رواية الدكان الفصل الرابع والسبعون74 بقلم منال محمد سالم

رواية الدكان 
الفصل الرابع والسبعون74 
بقلم منال محمد سالم
شهقت مصدومة من اندفاعها المباغت نحوه، واستندت بكفيها على صدره محدقة فيه بنظرات مشدوهة ممزوجة بالخجل، تحول لون بشرتها إلى حمرة صريحة، بادلها نظرة شغوفة متلهفة لاقترابها الساحر، نجحت خطته، وباتت معه حتى وإن كان الأمر مفتعلاً لكنه حاز على مراده في الأخير، عمق نظراته المتقدة حبًا نحوها، استشعرت بأصابعها دقات قلبه العنيفة، فأحست بتأثيرها عليه، وبارتباك يسيطر عليها من تغلغل ذلك الشعور فيها، لم يتحرك من مكانه، وبقى كالصنم مسلطًا فقط أعينه عليها، وبحذر واضح انسلت مبتعدة عنه مبدية انزعاجها من تصرفات الصغيرين الطفولية التي وضعتها في موقف محرج كهذا.

أرخى الاثنان أذرعيهما عنها لتحرر منهم، تراجعت مبتعدة للخلف قائلة بتلعثم:
-أنا.. أسفة، مقصدش!
أخفضت عينيها بحرج أكبر شاعرة بتلك السخونة المربكة المنبعثة من وجهها، لم ترغب في حدوث ذلك، ولكنه القدر.
رد عليها دياب بهدوء واضعًا يده على مؤخرة رأسه:
-ولا يهمك، حصل خير!
انسحبت من أمامه دون إضافة المزيد مسرعة في خطواتها رغم عرجها الملحوظ، وبقيت أنظاره متعلقة بها حتى اختفت من أمامه، فأخر تنهيدة ملتهبة من صدره الملتاع بحبها، استدار للخلف ليحدق في الصغيرين بنظرات ممتنة، ثم فتح ذراعيه لهما ليندفعا في أحضانه، ضمهما قائلاً:
-حبايب قلبي!
سأله يحيى ببراءة:
-أنا شاطر يا بابي؟
أجابه وهو يقبله من وجنته:
-انت أستاذ زي أبوك!
رغم انتهاء الموقف إلا أن وجنتيها احتفظتا بتلك الحمرة البائنة حتى شعرت أن أمرها سيفضح بمجرد تطلع أحد ما لوجهها وتفرس في تعابيره المرتبكة، استغرقها الأمر بعد الوقت لتتلاشى تدريجيًا منها وتعود بشرتها إلى طبيعتها العادية، انزوت في أحد الأركان بالغرفة المعدة للاحتفال بليلة الحناء محدقة فيمن حولها بنظرات شاردة.
تراجعت لتقف بالشرفة الخارجية مستنشقة نسمات الهواء العليلة، ومستعيدة في ذاكرتها لمحات خاطفة من ذلك الموقف المخجل، أطرقت رأسها حرجًا، وشبكت أصابعها معًا تفركهم بارتباك.
لامت نفسها عشرات المرات لأنها لم تتخذ حذرها، فأعطته فرص ثمينة للتقارب الحسي بينهما، جمدت أنظارها على يديها متذكرة تلك الدقات العنيفة لقلبه، أغمضت عينيها بقوة نافضة عن عقلها تسلله إليها، وكأنه يتعمد اختراقها بمشاهده التي لا تفارق مخيلتها.
ولجت أسيف إلى الشرفة بعد أن لاحظت اختفائها، فتعجبت من سكونها المريب، دققت النظر أكثر في هيئتها المزعوجة، ودنت منها متسائلة باهتمام:
-مالك يا بسمة؟ في حاجة حصلت؟
انتبهت لوجودها، فاعتدلت في وقفتها، وابتسمت لها بتوتر وهي تجيبها:
-لأ، عادي!
ردت عليها بعدم اقتناع معللة:
-أصل شكلك متاخد كده و...
قاطعتها بجدية زائفة:
-تلاقيني بس تعبانة من المجهود الكتير فباين على وشي!
وضعت أسيف يدها على كتفها تفركه برفق، ثم ابتسمت لها قائلة بود:
-طب ارتاحي شوية
اعترضت عليها مرددة:
-لا مش عاوزة، أنا مبسوطة معاكي!
