رواية غرام في العالم السفلي الفصل الثالث بقلم داليا السيد
أنت ببيتي
عندما استعادت نفسها كان عندما لمسة جديدة على ذراعها أعادتها للواقع، جعلتها ترمش لتفتح عيونها تجذب هواء لتعيد الأنفاس لقلب ينبض بلا هوادة عائدا من صراع ما بين الحياة المخيفة والماضي الأسوأ
وجدت نفسها ممددة على أريكة مريحة جدا تضمها برفق وكأنها تربت عليها وتخبرها أن هنا مكانك
ضوء خافت أراح عيونها المتعبة والتي جالت بما حولها وهي لا تعرف أين هي؟
وكأنها صالة استقبال واسعة، مقاعد وثيرة، جدران باللون الفاتح فارغة من أي شيء
أين هي؟
سؤال جعلها تعتدل بفزع متذكرة ما كان وتنتفض لتراه يقف بجوارها وهو يقول بصوت هادئ قوي يتسرب بعزيمة داخل شرايينها "رفقا بنفسك كي لا تصابي بدوار مجددا"
التقت بنظراته الفارغة فتوقف عقلها عن التفكير.. صاحب الأزرق الذي شعرت أنها تغرق به هو من أوقف فريد عنها
صداع ارتفع لرأسها فجأة، ألم جعلها ترفع أصابع مهتزة تهرس بها جبينها ربما توقف الألم وتفر من نظراته
لا يمكن أن تضيع من الواقع هكذا، لم تواجه ذلك الرجل الذي لا يبدو عليه أي تأثر بعد أن قتل شخصا ما
بضعف واضح ظلت تحدق بالسجادة الفاخرة تحت أقدامها والغريب أنها لم تشعر بالخوف من قاتل يواجها بل همست "أين أنا؟ ماذا حدث؟"
ارتد للخلف وجذب كوب أدركت من لون مشروبه أنه عصير وعاد لها وقد تخلص من ملابسه واستبدلها بجينز قاتم وقميص أبيض صيفي فبدى أنيقا جدا ووسيما أكثر مما كان خاصة وأن خصلاته تهدلت على جبينه مثيرة داخلها أحاسيس لا تفهمها
كان يمد لها الكوب بساعده الذي رأت عضلاته واضحة عليه كما هو كتفه العريض وصدره العضلي الذي واجها من بين طيات قميصه المفتوح، تذكرت جسد فريد المتهدل واللحم ينتشر بكتل غير متكافئة على جسده، وصفعت نفسها وهي تصرخ بوجهها هل جننت!؟ لا وجه للمقارنة
كانت عيونه الجميلة تراقبها، ليس بنظرة رغبة بل قلق واضح، قلب ينبض باللهفة، الخوف، القلق.. هو قاتل يقف أمام براءة يعرفها وضعفها يهزمه وقوتها لم تظهر بعد ولو ظهرت قد تدفعه للظلام من جديد وتحبسه بالضياع للأبد
ترفضه، تلقي به بأحضان الألم والعذاب من جديد دون أن تدرك أنها عذابه ونعيمه، جنته وجحيمه، هي كل ما أراد وتمنى
عاد لها ليجيب سؤالها "لا شيء، لم يحدث شيء، لقد انتهى الأمر وأنتِ الآن ببيتي، فقدتِ الوعي وأحضرتك هنا، تناولي هذا لتستعيدي حيويتك"
فقدت الوعي نعم، لكن ببيته فما معنى ذلك؟
عادت تلتقط البحر المائج داخل حدقتيه، منظر لا يمكنها أن تتوقف عن تأمله بلا ملل
ظلت نظراتهم متصلة وكأن كلاهم لا يرغب بترك الآخر ولكن بداخل تلك العيون أسئلة لا حصر لها وبالأخرى إجابات لا يمكن النطق بها
أدرك الخوف الساكن بين نظراتها فقال "تدركين أني لن أضر بكِ أليس كذلك"
لم تجيب، هي لا تشعر بأي خوف أو تهديد بالخطر بل وكأنها أخير عادت إلى حيث تنتمي ولا تفهم سبب ذلك الشعور
بصعوبة نزعت نظراتها عنه وأخذت الكوب من يده على مضض وتمنحه إجابة صامتة على سؤاله وابتعد هو وهي تستوعب كلماته
كان عليها أن تتحدث، تعيد لسانها للعمل، تفهم، تستوعب لذا قالت "ماذا أفعل ببيتك؟"
كان قد جلس أمامها على مقعد يشبه الأريكة ولاحظت كوب مشابه لخاصتها بيده، تناول منه رشفة ثم عاد ورفع نظراته لها وفمه الرجولي يقول بصوته العميق "تنالين مكان آمن حتى تنتهي الغوغاء التي كانت بالفندق"
حدقت به بذهول وهي تحاول استيعاب كلماته.. هل هذا هو الحل؟
بيته؟
كيف؟
هي بالكاد تعرفه، لماذا أحضرها هنا وهو الآخر بالكاد يعرفها؟ لماذا خاطر بحياته وقتل رجل لا يعرفه من أجلها؟
بلعت ريقها ولم تنظر له وهي تحدق بالعصير وقالت "لماذا فعلت معي ذلك، أنت لا تعرفني؟"
عندما لم يرد رفعت وجهها له وآه من تلك العيون التي تأسرني وتهزمني، كيف تجلس هادئة أمام قاتل؟ فريد كاد يبطش بها، يتسكع بمتعة على شرفها وهذا الرجل..
أبعد وجهه عنها وقال "هل تظنين أن هذا سؤال؟ كنت ترغبين أن أتركه ينالك؟ لم يكن سيتردد وأنت تعرفين ذلك"
نعم هي تعرف أنه على حق ونعم هذا سؤال لا مكان له ولكن ليس لدرجة القتل
قالت "كان يمكنك تركي دون أن تورط نفسك ب.. أقصد ما حدث"
أسند رأسه على أصابعه وهو يلف بعيون قاتمة على ملامحها المنهكة والملطخة بالكحل الأسود، ملابسها التي كانت مبعثرة وما زال يحاول كظم غيظه من فريد ولولا أنه قتيل لظل يقتله الآلاف المرات ليهدأ من غضبه
قال بهدوء "ومن الصواب تركك مع القتيل أم إنهاء ما بدأته على الوجه الصحيح؟"
تناولت رشفة من مزازة البرتقال، ابتلعته وأخفضت عيونها وهي تعلم أنه على حق، لم يكن ليتركها مع فريد ولكن..
فريد.. وهي كانت السبب بقتله.. يا الله ماذا سيكون مصيرها؟
حدقت به بعيون اتسعت دليل على الحيرة والضياع الذي ينهشها وقالت بنبرة حاولت أن تكون هادئة "وماذا سيحدث لي!؟ أقصد الكاميرات.. الزملاء.. أنا كنت السبب، أنا.."
تلاعب بالعصير داخل الكوب دون تناوله مقاطعا إياها بلا رغبة بأن تظل تحمل ذنب كلب لا يستحق لحظة من اهتمامها "لستِ السبب، كان يستحق ولا داعي للقلق رجالي تولت الأمر، اسمك لن يذكر بالتحقيقات نهائيا"
قتامة قابلتها بعيونه ورحل الأزرق منهما مانعة عليها أي تفكير أو جدال بما كان
تركت عيونه راغبة باستيعاب ما يدور حولها بل وفهم نفسها وشعور الراحة الذي يغلفها ويمنعها من القفز عليه والفرار منه
تناولت باقي المشروب والصمت لفهم وهي تفكر بمليون سؤال ومن هيبة ذلك الرجل لا تستطيع النطق بأي سؤال أمامه
عليها أن تتحلى بالقوة وتعرف من هو وماذا يريد منها؟ الراحة ليست نهاية المطاف ما زالت حياتها هي ما تهمها، نهضت واقفة وقد تحلت بالقوة بعد الضعف ونفضت مخاوفها مما كان وقالت
"شكرا لك هل يمكن أن تعيدني شقتي؟"
أبعد رأسه عن أصابعه ووضع ساقا فوق الأخرى، ما زلت الزعيم حتى ولو كان معك ليال..
