إثارة شكوكه:
-مش هانلف على بعض كتير، أنا عارف إنك انت اللي وراها!
احتدت نظرات فتحي فبرز الشر منهما وهو يعنفه صائحًا:
-حاسب على كلامك!
رد عليه منذر بقسوة مخيفة وقد تجمدت أنظاره المهددة عليه:
-ده مش كلامي، ولو أنا حكيت عن المضاربات بينا، هاخلي الليلة كلها تدور حواليك، ومش بعيد تلاقي الكلابشات منورة في ايدك!
توتر من تأثير كلماته الغامضة، وفهم ما يرمي إليه، فسأله بنفاذ صبر:
-عاوز ايه؟ اخلص
اعتدل منذر في جلسته، وعمق نظراته المخيفة نحوه قائلاً بحسم:
-أرض المرحوم رياض!
احتج فتحي قائلاً بحدة:
-دي حقي، أنا دافع فيها دم قلبي و...
قاطعه منذر بتهكم:
-وخدتها بلوي الدراع! مش هاتضحك عليا!
وقبل أن يضيف المزيد تابع قائلاً بثبات صارم:
-وأنا راجل حقاني، هاديك اللي دفعته فيها وزيادة!
أصر على رفضه صائحًا بانفعال:
-لأ، مش هايحصل، مش هافرط في شبر واحد من الأرض دي، حتى لو فيها رقبتي!
هب منذر واقفًا من مكانه، ورمقه بنظرات قاسية قبل أن يرد بتوعد:
-عظيم، يا ريت تثبت على كده، لأن أنا مش هاسيب حق مراتي!
وقف فتحي هو الأخر محدقًا فيه بنظراته المشتعلة متسائلاً بتوجس:
-ده تهديد؟!
دنا منه حتى بات قبالته، ثم أجابه بغموض مهلك:
-اعتبره زي ما تحب، بس بنت المرحوم رياض خط أحمر، وأنا هافضل أنخور ورا اللي يخصها لحد ما أوصل للي يريحني ويريحها!
ازدرد فتحي ريقه بتخوف واضح، أخذ يفكر في المسألة من الناحية العقلانية، فرفضه العنيد ربما يؤدي إلى هلاكه، وبعد لحظات من التفكير المتأني اضطر مجبرًا أن يوافق على عرضه، وأبرم معه اتفاقًا رسميًا لبيع الأرض له.بدا ليلها طويلاً رغم انقضاء معظمه، لكن عقلها لم يهدأ من كثرة التفكير، لم تكن مزعوجة من ذلك، بل على العكس كانت مبتسمة، متحمسة، متقدة الحواس، ظلت تستعيد في ذاكرتها حديثه الرزين المصحوب بخياله، كلماته التي داعبت أوتار قلبها بقوة لتعزف عليه معزوفة خاصة بها، تقلبت على فراشها بحذر كي لا توقظ عمتها لتحدق أمامها بشرود، بدت ابتسامتها أكثر وضوحًا وهي تسترجع اعترافه بحبه لها، "أحبها كما هي" تلك الجملة التي ظل صداها يتردد في أذنيها وكأنها لحن مميز يمتعها، تنهدت بعمق مرددة لنفسها بخجل:
-مش لوحدك!
سحبت أسيف الغطاء على وجهها لتخفيه بابتسامتها المشرقة التي أضاءت صفحته، كتمت بصعوبة ضحكة عابثة تمردت عليها وخرجت من جوفها، كانت عمتها مستشعرة حالتها المتحمسة، هي لم تكن نائمة كما كانت تبدو أمامها، فشعرت بتقلباتها، بأرقها، وأدركت أنها تعيش في حلم جميل، دعت في نفسها لها قائلة:
-ربنا يفرح قلبك يا بنتي، ويكملك على خير!
-مش عاوزة أكون تجربة تانية في حياة حد!
قالتها بسمة لنفسها وهي تدفن وجهها في الوسادة بعد أن أنهكها كثرة التفكير في تلك المسألة، هي تخشى من الفشل الذريع، من تكرار تجربة الانفصال مثلما حدث مع أختها، أن تحصل على لقب مطلقة، وتصبح كالعار في نظر الجميع، ورغم ذلك هي لا تكره دياب، لكنها تنبذ أن توضع رغمًا عنها في مقارنة مع زوجته السابقة خاصة إن تكررت المواقف وتشابهت الظروف.
نهضت بتثاقل من فراشها بعد أن عادت إلى غرفتها لتهرب من حصار أختها المزعج، وأخذت تجوب فيها ذهابًا وإيابًا، تنهدت بإرهــاق، وحاولت أن تلهي عقلها بالتفكير في أمور حفل الزواج المتعلقة بابنة خالها، فهي ستتكفل بتجهيز ماهو مطلوب لتصبح عروسًا جميلة تليق برجل كمنذر.
ولجت نيرمين إلى الغرفة دون أن تطرق الباب متسائلة بتأفف:
-لسه راكبة دماغك ولا عقلتي؟!
