رواية غرام في العالم السفلي الفصل الاول1بقلم داليا السيد
حياة
تحركت ليال بين الموائد وهي تعلم جيدا أن مليون عين ترحل خلفها خاصة بذلك الزي الغريب الذي منحه لها مدير العاملين، كنادلة ستعمل بدوام كلي كان عليها ألا تفكر في سروالها الجينز والقميص الذي اعتادت عليهم قبل اليوم بل كان عليها أن تدرك أن تلك التنورة الضيقة والقصيرة ستكون هي النهاية
أقدامها الطويلة والرفيعة كانت ظاهرة بوضوح رغم الجوارب السوداء التي ترتديها والقميص الأزرق الناعم لف نصفها الأعلى بانسيابية غريبة حول صدرها وبطنها، نحيفة هي ولكن لديها منحنيات واضحة لفتاة تخطت العشرين أخيرا والحياة معلم جيد لكل ما عاش وحيدا بلا جدران الأهل لتحميه
لم تصدق أنها حصلت على هذا العمل البديل، بالمطبخ كان العذاب كله، يداها انبرت من غسيل الأطباق والوقوف نهار كامل كان يؤدي لضعف ساقيها والضعف يصارع ليهزمهم بلا لحظة راحة سوى وقت الغداء والمساء حرب جديدة من عمل مختلف بإجهاد تأنى الاستسلام له
أخيرا رأف فريد، المدير المباشر للعاملين، بها وقرر إخراجها للمطعم، لم تعرف قرار من ولكن بالنهاية فريد هو كل من يعرفوه كرئيس مباشر..
أحمق، نظراته مثيرة للخوف، تعاملاته مع البنات الأخريات تجعلها تسكن داخل قوقعة واهنة تظن أنها تحميها منه لكن بداخله الثعلب الماكر الذي يقف من بعيد متربصا لاختيار فريسته ثم..
يقتنص..
يلهث كالكلاب متدليا لسانه حتى يسقط فريسته الواهنة ووقتها..
ضاعت الفريسة.. انمحت بلا عودة
يقال إنهن يبلغن من خلفه مناصب أعلى.. يبنين قصورا وهمية من الأحلام والأموال لكنها مخجلة..
بلا شرف..
لم تكن أكيدة من تلك الخرافات التي تحاك من حولها رغم تصرفاته معها لذا لم تفكر بها وانصب تركيزها على عملها
أبعدت خصلة متمردة من شعرها القاتم كحلكة الليل من على عيونها التي تحمل سواد لا يمت لقلبها الناصع بشيء، بل على النقيض، سوادهم كان لامع ومثير، جذاب بشكل مبهر لكل من يراهم، رموشها الثقيلة تنفعها عندما ترتكب حماقة فتنسدل خيوطهم على البريق اللامع بحدقتيها لتبدو كطفل ارتكب خطيئة وتدارى خلف الجدران خوفا من العقاب، نظرات الخجل تلك هي سلاح ذو حدين، تنقذها أحيانا وتهرسها أحيانا أخرى تحت عيون الرجال اللاهثة وراء الجمال
الصينية كانت خفيفة بالبداية لكن ما أن انتصف النهار حتى بدأ ذراعها يشكو من الانهيار فالمكان يكاد لا يفرغ من الزبائن والطلبات، كفندق أربع نجوم كان يرتاده شخصيات هامة حقا وربما تجاوز لأكثر من ذلك
اللهو العابث لأصحاب النفوذ.. الأموال.. الوقت الثمين
كانت تلهث لرؤيتهم بملابسهم الزاهية والتي تعلن عن ماركات شهيرة، رجال ببدلات منتشاه ونساء تحت أثواب لا تعرف ثمنها لأنها ببساطة لم تفكر بالبحث عن مثلها..
فقيرة رغم انها لم تكن تحت الصفر..
البركة بالوصي..
ابتسمت لنهلة صديقتها بقسم التنظيف عندما مرت من أمامها، كانت قد عرفتها عندما عملت به وقت أتت هنا لأول مرة وهي ببداية الثانوية
لم يكن حالها يستدعي العمل فمن تولاها منذ دخلت المشفى وحتى اليوم يمنحها ما يكفيها لتحيا حياة متوسطة لكن هي أرادت ان تجد نفسها بنفسها..
ولكنها ستظل للأبد مدينة له..
أحيانا تذكر عيونه التي كانت تلمع بالظلام وكأنها نقطة سوداء صغيرة وسط السواد الأكبر من الليل المحيط، شعره الطويل الناعم يتناثر حول الذي وجهه بلا ترتيب كان يجعله من نجوم السنيما
كان وسيم حقا.. بل رائع
قوامه فريد ومميز، ومع ذلك رأته ضخما خاصة لطفلة كانت بالعاشرة، ما زالت تذكر أنها احتارت بلون حدقتيه، لم تراها سوداء وتساءلت هل كانت بلون موج البحر؟
ربما ولكنها لا تذكر سوى شبح ببنية هائلة ينحني عليها وصلابة غريبة أحكمت قبضتها على جسدها الصغير لتحملها برفق يتناقض مع القوة التي كان ينطق لسان صاحبها بكلمات طمأنينة جعلت قلبها يرتاح
أنفاسه لها رائحة طيبة لا تنساها، ليتها تراه فقد سقطت بحب منقذها دون أن تعرفه
"أنا طلبت ميكس جريل وأرز بسمتي يا آنسة"
تورد وجهها الصغير، ليست بيضاء ولا سمراء بل لونها تأرجح بين الفاتح والغامق بدون فهم، ربما تعرضها لشمس الاسكندرية هو السبب، هي نشأت هنا لأنه أبقاها هنا، منقذها، وصيها، هو من قرر كل شيء نيابة عنها وهي لم تعرفه أو تناقشه بل محاميه يقابلها كل شهر ويمنحها مصروفها الكبير ويقرر مصيرها بلا نقاش
رفض ذلك العجوز الأشيب عملها بالبداية ولكنها أصرت عليه، لم يمكنها قبول ذلك المال أكثر من ذلك ولم يقبل أن ترفضه وهي لا ترضخ بسهولة فما أن دخلت الثانوي حتى بحثت عن عمل ونالت هنا كعمل بجوار دراستها وادخرت أمواله
قالت بصوت اعتاد على تذمر الجميع من حولها "ولديك ما طلبت يا فندم"
وضعت طبق الأرز أمامه ولكن يده التفت بأصابع قصيرة مرنة على يدها لتوقفها
بالطبع هي تفهم ما يرغب به، لكم تعرضت لتلك الحركات من رجال تحتاج للتأديب، خارج الفندق أو حتى داخله حياة تعج برجال شهوتها تلون عيونها، تسوقها كعبيد لرغباتهم ولا يستوعبون فكرة نقاء امرأة
جذبت يدها بهدوء وقالت وعيونها تمنحه تحذير لطيف بلمعان غاضب "الطلبات بدون لمس يا فندم"
وتحركت مبتعدة، قصت الحوار وأوقفت سيل الرغبة النابضة بنظراته الوقحة
الحذاء العالي مرهق ولكنها اعتادت عليه، ارتدته كثيرا عندما كانت تحضر حفلات مدرسة الراهبات التي أودعت بها..
