رواية غرام في العالم السفلي بقلم داليا السيد
حفل
الوصي.. المنقذ.. الحلم
من أنت؟ متى سأراك؟ متى سأعرفك؟
لا إجابة.. فقط حلم يسكن منامها.. رغبة تعيش داخل أعماقها
لم تسكن وجداني؟ لم لا أرى سواك بالوقع وليس فقط بأحلامي؟
تلك الزرقة التي تبرق بعيونك لا تتركني..
ربما تمثل لي الكثير فمتى ستكون أمامي؟
ألمسك، أسمعك، أدرك أنك لست فقط بأوهامي
لا أمل..
****
انتهت من عملها على الحاسب الآلي، جهازها القيم الذي تحميه بعيونها ومصدر رزقها، كانت الثانية عشر عندما انتهت من تسليم العمل المطلوب وتنهدت وهي ترى وصول أموالها لرصيدها الذي زاد كثيرا
أغلقت الجهاز وتسربت للمطبخ لعمل ساندويتش جبن وقدح شاي بحليب وهي تحسب الباقي على ثمن الهاتف وقد قاربت مرة أخرى منه
جلست على الأريكة القديمة وانكمشت وهي تتناول الطعام، أحلام رفيقة السكنى لا تتحدث كثيرا عن نفسها كما هي والليلة لن تبيت معها
عبثت بالهاتف كعادتها تتجول بين عروض العمل من الشركات المعروفة عندما رأت نفس الشركة التي تمثل حلم لها تطلب نفس نوع عملها، المجد للاستثمارات، القمة لمن هم مثلها، كم مرة أرسلت طلب عمل لهم ولكنهم لم يستجيبوا لها؟
لم تعرف السبب ولم تيأس..
هارون الديب، مالك تلك الامبراطورية، المجد للإلكترونيات
حياته سرداب مظلم لا يعرف أحد عنه شيء سوى أن حياته السفلية مظلمة، لو فتحت الميديا لتسأل عنه فلا تجد أي شيء ولا حتى صورة، ملف مغلق، مظلم، عالمه بمكان آخر وهي بفضول حاولت اختراقه لتعرفه أو ربما تعرف سبب رفضهم لطلبها ولكن بلا فائدة لأن ببساطة لا شيء مرفوع على الميديا يخصه
لوحة سوداء.. مغارة مظلمة بلا أي ضوء خافت يعلن عن ذلك الرجل
هو يملك الكثير من الشركات من كل الفئات، يشتري المتهاوي من المشروعات ويدعمه حتى ينهض ثم يبيعه بمكسب خرافي، لا أحد يعرف من أين أتى وكيف بدأ حتى حقق ما حقق، اسمه يثير الرعب والخوف، حاشيته تنتشر حوله كجدار مرتفع يحميه بحياته ومع ذلك لا أحد يعرف حياته الشخصية نهائيا
لا تعلم لماذا تمنت لو رأته وعرفته.. هل عجوز أخرق شاب شعره في بناء ما يملكه؟
أغلقت هاتفها وأنهت الشاي بلا أمل بالوصول لشيء
العودة للعمل كانت أفضل خاصة وأجازت الصيف لا تعني سوى الكسل والاستفادة من الوقت لمكسب أكثر وهاتف سريع
لم تفلت من التحرش اليومي من الزبائن بعملها كنادلة لكن لا أحد ينجح معها، دائما ما تفر قبل تفاقم الأمور، فريد كان لا يتركها بتعنيفه الدائم لها ولا بنظراته الغير بريئة التي تعرفها وأحيانا كلمات غزل تجعلها تهرع من أمامه بخجل واضح وغضب مكتوم
مؤخرا سمعت منه كلمات جريئة وغير جيدة عنه من أنه يتحرش بالبنات ويغويهم ولكن الأمر متكتم لذا ستظل بعيدا فراتبها الكبير يجعلها تحافظ على مكانها
"ستتأخرين اليوم، كلكم"
اخترقت كلماته أذنها وهي تمر بجواره فهزت رأسها وهي تعلم أن اليوم سيقام حفل كبير بالمطعم وبالطبع على الجميع التواجد وهم اعتادوا ذلك
لم ترد على فريد الذي أكمل موجها حديثه لها "افعلي شيء بشعرك هذا وبعض الكحل بعيونك، لن تخرجي للمدعوين هكذا والزي الآخر سيتم تسليمه لكم بالسادسة"
وابتعد لمكانه ومتابعة الطهو بنفسه وهو يمنح أوامره، نيلي أسرعت لها وقالت "الحفل اليوم مختلف"
امتلأت عيونها بالفضول وهمست لها "لماذا؟ ما الجديد؟"
مالت نيلي عليها وهي تضع الأطباق وأجابتها "يقال أن صاحب الفندق هو من يقيم الحفل"
لفت نظرها لفريد المشغول وقالت "لكان أخبرنا بذلك"
ضغطت على يدها لتعيدها لها وهي تقول "لم يكن ليخبرنا، عندما يكون الريس هو الضيف لا أحد يعرف بحضوره سوى المدير"
عادت لها وهي تردد "الريس؟ من الريس؟ وكيف تقولين ذلك وأنت تعرفين بأمره"
كتمت ضحكتها وقالت "أحد رجال حراسته يعرفني من الحفل السابق، رأيته اليوم هنا لذا عرفت بالأمر"
أرادت أن تعرف أكثر فقالت "ومن هو الريس؟"
هتفت "أخبرتك أنه صاحب الفندق، هو.."
صوت فريد أفزعهم وقطع خلوتهم المسروقة "ألا تذهبان لعملكم؟ سأخصم الكثير لو لم تنتبهوا"
نفخت نيلي بتذمر كعادتها، لم تكن جميلة بل بسيطة لذا كانت بمنأى عن عيون فريد لكن ليال كانت ليلة من ليان الصيف الحالمة، قمر مكتمل نابض بالحياة والقوة وسط سماء باسمة من صفائها الهادئ والخالي من أي سحب غاضبة، نجوم تنبض بلمعان خجول من تحديق القمر بها كعرائس تتراقص بغناء حوله ربما يلتقط واحدة ويضمها لعرشه الفاخر
فريد كان يعلم بجمالها ولم يكن ليتركها رغم تحذيرات مدير الفندق الكثيرة وبداخله لم يعرف سبب اهتمام المدير بها ولن يحدث شيء لو نال أول قطفة منها فلن يعلم أحد وهو لن يتركها
تحركت الفتاتان من أمامه بلا جدال ولكن ذهن ليال ظل مشغول بالحفل والريس وأسئلة ترتفع لرأسها، كانت بالفعل تسمع عن الحفلات ولكن ولا مرة كانت ترى واحدة منهم، لم يدعها أحد ترحل من أمام الأطباق المتسخة لتشاهد أي حفل لكن اليوم ستفعل
الريس.. من هو؟
صاحب الفندق .. هي لم تسمع عنه ولو مرة واحدة..
الغموض هو كل ما يلفه.. وهي لم تحاول اختراق قضبان غموضه، لم تهتم..
التعليمات كانت صارمة ومحددة ووظيفة كل واحدة تم تحديدها، استبدلوا ملابسهم بأخرى أكثر ثراء ولكن نفس التصميم بشعار الفندق على القميص الأبيض والتنورة السوداء المحكمة، الحذاء الأسود العالي والكل يرفع شعره بوقار ولا أحد يعرف سبب الحفل ولم يهتموا..