رمشت أسيف بعينيها متابعة بامتنان حقيقي:
-بجد أنا مش عارفة أقولك ايه، أنا ربنا مارزقنيش باخوات، بس فعلاً انتي بالنسبالي أكتر من أختي!
-على ايه يا بنتي؟ هو أنا عملت حاجة
-مش لازم تعملي حاجة، كفاية إنك قربتي مني و...
قاطعتها قائلة بجدية:
-بطلي عبط! احنا قرايب قبل ما نكون اخوات!
زاد لمعان عينيها متأثرة بما قالته، وردت عليها بود:
-ربنا يقدرني وأقفلك يوم فرحك وأتعبلك!
لم تتمالك بسمة نفسها، فضمتها إليها لتحتضنها بحب واضح، ثم أرجعت ظهرها للخلفة مضيفة بجدية تحمل التحذير:
-أسيف! أنا بس مش عاوزاكي تكوني مجبورة على الجواز عشان اللي حصل!
نظرت لها الأخيرة باستغراب قليل، فأكملت بجدية أكبر:
-بصي كل حاجة جت بسرعة، وجايز تكوني اضطريتي تعملي حاجات...
قاطعتها أسيف قبل أن تكمل عبارتها هامسة بابتسامة خجلة:
-لأ يا بسمة، اطمني!
سألتها باهتمام وقد بدا على تعبيراتها الاندهاش:
-يعني انتي موافقة على ...
أومــأت برأسها هامسة:
-ايوه
فغرت بسمة شفتيها مصدومة وهي تسألها:
-بتهزري؟!
ردت أسيف بهدوء:
-لأ، أنا فعلاً بأعمل ده وأنا مقتنعة!
احتضنتها بسمة مجددًا وهي تقول:
-ربنا يقدملك اللي فيه الخير، ويبعد عنكم أي شر!
راقبتهما من على بعد متعجبة من تلك الألفة الزائدة بينهما، فأثر ذلك الأمر فضولها، فاقتربت منهما وهي تحدجهما بنظرات حقودة متسائلة بامتعاض:
-مالكم أخدين جمب كده ليه؟
نظرت لها بسمة بانزعاج، فهي تعلم أن قدومها دومًا يحمل المصائب، لذا ردت باقتضاب غامض:
-عادي يا نيرمين!
سلطت أنظارها على أسيف لتظهر لها تأففها منها وهي تضيف بعبوس:
-ولا بتقولوا سر، شكلها كده!
لم تعلق عليها، واكتفت بإشاحة وجهها للجانب متجنبة نظراتها المقيتة، لكن لم تتركها الأخيرة بمفردها، فاستأنفت قائلة بازدراء:
-جايز المحروسة بتقولك على خبراتها في توقيع الرجالة، اتعلمي منها، يمكن دماغك الحجر تلين و.....
صدمت أسيف من كلماتها الفجة في الإساءة إليها، واستدارت نحوها لترمقها بنظرات أكثر كراهية، وقبل أن ترد عليها صرخت بها بسمة مستنكرة وقاحتها اللا محدودة:
-نيرمين!
ردت أسيف هي الأخرى بقوة:
-اتكلمي عدل عني!
نظرت باحتقار لها مقوسة ثغرها للجانب وهي تضيف بسخط:
-هو أنا قولت حاجة غلط، ما أديكي جبتي سيد الناس راكع على رجله لحد عندك! مش دي الحقيقة؟!
لم تطق تلك الافتراءات الباطلة عليها، فصرخت فيها بعصبية رافضة ما تتهمها به:
-أنا مش كده!
لوحت نيرمين بيدها قائلة ببرود مستفز:
-مش لازم ترسمي الوش ده عليا، أنا مش بيخيل عليا الألاعيب دي، وياما شوفت!
استشاطت نظرات أسيف على الأخير، وكادت تنفجر غيظًا منها، لكن أسرعت بسمة بالتدخل لتمتص غضبها مضيفة بازدراء:
-تعالي يا أسيف، سيبك منها، هي كده وكلامها يفور الدم!
ثم جذبتها من ذراعها بعيدًا عنها متمتمة بكلمات خافتة محاولة تهدئتها، فنظرت للاثنتين بحقد، وصاحت ساخرة:
-اتلم المتعوس على خايب الرجا!
أسرعت بسمة بإبعادها عن الشرفة ناظرة لها برجاء لطيف، فردت أسيف بهمس مزعوج:
-بني آدمة مستفزة والله
-هي مستحملة نفسها بالعافية!