قال بهدوء ويده ما زالت تعبث بالكوب ونظراته على العصير وهو يقول "فريد يعمل لصالح أخيه حسن فوزي العطار، هو يدير منظمة معروفه لفتيات الليل، فريد يسقط البنات بالعمل ويوردهم لأخيه، عصابة تعمل بالخفاء"
تجهم وجهها ولكن كلماته وافقت ما قاله فريد فقالت "وصاحب الفندق يعلم؟"
رفع وجهه لها بنظرات تكاد تقسم أن بها نوع من الذنب بجوار غضب، قوة وهو يقول "للأسف لا، لم أكن أعلم إلا الليلة بعد أن حدث ما حدث"
اتسعت عيونها الجميلة أمامه، هل تزداد جمالا فوق جمالها الأخاذ رغم الفوضى التي كانت بها؟ حتى وعيناها منتفخة ومتورمة من البكاء، وجنتين نابضتان بالحيوية كحبتين من الفراولة الطازجة
تلك الشفاه المتزمتة تجذب كل الأحمر من ضوء الشمس الغاربة وتضجع على فمها برقة تدعوه لاقتناصها بلا رحمة بقبلة قد تقتله قبل أن ينتهي منها
توقف عن الضياع بجمالها عندما سمعها تقول "أنت!؟ أنت صاحب الفندق؟ أنت الريس؟"
أبعد عيونه مرة أخرى عنها للعصير، رفع الكوب لفمه وأنهى كل ما بالكوب وتركه على المائدة المجاورة محاولا أن يستمد منه القوة على مواجهتها فهي الوحيدة التي تفقد الريس قوته ولكنها لا تعلم
عاد لها بثبات لا يكشف وهنه وقال "نعم أنا هو.. هل تجلسي؟ ما زلت متعبة"
هزت رأسها ولم تدرك كم كانت فظيعة المظهر، لم تهتم، فقط كانت تذكر كلمات نيلي عن الريس صاحب الفندق ولم تظن أنها طوال الليلة كانت تحت حمايته هو شخصيا فهل هي صدفة؟
التفتت بحركة حادة من غضبها المكتوم لتبعد الكوب فتألمت من كتفها وبالطبع تذكرت أن فريد دفعها بقوة واصطدمت بشيء حاد سبب لها هذا الألم
صدرت منها آهة ألم مكتومة جعلته ينتبه وعيونه تنغلق على قلقه فنهض على الفور وهي ترفع يدها تجاه كتفها بعد أن تركت الكوب وهو تحرك لها وهو يقول بنبرة الزعيم الآمرة
"ماذا بك؟"
اعتدلت ونظراتها التي زاغت منه كي لا تواجه كانت تدل على الألم، فقط عطره الثقيل ضربها وهي تشعر بأنها تعرف هذا العطر، حرارة جسده رحلت لها بثانية جعلتها ترتبك وتشتت أفكارها
لماذا لك هذا التأثير عليّ أيها الوسيم؟
لماذا أشعر أني مقيدة بك منذ الأذل ولا يمكنني الابتعاد عنك؟
عيونك هذه ذات صلة وثيقة بي، تعرفني كما أعرفها، تخاطبني وداخلي يفهمها لكن أنا لا
أنا تائهة داخل متاهتك، داخل زعامتك التي لفتني لتجعلني من حاشيتك، لا، أنا لست تابعة لأحد حتى ولو كنت أنت من أنقذ شرفي وحماه
حتى تلك الأنفاس التي تلفني بدفء وتغرقني برائحة البرتقال ليست بغريبة عني، كل ما حولك محيط عميق غرقت به ولكن بذات الوقت تجذبني لشط الأمان
فمك الرجولي هذا يذكرني بشيء مر بحياتي لكن لا أعرفه، هل خرجت منه كلمات لي؟
لمستك الحانية ليست بجديدة ولا تخيفني بل تمنحني أمان أعرفه أيضا
من أنت؟
شعرت بقلبها ينتفض بقوة لقرب ذلك الرجل منها ورفعت رأسها تعبر بنظراتها جسده الهائل بداية بعضلات بطنه البارزة خلف قميصه المحكم ومرورا بالصدر العضلي واستقرارا على نظراته الجادة والقلقة وقد أدركت من بشرته البرونزية وتلك التجاعيد الطفيفة حول عيونه أنه مر بمنتصف الثلاثينات لكنه حقا وسيم، بل رائع
هو ببساطة.. حلم كل فتاة
وهي أولهم..
غضب اجتاحها فجأة وبلا سبب من فكرة وجود فتيات حوله
نظراته كانت تنتظر ردها بفارغ صير وقد تاه منها ما كان يرغب بمعرفته ولكنها استدركت نفسها ورمشت لتعيد نفسها للواقع وهي تقول "لا، لا شيء، أنا بخير"
ضغط على أسنانه وهو يدرك الألم بعيونها جيدا ولو استمرت بالعناد سيجبرها على الاعتراف بطريقته لذا نبرته كانت تحمل التوعد وهو يعيد السؤال "ليال أجيبي، ماذا بك؟"
رفعت وجهها له ونست الألم وهي تلتقي ببحيرة زرقاء صافية تحت رموشه الكثيفة وارتفعت دقات خفية داخل صدرها وهي تهمس "أنت تعرف اسمي؟"
كان ينطق باسمها وكأنه يعرفها منذ سنوات وليس فتاة تعمل لديه وأنقذها لتوه من الاغتصاب..
لم يهتم لما سقط به، بالنهاية ستعرف كل شيء فلا داعي للتراجع الآن فقال بلا مبالاة "بالطبع أعرف، أنت ببيتي، والآن ماذا بك؟"
تراجعت من نبرته القوية، من إدراكها أنه لا يعرف فقط اسمها بل كل شيء عنها من نبرته الواثقة، من كل ما يحدث لها لتشعر فجأة بالضياع، بأنها تخضع لسلطته، ملكه
تأثيره القوي جعلها تنصاع له وكأن به سحر أسقطه عليها فأطاعته بالحال قائلة "اصطدمت بشيء وأنا بالمطبخ وكتفي يؤلمني"
هز رأسه والتفت ينادي بحزم "هندية"
مرة واحدة بتلك النبرة كانت كافية لتفزعها وتدير رأسها تجاه امرأة متوسطة العمر والقوام تسرع خارجة من مكان جانبي وهي تجيب "نعم يا ريس"
توقفت أمامه تلهث وهو يقول بثبات وأمر لا يقبل النقاش "ارسلي بطلب مي الآن"
هزت رأسها واختفت مرة أخرى فارتد لها وقال "مي ابنة هندية وهي طبيبة، سترى كتفك وتمنحك ما يريحك"
لم تفهمه وهي تسأله مرة أخرى "لماذا تفعل معي ذلك؟"
لم يرد.. اكتفى بنظراته القريبة جدا منها وهي ظلت ساكنة أمامه وعاد عطره لها ليضربها بقوة وعيونه ضاقت بتلك النظرة التي جعلتها ترتجف
الذكريات ضربتها بالحال، كما ضربتها بالفندق عندما لمسها بيداه
عاد وميض البرق ليضيء لها ممر الذكريات المظلم لترى بوضوح ما لم تكن قد رأته واتسعت عيونها غير مصدقة ما وصلت له
إنه هو، هي متأكدة من تلك العيون، ربما الشعر ليس كما كان طويل ومتهدل لكن نفس الخصلات، الفم الذي كان يمنحها كلمات تهدئة، نبرة الحنان
إنه هو..
****
تحركت أحلام، فتاة الخامسة والعشرين بعيونها البنية الضيقة وشعرها القصير المربوط بذيل حصان للخلف مسرعة داخل الحديقة مرورا بالحراسة المعتادة والجميع يحفظها
أخت سعد أحد رجال هارون، ترعرعت تحت رعاية أخيها وبالطبع هارون، منحها مهمة واحدة منذ وضع ليال برعايتها بعد موت أم عمر وهي ما زالت بالعشرين وتعمل بأحد شركاته
لم تفهم سر اهتمامه بفتاة مثل ليال ولكن الجميع اعتاد على تنفيذ أوامر الزعيم بلا نقاش والليلة عرفت بما حدث وسعد استدعاها لتختفي قليلا بعد ما حدث
عيونها جالت بالمكان بحثا عنه، الرجل الذي تحلم به كل ليلة وهي تعلم أنه لا يفكر بها، هي مجرد أخت زميله ومهما حاولت جذب اهتمامه لها لا تنجح فهو لا يرى شيء سوى عمله وهي تعرف جيدا عمله
المنفذ..
هو ينفذ العقاب الذي يأمر به الريس، وهو ذراعه الأيمن وصديقه المقرب، حارسه الأمين
صفوان..
حيت الرجال المتفرقة بالمكان، هارون يجمع كل رجاله حوله، يمنحهم كل سبل الراحة، يدربهم بنفسه حتى صنع منهم رجال لا تهزم ولا تخشى الموت وتخلص له وتفديه بحياتها
وصلت للبيت الذي يجمع الرجال ورأت سعد يخرج لها وقد منحته رسالة بوصولها، توقف أمامها بقوامه العضلي وقال "هل تأكدت أن لا أحد يتبعك؟"
أبعدت خصلة من شعرها عن عيونها وقالت "نعم، أين ليال؟ هل هي بخير؟"
التفت حوله وقال "نعم، ستبقين مع هندية والدكتورة مي حتى يأمر الريس بعودتك للشقة"
التفتت بعيونها باحثة عنه وهي تقول "هل الجميع هنا؟ أقصد ألا عمل بالخارج الليلة؟"
ضاقت عيونه التي تشبه عيونها البنية وقال "منذ متى تسألين عن العمل أحلام؟ اذهبي لبيت هندية هي تعمل بأمرك"
تذمرت من طريقته الجافة وإن كانت هذه طريقته الوحيدة معها فالعمل بعالمه جعله صلب، قاسي
فقد كلاهم والديهم بحادث بشع عندما هاجمهم لصوص وعندما قاوم والدهم لقى حتفه على الفور والأم هي الأخرى ولولا وصول هارون ورجاله لماتت هي وأخيها أيضا
هارون أنقذهم لكن تركهم لحياتهم، سعد كان بالعاشرة وهي بالسابعة، الحزن لفهم والضياع كاد يأخذهم بدوامته لأن لا أقارب اهتمت بطفلين ولا شرطة استطاعت معرفة الجناة مما دفع سعد للبحث عن هارون وطلب مساعدته بالانتقام وقد كان
من وقتها وسعد وهب حياته لهارون الذي فتح لهما بيته وتولاهم برعايته كمعظم الرجال هنا
تحركت على مضض حتى رأته، هذا العملاق لا يمكن تفويته أبدا ولو لم تراه بعيونها لرأته بقلبها
أسرعت الخطى تجاهه وهو يتحرك تجاه بيت هارون ونادته، الجرأة لا تتملكها إلا معه وله، سترفع برقع الحياء فقط ليشعر بقلبها المتهاوي بسجن حبه
توقف منتبها لها حتى وصلت له وهي تلهث وشعث شعرها وتوردت وجنتاها وتنفس قلبها أنفاس الحب والسعادة لرؤية حبيبه وهي ترفع وجهها لعيونه القاتمة وتقول
"كيف حالك صفوان؟"
لم يكن صفوان يهوى النساء، كل ما يهمه عمله، تنفيذ العقاب وحماية هارون
عندما سقطت نظراته على أحلام لم تتبدل ملامحه، أحلام الطفلة الصغيرة التي أتى بها أخيها ووضعها تحت رعاية هارون وهي أثبتت إخلاصها برعايتها لليال بالسنوات الأخيرة وتنفيذ أوامر الريس
الكل يدللها كأخت صغرى وهو مثلهم لكنه لم يهوى التعامل معها، لا هي ولا أي فتاة أو امرأة، حتى مي ابنة هندية كل ما يربطه بها أنها تداوي جراحه عندما يصاب وهي أيضا ابنة هندية، نشأت معهم كأخت
أجاب باختصار "بخير"
التفت ليكمل طريقه لكنها سدت طريقه بإصرار على لفت نظره لها بأي شكل وقالت "هل عرفت أني سأبقى هنا؟ ببيت هندية؟"
بالطبع يعلم، هو رجل هارون الأول لذا قال بنفس الاختصار "نعم"
شحب وجهها من طريقته المعتادة معها وتمنت لو تبدل من اللامبالاة إلى الإدراك والاهتمام
أنا أحبك أيها الغبي.. هل أخبرك بها صراحة؟
سيقتلني سعد لو فعلت ولكن قلبي أيضا سيقتلني لو ظللت تتجاهلني هكذا
أوقفته مرة أخرى قائلة "ألست سعيد لوجودي؟ أقصد هل تظن أن الريس سيبقيني كثيرا؟"
توردها زاد من غبائها الذي أدركته ولكنه لم يهتم وهو يقول "لا أحد يعرف ماذا يقرر الريس، سيخبرك بالوقت المناسب"
التفت ليذهب وقد نفد صبره ولكنها بلا تفكير رفعت يداها على صدره وبنفس اللحظة ارتجفت من صلابته وحرارة جسده، هم تدربوا على يد هارون
تراجع من لمستها مما أسقط يداها والخجل يضربها بعد أن قالت "صفوان لماذا تفر مني؟"
انتبه للسؤال محاولا ألا يفهمه صح وضاقت عيونه عليها وقد تأني بالرد وهي ترتجف ودموع ترتفع لعيونها وهي تكمل ما بدأته فلا مجال للتراجع
"صفوان ألا تشعر بي؟"
ضربته الكلمات وأسقطته الدموع بعيونها بخندق ضيق كاد يخنقه، أخت زميله هي أخته، هذا ما تعلموه هنا وما عاشوا عليه
أحنى رأسه عليها ونطق بصوت عميق نابع من عمق إيمانه بأفكاره "أشعر بماذا؟"
انسابت دموعها حارقة على وجنتيها الملساء وهي تقول "لا تؤلمني أكثر صفوان بادعاء الجهل"
لم يبتعد ولم ينزع عيونه عن عيونها الباكية وقست نبرته عندما أجاب "أنا لا أدعي شيء أحلام هو أنتِ من لا يرى الحقيقة، أنتِ أخت صديقي، أختي، نقطة وانتهى السطر"
اختنقت أنفاسها وهو يتركها ويبتعد وظلت بمكانها تحدق بالظلام الذي تركه لها لتسبح به دون هدى أو دواء لجرحها الجديد ليعلو مجموع جراحها
صفعها بقسوة وأغلق عليها الباب، أهانت نفسها وعاقبت قلبها والمنقذ نفذ العقاب
ضمت يداها على وجهها لتكتم صوت نحيبها وهي تعرف أنها من حكمت على نفسها بهذا المصير، الكل يعلم أن صفوان ليس رجل نساء ومع ذلك لم توقف قلبها من عشقه
سعد تحدث كثيرا عن نفسه وزملائه وأنهم جميعا يدركون أن لا حق لهم بالحب والغرام، لا حب بهذا العالم
لا غرام في العالم السفلي..