على الثامنة بدأ المدعوين بالحضور وانشغلت بتقديم المشروبات والمقبلات ولم يتوقفوا حتى شعرت بالتعب ونيلي تهرع لها وتقول "يقولون أنه لن يأتي، الريس"
لم تترك الأكواب التي تضعها بالصينية وقالت وقد فقدت الفضول تجاه هذا الريس "ليس من شأننا نيلي، لنعد للعمل حتى تنتهي تلك الليلة على خير"
انضمت لهم فتاة ثالثة قائلة "مستر فريد يرغب بزيادة زجاجات المياه نيلي"
ابتعدت الفتاة ونيلي تنفخ ثم تحركت لتنفذ وعادت هي للزحام والرجال الكثيرة التي ازدحمت هنا وهناك وهي تخترق أجسادهم بخجل واضح ونسائهم بجوارهم بملابس صارخة منها المغلق والمفتوح، الطويل والقصير من كل الألوان، بل من الماركات العالمية
صراع الأغنياء واضح بلا شك مما جعلها تتأمل بنظرات متسعة ولا تعرف هل هي هنا حقا أم مجرد حلم من أحلامها المهملة؟
العطور اختلطت بلا تفرقة وتجانست فلم يعد يمكن تمييز واحد من الآخر
الموسيقى كانت هادئة مرة وصاخبة مرة أخرى، الأنوار تلاعبت فوقهم بحرفية من المنظم وأضفت جو رائع على الحفل مع ديكور القاعة الذي أضفى فخامة على المكان
انتهت الأكواب على الصينية التي بين يداها فتحركت بين الزحام عندما استوقفها أحدهم ممن لم يختلف عن الآخرين بملابسه الفاخرة وقد بدا بأواخر الثلاثينات تقريبا ولون القهوة ينبض من عيونه مختلطة بنكهة الرغبة تمر على جسدها بنهم وهو يقول
"هل لي بكأس يا آنسة؟"
تعلمت أن تفهم لغة العيون خاصة الرجال، كما تعلمت تجاهلها، تلك التي تعري المرأة وتنتهك حرمة جسدها تجعلها تشمئز وترغب بالفرار من صاحبها
لم تتبدل ملامحها وهي تهز رأسها وتجيب "لحظة سيدي، سأجلب المزيد"
ابتسم بخبث واقترب وهو يكاد يلمس جسدها وفمه الذي رسم ابتسامة ليست بريئة يقول "يمكنكِ منحي إياه بالخارج بعيدا عن الزحام"
شحب وجهها وعيونها تتحرك على وجهه الغير محبب بملامحه الباهتة بلا أدنى جاذبية تذكر وتمالكت نفسها وأخفت الخوف تحت قناع زائف من القوة وهي تجيب بتماسك "لا نعمل بالخارج سيدي، اسمح لي"
ظنت أنها ستنجو منه ولكنه لم يكن ليترك فريسة ناعمة وجميلة مثلها تفر من مصيدته فقبض على معصمها وجذبها لتلمس جسده
فزعت وتفاجأت مما فعل ولكنها استوعبت ما حدث وتراجعت بفزع مبتعدة عنه نازعة يدها من قبضته وهي تدرك تحرشه الفاجر بمكان كهذا حيث لن يدرك من حولهم بما يفعل والازدحام بالطبع ستار جيد
كان تراجعها العنيف واضح له ورفعت عيونها السوداء الواسعة والجاذبة لجمالها كما النيران تجذب الفراشات حولها ومنحته نظرة استنكار وهو يقول "يمكنك أن تفعلي من أجلي"
هل يجرؤ على كلماته تلك؟ لن تبقى أمامه، اهربي، انجي بنفسك من الهلاك
هتفت بغضب "لا أنت ولا سواك، ابتعد عني"
والتفتت مسرعة بلا هداية، هاربة من أمامه والخوف تملكها لأول مرة فهي لم تقترب هكذا من متحرش جريء لدرجة أن يمسك يدها ويجذبها له بتلك الطريقة من قبل
ما ان دخلت المطبخ حتى التقطت أنفاسها اللاهثة وقلبها الهادر بصدرها واستندت بيداها على حافة الجدار ولم تسمع لضوضاء الباقين بالمطبخ حتى هدأت أنفاسها ورفعت عيونها ولكن لا أحد لاحظ شحوبها أو ارتجاف جسدها وهي لم تحاول إخبار أحد ما كان فلن يهتم لها أحد الآن وربما يتهمونها بالعكس
حملت صينية أخرى ممتلئة وخرجت وهي تخترق الجميع وكأن شيء لم يحدث رغم دقات قلبها المؤلمة والتي تأمرها بأن تحترس فربما لا يعجبها القادم
تجاهلت إنذارات قلبها وعقلها وتابعت الحضور وهم يحصلون على الأكواب والضحكات تصم الأذن مختلطة بالموسيقى والأغاني حتى صدمها نفس الرجل ملتصقا بها ولكن من الخلف بطريقة مثيرة للفزع وهو يهمس بجوار أذنها
"هل تدركين الآن تأثيرك عليّ؟"
عندما لمس جسده الذكوري جسدها الناعم فزعت ونفرت منه بالحال مبتعدة بطريقة كادت تجعلها تسقط ما بيدها
لم تتوقف لتنظر له بل تحركت بسرعة لتفر من أمامه والجميع لا ينتبه لم يحدث لها
فقط الهروب أفضل من السقوط بالفخ
تحركت بلا هدى والزحام يخنقها والأجسام تغلق عليها الطريق والضحكات، الأصوات، الموسيقى تصم أذنيها
لم تتوقف، صارعت، جاهدت تخترق الجمع بعزيمة ولكنه فجأة سد طريقها ولم تعرف من أين ظهر لتتوقف بفزع لاهثة، صدرها يتموج من الهواء المندفع داخل رئتيها بسرعة البرق وعيونها الحالكة الظلمة ترمقه بهلع ولكنها ما زالت بأمان وسط الزحام وعليها التخلص منه
بدلا من العودة للمطبخ تاهت منها الاتجاهات بلحظة عدم وعي وكأنها لم تعد ترى، تحركت بلا هدى وسط الزحام مرة أخرى هاربة منه وهي تكاد لا ترى من حولها وهي تصارع أشياء كثيرة داخلها
أنا لست تلك الجبانة لأفر وأهرب، بل أنت تحافظين على اللا شيء
قفي وواجهي وانتصري، هذا ما عرفتيه بالعالم السفلي، أنا لست بالعالم السفلي
الغضب تملكها لذكر الماضي فلم تتوقف حتى وصلت لباب القاعة الذي يؤدي للخارج حيث الحراس يقفون كل يتابع رئيسه باهتمام
لم تنتبه لهم ولم تتوقف بل اخترقتهم بالصينية التي تحملها وهم يفسحون لها بلا اهتمام وهي تكاد تسقط بالأكواب وهي تلتفت لترى الرجل ما زال يتبعها وقد لحق بها بالفعل قبل أن تخرج للبهو ولكنها تسبقه بخطوات
بلا وعي وجدت نفسها تفتح باب جانبي آخر لتجده قاعة أخرى تكاد تكون مظلمة إلا من ضوء خافت بالكاد يضيء المكان وقد نست أمر تلك القاعة المهجورة والتي يتم تجديدها وذلك بدلا من أن تتحرك للبهو
دارت حول نفسها لتدرك أن القاعة كانت بالطبع فارغة، أرادت الخروج، العودة للمطبخ أو طلب مساعدة من أحد أو لا تعلم ماذا ستفعل فقط تتخلص من مطارها ولكنها اصطدمت به وقبضته تلتف حول ذراعها وهو يجذبها له بقوة وانتصار
ارتفعت أنفاسها تحاول جذب هواء لقلبها المرتعد داخل صدرها وتحركت رموشها ترمش بلا توقف على عيونها المملوءة بالفزع من نظرات الشهوة الواضحة بعيون الرجل الذي يلهث ككلب جرب سيلقي بعدواه عليها وستلعن بدائه للأبد
هيأ لها أن المكان يردد صدى أنفاسها المتعالية أو دقات قلبها التي تصم الآذان وتلك اليدان تطبقان على ذراعيها الرقيقة بقوة جعلتها تتسمر مكانها
ضحكاته المنتصرة الآن ارتفع دويها من حولهم مما زاد الرعب داخلها ونهش قلبها وتسلق فوق آخر فرع من فروع شجاعتها الواهنة وارتسمت كل المصائب التي يمكن أن تصيبها أمام عيونها لتطغي على نظراته الجائعة وصوته المخيف
"هذا رائع، هنا لن يمكنك الفرار مني، أحسنت الاختيار، كم أنت جميلة حقا، سقط بشباك جمالك من أول نظرة"
بالطبع اهتزت يدها بالصينية التي كانت ما زالت بيدها ولا تعلم كيف ولكنها ظلت تفصل بينهم وعندما ضغطت قبضتاه على ذراعيها تألمت وزاد ارتجافها اهتزت الصينية ودفعها هو بيده ليسقطها بالأكواب على الأرض بلا اهتمام وهي تحدث صوت مرتفع وضوضاء ربما تنقذها ولكن بلا فائدة
تملصت من قبضتيه بغضب ليتركها ولم تفكر بالاستسلام وقد انتهت الأصوات بالخارج خلف الأبواب التي انغلقت على الجميع بالقاعة الأخرى وعليها معه هنا ولكنها ما زالت تحاول تخليص يدها منه وهي تهتف بصوت حاولت ألا يخرج مرتعدا كجسدها بل قويا يجعله يدرك أنها لن تستسلم له أبدا
"ابتعد عني أيها المجنون، اتركني"
لكنه لم يفلتها بالطبع بل كان يحاول الامساك بها أكثر ويطلق ضحكاته المنتصرة وهو يخبرها الحقيقة "اهدئي وانتظري، تعلمين أني لن اتركك كما أعلم أنك تريدين ذلك كما أريده وسأمنحك الكثير فجمالك يستحق، سنستغل المكان بسرعة ونحن هكذا وحدنا ولن يقاطعنا أحد"
لوحت بيداها لتتخلص منه بكل بقوتها ويبدو أنه لم يتوقع مقاومتها لأنه لم يحكم قبضته عليها وهي لا تمنحه فرصة ليتمكن منها بل فاجأته وهي تركله بقدمها بحذائها الحاد بساقه فصرخ بصوت مكتوم وهو يحررها ويمسك بساقه المتألم
ما أن أفلتها حتى تراجعت وهي تستوعب أنه تركها حقا، استعادت توازنها وأسرعت خارجة من القاعة المهجورة إلى باب بهو الاستقبال وما أن دفعت الباب لتفر وتخرج للنور حتى اصطدمت بجدار آخر
جدار بشري صلب أيقظ كل حواسها ولم يمكنها دفعه أو الفرار منه ويداها ترتطم بعضلات صاحبها خلف نعومة قميصه ولم ترفع يداها بل رفعت عينيها مذعورة لتصطدم برجلا غريبا، عينيه الزرقاوان كالثلج تحدقان بها
وتوقفت الحياة من حولها..