-ربنا يهديها ويبعدها عني
-يا رب أمين!
ظلت أنظارها مثبتة عليهما رغم ولوجهما للداخل، وأخذت تلعنهما بكلمات مسيئة، استدارت نحو الشرفة لتنظر بشرود إلى المكان، لكن جذب أنظارها وجوده المهيب بالأسفل، تجمدت عيناها عليه، وطالعته بنظرات مطولة متنهدة بحرارة، فكرت في استغلال الفرصة والحديث إليه مرة أخيرة معلنة عن حبها له، ربما يجعله يعيد حساباته من جديد نحوها.
أسرعت في خطواتها لتلحق به قبل أن يبتعد، كانت الظروف مهيئة تمامًا لكي تنفرد بالحديث معه دون أن يراهما أي شخص، فالأغلب مشغول بليلة الحناء، جذبت عباءتها للأسفل متأكدة من تناسقها على جسدها، وضبطت هيئتها، ثم همست راسمة ابتسامة عريضة على ثغرها:
-سي منذر!
التفت برأسه للخلف لينظر إلى تلك التي تناديه، فامتعضت تعابيره حينما رأى نيرمين تدنو منه مرددًا بضيق:
-استغفر الله العظيم!
فرك رأسه بانزعاج واضح عليه، وجاهد قدر الإمكان ألا يبدو فظًا معها، لكنها أخرجته عن هدوئه الحذر حينما سألته بعتاب:
-انت بردك هتتجوزها؟
نظر لها شزرًا وهو يرد مؤكدًا:
-اه، ريحي دماغك!
وكأن كلماته كالحمم الملتهبة التي تزيد من عذاب قلبها، فسألته بحدة وهي تعمق نظراتها المتيمة إليه:
-طب فيها ايه زيادة عن باقي البنات عشان تختارها هي؟
حدجها منذر بنظرات قاسية وهو يرد بجمود:
-مايخصكيش!
تحركت خطوة نحوه لتقلص المسافات بينهما متسائلة بغيظ:
-اشمعنى هي؟
تراجع مستنكرًا اقترابها وهو يرد بانفعال طفيف:
-الله! انتي مالك!!
رمقته بنظرات معاتبة، بدت أنفاسها مضطربة وهي تتطلع إلى وجهه بأعين غريبة، أرسلت له إشارات موحية تلومه، تحمله الذنب وكأنه ارتكب جرمًا في حقها، تعجب من طريقتها الغير مريحة معه، ومن نظراتها التي لا تحمل أي حياء أو حرج، وأظهر نفورًا واضحًا مما تفعله.
هتفت فجأة بنزق أصابه بالصدمة:
-سي منذر..أنا... بأحبك!
صاح مستنكرًا:
-نعم ياختي؟
أكدت على عبارتها وهي توميء برأسها قائلة:
-أيوه بأحبك!
وضعت يدها على صدرها متابعة بحرقة:
-وقلبي بيتقطع مليون مرة لما بأشوفك مع واحدة غيري!
تحولت نبرتها للشراسة وتعابيرها للقسوة وهي تكمل بحقد بائن:
-وخصوصًا هي!
قست نظراته اكثر نحوها، وتشنجت قسمات وجهه مما سمعه منها، لم يصدق أذنيه، هو دومًا يصدها، بل على العكس لم يتودد إليها، ولم يعطها أي بارقة أمل من أجل أي شيء، لذلك انفعل بها باهتياج قائلاً:
-انتي اتجننتي، شيلي التخاريف دي من عقلك!
رمقها بنظرات مزدرية مضيفًا:
-أنا عمري مابصيتلك، ولا هبصلك أصلاً!
هوت كلماته كالسياط على قلبها لتجلده أكثر، لم يمهلها الفرصة لإظهار حزنها أو حتى للبكاء، فتابع بقسوة أشد مشيرًا بيده:
-وقبل كده قولتلك إننا أخوات، يا ريت تفهمي ده كويس عشان تهدي!
اضطربت أنفاسها من قوة عباراته، وترقرقت العبرات في مقلتيها، تراجع خطوة للخلف مكملاً بقوة:
-ولعلمك أنا مش بأحب إلا أسيف وبس!
وضعت نيرمين يدها على فمها كاتمة شهقاتها، فأضاف بسخط:
-سمعتي! احفظي اسمها كويس أسيف رياض خورشيد، يا بنت الحاجة عواطف!