الأفكار تسوقها لذلك الوصي؛ الرجل الذي منحها مال تكومه لأغراض مرتبة بعقلها جعلها أيضا تكمل دراستها بمدرسة الراهبات التي كانت تدرس بها، أكملت دراستها الثانوية وحاليا هي بعامها الأخير بكلية الحاسبات والنظم الإدارية، هي تستطيع حضور المحاضرات مع العمل لم تفكر أن يلتقطها أحد الزملاء بالجامعة وهي تعمل بمكان كهذا
لم تهتم.. كانت تعلم أنها ليست ابن ثري عربي ولا متخم من هؤلاء الذين يكدسون الأموال خلف خزائن صلبة خارج البلد
ولا ابنة وزير، كانت ما تعرفه جيدا..
كل هذا لم يثنيها عن حلمها خاصة وهي متفوقة بمجال الحاسب الآلي، عفريتة كما كان يناديها مدرس الحاسب الآلي بالمدرسة..
الآن هي تدخر كل مليم تحصل عليه لتؤسس الشركة التي تحلم بها، تستطيع التعامل مع البرامج وشبكة الانترنت كما لو كانت وجبة سهلة الإعداد والهضم لذا هي بالفعل تعمل بالمساء على شبكة الانترنت بالبرمجة والتأمين وكل ما له علاقة بذلك المجال ولديها دخل أيضا لكنها بالطبع ما زالت لا تقوى على منافسة الكبار بالسوق وإلا سيدهسونها بأقدامهم بلا رحمة
ستنتظر حتى تقتنص فرصتها وتتعلم من أين تؤكل الكتف..
ابتعدت للمطبخ والمسؤول عنهم يتابعها بنظراته لوجودها الأولي وهي هادئة فقال "ليال هل انتهيت من مائدة ٧؟"
لم تنظر له فرؤيته تجعل معدتها تضطرب ونظراته لا تطاق تجعلها تصدق ما يقال عنه لذا تجنبته وهي تقول "نعم فقط منعت نفسي عن غرس الشوكة بيده"
ابتعدت ولكنه تحرك خلفها وقد كان بأوائل الأربعينات، بطيء الحركة، يهتز جسده السمين مع كل خطوة، تلك السمنة التي تأكل عيونه فوق وجنتين ممتلئتين تتناقض مع حدة الطباع التي يتميز بها تميز الكلاب الضالة تهرع وراء عظمة عفنة جعلته كريه المعشر
توقفت وهي تضع الصينية ليتم إعدادها للطلب الجديد
شعرت به بجوارها ورغم الكعب العالي إلا أنه كان طويل عنها، دب غبي بجوار غزال رقيق
نظر لها من الأعلى وقال "هل تدركين تصرفاتك جيدا؟ هنا ليس الحارة التي أتيت منها؟ هنا المصباح السحري"
رفعت رموشها عن عيونها لتمنحه نظرة جانبية جريئة غاضبة.. هي ليست من حارة كما يقول دائما عنها وقد جزت على أسنانها كي لا تلسعه برد يحرقه بمكانه
للأسف ما زال رئيسها المباشر..
قبضت أصابعها الرفيعة على مقبض الصينية وكأنها تحكم قبضتها حول عنقه السمين، قد لا تقوى أصابعها على خنقه والتخلص من وقاحته
رمقته بنظرة تمنت لو أحرقته بمكانه ولملمت رماده وألقت به باليم بلحظة انتصار وفخر
تلقاها ببرودة زادت غيظها وهي تقول "الشرف لا عنوان له مستر فريد، الشارع وليس الحارة، الذي أتيت منه علمني أن الشرف ثابت بكل مكان ولا نتركه خلفنا وإلا أصبحنا بلا هوية وعلى فكرة المصباح السحري خيال من وحي الكاتب"
لمعت عيونه ببريق قوي وهو يعلم أن لديها لسان قلما يستسلم وهو ما يعجبه بالرغم من كل ذلك، كلماتها الحانقة دائما لا ترده عنها بل تزيده متعة فما يأتي بصعوبة يسيل اللعاب أكثر
أحنى رأسه عليها وهبت أنفاسه الثقيلة على عنقها الناعم مما جعلها تقشعر منه وتبتعد بنفور ورائحة الدخان الذي يدخنه يتسرب لفمها فيثير اشمئزازها وهو يقول
"رغم كلماتك اللاسعة إلا أنكِ غبية، وستظلين دائما بالقاع، كل أعوامك هنا ولم ترتقي للأفضل أو تتعلمي كيف تصلي للقمة بلا مجهود وأعلم أنك لن تفعلي ومع ذلك ولأنك تعلمين كم أميل لك، سأمنحك الأفضل، ثقي بي"
ارتفعت حرارة جسدها من كلماته التي لطالما فهمت معناها، هو وقح بدرجة واضحة معها
منذ بدأ جمالها يعلن عن نفسه حتى بدأ هو الآخر..
كان يعدو خلفها في مطاردات مغلفة بإطار العمل بحيث لم يمكنها القفز عليه وإزالته من مكانه أو تحطيم صف الأطباق المتسخة فوق رأسه، وبعيدا عن نظراته الفاجرة إلا أنه كثيرا ما حاول وضعها بطريق مخالف لما عرفته ولأسباب الجميع يعرفها وهي معهم ولكنها كانت تتهرب منه بذكاء مما مكنها من وقفه
كل ما أرادته أن يظل بعيدا عنها حتى تنتهي سنوات الجامعة وبعدها ستترك العمل هنا، لن تبقى عبأ على وصيها أكثر من ذلك فقط عانت الكثير منذ كانت طفلة
الذكريات لا تتركها.. تضيء كضوء البرق بالسماء الصامتة وتمنحها نظرة ثاقبة بلوحة الماضي القبيح..
