
رواية عشقت بودي جارد الفستان الابيض بقلم صفاء حسني
رواية عشقت بودي جارد الفستان الابيض الفصل التاسع والعشرون29 بقلم صفاء حسني
يمنى (بصوت عالي وهي بتقرب من عمها سليم):
ـ آه يا عمو… أطلقت منه! أخيرًا، ارتحت من الوهم اللي عشت فيه. هو لعب بيا… استغلني، والكل عارف إني عمري ما حبيت غير طاهر!
(تبتسم وهي رافعة راسها)
أنا كنت بحب طاهر… ولسه بحبه، وهفضل أحبه لآخر يوم في عمري. وهنرجع لبعض، مهما حصل.
سليم، كان قاعد على الكرسي ا، رفع عينه لها وضحك ضحكة كلها سخرية:
ـ ترجعي له؟ فوقي يا يمنى! إنتي مش عايشة في الحقيقة… طاهر اتجوز، وفوق ده كله، بيحب مراته حب واضح للكل. إنتي آخر واحدة ممكن يرجع لها.
يمنى، نظرت له بتحدي، خطوة خطوة وهي تقرب أكتر، عينيها بتلمع بغرور:
ـ تراهن يا عمو؟ أول ما أقوله إني محتاجاه… هيجي عندي!
(تبتسم بثقة)
طاهر عمره ما عرف يرفضني… وعمره ما هيقدر يعيش من غيري.
سليم، يضرب بكفه على الطربيزة بعصبية، صوته جاف:
ـ إنتي عايشة في وهم كبير يا بنت أخويا! الوهم ده هو اللي هيكسرك قريب… وطاهر هيوريكي بعينه إنك مجرد صفحة اتحرقت من زمان.
ضحك طاهر بسخرية وهو بيبص في عيني رحمة:
ـ مش ممكن… عايز أربطك معايا عشان انتقم منك؟
نظرت له رحمة بثبات، وبعد لحظة ابتسمت بخفة متحدية:
ـ تنتقم؟ تمام… اتفقنا يا طاهر باشا. لو ماخلتكيش تطلقني قبل المدة… يبقى أنا مش رحمة!
وقف طاهر في مواجهتها، عيونه مليانة تحدي:
ـ بكرة نشوف.
---
في نفس الوقت، فريدة كانت قاعدة لوحدها في أوضة جانبية بالقصر، قلبها متلخبط بعد ما سمعت خبر طلاق يمنى. أدمعت عينيها، مسكت التليفون بسرعة واتصلت بطاهر بصوت مليان قلق:
ـ إنت فين يا طاهر؟ تعالى دلوقتي… ضروري!
استغرب طاهر من لهفتها:
ـ خير يا أمي؟
ردت فريدة وهي بتنفس بسرعة:
ـ يمنى… أطلقت من إياد.
انصدم طاهر، اتسعت عيناه:
ـ أطلقت؟! إمتى؟ إزاي؟
فريدة بهدوء مرتبك:
ـ مش مهم إزاي… المهم، مش عايزين نتفضح قدام الصحافة. إحنا لازم نقفل كل القضايا ونلملم الدنيا. لازم تيجي حالًا… وتجيب رحمة معاك، أمها بتسأل عنها.
قفل طاهر التليفون ببطء، والتفت يلاقي رحمة واقفة بتبصله وبتضحك بخبث:
ـ ألف مبروك… حبيبتك بقت حرّة. يلا نلحقها قبل ما تطير.
نفخ طاهر بضيق، صوته خشن:
ـ أنا مش فايقلك دلوقتي وهزارك… وحسابك لسه ما خلصش. يلا يا أختي!
ضحكت رحمة بخفة وهي بتجري:
ـ يلا يا أخويا العزيز.
فتحت الباب وجريت على السلم، تبعها طاهر وهو مبتسم غصب عنه، ركبوا العربية واتجهوا على القصر.