أجهشت بالبكاء أمامه، لكنه لم يتأثر بها، بل زاد حدة وشراسة وهو يقول مهددًا بسبابته:
-وبأحذرك لو في نيتك تضايقيها، صدقيني أنا اللي هاقفلك وهازعلك! وزعلي وحش أوي!
زاد نحيبها أمامه لكنه لم يهتز أو يتأثر بها، بل نفر أكثر منها، وتجاهلها منصرفًا من أمامها لاعنًا ما فكرت فيه نحوه ورافضًا تصديق وقاحتها الزائدة، تعلقت أنظارها به رغم ابتعاده، انتهى حلمها الوردي بصورة بشعة، وبات الأمر حقيقة واضحة للعيان، لا مكان لها في حياته، ردت هامسة بصوتها المختنق:
-يا كسرة قلبك يا نيرمين!
هتف منذر بين جنبات نفسه بضيق كبير وهو يسرع في خطواته تاركًا المكان برمته:
-معدتش إلا دي!
سيطرت عليه العصبية بصورة واضحة، فعجزت عن إخفاء ذلك أمام أخيه الذي سأله بفضول:
-في ايه يا منذر؟ حد ضايقك؟!
رد بصوت شبه محتد:
-لأ!
حاول أن يسبر أغواره ليعرف ما ألم به، فأردف قائلاً
-طب...
قاطعه منذر بصرامة:
-متسألش كتير!
هز رأسه متفهمًا عدم رغبته في الحديث، وأكمل بحذر:
-ماشي، الحاج اسماعيل عامل أعدة للرجالة عند العمدة، والكل بيسأل عليك!
رد باقتضاب:
-أنا جاي معاك!
-تمام!
فرك منذر وجهه بغل، مازال الأمر يثير أعصابه رغم إنهائه، لكن مجرد توهمها أمرًا كهذا أصابه بالتقزز، أكمل سيره المزعوج محدثًا نفسه باستنكار:
-ولية تفور الدم
بكت بقهر في مكانها بعد أن لفظ حبها بقسوة رافضًا السماح لمشاعرها بالتحرر معه، نعم هي أحبته ولا تعرف كيف حدث هذا، لكنها عشقت رجولته وشهامته وشجاعته وخوفه على أحبته من أقل شيء يمكن أن يؤذيهم، تلك السمات التي افتقدتها في شريك حياتها الأسبق الذي كان على النقيض تمامًا، فأتاحت الفرصة لشخصه للتسلل إلى قلبها والاستحواذ عليه كليًا.
كفكفت نيرمين عبراتها مستسلمة للحقيقة المريرة، فهو لن يقبل حبها أبدًا بل لن يشعر بما تكنه له، ندمت على تسرعها في اعترافها، لكنها كانت محاولة أخيرة بائسة ظنت أنها ستفلح معه، وأتت النتائج عكس توقعاتها، جرجرت أذيال خيبتها عائدة من حيث جاءت ناقمة على من حولها لكونهم سعداء وهي وحدها تعاني في صمت.
رأتها والدتها على تلك الحالة الباهتة، فاقتربت منها متسائلة بتوجس:
-في ايه يا بنتي؟ شكلك مش مريحني!
أجابتها بفتور:
-مافيش حاجة
أضافت بهدوء وهي تربت على ظهرها:
-طب تعالي شوفي بنتك، بتعيط و...
قاطعتها قائلة باستياء:
-أنا جايلها، ماهو معدليش إلا هي!
استغربت عواطف من طريقتها المحبطة، وأثرت عدم إجبارها على الحديث كي لا تنفجر فيها كعادتها حينما تحاول فهم ما يدور في رأسها، اختارت أبعد مقعد خشبي لتجلس عليه، لكن نظراتها المحتقنة لم تفارق وجهها الضحوك متمنية بسوء تلاشي ابتسامتها ليحل الحزن عليه.
مالت إحدى السيدات الجالسات على مقربة من نيرمين على أخرى تتهامس بكلمات مبهمة عنها، وظلت أنظارهما تتوزع عليها وعلى رضيعتها التي كانت تهدهدها على كتفها، بدا الاهتمام واضحًا على الاثنتين وكأنهما قد عقدا العزم على شيء ما يخصها.