كثيرا ما كانت ترفض أي عودة للخلف وتهجر أي تلميح ينبش داخلها، تقتله وتقذف به باللا وعي كي لا تعيد الماضي أمامها
فقط تلك التي تعيد وصيها للحاضر، بسرعة تفتح الأبواب على مصراعيها وتتلقاها كأنفاس حرة، نسمات رقيقة تعيدها للحياة كما فعل معها.. لولاه، منقذها، لكانت بالأحداث
مؤسسة يلقى بها الصغار المجرمين وهي كانت واحدة منهم
أمسك بمصيرها بقبضة فولاذية أنقذتها من عقوبة السرقة عندما كان والدها يدفعها عنوة لمساعدته بالهجوم على الشقق
الضياع كان مصيرها طالما الأب مجرم يتبع مجرم.. وهكذا حتى تتعقد السلسة بلا نهاية وهي تتدلى منها بلا حول ولا قوة حتى سقطت مع المسمى والدها بفيلا صغيرة بمكان مهجور للسطو عليها
لم يرأف بحالها كفتاة لا تفهم بالحياة سوى العقاب المؤلم لو لم تنفذ وعندما خرجت هاربة عندما انكشفت أسقطتها طلقة نارية أردعتها على الأرض بلحظة وباللحظة التالية كان المنقذ يحدق بها بعيون لامعة
ذلك البريق الغريب بتلك العيون يلاحقها، لا يتركها، يومض بأحلامها وواقعها ما زالت تذكرها جيدا رغم الظلام وهو يحملها ويهرع بها لسيارة ثم اضمحلت الرؤيا ونست كل شيء إلا بالمشفى
وجود فريد بجوارها كان يثير غضبها والصوت الغليظ المثير للتلوث السمعي "أنتِ تعبثين بمصيرك"
رمقته بنظر حادة لا تخرج من ابنة العشرين والتي زاولتها الحياة فعجنتها وخبزتها حتى أصبحت ما عليه الآن "أنا أعرف مصيري جيدا ولست بحاجة لمن يأخذ بيدي له، خاصة لو كان.. "
ضحك ضحكة مقرفة جعلتها تبتعد عنه وما زالت تتحرك بذاكرتها لصفحات كتاب الماضي، نغزه بمعدتها كانت تعيدها وتجرها لسنوات اختفت تحت ظلال الماضي
الألم كان صعب، كأن أحدهم دفع السيخ المشتعل بمعدتها، عندما رفعها بين ذراعيه نست الاحتراق ورحل الفزع واستقر الأمان داخلها حتى رحلت للظلام ولم تراه مرة أخرى
لكن بدأت حياة جديدة هو من منحها لها..
بكل يوم تتأكد أن ذلك الحادث كان مفترق الطرق بحياتها..
ذا العيون الوقحة وضحكته بصوته الخبيث "كوني معي وثقي بي"
سخرت داخلها "أنت أحمق ففتاة عانت من أقرب الناس لها لن تثق بأي أحد"
قذفت أفكارها بعيدا كاظمة كلماتها الساخرة وقالت بغضب مكتوم "أنا لا أثق بأحد، وما لديك ليس هدفي لأن هنا ليس القمة التي أبحث عنها مستر فريد، هنا مرحلة أبقى بها حتى أنهي دراستي والقمة التي تتحدث عنها بمكان آخر تماما ولن يهمك معرفة عنوانها لأنك غير مدعو لها للأسف"
وتحركت مبتعدة بخطى ثابتة ولم ترى نظراته القاتمة والغاضبة التي رمقها بها، فاتنة تلك الفتاة العنيدة وهو لا يكف عن التفكير بها لكنها ليست بصيد سهل وهو يعشق كل ما هو صعب
أنهت دوامها اليومي ونزعت الرباط الذي يربط شعرها الأسود للخلف وتركته حرا على أكتافها والصداع يدق برأسها، بغرفة تبديل الملابس أبعدت الحذاء بتذمر وفركت قدميها ونيلي تلحق بها وهي تخلع بلوزتها وتقول
"فريد يصر على منحي علامة سالب للأطباق التي سقطت مني اليوم"
ألقت قميصها بالدولاب الصغير الذي أصبح لها وجذبت قميصها الأبيض وارتدته وهي تقول "لكم تمنيت وضع قبضتي بأنفه اللعين اليوم وهو يلوح لي بأن أقبل مداعبات الزبائن، غسيل الأطباق أفضل من ذلك ألف مرة"
خلعت الفتاة تنورتها الضيقة وقالت "هو لا يرغب بذلك فقط ليال، الكل يعلم ماذا يرغب منك"
لم تنظر لنيلي وهي تفهم كلماتها بل قالت بمرح "دعيه يرغب طالما هذا الكل أيضا يعلم أني بعيدة عن أنف ذلك الجبان، فأنفه بالعالي وأنا قصيرة جدا"
ضحكت نيلي وقالت "أحب روحك هذه وكأنك لا تواجهين أي صعوبات مثل ذلك الرجل الكريه"
انتهت من أزرار قميصها وقالت "هو يعلم جيدا أن طريقي سد لذا فهو يفكر ألف مرة قبل أن يخطو له"
هزت نيلي رأسها وهي تغلق حقيبتها وقالت "ربما لكنه لا يمل ليال، كلنا نعلم ما ورائه، وبنات كثيرة قد تقبل، البعض منهم لم يملك الاختيار"
رفعت عيونها لها وهي تحمل إصرار واضح بنبرتها يدل على ما ينمو داخلها من غضب تجاه ما يحدث "كلنا نملك الاختيار نيلي لكننا أحيانا نضعف أمام الإغراءات وبعدها نندم"
تحركت لها نيلي ووقفت أمامها وبدت عيونها العسلية غامضة وهي تقول "ربما بعضهم كان يفر من حياة الإهانة التي نالوها هنا"
أغلقت الجينز على القميص الأبيض وعادت تواجها بنفس السواد الساكن بعيونها يحمل القوة والتصميم وقالت بنبرة لا تحتمل النقاش "الإهانة تلتصق بمن يحيد عن الصواب نيلي وها أنا وأنت لم نقبل بها، فريد شخص ضعيف لأن ما يدعو له ليس فضيلة تمنحه قوة محارب مناضل بل ندل، جبان والخوف منه هو غذاؤه الأول"
لملمت أشياءها ونيلي تتابعها بصمت فاعتدلت وقالت "لقد تأخرت، لابد أن أذهب لدي عمل مسائي ولا أرغب بالتأخير أكثر"
ألقت حقيبتها على كتفها وعادت ترفع شعرها ونيلي تتابعها ثم استدركت نفسها وقالت "أنت مختلفة ليال، منذ عرفتك وأنا أدرك أن بك شيء مختلف"
تحركت بجوارها وقالت "ليس بي أي اختلاف نيلي، أنا فقط لدي هدف ولن يثنيني عنه ذلك الأصلع"
ضحكت نيلي بمرح ونطقت بجدية "هذا واضح، أنا أتساءل من أين تأتين بالقوة لعمل آخر؟ أنا أتناول العشاء بالفراش وأنا نصف مستيقظة، ماما تكاد تقتلني للأطباق التي تتساقط على الأرض بجوار فراشي"
تحركت بحماس تناقض مع جسدها المرهق بعد يوم من العمل الشاق ولم تخبر نيلي أن ماضيها مختلف، حاضرها مختلف، بالأساس هي لديها خطط للمستقبل تجعلها تريد أكثر من ذلك
أرادت حياة كريمة ناجحة..
أرادت طمس الماضي المهين وحبسه خلف باب صلب لا يمكن فتحه، أن تصنع حاضر ومستقبل تفخر به بيوم ما أمام أولادها، هذا هو السبب في أن لديها القوة لمواجهة أكثر من كل ما تواجهه
حياتها تخصها وحدها.. كوخ صغير خلف أسوار عالية لا يجوز لأحد القفز فوقها لاختراق كوخها الصغير
لم تنظر لها وهي ترد "هذا لأن والدتك تنتظر منك بعض العون لا أن تثقليها بخدمتك، إخوتك الأربعة يستهلكونها"
خرجا من الباب الخلفي والظلام كان قد هبط رغم أن النهار بدأ يطول بسبب التوقيت الصيفي، نظرت لهاتفها ورأت أنها الثامنة والنصف فنفخت وقالت "هل كل يوم سنتأخر هكذا؟ غسيل الأطباق كان ينتهي بالسادسة"
ضحكت نيلي بخفة وقالت "أنت محظوظة أننا رحلنا الآن، بأيام أخرى يمتد العمل لبعد الثانية عشر، الحفلات بالذات والأعياد ولكننا نحصل على مقابل جيد"
سارت الفتاتان على الرصيف حتى خرجتا للكورنيش، رائحة اليود تخترق الأنفاس وتجذب كل السلبيات من داخلها
عشقها للإسكندرية نشأ منذ انتقلت لها بعد الحادث واستقرت بأمر من محامي وصيها ولم تعترض
الهروب من الماضي أصبح أسهل ونست كل حياتها قبل الحادث ولم ترغب بتذكره ..