لم تعد تسمع أي شيء بل تهيأ لها أنها تسمع صوت أنفاسها مختلطا بصوت أنفاسه
الآن قلبها ارتجف داخل صدرها وكأنه يغوص بين موج أزرق مرتفع يضربها بقوة من تلك العيون الحادة التي سقطت عليها
تلك العيون...
وكأنها صعقت من مس كهربي أفقدها الحياة وذلك البريق بعيونه أعادها للحياة و..
تلك العيون...
هي تعرفها لكن لا تذكر أين رأتها؟
تلك العيون..
بها السكن والراحة والأمان
ارتفع نظرها ليرى ذلك الشعر البني القصير والمتساقط خصلاته على جبينه العريض
تعرفه.. هناك شيء به يجعلها تعرفه..
الظلام، الشبح، صوت طلق ناري جعلها تغلق عيونها وكأن برق قوي ضربها نزلت عيونها بلا مقدمات..
أغمضت عيونها من البريق الذي أعماها وهي ترفض الذكرى مما جعلها تستوعب نفسها بأقل من ثانية لتفتح عيونها وانزلقت نظراتها على وجهه الحليق لكن قبل أن تمعن النظر به شعرت بيد قوية تحكم قبضتها على ذراعيها لتوقف الاصطدام بينهم وهي تستوعب ما سقطت به
الهواء الذي فصلهم لفح بشرتها ليعيدها لوعيها ويجعلها تشهق لتجذب الاكسجين لرئتيها وكأن ذلك الرجل سحب الهواء من حولها أو وجوده المفاجئ أمامها جعلها تنسى أن تتنفس
أخيرا تذكرت كيف تنطق وهتفت "اتركني، أرجوك اتركني قبل أن يلحق بي، أرجوك"
نظراته تركت عيونها الفزعة إلى ما خلف كتفها فأفلتها بالحال دافعا إياها خلفه بقوة وهي لم تهتم عن السبب بعد أن استعادت وعيها وحريتها فأسرعت لحمام السيدات ودخلت وأغلقت على نفسها والدموع لطخت وجهها وقلبها يدق بلا توقف وهي تدرك ماذا أراد منها ذلك المجنون
عندما هدأت تساءلت عما يمكنها أن تفعل الآن؟
هل يمكنها العودة للقاعة وسط تلك الحفلة وذلك الرجل يتحرش بها مرة أخرى؟
ونست.. نست تلك العيون وصاحبها ذا الجسد المميز وسط مخاوفها..
أو تناست..
****
ما أن سقطت عيونه على عيونها الملطخة بالدموع والمليئة بالفزع حتى شعر بالجنون يصيبه من مظهرها هذا
بعد كل تلك السنوات من البعد ليوفر لها الأمان يراها بتلك الحالة من الفزع؟
تلك الدموع بعيونها تجعله يرغب بتدمير من تسبب بها بلا رحمة
زاد قبضته على ذراعيها الواهنة من سطوة غضبه لدموعها، ذم شفتيه بلا هوادة كي لا يصرخ برجاله لمعرفة من تجرأ على فعل ذلك بها..
هدر قلبه بصوت دقات الحروب معلنا عن عزيمته لشن حرب لا ترحم من أجل تلك الدموع
هي لن تصل لتلك الحالة بلا سبب، بالتأكيد شيء ما دفعها لكل هذا الرعب الذي أشعل فتيلة الثورة داخله
نبرتها وهي تترجاه أن يتركها جعلته يثور أكثر، الذئب لا يتخلى عن أنثاه ولن يفعل فقد اكتفى
للحظة لمعت عيونها الباكية ببريق غريب وكأنها تعرفه، تعرف نظرته التي كانت لها هي وحدها، القلب الذي دق بقربها، اليد التي لمستها لتحميها منه هو نفسه
بنفس اللحظة وقبل أن تغلق عيونها شعر أنها عادت لتلك الليلة والذكرى صعقتهم هما الاثنان لتعيدهم معا وكأن السنوات لم تفرقهم، لكن عندما فتحت عيونها أدرك أن السنوات تسخر منه وتعلن انتصارها فقد انطفأ البريق وتحول لرماد قاتم داخل عيونها، رماد تناثر حولهم محطما كل آماله
عندما رأى الباب يفتح وحاتم هدايا المعروف يظهر من خلفه فهم كل شيء واستعاد نفسه ودفع الذكرى لمكانها الأصلي داخله
ترك ذراعيها وأفلتها بالحال لتذهب واعتدل هو لمواجهة حاتم الذي تجمد بمكانه وتراجع أمامه وعيونه ثبتت عليه بلا اهتمام بليال التي اختفت وهو يردد بصوت مرتبك
"أنا، هي، هي أسقطت، هي أرادت.."
الرعب تحكم بصوته وأفقده التركيز وشعر بالضياع وتولاه الصمت وتساقطت الحروف من فمه رافضة أن تكون كلمات
تحرك هو وقد ارتفعت موجة شيطانية داخله ترغب الآن باقتلاع ذلك المتحرش المريض من الأرض وقذفه بأقذر سلة قمامة لتجرؤه عليها
لا أحد يجرؤ أن يلمسها وهو موجود على وجه الأرض وإلا سيندم حقا ولكن الآن درسه بالتحكم بغضبه يرن بأذنه..
اهدأ.. فقط امنحه ما يستحقه
توقف أمام حاتم وقبض يداه بجواره ليمنعهم من الالتصاق بصدر ملابسه وجره منها للشارع ومنحه درسا وربما تجريده من رجولته التي تتضرر منها الفتيات
ربما ما زال يخفي نفسه عنها.. يحميها حتى من نفسه.. ولكنه لن يترك حقها
تلونت عيونه وقال بنبرة جمدته مكانه "هل تعرف بأي ملعب تلهو حاتم؟"
هز حاتم رأسه بفزع بلا تركيز وما زال جسده يرتجف ولم يلاحظ نظرات الناس من حوله لوجه الشاحب وعيونه الزائغة وهو يجيب "أنا، أنا لم أفعل.. شيء.. أنا"
الهدوء نصل حاد لا يرحم عندما يخرج من الزعيم الذي أطلق كلماته بمعنى واضح وضوح الشمس "لا أحد يجرؤ على تخطي حدوده مع هارون الديب أو ما يخصه، صفوان"
بلحظة كان صفوان يجذبه من ذراعه والرجل لا يفهم ماذا يحدث معه..