نهض الحاج إسماعيل من مكانه حينما رأى منذر مقبلاً عليه وبصحبته أخيه ليرحب بهما، استقبلهما العمدة بألفة معهودة منه، فقد قرر أن يحتفي بالزوج المستقبلي لابنة بلدتهم بإقامة حفل إنشاد ديني متواضع حضره أغلب رجال القرية لتقديم التهنئات والمباركات، لم يتوقع ذلك الترحاب الودود ولا تلك الليلة الجميلة، لكنها أظهرت له محبة الجميع لعائلة رياض ماعدا قريبهم الحقود الذي كان متجهم الوجه قاسي التعبيرات.
جلس منذر إلى جوار والده الذي ربت بقوة على فخذه كنوع من الترحيب به، استمتع بالأجواء الطيبة حتى حان موعد تناول الطعام، فتفاجأ بكم الأطباق الشهية التي تم تجهيزها خصيصًا لتلك المناسبة، فهتف قائلاً:
-ماشاء الله! لازمته ايه التعب ده كله، كفاية اللي عملتوه وزيادة!
رد عليه الحاج إسماعيل مبتسمًا:
-هو احنا عملنا حاجة؟ ده احنا مكسوفين منكم والله!
أضاف العمدة مؤكدًا بابتسامة عريضة:
-قوله يا حاج إسماعيل، ده مش من قيمتهم، لولا إن الموضوع جه بسرعة كنا .......
قاطعه طه مبديًا امتنانه:
-كتر خيركم، يدوم يا رب العز والخير، ويجعله عامر!
رد عليه العمدة مبتسمًا:
-يا رب
ثم التفت برأسه للجانب صائحًا بحماس:
-قول للحريم الصواني بسرعة للرجالة يا زكريا!
-أوامرك يا عمدة!
أفـــاق من غيبوبته المؤقتة شاعرًا بتلك الآلام الموجعة تجتاح جسده بالكامل، بدت الرؤية مزعجة بالنسبة له، فاضطر أن يغمض جفنيه لأكثر من مرة ويفتحهما حتى يعتاد على الإضاءة القوية، حرك رأسه للجانب ليجد ابنه الأصغر محدقًا فيه بتلهف، فتنفس بعمق، ثم زفره ببطء قبل أن يستطرد حديثه هامسًا بصوت متحشرج:
-مـازن!
دنا منه سريعًا ممسكًا بكفه وهو يرد بتلهف:
-أنا أهوو يا أبا
حدق أباه في وجهه متسائلاً بصوت شبه متقطع:
-حصل.. ايه؟
ابتلع الأخير ريقه مجيبًا إياه بحذر:
-انت تعبت شوية يا حاج واتنقلت على المستشفى!
سأله مهدي بنبرة ذات مغزى وكأنه قد استشعر ما ألم بابنه البكري:
-و.. أخوك.. مجد؟!
ضغط على شفتيه هاتفًا بامتعاض مزعوج:
-أخويا!
صمت لبرهة مترددًا في إجابته، أيخبره بما أصابه فتسوء حالته أكثر، أم يكذب عليه ويخفي الأمر مؤقتًا؟ انزعج والده من صمته الذي طال فسأله متوجسًا:
-ساكت ليه؟ هو جراله حاجة؟
فرك طرف ذقنه بيده قائلاً بتلعثم طفيف:
-أصل.. البوليس متحفظ عليه لحد ما يقدر يقوم!
لم يكن مهدي بحاجة إلى أي تفسيرات لنهاية ابنه المتوقعة بعد ما ارتكبه من أفعال هوجاء ألحقت الأذى بغيره، فرد بنبرة أسفة:
-أخوك ركب دماغه وضيع نفسه، وأنا ياما حذرته!
سعل سعال حرج كاد يقطع أنفاسه قهرًا عليه، فخشي مازن عليه من تدهور صحته فتوسله راجيًا:
-متفكرش في حاجة دلوقتي يا أبا، المهم سلامتك عندي!
أغمض مهدي عينيه بحزن كبير وهو يرد:
-كل حاجة راحت، الصحة، والمال والعيال! لله الأمر من قبل وبعد!
هتف مازن بجدية:
-إن شاء الله كل حاجة هترجع زي الأول وأحسن
أشاح بوجهه للجانب متابعًا بيأس:
-فوضت أمري لله! إنت السميع العليم!
شعر بحالة الحزن الشديدة المسيطرة عليه بعد فقده لكل شيء، فاعتصر قلبه آلمًا عليه، وحاول أن يهون الأمر قائلاً:
-اطمن يا أبا، أنا معاك!