التفتت نيلي حولها وعيونها تتحرك مع السيارات التي تدهس الأسفلت أمامهما بسرعة غير عابئة بالواقفين من هنا أو العابرين من هناك وقالت "أرجو أن أجد ميكروباص فارغ"
لم تكمل وهي تشير لواحد كان يقترب لينزل راكب منه بنفس اللحظة، ودعت ليال بإشارة من يدها وليال تتحرك بالناحية المعاكسة
انتظرت الإشارة لتمنحها الضوء الأحمر لتعبر مع الباقين وهي تودع نيلي وتفكر أنها لم تتخذ أي صديقة لها، حتى نيلي مجرد زميلة عمل، هي تعلمت ألا تثق بأي أحد ولم يكن لها شخص مقرب، وحدتها لم تضرها بل جعلتها آمنة
المنشية كانت وجهتها وعملهم هنا بالمنتزه فالمسافة طويلة لذا انتظرت حتى دخلت الميكروباص الفارغ من الموقف الصغير وظلت تنتظر حتى امتلأ بالركاب وتحرك بها وهي تضع هاتفها أمامها وتحاول الحصول على شيء عن عملها المنتظر بالبيت لكن هي تعلم أن الهاتف لن يفي بالغرض
نفخت بضجر، هي حاليا تدخر الأموال لشراء هاتف أفضل وبميزات أعلى لكنها اضطرت لإنفاق بعض المال على أحلام رفيقتها بالسكن عندما مرضت منذ شهر وبالطبع تأثر المبلغ وتأخر الهاتف
قبل أن يتحرك الميكروباص ارتفعت نظراتها خارج النافذة لتسقط فجأة على سيارة الدفع الرباعي السوداء والحديثة التي كانت تقف على الرصيف المقابل للفندق، كانت ترى مثلها مرات عديدة من قبل لكنها لم تكن تهتم ولا تعلم هل كانت نفس السيارة!؟
العملاق الأسود الذي اكتسى بالسواد كان يواجها بقوة جعلتها تنقبض بلا داعي وعندما دققت نظرها بالزجاج الخلفي تهيأ لها أنها رأت عيون تقسم داخلها أنها تعرفها، تحدق بها قبل أن ينغلق الزجاج الأسود مخفيا إياها عنها ومعلنا الغموض خلفه
للحظة علقت تلك العيون بعقلها.. عيون تشبه تلك العيون..
انقبض قلبها مرة أخرى عندما تذكرت تلك الليلة السوداء التي تبدلت فيها حياتها وامتدت يدها على بطنها حيث الندبة الصغيرة الباقية من الذكرى وجف حلقها وهي تعود للخلف عدة سنوات
ربما عشرة..
هل يمكن؟
عندما التفتت لتبحث عن السيارة كانت قد اختفت ولم تعد تراها ولم تعرف أبدا الرد على السؤال..
*****
أغلق الزجاج وارتد بالمقعد الخلفي للسيارة ورأسه تستند على ظهر المقعد وهو يستعيد أنفاسه وقال "لنذهب"
نظر صفوان له بالمرآة التي تنتصف السيارة وقال "يا ريس أنت بحاجة للراحة"
ظلت رأسه على مسند المقعد وهو لا يفكر بأي نوع من أنواع الراحة فأمثاله لم يتواجد ليرتاح، حياته لا مكان للراحة بها ولو حتى بالاسم، العالم السفلي هو كل ما عرفه وترعرع به وانتمى له..
أغمض عيونه وقال "ما زلنا بأول الليل صفوان ولدينا الكثير لننهيه، هل ستجعلني أصل للشركة بسرعة أم ستظل تخبرني بفوائد برنامج حياتي؟"
عاد صفوان ينظر له بالمرآة، كسائقه الخاص وصديقه وحارسه أيضا فهو الأقرب هو وأنس رغم رجاله الكثيرة
لكل واحد من رجاله مكانة خاصة من حوله وكلهم تشاركوا معه الكثير لكن ولا واحد منهم بمكانة صفوان وأنس، هم من ألقتهم الأيام بطريقه وجمعتهم المصائب والتضحيات حتى أصبحوا وحدة واحدة لا تفترق
ابتسم صفوان وقال "هذا كان برنامج الناس المفضل بيوم ما"
لم يرد للحظة ثم سأل بصوته الرخيم وبنبرة ساخرة "هل كان برنامج؟"
عادت نظرات صفوان على الطريق؟ حياة رئيسه لم تكن بالتي يمكن التحدث عنها كما يقول لذا تنحنح صفوان وقال "لم أقصد يا ريس"
فتح عيونه وتجاوز عن قصد رجله وعدل رأسه وقال "هل هاتفت محمد زهران؟"
هز صفوان رأسه وهو يتحرك بالسيارة ليخرج على امتداد طريق المحمودية الجديد وقال "فعلت ومن المفترض أن ينتظرنا بالكمبوند، الاجتماع لن يبدأ بدونه هو لا يعرف أنه نجم الليلة"
تحركت نظراته بالظلام الذي استقر أخيرا بالخارج وقال "جيد"
اعتادوا على أنه لا يكثر من الحديث بغير فائدة لكنهم يعلمون جيدا مكانتهم عنده فقط لا أحد يتجاوز لخندق حياته الذي لا يفتح لأحد.. هو يأتي لذلك المكان كثيرا وعندما يرحلون تتبدل ملامحه ولا تمنحهم أي شيء ولا يجرؤ أحد على السؤال
اهتزاز الهاتف بجوار قلبه قطع واقعهم فأخرجه من جيب جاكته وهو يرى اسم مالك وهو أحد الأصدقاء ممن كان معه بالملجأ وفروا سويا وفرقتهم الدروب لكنهم ما زالوا على اتصال من وقت لآخر
"مالك، هل تلك المحادثة تعني أني سأحظى بنصيب رؤيتك بعد لعبتك الأخيرة؟"
ضحكة مرتفعة تعالت على الجانب الآخر وصوت مالك يقول "لا أظنك غاضب يا ريس؟"
عبث بأصابعه بعيونه القاتمة وقال بجديته المعهودة أو ربما نسى كيف يكون المرح "غاضب!؟ هل تمزح مالك؟"