الآن تستسلم وتدرك أنها هي الأخرى تنتمي لهذا العالم ولم يكن من حقها أن تحب وليتها ما أحبت والويل كل الويل لها من حب لا أمل به ورجل لا يعرف معنى الحب
****
ظلت ليال جامدة بمكانها لوقت لا تعرف مداه وكأنها كانت فاقدة للذاكرة والآن ارتدت لها جملة واحدة وهي تهمس بلا تصديق "إنه أنت!"
للحظة ظل ثابتا أمامها وقلبه الفتي يدفع بقوة معلنا عن نفسه واعتراضه على حبسه سنوات لا حصر لها
الآن حان موعد إطلاق سراحه لكن من تحدث عن الحرية وهو سجين جنونه، سجين زنزانة سوداء قاتمة تغطيها قضبان من رموشها الطويلة
لن يقاوم التيار أكثر من ذلك، سيقف ويواجه ويفتح له صدره فقد هزمته العاصفة ومنعته من المقاومة أكثر مما كان
ابتعد من أمامها والتفت للمقعد الذي كان له لكنه لم يجلس، فقط ظل واقفا بلا أدنى حركة أو كلمة اعتراض مانحا إياها الفرصة لالتقاط أنفاسها ومواجهة الذكرى واتخاذ القرار
بينما ظلت هي باللا وعي، تستعيد الصور التي تومض أمامها بسرعة كفيلم فيديو تم تسريعه على شاشة السينما، فيلم لم ترغب برؤيته ولكنه ظل سنوات مركون على رف مكتبة النسيان حتى لمسها ظهوره الليلة فدفع الشريط للنهوض ونفض تراب السنوات وقفز أمامها عائدا للحياة بكل ما يحمله من ألم وغضب وحزن
لم تدرك أنها كانت تحدق بأكتافه التي تواجها ولا أن ملامحها تجمدت وكل ما كانت تفكر به خلال السنوات الماضية يقتحم الآن دنياها، ليلة ماتت منذ اثني عشر عاما تستيقظ من الموت الآن
المنقذ.. الوصي..
اهتز جسده ومعه نبرة صوتها الجبان "أنت من انحنى علي وقال، لا تخشي شيء يا صغيرة، هو صوتك أليس كذلك؟ هي عيونك التي منحتني نظرة حنان وأمل ووعد بالأمان، هي ذراعيك التي حملتني لتنقذني من الموت"
صمتت وهو لا يجيب، هو فعل ذلك، هذا ما تعرفه هي بل الجميع لكن هناك ما لا تعرفه، هناك الأسوأ، لذا اختار ان يظل بالعتمة وراء الكواليس لأن ظهوره على خشبة المسرح سيجرمه أمامها وبدلا من أن يكون منقذها سيكون..
اقترب صوتها منه وهي تقول "أنت الوصي الذي اختفى وراء الكواليس، لماذا لم ترغب برؤيتي؟"
أغمض عيونه وضاقت أنفاسه وألم صدره يعتلي القمة وهذا السؤال إجابته تعني سقوط كل شيء
عندما أعادت السؤال بصوت رحل منه الارتجاف ونم عن رغبة بالرد التفت لها فرآها خلفه، صغيرة أيضا، لم تكبر بنظره، ظل كل تلك السنوات يراها تكبر أمامه وتحت رعايته لكن بالنسبة له هي صغيرته، صغيرته التي ما أن انحنى عليها والتقى بعيونها المتألمة حتى اهتز قلبه داخل صدره ورفض عقله ما حدث
دفع قلبه بعيدا ومنح عقله القيادة، سينقذها ويمنحها الحياة ولن يعرفها ولكن انهزم عقله وسقط قلبه عندما دخل عليها غرفة العناية وقد سكن وجهها الشاحب الصغير والجميل على الفراش ولمس وجنتها الناعمة بأصابعه ففتحت عيونها وآه من عيونها، ليل صافي ساحر ألقى عليه تعويذته فسقط بلا حول ولا قوة صريعا له
ولم يمكنه ألا يعرفها..
السحر لازمه حتى الآن.. لكنه اختار الكواليس كما قالت لكثير من الأسباب أولها.. أنه من هذا العالم، الإجرام سمته حتى ولو كان قد غسل يده منه وآخرهم أن هناك ما لو عرفته فقد تكرهه للأبد أو قد يحلم بالتفهم والغفران
همست بألم غريب يمزق أحشائها، يهرس أحلامها السابقة عن منقذها "لماذا اخترت الكواليس؟"
أحنى رأسه لها وهي ترفع وجهها لتلتقي بوجهه وتدرس كل ملامحه، عيونه الجميلة بدت واضحة وهي تتجول على وجهها، فمه الرجولي كبير ومثير للإعجاب كما عرفته، أنفه مناسب لمعالم وجهه، بشرته الخمرية تمنحه رجولة رائعة، شعره البني ما زال يملك نفس الخصلات التي تذكرها لكنه قصير، لقد قصه، تفاحة آدم بعنقه مميزة، كل شيء به مميز
أنت الوصي..
أنت هو أميري.. الحلم الممتزج بالواقع.. لذا قلبي عرفك
ابتلع ريقه وهو يلعن قلبه الذي ضعف لأول مرة لمجرد أنه أمامها وقال "لم أفكر أن رؤيتي تهمك"
شحب وجهها بلا فهم لمعنى كلماته ورددت بصمت داخلها لم يسمعه "كما هي رؤيتي، لا تهمك"
أخفضت وجهها الحزين وقالت "أنت أنقذت حياتي وتوليت الانفاق عليّ ورعايتي طوال سنوات عمري فكيف لا أهتم برؤيتك؟"
ارفعي وجهك لي ليال، أرغب برؤية عيونك التي لا أكتفي منها، تلك العيون هي سبب ضياعي، هي التي تأخذني من الواقع، تعيدني لأسفل سافلين معذبا بأسوأ عذاب
لم يعنيني يوما ما فعلته معك، كل ما كان يعنيني هو أنت، سعادتك، نجاحك، ابتسامتك، تحقيق كل أحلامك، ليتك تعلمين..
عندما لم يرد رفعت وجهها وعيونها له فثقلت أنفاسه مرة أخرى وشعر بيد غليظة تقبض على صدره وتعصر قلبه بقوة ورغبة بضمها له ليرضي قلبه الصارخ بندائه لها وهي تقول "أنا لست سيئة مثل والدي، هو من دفعني ل.."