التفت مهدي ناحيته محذرًا بصوت واهن:
-متضيعش نفسك إنت التاني
رد عليه مؤكدًا وهو ينحني على رأسه ليقبله:
-حاضر يا حاج، ارتاح انت بس!
انهالت المجاملات النقدية على العروس التي جلست في منتصف الأريكة كنوع من التهنئة بعقد قرانها فبدت متحرجة للغاية مما يقدم لها حتى وإن كان زهيدًا، لكنه العرف المتبع في تلك المناسبات السارة، جاهدت قدر الإمكان أن تحفظ في ذاكرتها اسم كل من قدمت لها شيئًا لتقوم برده في ظروف أخرى طيبة، وتسابقت عواطف مع باقي النساء في تقديم المشروبات والطعام على المتواجدات.
دنت منها إحداهن مرددة بهدوء جاد:
-ست عواطف!
انتبهت لصوتها الأخيرة فأدارت رأسها للجانب قائلة:
-ايوه!
تابعت المرأة حديثها بجدية:
-معلش عاوزاكي في كلمتين كده ياختي على جمب!
قطبت عواطف جبينها باستغراب، وتعقدت تعبيراتها نوعًا ما قائلة بحذر:
-اه وماله، اتفضلي!
تحركت الاثنتان نحو الجانب بعيدًا عن الضوضاء المحيطة بهما، فأردفت المرأة قائلة بابتسامة صفراء:
-اعذريني في ده سؤال، والله أنا مكسوفة منك ومحرجة، بس.. بس متأخذنيش في دي الكلمة!
زاد فضول عواطف لمعرفة ما تريد، فردت بنفاذ صبر:
-قولي على طول اللي عاوزاه!
وضعت المرأة إصبعيها على طرف ذقنها مدققة نظراتها نحوها وهي تسألها باهتمام:
-هو بنتك اللي هناك دي متجوزة ولا أرملة؟
التفتت عواطف برأسها سريعًا نحو ابنتيها متسائلة بجدية:
-أنهو واحدة؟
سلطت المرأة أنظارها على نيرمين، وردت موضحة:
-اللي معاها عيّلة!
-نيرمين
-ماشاء الله، عاشت الأسامي، اه هي
سألتها عواطف بجدية وقد بدت مزعوجة نسبيًا:
-بتسألي ليه يا حبيبتي؟
أجابتها المرأة بمكر غامض:
-أصلي مش شايفة في إيدها دبلة، ولا لمؤاخذة جاية مع راجل، أنا أسفة إن كنت بأتدخل في اللي ماليش فيه!
خمنت عواطف ما ترمي إليه دون أن تفصح لها علنًا عن نواياها، فهتفت على مضض:
-هي منفصلة عن جوزها!
فغرت المرأة شفتيها متمتمة باستنكار:
-يا عيني، مطلقة!
ضغطت عواطف على شفتيها هاتفة بضجر:
-اه، الحمدلله على كل حال
سألتها المرأة بفضول واضح عليها لم تبذل جهدًا في إخفائه:
-ومافيش أمل ترجعله؟
انزعجت عواطف من أسئلتا المتكررة فهتفت بتبرم:
-لأ، مطلقة بالتلاتة، ادعيلها بصلاح الحال
-ربنا يعوضها باللي فيه الخير
-اعذريني يا حبيبتي أنا مشغولة وبأساعد أهل البيت و...
قاطعتها بابتسامة ودودة:
-خدي راحتك، بس سؤال تاني معلش!
زفرت عواطف قائلة بنفاذ صبر:
-خير
ضاقت نظرات المرأة وهي تسألها باهتمام أكبر:
-هي مابتفكرش تتجوز تاني؟ أصلها لسه صغيرة، و....
قاطعتها عواطف هاتفة بصرامة:
-ما تكلميني بصراحة أحسن عشان أفهمك!
اتسعت ابتسامة المرأة الصفراء مبررة فضولها المُلح:
-بصراحة كده أنا ابني شافها صدفة وحاول يطأس عنها، وعرف إنها تبعكم، فكلمني عليها عشان أسأل عنها!
ردت عليها عواطف بامتعاض وهي تضم كفيها معًا إلى بطنها:
-وأديكي عرفتي ظروفها
أضافت المرأة قائلة بحذر:
-طالما مافيش حاجة تعيبها ايه المانع إن....