ضحك مالك وقال "أمزح معك!؟ بالطبع لا، أنت لا تعرف أي مزاح يا رجل متى تضحك؟ لقد نسيت وجهك وهو يضحك تقريبا منذ كنا بالعاشرة"
تجهم وجهه أكثر لذكر تلك المرحلة بعمرهم، سرداب مظلم لا يرغب أيا منهم باختراقه مرة أخرى، سرداب يعج بظلام يخنق من يعود له، يعصرهم بصلابة ذكرياته المقيتة
مالك هو الآخر التزم الصمت لحظة ثم قال متجاوزا ما سقط به "أرغب برؤيتك هارون، لدي فكرة جيدة للمصنع المهجور الذي سقط بيدك بآخر مزاد"
تجاوب هارون معه بتخطي الأمر وقال "متى ستكون بمصر؟"
أجاب مالك بجدية "بعد الغد بالقاهرة"
مكالمة منتظرة جعلته يبعد الهاتف ليرى الاسم ثم عاد وقال "حسنا، سأراك بالفندق إذن عندما تصل هنا، سأكون موجود طوال اليوم"
اختصر مالك كلماته العملية "حسنا، سأهاتفك بمجرد وصولي مصر"
أنهى مع مالك وأجاب المكالمة المنتظرة بطريقة آمرة "هل وصلوا؟"
أجاب الرجل "نعم يا ريس، زهران أيضا وصل"
ضاقت عيونه، الريس، الزعيم، هي ألقابه التي نالها على مدار سنواته الكثيرة وقد استحقها عن جدارة
كلماته كانت مختصرة "جيد، أنا بالطريق، هل انتهيت من فندق السلامة؟"
أجاب الرجل "نعم، الاحتمال الذي رجحته أنت كان هو الصواب وفعلت كما أمرت"
لم يشك بأي قرار يتخذه ولم يتردد بأي يوم ولم يندم، شيء واحد فقط ما زال لا يعرف ما إذا كان سيندم عليه أم لا
عيونك يا صغيرة لا تفارقني.. آيس كريم حياته
عاد للرجل المنتظر على الطرف الآخر وقال بنبرة تحمل التوعد "جيد فالانتظار يجعله يجيد التفكير برد مناسب لأسئلتي"
أغلق هاتفه وصفوان ينظر له ويقول "المنتزه مكان ليس مفضل لك يا ريس؟"
أسقط الهاتف بالجاكيت وقال باختصار يحمل معنى واحد، لا رغبة لي بالحديث
"لا"
المنتزه هي المكان الذي يعيد له الحياة لكن لا أحد يدرك ذلك سواه أو ربما يدركون ولا يجرؤ أحد على التصريح وهو لا يهتم، يظنون أنه ليس مفضل لأنه يتركه فيشعر أنه يترك روحه معه ينسلخ من ذاته التي لا يعرفها أحد
هو المكان الوحيد الذي يسمح لهارون فقط وليس الريس أو الزعيم ليخرج من حبسه ويتنفس الهواء الذي يعيش به ثم سرعان ما يعيده لقفصه ويرتدي قناع الرئيس ليعود لمكانه بعالمه
العالم السفلي..
إغلاق الحديث جعل صفوان يتوقف والسيارة تخترق الطريق حتى دخلت بوابة الكمبوند حيث مقر شركاته الأساسي بواحدة من المباني الجديدة حيث توقف صفوان ورجل أمن يفتح له الباب فنزل وهو يضم جاكته المفتوح بلا اهتمام ليغلقه
لا يهوى التقيد بتلك الرسميات لكن كرئيس بمكانته عليه أحيانا الالتزام بالمظاهر
المصعد كان بانتظاره وهو يضغط الزر ويصعد للدور الذي به المكتب الرئيسي، الاجتماعات الليلية مفضلة له ولكن ليس للرجال الذين سيجتمع معهم اليوم فهم يفضلون أوقات العمل الرسمية وهو ليس ذلك الرجل وهم تعلموا أن يفعلوا ما يرغب هو به
الريس لديه قدرة على فرض ما يريد بمجرد أن يخرج الأمر من فمه والجميع يعلم من هو هارون الديب
القوة.. الجرأة.. السيطرة
تحرك بخطوات رشيقة ثابتة وواثقة تهدر كصوت الرياح بليلة عاصفة تقلع الجذور من ثباتها وتدق انذار التحذير من وجوده
الشركة كانت تحتل نصف أدوار المبنى وكلها ما زالت تعمل وتظل حتى العاشرة مساء، اعتدل الجميع خلف مكاتبهم وهو يمر بينهم حتى رأى أنس، حارسه وصديقه الثاني ومحل ثقته كصفوان، يخرج له من مكتب جانبي ويتحرك بجواره بنفس خطواته الواسعة وهو يقول
"انتهيت من كل الأوراق"
لم ينتظر أنس ليفتح له الباب بل فتحه بقبضة قوية اعتادت على حمل الأثقال وضرب العمالقة بصالات التدريب كما اعتاد لكم كل من حاول مواجهته
انفتح الباب خاضعا له بلا أي مقاومة وهو يتمتم "جيد، لنفتح النيران قبل نصب خط بالريف الثاني"
ما أن خطى للداخل وغرفة الاجتماعات الهائلة والتي صممت على أحدث طراز، هو لم يهتم بكل تلك المظاهر لكن هكذا هي أسس الشركات الحديثة لذوي الأموال
الغرفة كانت ممتلئة بمديري الفروع والأقسام بانتظاره وتوقفت الأصوات لرؤيته والتفتت كل الأنظار له وهو يتحرك لمقعد الرئيس على مائدة الاجتماعات الطويلة وأنس يضع ملف سميك أمامه ويقف خلفه وسكرتيرة تضيء شاشة الجهاز أمامها بجواره وعندما جلس جلست بجواره بجهة اليمين
بمجرد أن رفع وجهه حتى اعتدل الجميع وهو يفتح الملف بطريقة عملية ويقول بلا مقدمات وهو لا يتبع أي طرق أخرى سوى الدخول بالمواضيع
الأفعال أفصح من الأقوال.. وعيون الجهلة الفعل
شكسبير
الهجوم طريق القوة والانتصار..