رفع إصبعه على شفتيها المتوردة والتي ارتسمت بشكل مبدع ومثير ليوقفها وقال بصوت مختلف عنه "لا تذكري ذلك، أنا أعرفك جيدا"
لمسة إصبعه لشفتها السفلى جعلتها تذوب
من لمسوها قبله فزعت منهم، صارعتهم، هربت منهم لكن هو لا، لمسته عنت الدفء، الراحة، السكينة
عيونهم التصقت بلا رغبة بالانفصال وقلبها تهاوى بين أقدامها راغبا بالهرولة إلى الرجل الذي عشقته بأحلامها والآن اختلط الحلم بالواقع فقد تساوت الرغبة بالحالتين
هو ملك قلبها بالحلم والآن تصارع كي لا يسرق منها قلبها وأنفاسها وكيانها بل وروحها التي استسلمت له
هو ما يقال عنه.. من أول نظرة
هو يعرفها جيدا وهذا ليس عدل لذا قالت "ولكنك لم تسمح لي بأن أعرفك"
سقطت يده بجواره وهو يعود للواقع واكتست الزرقة بالظلام والفراغ واحتدت نبرته وهو يقول "لم تكوني بحاجة لأن تعرفيني وربما لن تحبي أن تفعلي"
وأراد الابتعاد من أمامها والاكتفاء عند هذا الحد ولكنها لم تمنحه الفرصة بل كانت بأشد الحاجة لمعرفته ورؤيته والبقاء بجواره إلى ما لا نهاية لذا قالت بقوة أعجبته "من منحك الحق لتقرر نيابة عني؟"
قوتها جعلت عيونه تلمع لها، لست ضعيفة، علمتك الأيام يا صغيرة وأنا فخور بك
قال بهدوء لا يتنازل عنه كرجل تعلم الكثير من السقوط بمكيدة الغضب "أنا وصيك من حقي كل شيء وأي شيء، لابد أن تفهمي أن هناك الكثير مما يجعلني بعيدا عنك بأميال ليال وقراري لم يكن من فراغ"
شعرت بالخوف يجذبها للهاوية وهي تخشى أن ينتهوا للفراق مرة أخرى؟ هو بالفعل وصيها ومن حقه الكثير لما فعله من أجلها لكن هي الأخرى لها حقوق وستطالب بها
بللت شفتاها بلسانها ورحلت عيونه لفمها مما أثار داخله مشاعر دفينة سيطر عليها كثيرا بغيابها لكن الآن وهي هنا أمامه لا يفصلها عنه سوى إنشات لا تذكر جعلته لا يعرف بأي جنون يفكر
فقط أراد أن يرفع يده لعنقها ويجذب وجهها له ويلتهم تلك الشفة بقبلة لا رحمة بها يضع بها كل ما عاناه طوال تلك السنوات الماضية ولم يدرك أنه كان بالفعل يهرس المسافة بينهم بشكل خطير منهيا تلك الإنشات التي تفصلهم وهي لا تترك عيونه وفتحت شفتيها وكأنها تفتح له أبواب الجنة
لكن الجنة ليست لأمثاله فقد قطع دق الباب ما كان يحدث بينهم فارتد للخلف بلا حركة واستيقظ من الحلم الوردي وهي أخفضت وجهها وتحكمت بأنفاسها التي فقدت التحكم بها ولا تصدق ما كاد يحدث بينهم
هل كاد يقبلها؟
وهي لم تتراجع، بل وتمنت ذلك! أي جنون أصابها؟ هل صراعها مع فريد وقتله أمامها ذهب بعقلها؟
عاد الدق وهندية تخرج من مكانها وتتحرك للباب لتفتح وشابة بأواخر العشرينات تتحرك للداخل ونظراتها بينهم وهي تقول
"صباح الخير هارون، ماذا هناك؟"
رفع الألقاب جعلها تهتم بالقادمة والتي بدت امرأة كاملة حقا، جميلة، أنيقة، طبيبة
هل لديها مكانة خاصة عنده لذا لا ألقاب بيهم؟ وهي، هل ستكون لها أي مكانة لديه غير أنه الوصي عليها؟
ليس بعد ما كان من لحظة.. عليه بمنحها تفسيرات كثيرة..
كان بمكانه ولم يتراجع كما كانت هي ولم يهتم بنظرات التساؤل بعيون مي فلا أحد يحاسبه، هو الريس
قال بنبرته الآمرة وكأنه اختلف عن ذلك الرجل الذي كان معها منذ ثانية "أريدك أن تفحصي ليال، كتفها مصاب، تلك الغرفة ستكون مناسبة"
أشار لباب جانبي من الأبواب المتعددة حولها ثم عاد بنظراته لها، تلك الصغيرة التي لم تفارقه منذ أكثر من اثني عشر عاما وعيونها ترتد له وقال "دعيها تفحصك ليال وأنا بانتظارك"
لم تقوى على رفض طلبه، لم يأمرها كما أمر الأخرى بل كانت نبرته مختلفة معها، قوة امتزجت بالحنان واختلطت بنظرة خوف عليها، حماية ككل ما فعله معها
الآن أدركت أن ما حدث الليلة لم يكن صدفة بل هو وصيها، حاميها، هو المنقذ منذ الأذل
ظلت عالقة بعيونه وهي تهز رأسها بالموافقة فلا تملك أمامه سوى أن تلبي له كل ما يريده فهي مدينة له بالكثير، حياتها كلها ملك له
تحركت إلى حيث أشار والطبيبة تتحرك خلفها ونظراته تتبعها وهو يفهم جيدا الباب الذي انفتح الآن بل هو من فتحه ويدرك ما سيأتي من خلفه إلا أنه كان راضي، فقط لوجودها هنا معه
دخل أنس فاعتدل ولم يتحدث وأنس يقول "تم حرق جثته بمنطقة معزولة ولن يصل له أحد"
نادى على هندية وهو يتحرك ليجلس على نفس المقعد والمرأة تهرع له فقال "قهوة هندية وأعدي طعام للآنسة ليال والغرفة الوسطى، هي ستبقى معنا"
كان يدرك نظرات هندية المتبادلة مع أنس وهي من الشجاعة بحيث قالت "معنا أين يا ريس؟ أنت تقيم وحدك"
أراح ساقا فوق الأخرى كعادته معلنا أن الريس هو من يتحدث الآن وقال بأريحية ممتزجة بالقوة "وماذا عنكم جميعا هندية؟ متى كنت وحدي؟ الليلة ليال كانت سبب اشتعال حرب جديدة مع قواد هندية، أخيه قتل بسببها فهل تظنين أنه سيتركها؟"
شحب وجهها وقالت بارتباك "وما دخلك أنت بها؟"
رفع نظراته لها بنظرة امتلأت بالقسوة والتأنيب فشحب وجهها وارتبكت وأدركت خطأ ما قالت فصححت بتعثر "أقصد، أقصد أن الأمور لا تسير بتلك الطريقة هارون، يمكنك منحها شقة بأي مبنى من أملاكك أو حتى فندق ورجالك تحرسها كالعادة حتى ينتهي الأمر"
لم تتبدل نظرته وكأنه يخبرها أن لا أحد يراجعه بقراره وصدق بكلمته "هي لن تكون سوى هنا هندية، ببيتي، لقد وصلنا للنهاية، القهوة"
نبرته أنهت الجدل ومنحت القرار، هي لن تكون سوى هنا تحت حمايته هو..
رحلت المرأة فوجه كلماته لأنس "هل وصله خبر اختفاء أخيه؟"
أجاب أنس وهو يفهم رئيسه بلا تفسير "ليس بعد، ستبقيها هنا حقا؟"
خطوات أخرى تحركت من الجانب الآخر ودخل صفوان وقد انتهى من أحلام بالتو ولكنه نساها بمجرد الابتعاد عنها
نظر لهارون وسأله "هل رأيت هاتفك؟ صور الحفل الليلة تصورك وأنت تمسك بيد ذلك المعتوه الذي أراد ليال"
أخرج هاتفه وعبث به ورأى الصور بالفعل وتعليقات سخيفة لم يهتم بها لكن ولا صورة لها وهو ما يهمه
أغلق الشاشة وقال "منذ متى يهتمون بالمجرم الهمجي؟"
نظر أنس لصفوان الذي قال "أنت لست بخير"
عاد يفرك عيونه بأصابعه وصداع يدق برأسه، نعم هو ليس بخير، تلك المرأة عاش سنوات يحميها دون أن تشعر ويمنع نفسه عنها من أجلها لكن اليوم هو من فضح نفسه لها من أجل حمايتها أيضا وهي ستظل هنا بجواره فهل سيمكنه تحمل ذلك القرب؟
****
تحركت داخل الغرفة الصغيرة والتي احتوت فراش يكفي لفرد واحد وخزانة ملابس صغيرة ومرآة مربعة عالقة على الحائط ومقعد وحيد
جلست على طرف الفراش ومي تتبعها وعيونها التي تشبه القهوة القاتمة تفحصها بنظرات غريبة قبل أن تقول "هل تخبريني أين مصدر الألم؟"
حاولت أن تبدو طبيعية وتمنع نفسها من أسئلة ليس من حقها أن تسألها، أو تتغاضى عن نظرة الكره بعيون الطبيبة الشابة تجاها
قالت وهي تشير لكتفها "هنا"
وقفت مي أمامها وهي تفك قميصها لتكشف عن كتفها ومي بدأت تفحص المكان عندما قالت هي غير قادرة على منع فضولها اللعين "أنت تبدين على صلة وثيقة بكل الموجودين؟"
قالت مي وهي تمرر أصابعها على مكان الكدمة فأجفلت ليال ومي تعود لحقيبتها وتقول "اسأليني مباشرة ليال، ما علاقتي بهارون؟"
تورد وجهها وشعرت بخجل يأخذها وجف حلقها من وقاحة تلك المرأة التي كانت ترتد لها وتقول "هناك جرح ودم متجمد والجرح صنع كدمة حوله، سأنظفه واضمده"
لم ترد ومي تقوم بعملها ثم قالت "لم تسالي"