---
في القصر، استقبلته يمنى بابتسامة ممزوجة بدموع ندم:
ـ أنا خلاص… أطلقت من إياد.
رحمة تراجعت خطوتين لورا، قلبها كان متوقع النتيجة دي خصوصًا بعد اعترافها الأخير، لكن طاهر حَس بيها ومسك إيديها قدام الكل.
قال ببرود وهو باصص ليمنى:
ـ تمام… إيه المطلوب مني بالظبط؟
نزلت دموع يمنى وهي ماسكة إيده التانية، صوتها متكسر بندم:
ـ أنا بعتذر ليك… وندمانة على كل حاجة عملتها. أنا موافقة إنك تدير كل حاجة… واسأل عم سليم ومروة، لسه قايلة ليهم نفس الكلام. أنا فعلًا ندمت.
سحب طاهر إيده من عندها ورفع إيد رحمة قدام الكل:
ـ ودي؟… أعملي فيها إيه؟
يمنى بلعت ريقها وصوتها بيرتعش:
ـ كلنا عارفين ومتأكدين… إنك اتجوزتها بس عشان القضية… والقضية خلاص اتحلت.
فجأة، اقترب مصطفى (والد يمنى) بخطوات غاضبة، صوته هز القاعة:
ـ وهي ذنبها إيه؟! الطلاق سهل عندكم أوي كده؟ تتجوزوا في ٣ أيام وتطلقوا؟!
التفت ليمنى وصرخ بعصبية وهو بيشاور عليها:
ـ إنتي اللي اخترتي زمان! وأنا ياما نصحتك وقلتلك بلاش… لكن نشفتي دماغك إنتي وأمك. اشربي بقا… بس مش على حساب تدمروا حياة غيركم! مفهوم؟!
سكت الكل، الجو بقى تقيل، رحمة عينيها دمعت من كلام مصطفى، وطاهر مسك إيدها أقوى كأنه بيأكد إنها خلاص بقت حياته.
---سكت الكل، الجو بقى تقيل، العيون كلها متوزعة بين يمنى المنكسرة، ورحمة اللي كانت ماسكة نفسها بالعافية.
ابتسمت رحمة بسخرية خفيفة، بصت للأرض كأنها بتكلم نفسها، لكن صوتها خرج مسموع:
ـ هو الحب عندكم أسرع من الصاروخ… يحبوا في ٣ أيام… ويكرهوه ويطلقوه.
رفع طاهر عينيه عليها بسرعة، سمع جملتها كويس. قلبه اتقبض من مرارتها، لكنه مسك إيدها أقوى، كأنه بيرد عليها من غير كلام:
ـ لأ… مش كل الناس كده.
نظرت له رحمة وهي بترفع كباية المية تشرب من الصدمة بصوت واطى لكن طاهر جانبها وسمعها :
ـ في ناس يا ماما قلبهم خفيف أوي، يحبوا بسرعة زي الصاروخ... وبعد كام يوم يزهقوا ويرموا، وكأن الحب عندهم لعبة مش مشاعر.
طاهر سمع الكلمة واتشد، عارف إنها بتقصد حد معيّن. ميل عليها شوية وقال بنبرة هادية بس حادة:
ـ على الأقل في ناس صريحة مع نفسها، مش بتضحك على غيرها وتخبي اللي جواها.
بصتله رحمة بعيون متحدية وقالت:
ـ الصراحة ساعات بتوجع، بس برضه أهون من كذب في صورة حب.
اتنرفز طاهر وبص لها بحدة:
ـ واللي بيستسهل يرمي كلام مر، يفتكر إن الناس مش فاهمة قصده؟ يمكن اللي بيتكلم هو اللي مش عارف هو عاوز إيه.