"تعلمون سبب الاجتماع"
لم يجيب أحد وصمت فقط هو ما أجابه
صفوان لحق به وهو يقف بهدوء بجوار أنس، هو ليس بحاجة لمن يقف بظهره لحمايته فالحماية وهم يتصوره الجبناء ليختفوا خلفه من مواجهة أفعالهم وهو ليس بجبان
رفع نظراته الحادة كالصقر ممرر إياها عليهم وقد تجهمت وجوهم التي ظلت تنظر له حتى توقفت نظراته على واحد منهم وقد بدا التوتر على ملامحه وحبات عرق تكونت على جبينه رغم المكيف الذي يبرد الغرفة
لم تتحرك نظرات هارون من على الرجل وكأنها تنذره بالقادم وتطلق تجاهه شبكة محكمة لن تمكنه من الفرار حتى ولو استعان بجيش لا نهاية له
خرجت منه الكلمات نارية "زهران هل وصلت لم طلبته منك؟"
تململ الرجل بالمقعد بطريقة غير مريحة وقد توجهت نيران هارون له فأحرقته بمكانه وتنحنح قليلا قبل أن يجذب إجابته بنبرة حاول أن يجعلها ثابتة "الأرض ليست كما ظننا هارون، ليس من الصواب رمي المال بها"
ظل هارون ثابت بنظراته عليه، تنطق بما يعرفه جيدا لكن الجبان يظن أنه جيد بالخداع
أدرك هارون انتصار الكذب بعيون الجبان فعاد للأوراق المرتبة أمامه وجذب واحدة ورفعها أمامه وتأملها جيدا
تعلم القراءة والكتابة كان من مميزات الملجأ الذي نشأ به وانتهى دور الملجأ لكن بلا شهادات، أما تعلم الباقي فقد كانت الحياة كفيلة به
لوح بالورقة وعاد لزهران بنظرات أيضا جعلت زهران يرتعد بمكانه، هارون يحمل فوق أكتافه ماضي يعرفه كل من بالمكتب ولكنهم تعلموا التغاضي عنه أمام أمواله التي تتسرب لجيوبهم ولكن كلهم يعرفون متى يثور الديب ويقفز لالتهام ضحيته
يدركون أن الذئب يظهر دهاء وقوة في مطاردة فريسته مستخدما حواسه القوية ليتبعها وينقض عليها بقوة وقد حان وقت الانقضاض يا ديب وهو لا يضيع الوقت ولكن بهدوء وذكاء حتى تسقط فريسته بين أنيابه
ذئب ماكر...
"أحب اطلاعك على محتوى هذه الورقة" ثم عاد وواجه الباقين وقال "هذا تقرير من المكتب العقاري الهندسي أعده أفضل العاملين هناك يخبرني فيه أن الأرض تقدر بخمسة مليون جنيه قبل إزالة المخلفات عنها وبعد الإزالة سيتضاعف سعرها والمكسب مائة وواحد بالمائة يا سادة"
همهمة سارت بين الرجال لم يهتم بتفسيرها وعيونه القاتمة تتأملهم بانتظار أي اعتراض ولكن لن يجرؤ واحد منهم على ذلك
حضور الذئب طاغي..
عاد لزهران الذي ابيض وجهه وانتهت الدماء منه وانطبقت عليه المصيدة ولا مجال للفرار حتى ولو فتح محابس مصيدته
"هل تفسر لي ذلك زهران؟"
كانت نبرته مريعة للجميع وخلا وجهه من أي تعبير وأسقط الورقة التي تطايرت بالهواء تتمايل يمينا ويسار وكأنها عائمة بالهواء الأملس قبل أن تسقط وتستقر على المائدة مع باقي زملائها من الورق ناجية من الغرق ببحور غضب الديب
نهض صفوان وهو يجذب ملف من أمام هارون ويخرج منه مجموعة أوراق ووزعه على الرجال بينما تراجع زهران بالمقعد ولم يفكر بمواجهة نظرات هارون الذي انتظر رده واضجع بمقعده ورأسه يرتاح على أصابعه
ابتلع زهران ريقه وهو يتجاوز الورقة التي وضعها صفوان أمامه، بالتأكيد على دراية تتمة بما نحت عليها من حقيقة تسقطه بالهاوية، لم يظن أن ينكشف أمره بتلك السهولة ونسى أن الديب لا يترك ثغرة ليمر منها خائن
خرجت كلماته مهزوزة تعني الخوف المغلف بشجاعة زائفة "هارون أنا عبرت عن رأيي وأيا كان من منحك التقرير فهذا أمر مختلف"
ظل ساكنا لحظة غير منساقا لأي غضب فكي يكون رئيس كان عليه هزيمة غضبه مرارا وتكرارا، وهو ما تعلمه على مدار تجاربه
أحدهم قال "هارون لن نختلف معك ولكن زهران بلغ وجهة نظره فلندعها ولنأخذ بأفكارك"
حرك نظراته القاتمة دون تحريك رأسه للرجل والتقت حدقتاه الملونة بالأزرق الساكن بعيونه بعسلية الرجل قبل أن يقول "هذا يعني أن أتجاوز عن خيانته يا زيد"
لم يتراجع الرجل وهو واحد ممن يضعهم هارون بمجلس الإدارة كي يمنح شركاته انفتاح بلا حساب، قال "ليست خيانة، هذا رأي وهذا الرأي الآخر وتوقف هنا، نحن لسنا بالشارع.."
ولم يكمل الرجل فأدرك هارون التكملة وتلقاها بلا امتهان وهو يردد "الذي أتيت أنا منه، لا أجادل لأن هذا الشارع هو ما صنع مني رئيس هذا المجلس زيد وهو ما علمني أن أعرف الفارق بين الانتماء والخيانة، سيتم عزل زهران من المجلس"
لم يهتم يوما بان يهاجمه البعض ويلقي ماضيه بوجهه فمهما فر منه فسيظل يلاحقه لذا كان يتقبله ببساطة بل ويزداد قوة وشراسة
همهمة سرت بين الرجال من قراره الذي اتخذه بلا انتظار آراء الباقين وهب زهران واقفا محتجا ومناقشات احتدت وهو ظل صامتا وما زال يسند رأسه على أصابعه يراقب ما يدور حوله حتى انتبهوا لصمته وخلصت تعليقاتهم الهامسة
تجهمت وجوههم وقد تحولت كلها له وهم يعرفون تلك النظرة الواضحة بعيون الريس
نار زرقاء لا تبقي ولا تذر.. لن يقبل الخيانة مهما كان المبرر، سيفترس فريسته بالوقت المناسب لا محالة
صمتوا بالتبعية لكن زهران هتف كالكبش الذي يحاول مقاومة النحر لآخر نفس
الذئب ما كان ليكون ذئبا لو لم تكن الخراف خراف... شكسبير
"لا تجرؤ على اتهامي بذلك هارون، لا دليل لديك على اتهامك هذا، أنا لا أقبل تلك الإهانة وستدفع الثمن غاليا"
للحظة ظلت عيونه تراقب ما فعله ظهران وبلا أي رد نهض أخيرا واقفا وهو يخرج قرص صلب من جيبه وقذفه للسكرتيرة وقال بنفس الهدوء "ضعيه على الجهاز وشغلي الشاشة"
تحرك مبتعدا وأنس يتحرك بنفس الوقت ليخفض الإضاءة والفتاة تعمل بمهارة وعلى الحائط المواجهة عمل الجهاز بينما استقر هو ثابتا أمام النافذة تاركا إياهم ليتابعوا تسجيل لزهران وهو يبدو به مع منافسيهم
الخيانة تعني الموت.. قانون الديب
ما أن انتهى الفيديو حتى كان الجميع بحالة من الصمت، لم يتحرك وهو يقول "بالطبع ليس هناك دليل أفضل من ذلك على الخيانة زهران، هارون الديب لا يلقي الاتهامات جزافا ولا يندم على شيء"
التفت ونظراته تبدلت لأخرى حادة وتحمل الوعيد تجاه زهران وكأنه يخبره، لا أحد يخون هارون وينجو ولا أحد يجرؤ على تهديده