ارتبكت وهي ترى أن جرأة الفتاة غريبة فقالت بحياء لا يمنع الفضول "لا أرغب بسوء فهم"
ابتسمت مي وقالت "هارون يعرف ماما منذ سنوات كثيرة ويعتبرها كوالدته وبالطبع نشأت أنا معه وعلاقتنا قوية جدا"
علاقتهم!؟ قوية جدا، هذا يعني الكثير، هل من حقها أن تسأل عن مسمى تلك العلاقة؟
كل ما استطاعت أن تنطق به سؤال واحد "تقيمين هنا؟"
وضعت مي الضمادة وقالت "بالطبع، لنا مكان خلف البيت مخصص لنا، أخبرتك أنه لا يترك ماما بعيدا"
ولا أنا.. هكذا ستكمل لكنها توقفت وارتجفت هي من الجرح ومي تقول "هل هناك ألم بمكان آخر؟"
هزت رأسها بالنفي وقاومت رغبتها بالبكاء بعد كل ما أصابها حتى الآن.. هل تأخرت بالظهور بحياته وضاع الحلم بلحظة الاستيقاظ؟
حزن صدم قلبها وعليها أن تحتفظ به لنفسها، تحزن بصمت، حزن صامت يهمس فقط داخل قلبها حتى يدهسه، يحطمه ويفتته لأشلاء ترقص فوق سطح أوهامها
حبست دموعها وأغلقت صنبور الضعف داخلها بينما ارتدت مي لحقيبتها تعيد أدواتها وقالت كلمات فاجأتها "هو لن يتركك ترحلين"
كانت تعيد غلق قميصها فتوقفت أصابعها ورفعت وجهها لتواجه مي وهي تسألها بدهشة "ماذا!؟"
أغلقت مي حقيبتها ونظرت لها بطريقة لم تفهمها وكأنها تتهمها بشيء لا تعرفه وهي تقول "هارون، لن يتركك تذهبين، ليس بعد اليوم لقد تركك كثيرا وأظن أن تلك الخطوة كانت مؤجلة"
لم تعد تفهم شيء، هي من جعلتها تفهم أن هناك علاقة بينها وبين هارون وهي نفسها الآن من تخبرها أنه لن يتركها ترحل وهي بين هذا وتلك ضائعة بلا فهم
أبعدت عيونها بلا رغبة بالجدال مع تلك المرأة وأغلقت قميصها وقالت "تركني كثيرا!؟ هل هذ يعني أنك تعرفيني؟"
ارتدت لها مي ووجهت لها نظرات مباشرة جعلتها تواجها هي أيضا وهي تقول "لا أحد من العائلة هنا لا يعرفك ليال، هو أنت من لا تعرفين أحد"
هل تتعمد إغضابها بكونها لا تعرف أي شيء مما يدور حولها؟
شحب وجهها وهي تردد "العائلة!؟ تعرفوني؟"
ابتسمت مي وقالت "أنت صغيرته التي جعل نفسه وصيا عليها"
لم تتبدل ملامحها وهي التي ظنت أنه لا يهتم بها ها هي تسمع أن الجميع يعرف بأمرها، لماذا ليست سعيدة بذلك؟ فقط لأنه اعتبر نفسه وصيا هل هذا يعني كوالد مثلا؟ أو هناك امرأة مثل مي تعرفها؟
زادت ابتسامة مي وهي ترى تعبيرات ليال وكأنما تتغذى على غضبها وحزنها وخرج صوتها محملا بنبرة انتصار "هو اعتبرك كابنته التي لم يحصل عليها وعاش الدور، لا أعلم ماذا سيفعل عندما ينجب طفل من زواجه؟"
الحديث كان سريع وفوق قدرة تحملها والكلمات رحلت منها ولم تجد ما تقوله وهي عاجزة عن التفكير، فكرة واحدة لمعت أمامها عن مي فقالت "وهل هو مرتبط ومنتظر الزواج؟"
ضحكت مي بدلال وقالت "بالطبع مرتبط ألم تفهمي بعد؟"
وتحركت مي لخارج الغرفة والدموع انتصرت عليها وهي تنزل من عيونها المتعبة، الآن تدرك أن مي هي امرأته وهو يبقيها بجواره لأنهم بالنهاية سيكونون زوجين أما هي فمجرد فتاة وضع وصايته عليها وهي الآن لم تعد بحاجة له فقد شقت طريقها وحدها وعليها أن تكمل وكأنها نست ما تورطت فيه منذ ساعات قليلة ماضية..
جريمة قتل..
****
تحركت مي تجاهه وهي ترى أنس يجلس أمامه، نظرات أنس كانت تتبعها بكل مكان تذهب له، تمنى لو كانت مرة تنظر له بنظرة مختلفة عن كونه صديق الرئيس وخط دفاعه الأول، تمنى لو تتخطى هارون وتتحرك له هو ولكنها بالطبع لن تفعل، بينهم الكثير من الموانع يكفي أنها طبيبة وهو ماذا؟
بالكاد حصل على حياته هنا وذلك أيضا بفضل هارون، لولاه لما عاش وفسدت كل حياته وظل مطارد لنهاية عمره
تناول هارون القهوة دون أن ينظر لأحد ومي تتحرك له وتقول "هي بخير هارون، مجرد جرح بسيط بالكتف وأنا اعتنيت به"
لم ينظر لها أيضا وهو يكمل القهوة ويسأل بهدوء "ليس هناك أي جروح أخرى؟"
لمعت عيونها من اهتمامه بتلك الفتاة، كما أخبرتها الكل يعرف اهتمامه بها منذ تلك الليلة وربما هذا كان يزعجها بحق وكثيرا ما تمنت جذب انتباهه لها ولكنه جاد بدرجة تثير جنونها وتتمنى لو عرفت ما برأسه تجاه تلك الصغيرة
أجابت وهي تجلس بالمقعد المجاور له "لا" وعندما لمحت ليال تخرج من الغرفة بطرف عيونها وضعت يدها على يده التي ترتاح على ذراع المقعد وأكملت "اطمئن تعلم أني جيدة بذلك"
سقطت نظرات ليال على يد مي التي تمسك بيده وتوقفت مكانها لحظة وطعنة حادة انطلقت لقلبها..
هو حقا على علاقة بها كما ألمحت لها، لم يكن من حقها التفكير به أبدا، هي بالكاد تعرفه، لا أحد سواها مسؤول عن تلك الأحلام التي كانت تعيش بها والحب الذي سكن قلبها لرجل لم تعرفه ولم تعرف عنه شيء
حب..؟ هل تحبه؟ هل سقطت بالغرام مع رجل لم تعرفه؟
مغرمة بشبح؟ رجل لم تعرفه سوى بأحلامها؟
إذن لماذا يدق قلبها له بالواقع؟ لماذا ترغب بأن تظل معه، تحت كنفه، بحمايته لآخر نفس من أنفاسها بل وأنفاسه؟
لم يجيبها سوى اليأس.. يد مي الثابتة فوق يده أعلنت عن النهاية.. نهاية حكاية لم تبدأ من الأساس
**
حكاية حب.. وهم.. غرام..
لا معنى للأحلام عندما ننساها بمجرد اليقظة.. لكنها كانت أمل، أمنية تضيء الظلام
قد تصارع الواقع فتتسلق على جثته وتهزمه وتنشر نورها لتضع واقعها الجديد
وقد تتقهقر مهزومة مهروسة أمام مصير مجهول وتنكمش حتى تتلاشي داخل سرداب اليأس وتستسلم بلا قوة على التفوه حتى بذرة أنين..
***
ظلت نظرات ليال ثابتة على يد مي التي ارتاحت على يد هارون وبدا أنه وضع طبيعي
نظرات أنس أيضا تحركت ليد مي والغضب ارتسم على وجهه وهو يرغب بصفعها على وجهها لتجرؤها على ذلك، رئيسه لا يفكر بتلك الطريقة فهو يعرفه جيدا
أنس كان أول من شعر بخروج ليال فتحرك بوجهه لها وهي ظلت جامدة مكانها وعيونها على الأيدي أمامها فقال متعمدا "آنسة ليال!؟ أتمنى أن تكوني بخير"
انتبه هارون لها فنفض يد مي ونهض بالحال ملتفتا لها وتبدلت نظرات مي للغضب من تصرفه وحدقت بليال الشاحبة وهارون يتحرك تجاها بخطواته الرشيقة والتي تدق الأرض تحته وليال تحدق به ونظراتها تحاول تغطية ما بقلبها من ألم ليس لها حق به
توقف أمامها وأسقط كل اهتمامه عليها بتناقض غريب مع كلمات مي
هل اهتمامه الآن كوصي؟ أب؟ لا شيء آخر يربطه بها سوى مشاعر أبوة لا يمكن التسليم بها
خطفها صوته من شرودها "ليال، أنت لا تبدين بخير، هل تشعرين بشيء؟"
قبل أن تجيب كانت مي تفعل "أخبرتك أنها بخير هارون هي تتدلل عليك، أنت وصيها"
لم ينظر لمي ولم يهتم بكلماتها وعيونه تتجول على وجهها وشفتيها التي عادت تغلق بلا رد بسبب مي ولكنها لم ترفض نظراته القلقة وهو يعيد السؤال منتظرا صوتها ليرتاح "ليال هل أنت بخير؟"
هتفت مي مرة أخرى لتمنع ليال من الرد "هي بحاجة لحمام و.."
لكنه لم يطيق ذلك الصوت الدخيل والذي أزعجه بشكل أثار غضبه فالتفت لصاحبته وهتف بنبرة حادة صارمة أوقدت الحرج داخل الطبيبة الحاقدة "لقد انتهى عملك مي يمكنك الذهاب"
شحب وجه مي من كلماته المهينة ونظرات أنس تحدق بها وهي تنهض وهو أيضا نهض معها وقال "مي أرغب بسؤالك بشيء، تعالي"
ظل وجهها الباهت يحدق بهارون وهي تقريبا لم تسمعه وهو يتقدم منها فكرر "تعالي"
لمس ذراعها بطرف أصابعه فانتبهت له وقد استعادها من ذهولها وغيرتها من فتاة لا تعني شيء ولكنها سرقت الرجل الذي حلمت به وهي ظنت أن بخبرتها قد تهزمها..