الجو بدأ يتوتر، والكل حس بالشد بين الاتنين. قبل ما الكلام يكبر، دخل صوت مصطفى وهو بيحاول يكسّر حدّة اللحظة:
وجه مصطفى كلامه لابن أخوه طاهر وهو بيحاول يقطع نظراته المتحدية لرحمة:
ـ روح يا ابني جهّز لسفرك إنت ومراتك مع عمك نامق… ولما تتأكد إنه بخير، اخطف مراتك وعيش معاها شهر عسل. كل حاجة هتمشي زي ما انت ومحمد قبلك مشيتوها.
نفخت يمنى ورمت كلمة سمّ على السفرة وهي بتضحك بسخرية:
ـ مش هتنفع رحمة للتبرع لعمّي، رغم إن العينة كانت متطابقة أوي. بس يا خسارة… البنت عندها سكر، مش هتنفع!
انصدم الكل، حتى نامق نفسه، وسأل بجدية:
ـ الكلام اللي بتقوله يمنى ده… صح؟
قطعت رحمة كلامها بسرعة وبهدوء، لكن عينيها مليانة نار:
ـ لأ حضرتك مش صح… التحليل مكنش مني أنا. كان من واحدة تانية. والنتيجة الحقيقية هتكون بكرة في المطار… يعني العملية ماشيه.
ثم التفتت ليمنى بابتسامة باردة:
ـ يعني سواء طلعت مريضة سكر أو سليمة… هتتعمل العملية
وما بين نفسها
وجودى مش فارق. فى حياة طاهر
اهتزّت يمنى بعصبية وهزت راسها:
ـ وأنا مالي؟! بتوجهي كلامك ليا ليه؟! قولي لجوزك… اللي متجوزك سد خانة.
اقتربت رحمة من طاهر، مسكت إيده بدلع واضح وقالت:
ـ هو أنا مقولتكِيش… إنه خدني عشان أكون "بودي جارد قلبه"؟
اتغاظت يمنى، وقبل ما ترد، قاطعتها أروى وهي بتضحك بسخرية:
ـ بودي جارد إيه يا أختي؟! أوعي تصدقي نفسك إنك هتبقي الكل في الكل. ولا طاهر هيبقي ليكي… خصوصًا لو عرف اللي حصلك زمان. إنك مش بنت بنوت زي ما هو متصور… يعني إنتي والفته ضحكتوا عليه عشان تستري نفسك.
ضحكت رحمة بسخرية، ضحكة موجوعة قلبها بيتقطع بيها، وبصت في وش طاهر كأنها بتقوله "أهو السر انكشف".
طاهر حس بإحراج وضغط، دماغه رجعت تلقائي لفلاش باك…
---
فلاش باك – مكالمة طاهر مع نامق
مسك تليفونه واتصل بعمه:
ـ عمّي… محتاجك في خدمة.
رد نامق بهدوء:
ـ أكيد يا طاهر، اتفضل.
تنهّد طاهر:
ـ في قضية تحرش قديمة حصلت في شبرا الخيمة… في بنت اتصلت بالشرطة. عايز أعرف كل تفاصيل عنها… ممكن؟
سكت نامق لحظة، ثم رد:
ـ تقصد… قضية رحمة؟
انصدم طاهر:
ـ إنت كنت عارف اللي حصل؟!
أكّد نامق:
ـ طبعًا… أبوك بلغني. خلاني أتابع القضية كلها. حتى لما الهربان حاول ينتقم منها… ولحقوها. أبوك بنفسه بلغني… وانت نسيت ولا إيه؟ ما انت كنت معاه.
اتسعت عيون طاهر:
ـ يعني… تقصد البنت اللي لقيناها واقعة وقتها… كانت رحمة؟ طيب ليه بابا كان مهتم بيها أوي؟ وليه كان عارف كل كبيرة وصغيرة عنها؟ وليه كان مصرّ إني أقابلها بأي طريقة؟
ابتسم نامق:
ـ والله ما عارف. بس هو من زمان كان نفسه تبقى مراتك. من أول ما اتخرجت. ولما كبرت دماغك… رسمها عليّ أنا كمان.