انكمش زهران بالمقعد وعادت حبات العرق تنتشر على جبينه وهو يرفع منديل ليجففه ويده ترتجف
عاد لمقعد بخطى تدك الأرض وتعلن عن عزيمة صاحبها، لن يتراجع عن قراره
لم ينظر لأحد وهو يطوي الأوراق ويغلق صفحتها حاليا حتى يأتي وقت العقاب وقال "انتهى الأمر وغدا سيكون هناك عضو جديد سيتم إعلامكم به، لنعد لباقي الجدول، صفوان"
لم يكن يتبع سياسة التصويت على أي قرار يرى أنه غير قابل للنقاش والجميع لا يجرؤ على مراجعته أو جداله
نهض صفوان وتحرك تجاه محمد زهران الذي شحب وجهه والتصق بالمقعد وكأنه فقد القدرة على الوقوف، عيناه تائهتان، تبحثان عن مخرج لا وجود له، لا أحد يفر من صفوان
قطرات العرق تصببت من جبينه رغم برودة المكان. أصابعه ترتجف وهو يشبك يديه في محاولة يائسة لإخفاء ارتباكه لكن ارتعاش صوته وارتجاف شفتيه فضحا خوفه أكثر "هارون أنا لدي زوجة وأولاد"
كان يتصفح باقي الأوراق وهو يقول دون أن ينظر للرجل الذي كان يرتعد بين يدي صفوان الذي رفعه بسهولة بقبضته "مهندسة ديكور تعمل بفرع شركتنا بالعامرية وأنت من وضعها هناك براتب عشرة ألاف جنيه غير العلاوات والعمولات وما غيره وهي ليست جديرة بمكانها من الأساس، طفلان بالمدرسة الأوروبية هل أخبرك أعمارهم ومصاريفهم السنوية؟"
ارتجف جسد محمد أكثر وتقريبا بال على نفسه وقبضة صفوان تمنحه مقدمة قصيرة عن موضوع العقاب الذي بطريقه له، انخفضت أنظار الباقين ومحمد يجيب بصوت منخفض "فقط لا تؤذيهم"
رفع نظراته الصامتة له وأدرك الضعف بعيونه وتلك نظرة لا يحبها، الرجل الضعيف يسقط من نظره ويشعر بالاشمئزاز منه، تحركت عيونه لصفوان وأومأ له برأسه فجذبه صفوان من ذراعه والرجل يصرخ بآخر أمل له "لا تؤذي أولادي هارون أرجوك، هم لا ذنب لهم"
لم يرد ولم ينظر له حتى، الخيانة لا عذر لها عنده فقد تأذى منها كثيرا وذلك الجبان اختار المال ثمنا لخيانته وعليه دفع المقابل
هو وليس أولاده..
عندما انتهى الاجتماع كانت الساعات الأولى لليوم التالي قد بدأت وهو ينهي قهوته واقفا أمام المكتب الذي لا يجلس خلفه إلا نادرا، خرج الرجال وأنس يدخل له وهو يقول "هل ستراه؟"
نظر للفتاة التي كانت تشير له لأشياء على الشاشة وقال "ارسليه بالبريد لشركات السباعي واخبريني بالرد، أرغب بوضع أسماء المرشحين على صفحة الشركة بالصباح، لا تذهبي وحدك، السائق يعيدك البيت"
أجابت بامتنان "أمرك يا ريس، شكرا لك"
تحركت للخارج، هو يقدر المخلصين تماما كما يعاقب الخائنين
التفت لمواجهة أنس وقال "نعم، لا تغيب عن أوراق الأرض مرة أخرى"
والتفت خارجت وأنس يتبعه وهو يقول "تعلم أني لم أفعل هارون لكن أنت لك طرق أسرع"
لم ينظر له والمكان خلا من الجميع وهو يقول متجها للمصعد "والأسرع ليس طريقك؟"
انفتح المصعد ودخلا وأنس تجهم هو الآخر مدركا أن رئيسه غاضب وهو بالأساس غاضب من نفسه لمرور زهران من تحت يده
تراجع وقال باستسلام "معك؟ بالطبع لا، أنت دائما تحتل الصدارة بأي سباق هارون، أنت الريس ونحن لا نعلم متى تتوقف"
نظر لساعته، كانت الثانية صباحا، قال بلا مبالاة كاذبة "التوقف يعني الموت، أرغب بالمرور على الرجال عندما أنتهى"
خرجا من المصعد وأنس بالكاد يلحق بخطواته الرشيقة والسيارة العملاقة تتحرك لتقف أمام باب المبنى ورجل الأمن يسرع ليفتح له وهو يقول "لا تترك الفتاة تذهب وحدها"
دخل السيارة وهو يخرج هاتفه ويقول "الميناء صفوان"
قاد صفوان وقال "المخزن!؟"
هز رأسه بصمت وهو يدير رقما وينتظر الرنين حتى جائه الرد فرفع رأسه وقال "لم تخبرني بالموقف القانوني صفوت؟"
صفوت محاميه الأساسي، صوته النائم تردد عبر الهاتف وهو يقول "متى ستتوقف عن مهاتفتي بعد منتصف الليل هارون؟ لدي بيت وأسرة يا رجل"
نفخ وأبعد وجهه النحيف وقد نبتت شعيرات ذقنه مع انتهاء اليوم وبداية يوم جديد دون حلاقتها، فمه الذي ينطق بكلمات نافدة الصبر كان نادرا ما يبتسم ومع ذلك قال "وامرأة تنام بأحضانك الآن وربما قاطعت لحظتكم معا، هذا ليس من اهتماماتي، لو كنت تنفذ ما أريده ما قطعت متعتك"
حدق صفوان به بالمرآة قبل أن يرتد للطريق، هذا هو هارون، لا يعبأ إلا بالعمل حتى تلك اللحظات التي يقتصها بالمنتزه لا تكاد تذكر
كان صفوت يجيب بارتباك أسئلة هارون بلا توقف وقد اعتصره هارون بلا رحمة وكأنهم ليسوا باقتراب الفجر
أخيرا اكتفى وصفع الهاتف بوجه صفوت وأسقطه بجيبه وهو يبعد وجهه للنافذة بعد أن فتح الزجاج والهواء النقي لليل الهادئ يضرب وجهه وصفوان يسأله
"لا تبدو بخير!؟ الاجتماع؟"
لم ينظر له وقال "هل تعرف بعودة حسن المصري؟"
ثبتت نظرات صفوان عليه، المصري مهرب لكل ما هو ممنوع، حربه مع هارون استمرت سنوات خسر فيها الاثنان الكثير حتى أمسكته الحكومة بمقتل بإحدى صفقات السلاح المشبوهة لكنه فر هاربا للخارج مختفيا منذ خمس سنوات وها هو يعلن عن نفسه ويسقط بطريقه بالصدفة
صفوان حدق به بالمرآة وقال "لا، لم أعرف"
أبعد وجهه مرة أخرى وقال "علينا أن نستعد له لن نرتد للخلف أم خائف؟"
لا، ليس خائف ولكن كما قال؛ لا أحد منهم يرغب بأن يرتد للخلف، لا هو ولا أنس، هم انساقوا بطريق هارون الذي شق طريقه من وسط الظلام للنور ورغم أن يداه ملطخة بالسواد إلا أنه يحاول بكل قوة ألا يسقط بالقاذورات وهذا يكلفه الكثير من رجال وأموال ولكنه يحاول أن يظل على الحافة بين الأسود والأبيض
همس صفوان "ليس خوف هارون تعلم أني لا أخاف حتى من الموت، هو فقط ترقب للقادم، أنت أوقفت كل شيء، لن نعود لحرب الشوارع والقذارة التي انتزعنا أنفسنا منها"
هو كما قال، لا يرغب بالعودة ولكنه سيظل ملطخا بالقذارة التي أتى منها لنهاية عمره حتى ولو كان يحاول الالتصاق بالأبيض الناصع إلا أن الأمر ملئ بالأشواك، دخول ذلك الطريق كان سهل لكن الخروج منه يشبه انتزاع الروح من الجسد.. عالم يجذبك بلا هوادة للقاع ولو كنت ضعيفا بلا إرادة لظللت عبدا لهذا العالم
العالم السفلي..