لم يلتفت ليرى أين أخذ صفوان ذلك الجبان فهو يدرك ما سيفعله به صفوان على الأقل سيجرده من رجولته التي يتضرر منها النساء بلا سبب سوى شهوة رجل مريض
ظل بمكانه وعيونها المليئة بالفزع والدموع ما زالت تستحوذ على كل تفكيره وتغشى رؤيته، يجز على أسنانه، يرغب بأن يبحث عنها ويضمها داخل صدره ليخفيها عن العالم
سمع صوت طلال صديقه الذي فر معه هو ومالك من الملجأ وتلك المناسبات تجمعهم معا من وقت لآخر
"لا تلومه"
وتحرك طلال عبر الباب للداخل وأنس ما زال خلفه ينتظر أمر زعيمه بينما ظلت نظراته ثابتة على الفراغ والجنون يعبث به مما حدث وكلمات طلال تزيده احتراق وهو يعلم أنه على حق
هو الملام بكل شيء..
رفع رأسه وقال من بين أسنانه "أخبر صفوان أني لا أرغب بأن أسمع تضرر امرأة من هذا النجس مرة أخرى أنس"
نبرته التي حملت القوة والإصرار كانت معروفة عند أنس لكن تلك المرة كانت مغلفة بالغضب الذي لا يخرج منه إلا نادرا، فكرة أن يمسها خطر تجعله لا يرى أمامه بل سيحرق الأخضر واليابس
لم يرد أنس وهو يدرك أن رئيسه لا يهذي بالكلمات..
تحرك هو للداخل وما زال يحاول كظم غيظه أكثر، لن يغامر الآن بفقدان كل شيء، اثنا عشر عاما لن تضيع الآن أو..
ربما آن الأوان..
****
ظلت تبكي وقت طويل ولا تعرف ماذا تفعل حتى هدأت وتذكرت أن فريد لن يرحمها وقد يخصم لها وهي بحاجة للمال، لا هي ليست بحاجة للمال الذي يجرها لكل ذلك، وصيها يمنحها ما يكفيها فلماذا العناد؟
هي أول مرة تتعرض لتلك المواقف الصريحة، كلمات الغزل كانت تأخذها وترحل لكن ما حدث أخافها بشكل غريب لأنه لم يكن مجرد كلمات
غسلت وجهها وهدأت لكن عندما رفعت وجهها للمرآة رأت فجأة تلك العيون الزرقاء الغاضبة تتراقص أمامها، تلك العيون التي لم تأخذ سوى ثوان لكنها كانت ثوان مؤلمة ضربتها بطريقة لم تفهمها، شيء غريب لمسها برؤيته
شيء لم تفهمه تحرك داخلها
لمست ذراعيها حيث كانت يداه تمسك بها لتوقفها عن الاصطدام به وشعرت وكأن يده ما زالت تلمسها، دفء يده ما زال يترك أثره عليها..
لم تنفر من لمسته مثلما نفرت من ذلك المتحرش، بل كانت تحمل الحماية وليس التحرش، عيونه للحظة منحتها نظرة دهشة، حيرة ثم اشتعلت بالغضب وعندما تركتها عيونه أفلتها بنفس الوقت ولم تفهم ما كان يدور بينها وبينه
أغمضت عيونها وهمست "أنتِ تتوهمين أشياء لا وجود لها ليال، استيقظي من أحلامك التي لا تنتهي وعودي لعملك وإلا فقدتِ كل خططك"
خرجت بخطى غير ثابتة وهي تتفحص المكان فلم ترى شيء بل أشخاص عادية من نزلاء وعاملين فلم ترفع وجهها وأسرعت عائدة للمطبخ
بالطبع لم يلاحظها أحد، حاولت الفرار من العودة للقاعة كثيرا ولكن بالنهاية وضعها فريد بالداخل على مائدة التحلية بلا قدرة منها على الرفض، عيونها الخائفة بحثت عن الرجل فلم تراه فحمدت كما لم ترى من أنقذها فصرفت أفكارها عما حدث وعادت للعمل بخوف حتى نسيت قليلا
هو مجرد وهم ترغبين بأن تجعليه واقع وهو لن يكون.. اكتفي بأحلامك
"هل لي بالكارميل"
رفعت وجهها للشاب الوسيم صاحب الصوت والذي يقف أمامها وبدا بالعشرينات من عمره فابتسمت ابتسامة باهتة وهي ترفع له الكراميل وقالت "بالطبع"
ابتسم لها وبدلا من أن يذهب قال "تبدين جديدة؟"
حاولت أن تكون طبيعية وهي تجيب "ربما، هل تفضل المزيد؟"
تناول الكيك بالكراميل وقال "لا، أنتِ تدرسين أم أنهيت دراستك؟"
لم تجد فرصة للتملص من المحادثة عندما انضم لهم رجل آخر بشكل غير لائق مبعدا الشاب خلفه وكأنه تعمد ذلك وقال "شكولاتة نوتيلا من فضلك"
بالطبع نفذت وابتسم الرجل لها وقال "شكرا، زين هل قابلت هدى؟ كانت تبحث عنك"
ابتعد الشاب تماما دون أي كلمات بينما عاد لها ذلك الرجل وأشار "أرغب بالبستاشيو"
لم ترد وهي ترفع الملعقة لكنها تفاجأت به يرفع يده ليقبض على يدها الممسكة بالملعقة بدلا من أن يمنحها طبقه
ارتجفت بالطبع من لمسته المباغتة، ما بال تلك الليلة لا ترحل في سلام؟
لم تفكر وهي تسحب يدها من يده دون أن تبالي بالنتيجة لتنزلق الملعقة من يده ويدها نتيجة حركتها المفاجأة ويتساقط الخليط بالقرب من حذائه فتراجع وهتف بغضب
"أيتها الغبية"
تراجعت مما حدث وصوته جذب الأنظار لهم
شحب وجهها النحيف وانكمشت بمكانها وذمت فمها بلا قدرة على التفكير وما زالت تتساءل، متى ستنتهي تلك الليلة التي ألحقت بها كل تلك المصائب جملة واحدة؟
لم تلاحظ حركة الرجل عندما رفع وجهه الغاضب والمحتقن تجاها وقد احمرت وجنتاه وشعت عيونه ببريق يكاد يحرقها بمكانها وكاد يقترب منها وهو يهتف "ستدفعين ثمن ذلك، تعالي"
ومد يده العريضة ليقبض على يدها وهي تتراجع منكمشة ونظراتها تسقط على يده التي امتدت لها ولم تعرف ماذا تفعل ولا تدرك ماذا سيفعل بها وهل سيرحمها فريد أم ستنتهي الآن؟
ظلت تحدق باليد التي كادت تصل لها وهي تنكمش بمكانها متجمدة كلوح ثلج ساكن بلا قدرة على التنفس حتى عندما رأت يد أخرى تقبض بقوة على معصم الرجل وتحرك الجسد العملاق صاحب اليد من جواره ليواجه ويفصله عنها ويوقفه عن التحرك خطوة أخرى تجاها
تفاجأ الرجل الغاضب من ذلك العملاق الذي أوقفه وهتف بقوة واضحة "ما هذا؟ ابعد يدك عني وابتعد عن طريقي"
تراجعت وهي ترى العملاق وقد عرفته، حتى من ظهره عرفته، هو نفس الرجل الذي أوقفها عند البهو، هو نفسه من يقبض الآن على معصم ذلك الرجل الذي أراد الانتقام منها
تبدلت ملامح ذلك المتحرش الجديد بمعالم غير واضحة والمنقذ كما أطلقت عليه لم يتركه ووجهه يواجه نظراته بقوة وهو يقول بصوت جعلها تذوب بلا سبب وكأن نبرته تحمل حرارة اخترقت جدرانها وصهرتها بلا رحمة حتى ولو كان هو المنقذ
"ليس قبل أن تبتعد عن هنا"
حاول المتحرش الجديد نزع يده بلا فائدة وقد انتبه الموجودين تقريبا فهتف "قبل أن تعتذر هي عما فعلته؟ لن يكون"
انحنى هارون من طوله الشاهق ليصل لوجه الرجل وقال بنفس النبرة الهادئة والمخيفة بذات الوقت "تعتذر عن أنك حاولت مسك يدها؟ أم عن أنها حررت نفسها منك؟ أم أنك أردت عقابها على خطأك أنت؟"
بهت الرجل وانكمشت هي ونظراتها الدامعة تحدق بالمنقذ وقد عجزت عن الحركة أو الحديث
أن يكون لك رفيق، حامي، حارس، هو شيء لا يمكن أن تستوعبه لكن أن يملك رجل نخوة تجاه امرأة يتم التحرش بها فهذا مستساغ وهو ما ستتقبله لأنها تريد أن تستوعبه وتصدقه
هل يفعل ذلك معها هي فقط؟
مجنونة..