التفتت بسمة ناحيتها لترمقها بنظرات حادة وهي تقول:
-هو انتي مانمتيش؟
ردت عليها بسخط بارز على تعابيرها ونبرتها:
-هانام ازاي وأنا هاموت من عمايلك!
لوحت بسمة بذراعيها أمام وجهها صائحة بنفاذ صبر:
-يا شيخة ارحمي نفسك وارحميني، تعبت من كل اللي بتعمليه
-ماهو أنا صعبان عليا تضيعي الراجل من ايدك!
-مايصعبش عليكي غالي
-اسمعي بس انتي لو ناصحة هـ.....
قاطعتها قائلة بحدة:
-أقولك على حاجة، أنا هنام، فصلت شحن، تصبحي على خير!
نظرت لها شزرًا وهي ترد بجمود:
-بكرة تيجي تسترجيني أقولك على نصايحي!
-خليهالك! اقفلي الباب عاوز أنام!
-ماشي ياختي، نامي وسيبني أنا أولع!
انسحبت نيرمين من الغرفة متابعة لنفسها بازدراء حقود:
-واحدة حظها نار ومش ملاحقة على الهنا اللي هاتبقى فيه، والتانية فقرية وبترفس النعمة
انقضت عدة أيــــام انشغل الجميع فيها بالترتيب لحفل عقد القران بالبلدة الريفية، كذلك وصل أفراد عائلة الحاج طه وحلوا كضيوف كرام لدى الحاج إسماعيل الذي أصر على استقبالهم والقيام معهم بمتطلبات واجب الضيافة على أكمل وجه، كما انتهى منذر من كافة الإجراءات القانونية الخاصة بنقل ملكية الأرضية من فتحي الذي كانت نيران حقده تآكله حيًّا لأنه خسرها ببساطة.
تحول المنزل إلى خلية نحل الجميع مشغول فيه بتجهيز العروس، فاليوم هو ليلة حنتها التي تسبق عقد قرانها، رفضت في البداية إقامتها، لكنها رضخت لإلحاح عمتها وابنتها وإصرار جليلة واللاتي تعللن جميعًا بكونها مناسبة طيبة لإدخال البهجة والسرور على العائلتين، كتعويض عن تلك الفترة العصيبة التي مروا بها جميعًا؛ كلٌ على حسب ظروفه الخاصة، وعلى عكسهم تمامًا كانت نيرمين تتابع ما يقمن به بأعين مغلولة وقلب حقود متمنية في نفسها أن يفسد فرحتهم أي شيء، فمن ستتزوجه هو الذي خفق قلبها له، من ملأ فراغ حياتها واستحوذ على تفكيرها، لم تستطع إخفاء نقمها، وبات واضحًا عليها انزعاجها، حتى نظراتها كانت تشير إلى حنقها، فعمدت أسيف إلى تجاهلها متجنبة التشاجر معها.
تجولت بسمة في البلدة بصحبة جليلة لتشتري بعض النواقص، فاستغلت الأخيرة الفرصة للحديث معها عما يخص ابنها، ولكن على طريقتها، استهلت حديثها قائلة بود:
-عقبال ما نتعبلك كده يا بسمة
ردت عليها مبتسمة بلطف:
-شكرًا يا خالتي!
أضافت قائلة بحماس:
-والله انتي بنت حلال وتستاهلي كل خير!
ثم ربتت على كتفها متابعة بنبرة ذات مغزى:
-وقريب أوي نصيبك هايجيلك لحد عندك
فهمت مقصدها سريعًا، وردت بحذر كي لا تحرجها متعمدة:
-احم.. أنا مش مستعجلة، ومركزة في شغلي!
أصرت على إيصال ما تريد قائلة:
-كل بنت مسيرها للجواز، ولا ايه رأيك؟
رفعت بسمة حاجبها للأعلى مستنكرة طريقتها المكشوفة، رسمت على ثغرها ابتسامة مصطنعة وهي ترد بجدية:
-ايوه، ده لما تكون أعدة في البيت فاضية لا شغلة ولا مشغلة، لكن اللي زيي وراهم حاجات كتير، كمان المدرسة واخدة كل وقتي! فمعنديش وفت للجواز!
زادت من ابتسامتها وهي تقول:
-سامحني يا خالتي ممكن نغير الموضوع ونركز في الحاجات اللي ناقصة!
هزت جليلة رأسها باستياء، وهمست لنفسها بيأس:
-دماغك ناشفة أوي!
استغل وجوده بصحبة ابنه وأخته الصغرى ليرتب مقلب ما عله يتقرب إليها، هو متأكد من حبها للأطفال وتعلقهم بها، وأمر كهذا –وإن كان مصطنعًا- ربما يعطي فرصة للتفاهم بينهما خاصة أنها كانت تتحاشى التواجد معه أو حتى على مقربة منه، أكد دياب على صغيره ضرورة الالتزام بما طلبه منه لكي تنجح خطته، وبالفعل حينما لمحها تقترب اختفى عن الأنظار ليسرع يحيى بالركض نحوها صائحًا:
-مس بسمة، مس بسمة!
انتبهت إليه وسألته بابتسامة ودودة:
-أيوه يا حبيبي؟
احتضنها من خصرها قائلاً ببراءة وهو عابس الوجه:
-بابا عاوز يضربني!