انصدم طاهر:
ـ إنت بتتكلم جد؟!
ابتسم نامق:
ـ جد جدًا. قبل ما يعمل العملية كان عارض عليا الموضوع. ولما استغربت اهتمامه الزيادة بالبنت… قال لي كلمة: "صاغ سليم".
تنهّد طاهر بارتباك:
ـ يعني إيه "صاغ سليم"؟! هي حكَت لي إنها اتعرضت لاعتداء… وإنها مش…
قاطعه نامق وهو رافع صوته بانفعال:
ـ استغفر الله العظيم… يقطع لسان اللي يقول انى رحمة مش بنت بنوت!
في اللحظة دي… كانت يمنى معدية وسمعت الكلام. ابتسمت بسعادة شيطانية وقالت:
ـ يعني طلعت معيوبة كمان؟! حلو… كده أنا كفاتي أعلى!
طاهر مسك راسه بإيده، صوته متكسر:
ـ أنا هتجنن… من يوم ما حكَت لي الموضوع وأنا عقلي نار. حاسس إنها خدعتني وضحكت عليا.
أكمل نامق بهدوء :
ـ لأ يا طاهر… صدقني البنت بخير. كان ممكن تخلص مهمتها معاك وتنسحب، بس هي اللي قررت تكون صريحة. أبوك بنفسه وراني أشعة تثبت إنها بخير… لكن رحمة نفسها ما تعرفش.
باك
يقطع نظرت عتاب طاهر ل نامق صوت قلم
سقوط قلم على وش يمنى، رفعت عينها فجأة لقت فريدة واقفة قدامها وعيونها مليانة غضب:
فريدة بنبرة صارمة:
ـ واضح إن أمك معرفتش تربيك… الدور عليا أنا أربيك، وأقطع لسان اللي يعيب في مرات ابني أو يقول كلمة عليها.
يمنى وهي حاطة إيدها على خدها وصرخت:
ـ أنا مش بكذب! وعمّي نامق عارف كمان بالموضوع… اللي حصل ليها سمعته وهو بيتكلم عن الموضوع ده في التليفون!
الصدمة وقعت زي السكينة في قلب رحمة، حسّت روحها بتتهز، كسوف وإحراج غلّف وشها، قبل ما تحس الدنيا بتسود وتغيب عن وعيها وهي بتنهار.
وفي اللحظة دي، داخليًا أدركت إن طاهر مش السند اللي كانت محتاجاه… مجرد رجل بيدوّر على تحقيق وعده لعمه، حتى لو على حساب قلبها.
اقترب نامق، وبنبرة هادية لكنها صارمة:
ـ انتي سمعتيني بلساني بقول اسم "رحمة" يا يمنى؟ ولا عشان كنت بتتكلم مع طاهر وخمّنتي؟
ارتبكت يمنى، عينيها تهرّب يمين وشمال:
ـ هه… آه… كنت بتتكلم عن قضية حصلت زمان، وعمّي محمد طلب منك تحقق فيها…
ابتسم نامق ابتسامة فيها خبث:
ـ قضية… يعني أنا ظابط مش بياع لب. أكيد ليّا أصحاب كتير بيطلبوا مساعدتي.
وبعدين من إمتى يمنى بنت أخويا بتتجسس وتلفّق حكايات؟ من إمتى بنت أخويا بقت كده؟
سكت الكل، الجو بقى متوتر. رحمة بصت لطاهر، عينها مليانة وجع، شعر بيها مسك أيديها كأنه بيعتذر
لكن سابت إيده رحمة بهدوء كأنها بتقطع آخر خيط بينها وبينه، وقامت رجعت للملحق. قلبها كان بيتفرّط من جواها، بس عقلها كان بيقولها: "أقفلي قلبك… شغل وبس… ما ينفعش تعلقي نفسك بحد تاني."