هل رجل بوسامته وجاذبيته وأناقته سينظر لفتاة حقيرة مثلها؟
الرجل جعلها تنتبه وهو يصرخ بغضب "هي فتاة حمقاء لا تعرف كيف تتعامل مع أمثالنا، كنت أحاول إنقاذ الأمر"
صر هارون على أسنانه وكاد يتصرف بطريقة تليق بذلك المغرور عندما تحرك طلال له ووضع يده على يد هارون القابضة على يد الرجل واقترب من هارون وهمس له "اتركه هارون، لا داعي للجلبة، أنت الريس، لا يمكنك إثارة جلبة حولك ولا أمامها" ونظر للرجل وقال بنبرة حادة ومتوعدة "اذهب يا فهمي ولا تقف بطريقه مرة أخرى لقد انتهينا"
ظل جامدا لحظة وعيونه تأكل فهمي وكأنه يتوعده بأن يغرقه بالجليد حتى يتجمد جسده ثم بضربة واحدة يفتته لألف قطعة كي لا يبقى منه شيء حتى ليتوارى بالتراب
يد طلال ضغطت على يده لتوقف غضبه المسيطر فتراجع وهو يفك يد الرجل الذي جذب يده وفرك معصمه وما زالت نظراته غاضبة وهو يبتعد
لم ترفع عيونها عن ظهر ذلك المنقذ ولكن ظهور فريد شتت انتباها وهو يهرع لهم بملابسه الرسمية ووقف أمام هارون ووجهه ينم عن الارتباك بطريقة لا تفهم سببها ولم تسمع ما كان يقوله والمنقذ يسمع بلا رد حتى منحه كلمات مختصرة
عندها رفع فريد وجهه لها وقال "ادخلي ولا تخرجي مرة أخرى"
لم تفهم أوامر فريد بينما خرج رجل النظافة وأزال ما على الأرض ولم ينظر لها من أنقذها بل كان كتفه العريض هو كل ما واجها وحتى الرجل الذي لحق به لم ينظر لها حتى جذبه وابتعد الاثنان وتمنت لو لحقت به لتشكره لكنه لم يمنحها أي فرصة وهو يختفي بين الجموع وهي تتحرك للداخل وتشعر بالراحة لأنها لن تخرج لهذا العالم البغيض مرة أخرى
ربما انتهت الليلة التي لن تنساها..
****
لمسة على كتفه جعلته ينتبه وصوت يقول "لم تخبرني أنك ستبقى لنهاية الحفل، مرحبا طلال"
ابتسم طلال وتناول هو العصير المتبقي بالكوب وقال "طلال رغب بالبقاء وأنت تأخرت فاخترنا هنا للانتظار"
كانوا قد تركوا القاعة بعد أن أوشك الحفل على الانتهاء واختاروا المطعم فهو أهدأ
جلس الرجل أمامهم وقد فرغ المطعم بذلك الوقت المتأخر إلا منهم هم الثلاثة فقط وطلال يقول "ظننتك لن تلحق بنا وإن فاتك العرض"
أبعد هارون وجهه وهو يعلم أن طلال لن يفوت ما كان..
ابتسم مالك لنيلي التي وضعت له كوب من العصير فاحمر وجهها وهو يغمز لها وفرت من أمامه
عاد مالك لطلال وارتخى بالمقعد وقال "لن تخذلني طلال، احكي"
ضحك طلال وقال "العصفور الصغير سقط بيد الصياد مرتين بيوم واحد"
ظل هادئا بلا رغبة بالخروج عن عادته بينما تحركت عيون مالك الرمادية لهارون وضحكته تحولت لجمود وهو يبحث عن أي تعابير على وجه صديقه الأكبر، كلاهم طلال وهارون كانوا الأكبر عمرا منه، يحملون عنه أي مشقة عندما كان مدير الملجأ القاسي يكلفه به أو يعاقبه وهم أيضا كانوا يأخذون العقاب بدلا منه وهو بالأساس سبب فرارهم
الكل رغب بالفرار من البرد والألم .. الظلام الذي كاد يطمس حياتهم.. وربما السجن لو ظلوا هناك
أخيرا تحدث مالك "الصغيرة؟ ألم تكن تعمل بالمطبخ؟ كيف سقطت بطريقك؟ أنت لا تعبر ذلك الباب"
رفع رموشه البنية القاتمة بكسل لصديقه وقال "ولم أفعل"
ضحك طلال مرة أخرى وقال "هي من خرجت من القفص، يبدو أنها نالت ترقية وتعمل بالتقديم عبر الموائد، لماذا هنا هارون؟ شركاتك مكان أفضل!؟"
جذب مالك قطعة حلويات وتناولها ثم قال "كي لا يراها طلال، هو لا يأتي هنا إلا مرات معدودة لكن الشركات هو لا يرحمها"
ضاقت عيونه دون أن يجادل، هم يعرفون كل شيء، كل من حوله يعرف ومع ذلك لا يتحدث مع أحد عما داخله، يتركهم يجادلون، يحيكون القصص حوله لكن لا يرد
من قال إنه لا يراها؟ هو يفعل لكن دون أن تره هي أو تسقط بطريقه
اليوم كل شيء تبدل
عاد طلال يقول "ستتركها هنا بعد ما حدث لها؟ بالنهاية سينالها أحدهم، لن تظل حولها طوال الوقت كاليوم، ألم تصل للنهاية لتضع حد لذلك!؟"
وضع الكوب على المائدة ورفع رأسه بحركة واضحة تدل على رغبته بإنهاء الحديث، نعم لابد أن يضع حد خاصة بعد كل ما حدث حوله ولكن لا أحد يملي عليه ما يفعل حتى ولو كانوا أصدقائه المقربين
تلاقت نظرات طلال بمالك وفهم كلاهم أنه ينهي الحديث ككل مرة
نظرته استدعت أنس الذي اقترب منه وانحنى عليه فقال "هل حددت موعد للرشيدي؟"
أجاب أنس "نعم، الأوراق انتهت وتنتظر التوقيع"
هز رأسه ونظر لمالك وقال "الرشيدي سيمنحك الأرض فهل ستمنحه الصفقة؟"
اعتدل مالك وتبدل للجدية وأدرك أن هارون بالفعل يغلق ذلك الأمر، لا أحد يخترق تلك المنطقة لذا ما أن بدل الحوار حتى استجاب وقال
"أنت تمزح!؟ لا أرغب بالتعامل معه هارون، الأجهزة لن تكون له وأنا أخبرتك ذلك"
تبدلت الأجواء وطلال قال "هو على حق هارون، الرشيدي ليس طريقه"
هز رأسه ولمعت عيونه وتراجع بالمقعد بثبات وكأن ما يدو حوله لا يعنيه أو لا يمثل له أي شيء
رفع يداه بحركة الاستسلام وقال "تمام لا مشكلة، فقط لن أقبل أي كلمات فيما بعد يا رجال"
هاتف مالك اهتز برنين ثقيل فأخرجه ليجيب، أعماله لا تتوقف وهو رجل أعمال محنك بالفعل لذا اتخذ الجد وهو يجيب بينما قال طلال "ستأخذ الأمر أنت أليس كذلك؟ أنت لا تريد الخروج"
عبث بالكوب الذي تبقى به قليل من العصير وأخذ يتلاعب بما تبقى داخل الكوب وهو يرى الضوء ينعكس على زجاجه قبل أن يقول "تعلم أنه عالمي طلال، ليس من السهل الخروج منه لكن من الجيد محاولة البقاء نظيف نوعا ما"
أشاح طلال بيده وقال "أنت أبعد ما يكون عن النظافة هارون، لنذكر فقط الملاهي الليلية حتى ندرك ما تديره"