الدموع تأرجحت داخل عيونها الجميلة، بنية قاتمة لا هي من العسل الصافي ولا من القهوة، خليط بين اللونين وقد كانت تتابع هارون الذي عاد لصغيرته ولم يمنح أحد سواها اهتمامه
انكسر الحب الذي عاش بقلبها له، كل شيء كان يخبرها أنه ليس لها ومع ذلك عاش الأمل بقلبها، تحدت الحقيقة بغباء وصارعت بحرب لا تخصها وهي تعلم مسبقا النتيجة ورغم ذلك لم تتراجع عن حلمها وها هي تلتقي بهزيمتها الأولى بأرض المعركة
لم ترى الهزيمة فقط بل تجرعتها بمرارة علقت بفمها ولن تزول وبتلك اللحظة تمنت من كل قلبها لو كانت مكان تلك الفتاة التي يمنحها كل شيء، نظراته، اهتمامه و.. قلبه
عاشت هنا بجواره، ظله الذي لا يفارقه لكنه كان يفارقها لأنه لم يكن يراها فلا شمس تتبعها لتجعله يرى ظلها فلا ظل دون شمس تظهره
الآن انطمس الظل، دهسته أقدام شمس ساطعة، شمس ظلت مطموسة خلف غيوم لم تنقشع إلا اليوم، شمس أشرقت دون أن تدرك أنها أحرقت ما حولها بلا وعي
تلك الفتاة التي كانت تعيش خلف الأبواب وعندما عبرت لحياتهم كانت هي أول من دهستها تحت أقدامها وهي تعلم أنها لن تنهض أمام هارون مرة أخرى وحتى لو تسلقت عبر ظلها الواهي فهو لن يراها لأن شمسه طغت على كل الظلال من حوله وسرقت عيونه وأنفاسه وحتى ذاته
نظرات أنس لها كانت تعني أنني أشعر بك، كلانا سقط بهاوية الحب من طرف واحد وها هو كلا منا حبيس بقاع أخطائه
جذبها وهي لا تقاوم، كانت باللا وعي، تحركت معه كالمخدرة وعادت بعيونها الدامعة للثنائي الذي لم يشعر بهم لتدرك أنها كانت تعيش بالأوهام وها هي الحقيقة تتضح، تشع ببريق يسرق الأنظار لها فاستسلمت ليد أنس وتحركت معه للخارج
لم يشعر الثنائي الجديد بما يدور خلف الأبواب المفتوحة وهارون يعود لعيون ليال السوداء الواسعة والتي امتلأت بدموع انخلع قلبه لها وهو لا يفهم سبب دموعها ولا الحزن والألم بعيونها
فقط امتلأت نظراته بحنان رأته، أدركته كامرأة وليس طفلة، عاشقة وليس ابنة، حنان لا يسعدها بقدر ما يؤلمها.. فلا تعاملني على أني طفلة
أنا امرأة.. تشبعت بحبك حتى الثمالة منذ كنت طفلة ومن وقتها وهبت نفسي لك
"ماذا حدث ليال؟ لماذا تبكين؟ هل هناك شيء يؤلمك صغيرتي؟"
صغيرتي.. الكلمة صفعتها بعنف جعلتها تستيقظ من قاع الحلم الذي كانت تعيشه لتجد نفسها تغرق بين أمواج مشاعرها المتلاطمة
هزت رأسها بحثا عن طوق النجاة وهتفت بصوت مختنق بالرفض ممتزجا بغضب فتاة عاشت وتمنت وحلمت "أنا لست صغيرة"
وتحركت مبتعدة من أمامه لتواجه المقاعد التي فرغت من الجميع، رافضة رؤيته لدموعها وضعفها فقد اكتفت
ظل مكانه لحظة وهو لا يفهم سبب تلك الدموع أو ذلك الغضب، كلاهم يمنح ظهره للآخر وكلاهم لا يدرك كيف تطورت الأمور هكذا بساعات قليلة؟
التفت فرآها تمنحه ظهرها وتلف نفسها بذراعيها وبدت صغيرة لكن هنا، معه، الآن يدرك أنها امرأة تدرك جيدا ما تخطو له، ترفض ، تجادل، تغضب وتواجه..
ليست ضعيفة ولا خائفة، هي صارعت حاتم وفريد.. طعنت الأخير بسكين بلا ضعف.. تقبلت موته بشجاعة، تناطحه هو نفسه العناد دون اهتمام أنه الزعيم..
لو أراد زوجة فلن تكون هناك امرأة أفضل منها لتكون بجواره كزوجة الزعيم..
تحرك لها ليقف خلفها دون مواجهة وجهها وانساب عطر انثوي مغلف برائحة الفانيليا لأنفه مما جعله يشعر بخدر بجسده
تماسك وتجاوز شعور الإغواء داخله وقال "بالنسبة لي أنت.."
التفتت له بغضب من كلماته التي لم تجعله يكملها لأنها تعرفها ولكن لا تؤمن بها ولم تعيرها أي اهتمام فقط قالت "أنا بالثانية والعشرين، لم أعد طفلة حتى بالنسبة لك"
ابتسم للغضب الطفولي المرتسم على وجهها وأعجبه كل ما يراه على وجهها من غضب ورغم دموعها العنيدة والتي أدرك أنها حاولت إيقافها إلا أنها كانت جميلة جدا بعيونه، تحول زعره عليها إلى قلق من جهة أخرى
قال بنبرة مختلفة عنه، نبرة تخرج لها وحدها "متأكد من هذا وأدرك الفارق جيدا"
هل يفعل حقا!؟
نظراته الهادئة والفارغة تخبرها بصدق كلماته.. هل يكذب الريس؟
هدأ غضبها دون أن تنطق بكلمة وهو انحنى برأسه تجاها وهمس مؤكدا ما قاله "أنا أكاد أودع الثلاثينات ليال"
فتحت فمها لترد لكنه أكمل مغلقا هذا الباب بلا رغبة بأي جدال به على الأقل الآن فبقدر ما تبدو هي رافضة له بقدر ما يكره هو حتى الخوض به
"أنت بحاجة للراحة والنوم، النهار أوشك على الظهور"
لم يرحل الغضب عنها ورفضت أن يتحكم بها فلو لم تكن تمثل له سوى طفلة فهي لن تتصرف إلا مثل الأطفال، هتفت "أعدني شقتي"
لم يرحل هدوئه ولم يبتعد من أمامها وهو يقول "لن تذهبي لأي مكان، ستظلين هنا حتى أقرر أنا متى يمكنك التحرك لأي مكان"
الغضب يشتعل داخلها والجنون الطفولي يوقف عقلها عن العمل والغيرة وحش غبي يمضغها بشهية
فتحت فمها لتعترض وهو أدرك ذلك فقطع عليها سبيل الاعتراض مكملا "لا مجال للاعتراض ليال، ستبقين وستنفذين كلماتي بلا جدال لأنك تدركين أنها الصواب، أنا لابد أن أذهب الآن وعندما أعود نتحدث بعد أن تكوني قد نلت قسط من الراحة"
بالطبع لم تكن لتتلقى الأمر هكذا وتنفذ ببساطة، هي ليست بالضعف الذي يظنه
أشاحت بيديها معلنة عن غضبها وقالت وكأنها لم تسمع ما قاله "لست بحاجة لأي راحة، لا يمكنني البقاء هنا، أعدني بيتي"
ملامحه الجامدة جعلتها تدرك أن الجدال لا فائدة منه وهو قال ما يؤكد ذلك "هنا أصبح بيتك فلا داعي لجدال لن يفيد بشيء، هندية"
فزعت من صوته الذي ارتفع بالنداء وما زالت نظراتهم متصلة، عيونه تتحداها أن ترفض أوامره أو تبدي أي اعتراض بل وشعرت أن نظراته ترسل ومضات حادة لاسعة تحذيرية تلتف حول لسانها فتمنعه من النطق
لم تشعر وهندية تخرج مسرعة له ولكن سمعتها تقول "نعم"
ظل على وضعه وكأنه يخدرها ويخترقها للعظام، يتحداها أن تعترض أو أن تظهر دفاعتها الواهية أمامه وهي لا تعرف كيف خضعت له
"هل انتهت غرفة ليال؟"
"نعم"
وجه لها هي كلماته بنبرة آمرة مغلفة بهدوء مميت "اذهبي معها لتنامي وعندما أعود نتحدث"
لكنها نفضت الخدر الذي أصابها ولم تسمح له بفرض رأيه هو لا يعرفها وهي لن تبقى وتقبل بأن يعاملها كابنته لن يكون
خرجت كلماتها بلا ضعف بل عناد طفولي أدركه ولولا ضيق وقته لاستمتع به "لن أبقى هنا، لا أريد ولا يجوز"
وتحركت لتذهب بعناد واضح لأي مكان بعيدا عن سطوته وسحر نظراته لكنه قبض على ذراعها ليوقفها وقال بتحذير هادئ "ستفعلين كي لا تجبريني على شيء لن يعجبك"
أدارت وجهها له والغضب ارتفع داخلها وهتفت "لا أحد يجرؤ على أن يجبرني على شيء لا يعجبني، ألا تفهم؟ بأي صفة أبقى هنا؟ أنا بالكاد أعرفك وهناك رجل مقتول بالفندق الذي كنت أعمل به وسيبحثون عني ولو.."
قاطعها بهدوء فما زال يتبع معها أسلوب راقي وليس أسلوب عالمه السفلي، هي ليست مجرمة لتعامل كالمجرمين، هي أميرته الغائبة وهو أعادها لتكون بجواره وتصبح مليكته التي لم يرد سواها
هل ستكون حقا مليكته؟
"هذا أحد الأسباب لوجودك هنا ليال، حمايتك، هو أنت من لا يفهم، أخبرتك أننا سنتحدث عندما أعود ويبدأ عقلك باستيعاب الأمور بوجه أفضل"
لم تنزع ذراعها من يده ودفئه ينساب داخل عروقها ومع ذلك لم يرحل الغضب والذي اندمج بالخوف من ذكرى القتل فقط لانت نبرتها "إذن أعدني البيت كنت تحميني وأنا هناك وستفعل مرة أخرى وعندما يمكنك الحديث تعالى هناك لنفعل"
جذبها له حتى كادت تصطدم به دون أن يهتم وأحنى رأسه ليقترب من وجهها المتعب وعيونه تتقلب للجدية التامة وقد نفد صبره من جدالها وهو لن يطلق سراحها بعد الآن ولا وقت لشرح لن ينتهي معها
"ألا تنصتين لكلمة مما قلت؟ وجودك هنا لحمايتك من أخو فريد، هو قواد ليال ووقت يصل له الخبر لن يترك شيء أمامه إلا وسيحرقه ويدمره فهل أعيدك بيتك ليمحيك نهائيا؟"
ارتجفت من الخوف من كلماته وهي تذكر ما سبق وقاله عن فريد وأخيه ولم يمكنها الجدال حينها ابتلعت كلماتها وهي تدرك أنه على حق، لا قدرة لها على مواجهة قواد..