الملحق متحوّط بالزجاج من كل اتجاه، والحديقة قدامهم خضرا وساكنة كأنها لوحة مرسومة. رحمة واقفة بصمت، إيديها متشابكة قدامها، عينيها مركّزة بعيد لكن دموعها محبوسة.
يدخل طاهر بهدوء، خطواته على الأرضية الرخامية مسموعة، لكنه مابيتكلمش. وقف وراها بشوية، عينه معلقة بيها… وهي، من غير ما تبص له، حسّت بيه.
رحمة بعينيها من غير صوت: "ليه عملت كده؟ ليه كسّرتني قدامهم؟"
طاهر بنظراته، وهو بيحاول يقرب: "ما قصدتش أوجعك… أنا كنت بدوّر على الحقيقة."
رحمة بدموعها اللي لمعت: "الحقيقة؟ ولا فضولك… ولا عشان تثبت لنفسك إيه ؟"
طاهر شد نَفَس عميق، عينيه مليانة توتر: "أنا مش شايفك قليلة… بس من يوم ما عرفت القصة دماغي ولعت… مش قادر أستوعب."
رحمة بتمسح دمعة نزلت: "يبقى ما تحاولش… أنا مش محتاجة حد يستوعبني… محتاجة حد يسندني."
طاهر يمد إيده كأنه عايز يقرب: "وأنا… أنا عايز أكون السند ده."
رحمة تلفّله وجهها لأول مرة، عينيها واجعانة بس قوية: "السند اللي أول امتحان ليه يشك… عمره ما يكون سند."
الكلمات ما اتقالتش بلسانهم… اتقالت بنظراتهم.
طاهر يتنهد وهو بيبص لرحمة…
رحمة رجعت عينيها للحديقة، وكأنها بتقوله: "امشي… سيبني في هدوئي."
والعيون رايحة جاية ما بين طاهر ورحـمة. فجأة مصطفى وقف، صوته متكسّر لكنه عالي كفاية يقطع الصمت:
ـ وفي اللحظة دي، صوت مصطفى جه من بعيد، قاطع الصمت:
ـ طاهر! مستنيينك جوه.
فخرج طاهر، وخطوته تقيلة كأنها مربوطة بقلبه.
الكل بص له، وهو بصّص لطاهر بعين مبلولة:
ـ أنا آسف يا ابني… آسف على اللي طلع من بنتي. يمنى ما بقيتش زي ما كنت متخيل… وده مش ذنبها لوحدها، ده ذنبي أنا. أنا اللي اخترت روي تبقى مراتى… أنا اللي جبت ستّ تكسّر جوزها وتربّي بنتها على الغل والأنانية.
وقف قدام طاهر، صوته بيرتعش:
ـ عارف يا طاهر… إنك عندك حق. عندك حق تسيب إيد بنتي… وتمسك في إيد رحمة. لأنها بنت شبهك… نقية، نقية للدرجة اللي تخليها تستاهلك. دي اللي تستحق تكون وِدّ العيلة… اللي هتجمعنا، مش تفرّقنا.
نزلت دمعة تقيلة من عينه، مسحها بسرعة، بس التانية لحقتها:
ـ نفسي… نفسي أعتذر لأخويا، أبوك. على كل حاجة عملتها فيه. على كل كسر كسّرتُه… على كل وجع وجّعته. كنت ضعيف… وضعفي هو السبب في موته.
سكت لحظة، صوته انخفض كأنه بيحكي لنفسه:
ـ سامحني يا أخويا… وسامحني إنت يا طاهر.
........
الليل ساكن، والبيت كله نايم… إلا قلبين بس مش عارفين يهدوا.
رحمة كانت ممددة على سريرها، بتتقلب يمين وشمال، دموعها بتبل المخدة. كل ما تحاول تقفل عينيها، صورة طاهر بتظهر قدامها. همست لنفسها بصوت مخنوق:
ـ ليه يا رب قلبي مش عايز يبعد عنه… ليه الوجع ده كله؟
وفي نفس اللحظة، في أوضة تانية… بعد ما ساب طاهر عمه دخل غرفته قاعد على طرف السرير، متكتف بإيده ودماغه مشغولة بيها. حاول ينام، بس جسده بيرفض، كل مرة يقفل عينه يتخيلها قدامه، بتبصله بعنيها البريئة اللي كسّرت قلبه من جوه.