السجائر هي كل ما أراد الآن وكأس من الفودكا التي توقف عنها منذ سنوات
سنوات الضياع التي لفته وأراد الخروج من بين طياتها فكان عليه التخلص من كل تبعتها بما فيها السجائر والخمور وكلما تاق لتلك الأمور تذكر كيف كاد يقتل بتلك الليلة عندما أسرف بالشراب ولم يمكنه الاستمرار في الدفاع عن نفسه من الكثرة التي تكاثرت عليه ولولا أنس وصفوان لكان بعداد الأموات ومن وقتها توقف تماما
بل ومنعها حتى على رجاله.. الخمور تدير العقول ومن بعدها تضيع أعتى الرجال
كانت الرئاسة الحقيقة تكمن بالقوة التي تحلى بها ليقاوم تلك الأشياء وسواها وقد كان
نهض واقفا وقال "هذا لا يشغلني طلال فهذا هو أنا ولا مجال للتغيير، أحتاج للذهاب هل أنتم بحاجة لي؟"
نهض طلال ومالك أنهى اتصاله ونهض هو الآخر وكأنهم اتفقوا على إنهاء الليلة
تحركوا والحراسة تتبعهم للخارج وقد تأخر الوقت بالفعل وبدا الفندق هادئا وقل عدد المتحركين هنا وهناك والسيارات اصطفت بانتظارهم خارج البوابة الحديثة التي انفتحت لهم حيث تحرك كلا منهم لسيارته
قبل أن يصل لسيارته استوقفه مدير الفندق فتوقف بعد أن فك ربطة عنقه وتركها على صدره وفك أزرار قميصه كالعادة لمنتصف صدره وتمنى لو تخلص من الجاكيت وهو ينتظر الرجل الذي وقف أمامه يلهث وقال
"ألن نحظى بوجودك معنا قليلا سيد هارون؟"
وضع يده بجيب البنطلون وارتفعت نظراته الحادة كالصقر لتواجه عيون المدير الضيقة وقال دون إبداء أي تعبيرات على وجهه "من أجل؟"
كلماته القليلة تهز من أمامه لذا الرجل صمت قليلا يفكر بالكلمات التي سيخرجها ثم قال "تجديدات الفندق التي كنت قد أرسلتها لمكتبك"
أسقط نظراته الثقيلة الملونة بالأزرق القاتم على الرجل وقد اكتفى من ذلك اليوم المرهق بكل أحداثه وقال بكلمات متأنية "قلت أنك أرسلتها لمكتبي"
هز الرجل رأسه واختار ألا يزيد بأي كلمات فلم يزيح هارون نظراته الثقيلة عنه وقال "وهل منحك مكتبي رد؟"
تجهم وجه الرجل وهو يلتقط أنفاسه وقال "لا"
لم تتبدل معالم وجهه ولا نبرة صوته العميقة المغلفة ببرودة الثلج لتجمد من يقف أمامه وهو يقول "انتظر الرد إذن"
وتحرك مبتعدا للباب وأنس يتبعه وصفوان يفتح له باب السيارة ولكنه لم يفعل وتركهم وتحرك لاتجاه آخر
لا أحد يفهم الريس.. لا أحد يقرأ ما خلف نظراته القاتمة
هو يثب لتنفيذ فقط ما بعقله بلا تردد ولكن.. بعد تفكير صائب
تحرك بتلك الخطوات الثابتة ينهب الأرض من تحته وهي تنتفض من قوة خطواته وتنبسط له ليمر من فوقها فهو الزعيم والكل يهب لتلبية أوامره حتى الأرض تنبسط له بخضوع
وصل إلى الطريق المؤدي لخلف الفندق وأنس يستوعب ما فعله رئيسه فالتفت ليحدق بصفوان الذي لم يفكر لحظة وهو يغلق باب السيارة ويسرع خلف رئيسه
تأمين هارون مسؤوليته الأولى والتي أقسم عليها منذ ذلك اليوم ولن يحنث بقسمه أبدا ومن بعد ذلك يأتي أي شيء وأنس لم يفكر هو الآخر وهو يتحرك خلفهم
****
خلعت الحذاء العالي وكورت أصابع أقدامها على السيراميك البارد لغرفة تبديل الملابس، منذ طلب منها فريد العودة للداخل لم تخرج وارتاحت لذلك، طالبها بالمساعدة بالداخل وقد فعلت بسعادة حتى انتهت الليلة
هكذا ظنت..
تبعتها نيلي وهي تقول "محظوظة، أكملت الليلة هنا"
لم تنظر لها وهي ترد "نعم، محظوظة حقا"
كانت تسخر بالطبع فبعد ما عانته هل يمكن أن تكون محظوظة حقا؟ أين الحظ بالتحرش؟
هتفت نيلي دون اهتمام بسخريتها "ذلك الرجل الضخم كان غاضب جدا لكن ليس كالذي أمسك يده كان أقوى وأكثر جاذبية هل تعرفين من هو؟"
لم تنظر لها وهي بالفعل كانت تفكر بما حدث ورغم همهمات كل من حولها إلا لا أحد تحدث معها سوى نيلي
عبثت بحقيبتها مخفية عيونها الحائرة بها وقالت "لا يهم، كل ما يهمني هو ذلك الحقير الذي استحق ما نال"
ضحكت نيلي وقالت "أنت جميلة ليال وجمالك يلفت انتباه كل الرجال"
أخرجت ملابسها ولم ترد والأمر كله ما زال يثير الرعب داخلها، نيلي لم تعرف بأمر حاتم ولا أحد لاحظ ذلك لذا هي تحتفظ بمخاوفها داخلها وهي ليست مؤمنة أنها جميلة لهذه الدرجة، لم تهتم يوما بأن تنظر لنفسها بالمرآة وتقدر نفسها، كان لديها ما يشغلها أكثر
عندما اختفت بغرفة تبديل الملابس دون الرد على نيلي سمعتها تقول "مالك علي كان هنا وغمز لي كالمرة السابقة، إنه أكثر الرجال وسامة رأيته بحياتي"
استبدلت ملابسها وهي تحاول إبعاد تلك الذكريات القريبة من مخيلتها وقالت "ومن هو؟"
نظرت لها نيلي بدهشة وقالت "هو شريك بمجموعة المجد للإلكترونيات، أليست حلمك؟ كيف لا تعرفين أصحابها؟"
لملمت أشيائها وقالت "أنا أدرس نيلي، أدرس بالكتب لأعرف هذا العالم من التكنولوجيا، لكني لا أعبأ بمن يأتي بتلك الأجهزة والمجد حلم لكل مهندس الكترونيات فهي بالأساس تتبنى من هم مثلي"
هي حقيقة، المجد كانت ترعى الشباب الكفؤ بمجالها لذا كانت تتمنى أن تكون واحدة من موظفيها..
انتهت من حقيبتها فاقتربت منها نيلي وقالت تعود مرة أخرى لنفس الموضوع "ما زلت غاضبة لما حدث بالقاعة؟ أظن أن ذلك الرجل هو من أمر فريد بألا تخرجي مرة أخرى"
احتفظت بأفكارها لنفسها وأجابت بغضب مكتوم "ربما، ولكن مستر فريد لا ينصاع لأوامر أحد لو ليس مقتنعا بها وأنا رأيت أن له رأي آخر وأظن أن فريد يدخر لي عقاب"
وتحركت لتذهب ونيلي لم توقفها، علاقتهم ليست بالقوية كما أرادت مع الجميع
تحركت وهي تتذكر كيف أن فريد عنفها وكأن هي السبب بل وحذرها من سوء التعامل مع المدعوين ولكنها لم تهتم وإن انشغل ذهنها بصاحب تلك العيون.. منقذها..