انزعجت عواطف من طريقتها في فرض نفسها، وكذلك في الحديث عن أمور كهذه دون تمهيد مسبق، فردت مقاطعة بجدية:
-مش وقته يا حبيبتي، احنا مشغولين بالعروسة!
أصرت المرأة على إكمال ما تريد قائلة:
-طب خدي فكرة عن ابني، هو أرمل وعنده عيلين صغيرين يتمى يا حبة عيني عليهم، ده غير أرضه الزراعية، وشغال الصبح في مديرية الزراعة، و...
وضعت عواطف يدها على كتف المرأة لتضغط عليه برفق، واكتفت بالابتسام وهي ترد بإيجاز متصلب:
-ربنا يباركلك فيه بس مش وقته!
تفهمت اعتراضها بعد صعوبة، وردت قائلة:
-ماشي، نكمل كلامنا وقت تاني!
انصرفت من أمامها سريعًا متعجبة مما حدث، فابنتها ناقمة على الأزواج والمتزوجين والحياة الزوجية بشكل عام، وربما قد أتتها فرصة طيبة، لكنها واثقة من رفضها من قبل أن تعرف التفاصيل، راقبتها المرأة باهتمام مرددة لنفسها:
-ربنا يقدم اللي فيه الخير، ويرزقك يا ابني ببنت الحلال اللي تستاهلك!
أشــرق صباح يوم جديد يحمل منذ لحظة ميلاد فجره وعودًا وأحلامًا كثيرة، عمل الجميع على قدم وســاق لإنجاز ما هو مطلوب لإقامة سرادق الحفل في أرض المرحوم رياض خورشيد، وتم إحضــار إحدى الشابات المتخصصات في تزيين العرائس لتقوم بدورها في تجميل العروس، بالإضافة إلى ثوب جديد يليق بها تم شرائه خصيصًا من أجلها.
تفاجأت أسيف بالثوب الذي حملته جليلة لها مرددة بابتسامة ودودة:
-يا رب يعجبك يا بنتي! ملحقناش ناخد رأيك، بس منذر الله يكرمه مفاوتش حاجة إلا وكان عامل حسابها
تحرجت من مجرد ذكر اسمه، هو كعادته يفاجئها بالأفضل دومًا، لا يغفل أي تفصيلة تخصها، زاد تورد حمرة وجنتيها، ثم انتبهت لصمتها، فردت بنبرة رقيقة:
-شكرًا، انتو تعبتوا نفسكم، وأنا مكونتش...
قاطعتها جليلة قائلة بعتاب:
-تعب ايه يا عروسة، بقى ده اسمه كلام! عقبال الليلة الكبيرة يا رب!
تناولت الثوب المغلف منها بحذر، وأسندته على طرف الفراش لتعتدل في وقتها، وتحتضنها بعدها بود واضح، ربتت جليلة على ظهرها متمنية لها حياة طيبة مع ابنها، راقبتهما نيرمين بحقد ظاهر في نظراتها المثبتة عليهما، وردت بين نفسها باستنكار ساخط:
-سبحانه مغير الأحوال، بقى دي اللي مكانتش طيقاها، خلاص خدتها تحت باطها وبلفتها!
دنت منها بسمة محدقة فيها باستغراب شديد، خاصة أن تعبيرات وجهها كانت مشدودة للغاية، فسألتها بتعجب:
-انتي بتكلمي نفسك؟
التفتت نيرمين نحوها لترمقها بنظرات مزعوجة وهي ترد بتهكم:
-ايوه، فيها حاجة دي!
-لأ مافيش يا نيرمين!
-حاجة تجيب الغم على الصبح
ردت عليها بسمة على مضض:
-طب افردي بوزك، النهاردة فرح!
لوحت لها نيرمين بيدها هاتفة بسخط ساخر:
-سبنالك ياختي الفرح كله، اتشمليلي وحصلي المعدولة اللي اتلميتي عليها!
استنكرت طريقتها الفظة في الإساءة إليها، فصاحت بحدة:
-دي بنت خالك! هاتفهمي ده امتى؟
ضربتها بكفها على ذراعها قائلة بعدم اكتراث:
-تبقى زي ما تبقى! روحيلها يالا، بلا هم!
نظرت لها بسمة شزرًا وهي تقول:
-ربنا يعدي اليوم ده على خير!