الميناء كانت صامتة ربما يقطع الصمت بوق صارخ لسفينة بضائع عابرة لكن بالمجمل الصمت هو السيد، رجل عملاق فتح له باب السيارة وهو تخلص من جاكته وتركه بالسيارة وأزرار قميصه مفتوحة لمنتصفه وتدلت سلسلة فضية غليظة بنهايتها قلب فضي ساكن تحت القميص
هذا هو الزعيم.. الريس..
الديب..
بسلسلة فضية عالقة حول عنقه وكأنها التصقت به منذ وضعها بهذا المكان ولن ينزعها
تنحى الرجل له وصفوان يتبعه لداخل المخزن وبالداخل اختلف المكان تماما وبدا فارغا إلا من رجال منتشرة بلا انتظام وانتفاخ صدورهم تعني سلاح. توقف أمام الرجل المقيد للمقعد ورجلان يقفان بجواره ورأسه منخفض وما أن وصل حتى وقف وصفوان، تحرك للرجل الذي كان زهران وتوقف أمامه
جذب صفوان شعر الرجل ورفع به رأسه للخلف ليواجه هارون وقد بدا وجهه ملطخ بالدم وتلونت كدمات متفرقة عليه بألوان الطيف الزاهية وبالكاد انفتحت عينه اليسرى ليرى الرجال وقال بشفاه مفتوحة ودماء تسيل منها
"الرحمة صفوان"
صفوان لا يرحم إلا بأوامر من يأمره رئيسه برحمته فهتف "وأنت يوم خنت الريس لم تذكر أنك ستتذلل لنا بعدها؟"
سقطت دموع من عيون زهران وبدت المهانة على ملامحه وأجاب بنبرة امتلأت بالذل والضعف "ضعفت أمام المال، منحوني الكثير"
عقد هارون ذراعيه أمام صدره ولم يرد وما زال يتابع ما يحدث أمامه، بالعادة هو لا يتولى تلك الأمور، العقاب وظيفة صفوان ولكن ما زال يذكر كلماته عن زوجة وأولاد لذا هو هنا
لكم صفوان زهران بقوة بوجهه وكأنه لم يفعلها من قبل وتأوه الخائن بألم واضح ولكن فقد القدرة على الصراخ وصفوان يهتف به "والريس يمنحنا الكثير زهران"
لم يرد الرجل وصفوان يحرر شعر زهران الذي سقط رأسه على صدره بلا قدره على رفعها والدماء تتقطر من انفه وفمه
رفع صفوان أكمام قميصه وهو يستعد للقادم، بصعوبة رفع الهزيل نظراته لهارون وخرجت كلماته واهنة باكية تحمل الرجاء الأخير "الرحمة يا ريس أرجوك، ما زال أولادي صغار، أنا آسف ونادم، أرجوك اقبل اعتذاري، ارحمني يا ريس وأنا سأعيش خدام لك"
الصمت كان اللغة السائدة بالمكان، صمت مخيف يتوعد ذلك المرتعد والذي ينتظر مصيره بفزع، الندم كان من نصيبه الآن
مقيدا إلى المقعد بسلاسل صدئة، ملابسه ممزقه وملطخة بدمائه، عينه اليسرى نصف مغلقة لا تكاد ترى خلف الكدمات الداكنة
أنفاسه متقطعة، يصدر منها صوت خافت كصفير مبحوح، كأن كل شهيق صار معركة. رأسه متدل على صدره ثم يرفعه ببطء كمن يحاول التمسك بكرامته المهدورة لكن عينيه الفزعتين تفضحان
خوفه أعمق من أن يخفى
هو يعرف ان ما مضى لم يكن إلا تمهيدا، وأن العذاب الحقيقي لم يبدأ بعد، كل ثانية تمر يسمع فيها صدى حركات صفوان بالأدوات وكأنها طرقات مطرقة على قلبه تعلن أن
وقت الموت قد حان لكن قبله، العقاب الأسوأ..
صفوان عاد بأدواته بالفعل ووضعها إمام العيون الغائمة ونظرات هارون تتوعد بأن هذا عقاب من يجرؤ على خيانته..
النظرات تحرق أكثر من الكلمات.. تتوعد بالكثير..
عيون هارون تعلمت أن تحمل الكثير إلا الضعف فلا مكان له عنده والآن عيونه مليئة بالغضب ولكنه يعرف كيف يتحكم بغضبه
عقد ذراعيه أمام صدره وخرجت كلماته منذرة بأنها فرصة واحدة وإن لن يأخذها فلا يبحث عن سواها "إذن ستخبرني من وراء الأمر زهران، فقط أخبرني وأعدك أن أجعله يخفف الأمر"
لم ينظر صفوان له، التعذيب لا يعني له شيء، هو يفعل ما يطلب منه لينتزع هارون ما يريده من عدوه
بدت الأدوات مرعبة حقا وارتفع وجه زهران بنظرات الفزع منها ثم نظر لهارون وبدت نظرات الرعب بعيونه وكلمات هارون تعني فرصة أخرى وارتجف جسده المقيد وشفتاه اليابستان تتحركان بلا صوت في البداية. كان يعلم أن ما سيقوله سيحدد مصيره؛ إما أن ينجو بجسده ورزحه وإما أن يسحق تحت وطأة العذاب، وبين الخوف من جلاده والرهبة من الزعيم غرق في صراع داخلي يلتهم ما تبقى من مقاومته
صرخ بآخر عزيمة داخله "لا تجعله يفعل بي ذلك هارون، أرجوك ارحمني، أرجوك"
لمعت عيون هارون وهو يرتد للخلف خطوة مانحا مساحة فارغة لجلاده فقد منح الفرصة الوحيدة للنجاة وانتهى دوره
ارتدى صفوان قفازاته ومريلته التي تحمي ملابسه من الدماء وجلس أمام زهران جاذبا معه المائدة المتحركة وقبض على وجه زهران ونظر لوجه بنظرات نارية وهتف "والآن يا ريس، هل ترغب بأسنان براقة منتظمة أم أظافر مقلمة؟"
التوت شفة هارون بابتسامة ساخرة بينما صرح زهران من الفزع وهو يدرك مصيره الحتمي
"لااااا"