ذات مرة منقذها تحول لوصي والآن ماذا؟
أنت جميلة ليال وجمالك يلفت انتباه كل الرجال.. كلمات نيلي تتردد بذهنها
هل هذا ما كان!؟ مجرد رجل طمع بجمالها ورجل أخذته الرجولة فدافع عنها؟
صدفة أن يكون هو نفسه بالمرتين؟
ما أن وصلت للباب الخلفي حتى تذكرت حقيبتها الصغيرة فعادت للداخل وقد رحل الجميع وبدت غرفة الملابس صامتة بشكل يخيف ولكنها لم تهتم
تحركت خارجة من الغرفة لترى فريد يتحرك تجاها وملامحه لا تمنحها شيء، فقدت اهتمامها به فقد انتهت منه وإلا لن تتركه هكذا فقد أغضبها بقوة بعد ما قاله لها وجعل الأمر وكأنها هي من أخطأ
لم تنظر له وهي تتحرك بالاتجاه المعاكس له تجاه الباب الخلفي الذي يخرجون منه لتذهب حتى وصلت للمكان الواسع والذي كان يزدحم بالعاملين وقت الانصراف والآن بدا فارغا من الجميع الذين ذهبوا بالفعل قبلها
استوقفها صوته قبل أن تنتهي خارجة وقال "انتظري ليال، لابد أن نتحدث"
نفخت بقوة وهي تلف وجهها وتطايرت خصلات قصيرة معها وهي تلتفت له وقالت بضيق واضح "والآن ماذا؟ ألم تكتفي مني؟"
مال تجاها وقال "أنا لم ولن أكتفي من هذا الجمال أبدا"
نفخت بضيق من وقاحته الصريحة وحاولت التحرك لكنه عاد وقال "تلك المرة ليس أنا"
تراجعت ورفعت عيونها الجميلة والتي تتسع عند الدهشة والخوف والمفاجأة والآن المفاجأة كان دورها وهي لا تفهم كلماته ورددت "ليس أنت ماذا؟"
ابتسم ابتسامة خبيثة وقال "السيد راشد، يريدك، سيدفع الكثير"
هل جن ذلك الرجل؟ هل يصدق ما يقول؟ لكانت وافقت على ذلك الشاذ الذي حبسها بالقاعة الفارغة، لم تكن إشاعات إذن..
هتفت باستنكار "يريد ماذا؟ هل جننت؟ هل الجميع جن الليلة؟ أنا لن أبقى هنا لحظة واحدة"
لكنه سد طريقها بجسده البدين، كرة منتفخة سدت الفجوة الوحيدة لخروجها وجعلها ترفع وجهها المحتقن من الغضب وتواجه نظراته التي تعلن عن الفوز وهي لم تفهم سبب ذلك المرح بعيونه
هتف "بل ستبقين لأنك ستكونين أنت المجنونة لو لم تسمعي وتوافقي، لقد عرض مبلغ رائع من أجلك وأنا أظن أنك تنطلقين بسرعة أيتها الجميلة، كنت أعلم أنك ستديرين عيون الرجال من أول نظرة، هل ظننت أن وجودك هنا بلا سبب؟ أنت يتم إعدادك ككل فتاة تعمل هنا"
الصدمة جعلتها تثبت بمكانها، يتم إعدادها؟ على ماذا أو لأجل ماذا؟
هتفت بلا فهم وقد نست ما قاله سابقا "إعدادي لأي شيء؟ ومن الذي وضعني هنا؟ أنا لا أفهم"
ضحك بخفة لا تتناسب مع جسده الكبير فهو عاشق للطعام بكثرة
"ألا تعلمين؟ أخبرتك أنك جميلة وهذا أول سبب للموافقة على وجودك هنا، فقط انتظار وقت الانطلاق وقد كان اليوم، وجودك بالمطعم الكبير والحفلات كان له غرض"
تراجعت وهي تحدق به والمفاجأة جعلتها مغيبة وضباب كثيف يطغى على عقلها وتتلوى معدتها من الاشمئزاز وهي ترى الصورة بوضوح أكثر ولكن ترفض تصديقها وهي تهز رأسها بالنفي وتهمس "لا، لا، غير صحيح، لا، لن يكون"
تقدم تجاها وهي تتراجع وما زالت عيونه تنبض ببريق الانتصار وهو يكمل "بلى سيكون، هنا مكان جيد لتنطلقي منه وبعدها لدي أماكن مخصوصة لهذا العمل وستنتقلين له بمجرد أن أمنح صاحبها كلمتي"
ظل يتقدم وهي تتراجع بفزع وعيونها تحدق بوجهه الكريه وهو يقول "أنا حقا كنت أعرف جمالك الحقيقي والليلة زدت يقينا بذلك وسأكسر القاعدة، أرغب بأول مذاق لهذه الحلوى المثيرة وأنا أشعر بالجوع لتذوق الكعكة التي صنعتها بيدي"
وللحظة لم تستوعب ما يقول حتى أدركت أن المسافة بينهم تقلصت فاستعادت نفسها وبدأت تتراجع وهي تحدق بعيونه المشتعلة بالإغواء
أدارت رأسها من حولها بحثا عن أي أحد ينقذها لكن المكان كان فارغا حقا وباردا جدا حتى اقشعر جسدها من الأفكار التي رأتها بعيونه اللامعة ببريق الشهوة
نفس الرغبة التي كانت بعيون ذلك الرجل الذي قبض عليها بالقاعة
اصطدم ظهرها بشيء بارد صلب أعادها لوعيها من أنه الباب، أخيرا ستهرب، لن ينالها، لن تكون فريسته
التفتت بعزم وقبضت على المقبض لتفتحه وارتجف قلبها بأمل بالنجاة وهي تقبض على المقبض البارد لكن فريد كان أسرع وهو ينقض عليها لينال كعكته
أمسكت يده الغليظة بيدها التي كانت تقبض على مقبض الباب ليمنعها من فتح الباب لكنها قاومته وهي تدير المقبض وتشعر بثقل جسده على جسدها من الخلف مستمتعا بالالتصاق بها وهي تحاول دفعه بعيدا عنها لكنه كان عملاق وهو يحبسها بين الباب وبين لحمه المترهل
أنفاسه الكريهة بدت غير نقية بل انطلقت منه رائحة الكحول وهو يدس رأسه بعنقها..
حاولت إبعاد وجهها عنه بمحاولات يائسة، جسدها الضعيف كان ينهار تحت ثقل جسده والباب يزداد انغلاقا تحت ثقلهما، ارتخى جسدها تحت ثقله وشعرت بأن المسافة انتهت بينهم وهو يجذبها له بقوة وتألمت أصابعها تحت سطوة يده وهو يجذبها للخلف بعيدا عن الباب ويضغط على يدها
تألمت أصابعها فتركت المقبض فجأة ودفعت جسدها للخلف بما تبقى لها من قوة وهو لم يكن يظن أنها ستفعل بل كان هو الآخر يجذبها بعيدا عن الباب فاندفع كلاهم للخلف بدون اتزان وهو بالطبع ارتبكت خطواته من المفاجأة وتعثرت أقدامه بأقدامها حتى شعرت بأنهما سيسقطان
قبض فريد على شعرها وكأنه يتشبث به ليتفادى السقوط وهي صرخت من ألم شعرها ويدها تمسك به لتبعد يده عنه ولا تستطيع التحكم باتزانها
وبالفعل سقط فريد على ظهره بقوة تأوه منها وهي فوقه مما جعله يئن أكثر من ألم ظهره وثقل جسدها عليه وانفلت شعرها من قبضته فتحررت منه وهي تسمعه يسب ويشتم
لم تعبأ به بل استدركت نفسها وبسرعة نهضت وعادت للباب ولكنه كان مغلق ولم يستجيب دون أن تفهم السبب دارت حول نفسها بلا هدى وهي تراه يحاول النهوض وهو يسب ويشتم ويمسك بظهره
بلا تفكير أسرعت للداخل، المطبخ، نعم منه ستخرج للقاعة وللخارج
أدركت أنه استعاد نفسه فلم تصل للمطبخ الكبير بل الصغير وما أن دخلته حتى تذكرت أنه يغلق بالمساء، أصبح فارغا، كل شيء صامت، وباب المفضي للقاعة أغلق، كادت تعود لكنها رأته يرفع رأسه ليبحث عنها فدخلت وتخبطت خطواتها بين الممرات والأواني والمواقد المطفأة باحثة عن مهرب
صوت الأقدام التي لحقت بها جعلتها تزداد فزعا وتناثر شعرها حول وجهها وهي تضع يداها على فمها لتقطع أي صوت وارتدت لتلتصق بحافة الموقد وهي ترى ظل فريد يتحرك ثم صوته يقول
"هنا أفضل أيتها الجميلة، لا يمكنك تصور كم انتظرت تلك الليلة، سأجعلها مميزة كما هو أنت"
لم تجرؤ على الحركة عندما رأت جسده فجأة يظهر أمامها فصرخت تطلب النجدة ولكنه قهقه وقال "أنت تعلمين أن المكان هنا مصمم لعزل الصوت وكلهم رحلوا للمطبخ الكبير أليس كذلك؟"
تراجعت للا مكان فهو يسد عليها الطريق الوحيد للهرب وهي تدرك صحة كلماته
لا أحد سينقذها منه.. المتوحش الكريه يحبسها هنا..