رأى الخوف الذي ارتفع لمقلتيها والرجفة التي شعر بها من ذراعها الساكن تحت قبضته فأكمل "ما حدث الليلة أشعل الكثير مما لا يمكنك تخيله، أخبرتك أن فريد كان يصطاد الفتيات ويدفعهم لحسن العطار ولو علمت ذلك لدفنته حيا"
ارتجفت عندما تذكرت ما كان وكأنها كانت فاقدة للذاكرة واستعادتها فجأة وهي تقول "أنا قتلته"
أبعد وجهه لحظة ثم عاد لها وقال "أنا من قتله ليال، جرحك لم يكن ليميته لكن أنا فعلت ولم أكن سأتردد بذلك وقتها لأنه تجرأ عليك"
رددت مرة أخرى بلا وعي أو تحولت لببغاء لا عقل له من جراء الأحداث المتشابكة والتي علقتها على عنقود ذابل الآن يفلتها لتتهاوى على أرض صلبة فتدهسها الأقدام
"أنت قتلته"
عاد لوجهها وظل يحدق بها بنظرة تعني نعم، أنا قتلته لكن أنا هو ذلك الرجل الذي لا تعرفينه.. قاتل
"لدي الكثير مما لا تعرفيه ولا ترغبين بمعرفته عني ليال، أنا لست ملاك كما تظنين لذا كان ابتعادك عني هو الصواب"
هتفت بجنون "ولماذا تعيدني الآن؟ طالما لديك حياة خاصة بك وأنا لا أصلح لها؟ يمكنني حماية نفسي، لطالما فعلت وأنا وحدي"
لم تجرؤ هندية على التدخل بجدالهم الحاد فقط ظلت متفرج صامت على المشهد المتفجر أمامها، لأول مرة يسمح لأحد بجداله بتلك الطريقة والفتاة على حق ولكن هو الآن أيضا على حق وكلاهم لن يستسلم
ابتلع ريقه مع تفاحة آدم المتحركة بعنقه وهو يدرك صواب ما قالته، ببساطة هو تركها وحدها، حماها لكن من بعيد وهي تخوض وسط الأشواك بطولها
هل كان يملك بديل؟؟
لم تريدني الآن؟
لأني أدركت أني لم أعد أرغب ببعادك أيتها الليال التي غرقت بلياليها الحالكة منذ التقيتها
ربما تركتك وحدك كما تظنين لكني كنت خلفك بكل مكان، عيون رجالي تحرسك كجوهرة ثمينة لا تقدر بثمن لكنك لم تكن تعرفي أي شيء عن كل ما كان يدور بعالمي السفلي
أنت أنقى من أن يلوثك وجودي أيتها الملاك..
أجاب إجابة واهية لم تقنعه هو حتى ولكنها حقيقة قاسية "لم تكن هناك جريمة قتل ولا رجال ستبحث عنك لو اكتشفوا وجودك"
الخوف أخذها والحزن أيضا وضربها الرد بحدة وقسوة وكأنه يجز جذور الأمل من قلبها بأنه يفكر بها كما تفعل أو يراها كامرأة كما تراه رجل أحلامها
فجأة شعرت بأنها مهزومة ولم تعد ترغب بالقتال، لا فائدة من أي حرب ستنهزم بنهايتها فقالت بوهن ويأس "هذا فقط ما جعلك تكشف نفسك لي؟"
لا، ليس هذا فقط ولكنك لن تفهمي..
تمنى لو يخبرها أنه كثيرا ما رغب بذلك من كل قلبه، كثيرا ما وجد أقدامه تأخذه إليها حتى يظل بالسيارة يراقبها من بعيد مقاوما رغبته بأن يهرع لها ويلفها بذراعيه ويحميها من نسمة الهواء التي قد تجرح وجنتها لكنه لم يستطع
أراد أن يخبرها أنه لا يرغب بجذبها معه للقاع، هي تستحق أفضل من ذلك بكثير لذا قاوم الألم بصدره وقال "وهل هناك أهم من ذلك؟ إنها حياتك"
كادت تهتف به أنها لا تهتم بحياتها وإنما انتظرته هو، انتظرت أن يفكر بها يوما أو يراها كامرأة تحلم به وتنتظره، منقذها، الأمير على الحصان، لكنه كان الوصي، فقط وصي..
سقطت دمعة جديدة على وجنتها التي ما زالت ملطخة وتألم من جديد، أفلت ذراعها وابتعد غير راغب بذلك الضعف الذي يهزمه غصبا أمامها وهي قالت بلا أي قوة على الجدال "ولأنها حياتي فأنا وحدي صاحبة القرار بكل ما يخصني"
التفت لها والغضب ارتفع له مرة ثانية من عنادها ورأت عيونه وقد تلونت بالظلام والعناد يركبه..
هي حياتك نعم ولكنها ليست ملكك.. أنا من أملكها.. أنا فقط وليس سواي ولا أحد سيوقف ذلك حتى ولو كنت أنت ليال
هتف بلا مجال للرد "حياتك ملكي أنا ليال، وأنا وليس أنت من له الكلمة الأولى، ستتبعين هندية لغرفتك وستظلين ببيتي ولن تخرجي منه إلا عندما أطلب أنا ذلك واحذري الهروب لأن الرجال لديها أوامر بإطلاق النيران على أي شبح يظهر أمامهم ولن يفرقوا"
وتحرك للباب وقد نفد صبره معها ولم يعد بإمكانه مجاراة عنادها بما يخص حمايتها خاصة بأول لقاء لهما معا وقد اصطدم كلاهم بجدار عالي يفصلهم لا يمكن تسلقه للعبور للآخر وأصبح هناك أكثر مما كان ليباعد بينهم ويصنع فجوة سحيقة قد لا يمكنهم تجاوزها
صفع الباب خلفه مما جعل جسدها ينتفض وهندية تتحرك لها حتى وقفت أمامها وقالت "لا مجال للعناد معه يا ابنتي، لقد صبر معك بدرجة جعلتني أشك أنه هارون الذي أعرفه وبالنهاية هو يرغب بحمايتك"
مسحت دمعتها ونظرت لهندية وقالت "لم أحتاج الحماية بأي يوم"
تنهدت المرأة وقالت "سمعته يتحدث عن قتل هل تعرفين معنى تلك الكلمة؟"
تراجعت من وطأ الكلمة وقالت "وهل يظن أنه يستطيع التعامل مع الأمر؟"
ابتسمت هندية وقالت "بل هو الوحيد الذي يمكنه التعامل مع الأمر على أكمل وجه، أنت لا تعرفينه جيدا يا ابنتي، هارون ليس شخص سهل كما يبدو أمامك، هو الريس لعالم أنت لا تعرفين عنه شيء"
أشاحت بيداها الاثنان بالهواء وقالت بتعب واضح "سيكون من الجيد لو تكرم أحد وشرح لي أين مكاني على كوكب ذلك الرجل"
تنهدت المرأة مرة ثانية وقالت "مكانك هنا ببيته، منذ تلك الليلة التي لم تطمسها السنين والجميع يعلم أنه سيعيدك إلى هنا"
هتفت بيأس من الجهل الذي أصبحت به "أي جميع الذي تتحدثون عنه؟ ولماذا هذا الجميع يعرف ما لا أعرفه عني؟ أنا لم أعد أفهم أي شيء، أنا ألف بدوامة ولا أعلم متى سأخرج منها!؟"
شعرت بيد المرأة تربت على كتفها وهي تقول "ثقي به ليال، تلك الدوامة هو فقط من سيخرجك منها لكن بالوقت الذي يراه مناسبا فقط كفي عن العناد والتفكير، أنت بحاجة للراحة كما قال"
التفتت وعيونها كلها تساؤلات كما لسانها نطق "أين الراحة بكل ما يجري حولي؟"
أجابت هندية بلا تفكير "الراحة بوجودك هنا يا ابنتي، سيحميك بحياته ولن يسمح لشيء بأن يمس أمانك، هو فقط من عليك الوقوف خلفه وأنت واثقة أن لا شيء يمكن أن يصيبك"
أغمضت عيونها بتعب وهي لا تعرف إلى أين يأخذها هذا الرجل ولكنها تدرك جيدا أن هندية على حق فهو الوحيد الذي وجدت بلمسته الأمان فما بالها بوجوده معها!؟
****
تحرك أنس بجوار مي ليعيدها لبيتها الصغير خلف بيت هارون، الجميع يعيش حوله، اشترى تلك الأرض منذ سنوات طويلة بأول ربح من أول صفقة حرة له وقرر بناء ذلك البيت له وواحد لرجاله المقربين وواحد لهندية التي حررها معه من الملجأ، كانت تعمل هناك عاملة نظافة ومدير الملجأ كان يسيء معاملتها كالجميع وما أن ثبتت أقدامه على أرض صلبة حتى جذبها معه ومي كانت طفلة صغيرة
كانت مي تتحرك بخطى غاضبة وعيونها تلمع بدموع محتجزة لا تنزل ولا تدري بما يدور حولها وما زالت حبيسة أحزانها وغيرتها الواضحة من ليال التي سرقت أحلامها وأملها بقلب الرجل الذي رغبت به
ما زالت ترى نظراته الهائمة لها والقلق النابض به لفتاة لم تكن تمثل له شيء
أدركت الآن أنها هي من لا تعني له أي شيء، هو بالكاد يراها، مجرد طبيبة له ولرجاله، ابنة الخادمة..