ظلت واقفة في مكانها تراقبهما بأعينها المحتقنة غيظًا منها حتى حضرت والدتها فسألتها بتلهف:
-فاضية يا بنتي شوية؟
التفتت ناحيتها متسائلة بفتور:
-في ايه يا ماما؟
أجابتها بإنهاك:
-ناقصنا حاجات كتير ومحتاجين أي حد فاضي عشان يساعدنا في المطبخ!
ردت نيرمين من بين شفتيها بهمس خافت:
-يعني من قلة الموجودين!!
-ها قولتي ايه؟ هتساعدي في أكل بنت خالك!
ضغطت على شفتيها قائلة بامتعاض:
-طيب!
تحركت مع والدتها بخطوات بطيئة مضيفة بحنق مغلول:
-إياكش تطفحه بالسم الهاري!
حل المســاء عليها بطيئًا، ولم يتوقف عقلها عن التفكير في كل شيء تحديدًا هو، ذاك الذي تغلغل إلى خلايا عقلها رويدًا رويدًا فتشبع به، باتت الدقائق تؤجج من حماسها الشغوف إلى التطلع إليه، فبدت متلهفة أكثر على رؤيته، وترقبت بتوتر شديد حضوره إليها، ما أثار غرابتها هو عدم إقامة سرادق عقد القران بالأرض الخاوية الملحقة بدار الحاج إسماعيل، فأصابها الأمر بالريبة، وظنت أنه سيكون حفلاً بسيطًا في المضيفة خاصة أن كل من تسأله عنها يجيبها بغموض غير مريح، وكأن المسألة أمرًا حربيًا لا يجب عليها معرفته.
أنهت المصففة عملها ووضعت لمساتها الأخيرة على بشرة العروس الجميل، وتأكدت من ضبط ذلك التاج الفضي الذي ثبتته على حجابها الأبيض، أصبحت أكثر إشراقًا وجمالاً، وظهر على صفحة وجهها فرحتها الصافية.
حدقت فيها عمتها بأعين لامعة متأثرة، ثم وضعت كفيها على كتفيها قائلة بصوت شبه باكٍ:
-بسم الله ما شاء الله، زي القمر يا بنتي!
رمقتها بسمة هي الأخرى بنظرات إعجاب وهي تضيف:
-حلوة أوي، اقفي بقى عشان نظبط الفستان!
نهضت أسيف بحذر من على المقعد، فأزاحته ابنة عمتها للخلف لتترك لها مساحة من الحرية لتتحرك، ظهر الثوب واضحًا أمام أعينهن، كان بسيطًا في تصميمه لكنه أنيقًا وكلاسيكيًا في مظهره، طرز صدره بالفصوص اللامعة ذات الحجم الصغير والموضوعة على قماش الدانتيل المغطى ببطانة بيضاء سميكة، أمام أكتافه فكانت من نفس الخامة لكن نقوشاتها الوردية أكثر بروزًا، وعند الخصر يضيق الثوب ثم يتسع بطبقات عريضة مموجة أعطتها حجمًا محببًا.
هتفت بسمة بانبهار:
-واو! شكله تحفة، بصراحة ذوقه يجنن
التفتت أسيف ناحية المرآة لترى انعكاس هيئتها فيها، بدت مصدومة من مظهرها، كانت تشبه الأميرات في حليتهن المبهجة، مع فارق أنها عروس اليوم، مسحت عواطف عى ظهرها بحنو وهي تقول:
-ربنا يعوضك خير يا أسيف، والله انتي تستاهلي أحسن حاجة!
هتفت بسمة بمزاح:
-العروسة غطت علينا كلنا! احنا مش هنبان جمبها!
ردت عليها ابنة خالها بخجل لطيف:
-متقوليش كده، انتي جميلة والله!
ابتسمت لها بسمة هاتفة بمرح:
-بأهزر طبعًا، ارتاحي بقى لحد ما يجي عريسك أكون أنا كملت لبسي
أضافت المصففة قائلة بجدية تحمل التحذير:
-متتحركيش كتير يا عروسة، مش عاوزين عريس الهنا يشوفك دلوقتي، ده فال وحش!
ضحكت عواطف مداعبة:
-ربنا يبعد عنها كل وحش، ده الطيبون للطيبات!
اقتربت منها لتحتضنها بحنو أمومي زائد مكملة دعائها الصادق لها، بينما تنهدت بسمة هامسة بقلق طفيف بدا على قسماتها:
-أمين، وخصوصًا نيرمين
تعليقات



<>