قبضت يداها على حافة السور القصير خلفها وهو يتحرك تجاها بابتسامة مكرهة وهي تهتف به "ابتعد عني أيها الندل الجبان، ابتعد عني"
ضحك مرة أخرى واهتز جسده البدين معه ولمعت عيونه الكريه على جسدها اللين فزادت شهوته الواضحة وعاد يقول "وأفوت فرصتي؟ هل تعرفين كم فتاة حصلت عليها هنا ويعملون لحسابي من وقتها؟ لكن أعترف ولا واحدة بجمالك هذا، أنت كنز صغيرتي ولا مجال لترك الكنز يفر من بين أصابعي"
الممر انتهى بركن ضيق حبسها وهي تدور برأسها لتجد منفذ آخر بلا فائدة وهو ما زال يتقدم منها، بلا مقدمات يده قبضت على ذراعها فصرخت وقلبها يسقط بين أقدامها والأدرينالين يركض داخل عروقها ليأمر عقلها بالعمل لإنقاذ نفسها
حاولت التملص منه لكنه ببساطة دفعها لتسقر بمكانها بقوة جعلت كتفها يرتطم بحافة الدولاب فصرخت من الألم ولم يهتم بها وهو يلتصق بها مرة أخرى مستحلا جسدها الرقيق بلا حياء وهي تقاوم وأنفاسه الكريهة تحرق وجهها بلا رحمة
رفعت يداها الصغيرة على صدره المليء باللحم لصده عنها أو دفعه بعيدا وعصرها الخوف من أن تسقط مهزومة ضائعة الشرف ووقتها قد تقتل نفسها أو تلقي بجسدها بالبحر بلا عودة
حاولت دفعه بكل قوتها ولكن بلا فائدة، الأفكار لا تأتيها وعقلها تحول لأبله لا يستجيب لها وهو لا يمنحها فرصة لتفعل أي شيء وشفتيه الغليظة تحاول اختراق وجنتيها وهي ترفع ذراعيها لتغرزهم بوجنتيه الغليظتين
بعد عدة محاولات لم تتوقف فيها عن مقاومته بيداها وقدماها تمكنت أخيرا من رفع ركبتها بقوة لتصطدم بمعدته المترهلة فصرخ متألما وعاد يشتم بألفاظ نابية دون أن يفلتها
حررت يدها منه ومدتها بأي تجاه تبحث عن أي شيء حولها وهو يأن من معدته ملتقطا أنفاسه لكن دون أن يمنحها فرصة للفرار من سجنه وهتف بغضب
"والآن أثرت غضبي حقا ولا وقت للدلال"
ورأته يعتدل وكأنها لم تفعل به شيء، اتسعت عيونها وهرع قلبها لأقدامها أكثر من الخوف والرعب وسقط صريعا على الأرض الباردة وهي ترى ذلك الغضب يطل من عيونه بالوقت الذي سقطت يدها على شيء بارد رفيع صلب فأمسكته وبنظرة خاطفة أدركت أنه سكين وبالطبع باندفاع الادرينالين بالجسد من شعور الخوف والرغبة بالنجاة من هذا الجسد الذي اندفع لها مصرا على أن يسرق شرفها لم تفكر كفتاة عادية
فلم تكن ليال فتاة عادية وهي صغيرة بل ماضيها يجعلها تبحث عن أي سبيل للنجاة وهي لم تتردد وقبضتها الصغيرة تقبض على مقبض السكين ومع اندفاع هذا البدن السمين تجاها كانت هي الأخرى تدفع السكين بجسده بلا ذرة تردد عندما جحظت عيونه وتحشرج صوت صرخته من الطعنة التي سددتها لجانبه وترنح جسده للخلف وهي تركت السكين بالحال تستقر بجانبه وظلت مكانها والفزع قفز من عيونها وهو يترنح أمامها ويهتف
"أيتها الفاسقة.. سأقتلك"
لم تتحرك بل كانت جامدة وقد فقدت القدرة على الحركة وهالها منظر الدماء التي ظهرت على ملابسه وارتفعت عيونها لتراه وهو ينزع السكين من جانبه والألم يرتسم على ملامحه وتبدل لون بشرته للأحمر وأنفاسه تلهث وهو يصرخ بها
"والآن ستدفعين الثمن أيتها الفاسقة"
وهجم عليها مرة أخرى موجها السكين تلك المرة تجاها، رفعت يداها لتحمي بهم نفسها وأغمضت عيونها وانكمشت وهي تدرك أنها انتهت وانتظرت الطعنة القاتلة
لكن السكين لم تصبها وفريد لم يندفع تجاها بل صوت غريب سمعته يشبه حشرجة الأموات جعلها تفتح عيونها ببطء وتبعد يداها لترى جسد فريد امامها ونظراتها تسقط على السكين ولكن ليس بيده بل مغروزة بعنقه والدماء تنطلق من الجرح كنافورة مياه أغرقت كل ما بجواره وعلى ملابسه ووجهه
اتسعت عيونها وأحاطت فمها بأصابعها لتكتم شهقة فزع ورعب عندما سقط أمامها وعيونها تتبعه ثم ترفع عيونها لترى جسد ذلك الرجل يقف خلفه بثابت وعيونه عليها
المنقذ، العملاق
نفس الجسد الرائع، العيون الجذابة، هو نفسه يقف بقامته المديدة وجسده القوي يواجها بنظرات مبهمة ..
لم يكن هناك وقت للذهول الذي أصابها من منظر الدم ولم تقاوم القيء الذي هاجمها بلا رحمة وهي تنحني وتفرغ كل ما بمعدتها بلا قدرة على التوقف
انتظر حتى توقفت وهو توقع ما فعله فريد، كلماته عنها بالحفل لم يعجبه فأمره أن يتركها بالداخل وألا تخرج مرة أخرى وظل من بعدها هادئا منتظرا وقت خروجها وقد اتخذ قراره
لن تبقى هنا يوما واحدا بعد ما كان..
هذا الكلب فكر بأن يلمسها فلم يتردد وهو يزرع السكين بعنقه ولو لم يمت سيعود له ويقتله بدم بارد لأنه فكر بأخذ ما لا يخصه
ما أن هدأت حتى رأت كوب ماء أمامها فرفعت وجهها والدموع تحرق عيونها وتحفر أودية رفيعة سوداء من الكحل الذي أجبرها فريد على وضعه قبل الحفل على وجنتيها
أخذت الماء وغسلت فمها ثم تناولت بعضه ورأت رجلان يدخلان خلفه أحدهم انحنى على فريد ثم قال
"لقد انتهى"
ظل ثابتا بعيونه عليها وهي تستوعب ما يحدث وهو يقول بهدوء وبصوت آمر "نظف المكان صفوان، أنس السيارة"
كلا الرجلان نفذا بصمت بينما لمس ذراعها برفق وقال بنبرة مختلفة ظنت أنها رقيقة، حانية ولكن بالتأكيد هي تهذي من أثر ما يحدث حولها "لنذهب الآن، لقد انتهى كل شيء"
نظراتها سقطت على فريد والرجل يتولاه وارتجف جسدها وهي تدرك أنه مات ولكن منقذها قال "لا تخشي شيء، انسيه وهيا، لابد أن نذهب"
لم تعرف ماذا تفعل وقد تخدر جسدها وارتجف بقوة وفقدت القدرة على التفكير ولم تعترض وهي تشعر بلمسة يده لذراعها، هي ما زالت تعرف تلك اللمسة
لم تكن لمسة رغبة بل لمسة دافئة وكأنها تخبرها ألا تخاف فأنا لست فقط منقذك بل حاميك، لكنها ما زالت ترى مشهد الدماء وهي تنطلق من عنق فريد وعيونه التي جحظت وجسده يتهاوى على الأرض وباللحظة التالية كانت تتهاوى هي الأخرى