لم تشعر بأنس الذي ناداها "مي، مي هل أنت بخير؟ مي أنا أتحدث إليك؟"
انتبهت له أخيرا وكادت تتعثر لأنها التفتت فجأة تجاهه منتبهة إلى وجوده ولكن يده أعادت لها اتزانها وهي قالت "ماذا؟ أنس!؟ منذ متى وأنت هنا؟"
تراجع بدهشة وتسلل الغضب له وهو يضيق عيونه عليها مدركا أنها لا تشعر به ولا بوجوده
جز على أسنانه وهو يخرج كلماته بغضب محترق "حقا!؟ ومن الذي أخرجك من جهنم التي كنت تلقين نفسك بها بالداخل؟"
تجمدت مكانها وهو لم يمنحها فرصة لترد وهو يتحرك لها أقرب ويكمل "متى سيستوعب عقلك الحقيقة؟ متى ستدركين أنه لا يراك من الأساس؟"
أشار للبيت من حيث أتوا وهتف بنفس الغضب "تلك الفتاة بالداخل هي الشيء الوحيد الذي يراه مي وكلنا كنا نعلم ذلك وعليك أن تصدقي لأنها الحقيقة فقط كانت مؤجلة وهو فقط من كان يملك الوقت لإظهارها وها قد فعل فاستيقظي من أوهامك"
هتفت بقلب محطم "ولماذا الآن؟ لو أرادها منذ البداية لأحضرها"
انحنى تجاها وهو لا يصدق إنها ما زالت تصدق نفسها وأجابها "هو لم يرد سواها مي، كل النساء التي مرت بحياته كانت للمتعة وتنتهي بخروجه من غرفة الفندق لأنه أرادها هي وهي فقط وعندما شعر أنها ستضيع منه والخطر لفها لم يتردد في إحضارها ووضعها تحت نظره وأنا أخبرك أنها لن تخرج من هنا"
صمت أذناها بكفيها وهتفت من بين دموعها المؤلمة وقلبها المهزوم "كفى، ذلك لن يكون، هو يحيا بالوهم، سيدرك ذلك عندما يعرف أنها مجرد طفلة لا تستحق الزعيم، أنا من تستحق تلك المكانة أنس وهارون لن يكون لسواي"
تملكه الجنون من كلماتها وصفعها بالحقيقة التي ترفض التسليم بها "هذا وهم تعيشين به، هارون يحب ليال ولم يحب سواها، لو أرادك لكنت له فأنت أمامه من سنوات، أفيقي مي، توقفي عن دفن رأسك بالرمال واعترفي بالواقع، هارون لن يكون لك بأي يوم"
وتركها وتحرك مبتعدا وهي تستوعب الحقيقة التي قذفها بوجها مرارا وتكرارا والتفتت منهارة بالدموع وأسرعت تعدو إلى داخل بيتهم وللغرفة التي بها فراشها وألقت نفسها لتكتم شهقاتها داخل وسادتها وتعترف أنه على حق ولكن هي من تعيش حقا بالأوهام
الآن هي تستيقظ تحت وطأة الحقيقة، حبيبته هنا، أمامه، بين جدران بيته
القلب يعشق مرة واحدة وقلب هارون عشق تلك الحقيرة منذ كانت طفلة..
وقلبها هي عشق هارون ولن يعشق سواه..
لن تترك طفلة حقيرة تنزع منها أحلامها ولن يهمها نتيجة ذلك، ستحارب لأجل قلبها ولن تستسلم
****
فتح له صفوان باب السيارة ذات الدفع الرباعي والتي يملك منها الكثير له ولرجاله، دخل بالخلف ولحظات وكان صفوان ينطلق بالسيارة وينظر له بالمرآة وهو يمسح وجهه بيداه الاثنان محاولا العودة للهدوء بعد أن أخرجت شياطينه..
اهتزاز الهاتف جعله يخرجه ورأى اسم أحد رجال المراقبة على الفندق وقد ظهر النهار، أجاب الهاتف بنبرة حادة "ماذا؟"
أجاب الرجل معتادا على نبرة رئيسه "العطار كان هنا، يبحث عن أخيه ولا أحد يمنحه شيء لكنه كان ثائر وغاضب"
مكالمة منتظرة جعلته يبعد الهاتف ليجد رقم بلا اسم فعاد لرجله وقال "لا تتدخل ودع الأمور تسير كما كانت، ماذا عن البنات العاملات؟"
أجاب الرجل "تم منحهم كل ما أمرت به وحفظوا ما نرغب بأن يقولوه فقط رفيقتها نيلي هي من ظلت تسال كثيرا لكننا أسكتناها"
قال بهدوء "جيد، فقط تأكد أنكم لم تنسوا شيء"
أنهى مع الرجل وأجاب المكالمة الأخرى وقد استعاد هدوئه "نعم؟"
صوت هادئ أجابه "هارون، أنا حسن العطار، أين أخي؟"
لف وجهه لنافذته الزجاجية المعتمة مما يجعل من بالخارج لا يراه فقط هو يرى النهار الباهت من خلف الزجاج وما زال الطريق خاليا من السيارات لأن الوقت ما زال مبكرا
سأل ببرود "من أخيك؟ وما دخلي به يا عطار؟"
غضب أتاه عبر الهاتف "لا تتلاعب بي هارون تعلم جيدا من أنا، فريد أخي كان يعمل بالفندق خاصتك ومنذ ليلة أمس لم أراه وكان على موعد معي، لم يراه أحد وهو يغادر فندقك فأين هو؟"
قال بنفس البرود لرجل يستحقه "وهل أنا ملزم بأن أعرف مكان كل موظف يعمل عندي؟ أنا لا أدير حضانة أطفال، أخيك كالباقين، بالغ عاقل ومسؤول عن نفسه مسؤولية كاملة، فقط عندما تجده أخبره أن هارون لا يتجاوز مع موظفيه لذا اعتبرته غير موجود بين الموظفين خاصتي"
هتف الرجل بجنون عبر الهاتف "لا تلعب تلك اللعبة معي هارون أنت لا تعرفني جيدا، أنا لا أعرف نفسي عندما يمس الأمر من مني"
أغمض عيونه من الصداع وقال "ألم يبلغك من منحك رقم هاتفي أن هارون الديب ليس ممن يقبل بالتهديد؟ عندما تتعلم كيف تتحدث معي هاتفني"
وأغلق الهاتف بلا اهتمام بالطرف الآخر فقط عبث بأصابعه على الأرقام لإجراء مكالمة، الرنين على الجانب الآخر جعله ينتظر حتى أجاب الرجل "نعم يا ريس"
قال "العطار سيتقدم ببلاغ فقدان أخيه وسيجر اسمي بالأمر، هل علي أن أقلق عزيز؟"
صمت مر قبل أن يقول الرجل "هل عليك أي غبار يا ريس؟"
أبعد خصلاته للخلف بأصابعه وقال بغضب "هل أهاتفك لتسألني سيادة الرائد؟"
صمت مرة أخرى حتى أجاب عزيز "لا، سأقوم باللازم"
رد "جيد"
وأغلق ثم عاد واتصل وكأن الهاتف لن ينتهي ليجيب صفوت قائلا "كنت سأهاتفك، مدير الفندق بالقسم"
هز رأسه وقال "وأنت؟"
أجاب الرجل "بطريقي له، ليس علينا أي غبار ولن أسمح بذكر اسمك بالتحقيقات، هل تخلصت من كل شيء؟"
أبعد وجهه للمرآة وقال "تعرف صفوان"
نظرات صفوان التقت به وصفوت يقول "نعم أعلم، تمام لا مجال للعطار معنا هارون"
أنهى معه المكالمة وهو يغلق عيونه ويسند رأسه على مسند المقعد وصفوان يتابعه من المرآة ويقول "العطار لن يلجأ للشرطة"
أجاب دون فتح عيونه "بل فعل كي يضعني على خطه"
صمت صفوان ففتح عيونه والتقى بنظراته بالمرآة وصفوان يتردد قائلا "تأخرت"
هز رأسه بالإيجاب مدركا معنى كلمات صديقه وقال "أعلم، لم أتوقع هذا الغبي فريد، كانت بالمطبخ بعيدا عن العيون"
قال صفوان بلا تعابير على وجهه "وإلى متى ظننت أنها ستظل بالظلام هارون؟ كانت بالجامعة بين الشباب وسرعان ما ستتخرج وتبحث عن عمل بإحدى الشركات المناسبة لها ووقتها لن يوقفها شيء بالإضافة لجمالها الذي يثير العيون القذرة"
انقبض قلبه، كان صفوان على حق بكل ما قاله، هو حقا لن يمكنه تقييدها بظلامه بعد الآن، ولا تركها بعيدا عنه، الآن أدرك أنها لم تعد العصفور الصغير حبيس القفص بل طير حر وقد يقنصه صياد ماهر بأي لحظة
عاد صفوان يقول "عليك بتحريرها لا وضعها ببيتك هارون، أنت لا تمنحها الاختيار"
كلماته كلها صحيحة ولا غبار عليها إلا قلبه ومشاعره التي لم تعد ملكه فماذا يمكنه أن يفعل عندما تطالبه بتلك الحرية؟ هل سيفتح لها باب القفص لتطلق لجناحيها العنان؟ هل سيتحمل فراقها؟
أبعد وجهه وقال "تلك المرة لا أملك اختيار صفوان، حياتها على المحك"
أجاب صفوان "وماذا هارون؟ العطار سيظل يلاحقنا وهذا باب لم نكن نرغب بفتحه ليس وأمامنا أبواب أخرى لم نغلقها بعد"
هو على حق أيضا ولكن ليس معه، كان وما زال يمكنه أن يحارب بجهات متعددة بوقت واحد، هو لم يحقق ذلك النجاح من فراغ
فقط قال "وهل كنت تظن أني سأتركه ينالها لأني لا أستطيع مواجهة عدة أبواب بوقت واحد؟"
تجهم وجه صفوان وفتح فمه ليجيب ولكن هارون أسكته "أنت نسيت من أنا صفوان، الديب لا يقف صامتا أمام كلب أراد هتك عرض امرأته بل ينقض على فريسته وينهشها بلا رحمة"
علقت نظرات صفوان بعيون هارون التي تحولت للأحمر من الغضب ولم يرد صفوان لأنه أدرك ألا مجال لمراجعة رئيسه فقد تجاوز معه وقد فوتها له ولكنه لن يرحمه بالمرة القادمة
أوقف صفوان السيارة أمام الفندق الفاخر الجديد والذي افتتحه منذ شهور قليلة وأصبح به مكتبه الرئيسي ومقره الذي يرتاح به لأول مرة
فتح له رجل الأمن وما زال الوقت مبكر جدا، بهو الاستقبال كان فارغ من النزلاء، العاملين اعتدلوا لرؤيته وهو يتحرك لمكتبه وعمال النظافة يجدون بعملها أمام الريس ربما ينالون مكافأة فالكل يعلم كرمه الزائد
تحرك بلا اهتمام بالعيون التي تتبعه وصفوان يتبعه بعد أن ترك السيارة للحاجب أما أنس فسيظل بالبيت، معها، سيحميها كما أمره رئيسه ولو بحياته فهي المرأة الوحيدة التي اهتم بها الزعيم بتلك الطريقة
ما أن فتح باب مكتبه ودخل حتى وجد فوهة مسدس موجهه لرأسه وصوت يقول "كنت تظن أني سأتركك