قطبت جبينها متعجبة من جملته، وردت باهتمام:
-ليه؟ أكيد ضايقته في حاجة!
هز رأسه نافيًا وهو يطالعها بنظراته الحنونة قائلاً ببساطة:
-لأ، أنا كنت بألعب مع عمتي أروى و...
لم يكمل جملته مضطرًا حينما هدر والده بانفعال زائف:
-تعالى هنا يا يحيى!
رفعت بسمة أنظارها لتحدق في دياب الذي كان متجهم الوجه ويقف على بعد خطوات منها، تمسك الصغير أكثر بها بذراعيه، ورد معترضًا:
-لأ مش جاي!
صاح به دياب بعصبية وهو يشير له بيده:
-قولتلك تعالى، مش لازم أشخط فيك عشان تسمع الكلام!
انزعجت بسمة من طريقته الحادة خاصة أن الصغير يحيى كان يزداد تشبثًا بها، فردت قائلة بعبوس:
-بالراحة يا أستاذ دياب!
هتف الصغير بحزن واضح على ثغره:
-يا مس بسمة خليه يمشي!
رد عليه دياب بصوت غليظ:
-يا واد ده أنا أبوك، المفروض تسمع كلامي مش هي!
ابتسم يحيى قائلاً:
-أنا بأحبها!
ثم أخرج لسانه متعمدًا إغاظته وهو يضيف:
-إنت لأ!
حضرت أروى هي الأخرى لتكمل الجزء المتبقي من الخطة، وركضت في اتجاه بسمة لتحتضنها من الجهة الأخرى قائلة بمرح:
-وأنا كمان بأحب المِس!
مسحت بسمة على رأسها برفق وهي ترد:
-حبيبتي يا أروى!
وزع دياب أنظاره بينهم قائلاً بغيظ:
-ده تكتل بقى!
هتف يحيى قائلاً بمرح أكبر:
-بأحبك يا مس بسمة!
وأضافت أروى:
-وأنا كمان!
زاد الاثنان من احتضانها، فلفت ذراعيها حولهما وهي تبتسم بإشراق، جاء دوره ليكمل باقي التمثيلية المصطنعة، فاقترب بخطوات ثابتة منها صائحًا بتجهم أكبر:
-تعالى يا وله هنا!
أخفضت بسمة نظراتها لتحدق في وجه يحيى قائلة برقة طفيفة:
-خلاص سيبه معايا شوية!
اعترض عليها قائلاً بجدية:
-لأ، أنا عاوزه دلوقتي!
رفعت وجهها لتنظر إليه فوجدته يقف قبالتها محدقًا فيها بنظرات قوية، بادلته نظرات متحدية وهي تضيف بحذر:
-مش هايحصل حاجة لما يفضل شوية معايا، بطريقتك دي هايخاف وهيعاند!
مد دياب ذراعه نحو ابنه مدعيًا الإمساك به، فلجأ الصغير إلى الابتعاد عنه مجبرًا بسمة على الالتفاف معه ليتعذر عليه الوصول إليه.
هتف دياب قائلاً بجدية:
-حسبي شوية كده يا أبلة!
شعرت بالحرج لحصارها بين الصغيرين ودياب، فباتت كالمقيدة بأذراع الجميع، وجاهدت للتملص منهم قائلة:
-خلاص بقى، خليه شوية
أصر دياب على بلوغه هاتفًا:
-لأ مش هاسيبه
رد عليه يحيى بعبث:
-وأنا مش جاي
بدأت بسمة تدور حول نفسها بسبب حركة الصغيرين يحيى وأروى، وتعالت ضحكاتهما الطفولية المرحة وهما يتقاتلان بمزاح مع دياب ليمنعاه من الاقتراب منهما، أصابها دوار طفيف، فهتفت بتوجس:
-كفاية أنا هاقع!
زاد عبثهما المرح حتى كادت تتعثر في حركتها، فصاحت بتوسل:
-بالراحة شوية! أنا...
وقبل أن تكمل جملتها فقدت اتزانها بسبب جذبهما لها بقوة فلم تستطع السيطرة على حركتها، ووقعت معهما على الأرضية ليسرع هو في مساعدتها هاتفًا بعتاب:
-حاسبوا!
مد يده ليعاونها على النهوض، فاضطرت مجبرة أن تمسك بكفه الممدود نحوها، أسند مرفقها بيده الأخرى لتتمكن من الوقوف على قدميها، شعرت بألم قليل في قدمها، فعنفهما بضيق:
-كده بهدلتوا الأبلة!
حدقت في عينيه المتطلعتين إليها بنظرات حانقة نوعًا ما، بدت غير مقتنعة بكل ما يدور، أحست بوجود أمر مريب في المسألة خاصة حينما رأت تلك الابتسامة العابثة تلوح على ثغره، وقبل أن تجد الجواب لشكها، حُصرت من جديد من الصغيرين اللذين تعمدا ضمها مع دياب بأذرعيهما لتصبح هي أسيرة أحضانه مجبرة
تعليقات



<>