غمض عينه أخيرًا، فخياله خدّه لحظة ما بينهم. شافها بين حضنه، وهو ماسكها بقوة، كأنه خايف تفلت منه. حس بدفاها، ريحتها، حتى دقات قلبها اللي بقت متوافقة مع دقاته.
ورحمة في نفس الوقت، ابتسمت وسط دموعها وهي غرقانة في نفس الحلم… حسّت بإيدين بتضمها وتحميها من كل حاجة. همست وهي بين النوم والصحوة:
ـ يا رب يكون حضنك حقيقي مش خيال.
الدنيا هديت… العيون اتقلّت… واللي اتنين غرقوا في نوم عميق، كأن روحهم اجتمعت في مكان واحد بعيد عن وجع الدنيا.
ولما الفجر طلع، أول خيط نور دخل الأوضتين في نفس اللحظة، صحّاهم على إحساس واحد… إحساس إن في حاجة بتربطهم، أقوى من أي كلام أو ظروف.
مَرّ اليوم، وتاني يوم الكل كان بيستعد للسفر.
رحمة كانت قاعدة جنب أمها في العربية، ونامق قاعد قدام طاهر، وكل خطوة كانت بتقربهم من المطار كانت بتزود توترها. حاولت تثبت نفسها، تحبس دموعها، وتبعد نظرها عن عيون طاهر، بس كان صعب… كل مرة تصرف فيها حركه بسيطة تبعته عين طاهر تلاقي نفسها مسمّرة فيها.
في قلبها، كانت بتقول لنفسها:
ـ متطلّعش… خليك مركزة… ده مش وقتك للغرق في مشاعر…
بس العين مش بتمشي على عقلها. نظراته كانت حادة، دافية وفيها حاجة بتشدها لأجله، حاجة تقول لها: “مش هسيبك… مهما حاولتِ تهربي”.
طاهر من ناحيته حس إنها بتحاول تبعده، وكل محاولة منها زادت رغبته يعرف سبب خبايا قلبها. قلبه كان بيتسارع، إيده تقريبًا عايزة تمسك يدها بس عشان يحميها من العالم كله، حتى من نفسها.
الطريق للمطار كان طويل، والسكوت اللي بينهم مليان كلام… كلام مش قادرين ينطقوا بيه، بس كل ثانية كانت بتزيد من التوتر والشوق بين الاثنين. رحمة حاولت تشد نفسها للوراء، لكن قلبها كان بيتسابق مع كل ثانية، ونفسها تقول له “ابتعد عني”… وفي نفس الوقت عارفة إنه هو الوحيد اللي ممكن يوقفها عن الغرق في كل ده.
، ساعدت نامق على دخول الطيارة، وكان طاهر معاها، بس من غير أي كلمة بينهم.
الرحلة طويلة، ساعات عدّت ببطء.
ولما وصلوا نيويورك، بدأ طاهر يخلّص أوراق الدخول. فجأة، رحمة دخلت ومعاها بنت شابة، ملامحها بريئة، عيونها فيها إصرار غريب.
رحمة بابتسامة بسيطة:
ـ دي صاحبتي "نور" يا حضرة النقيب نامق… وهي اللي طلبت تتبرعلك بالعينة.
استغرب نامق، رفع حاجبه وهو بيبص للبنت:
ـ إنتي متأكدة عايزة تدخلي عملية زي دي؟ عينة نخاع مش حاجة سهلة…
ابتسمت نور بكل ثبات:
ـ طبعًا، حضرتك أهم حاجة تكون بخير… ده أقل واجب أقدمهولك.
نامق بتعجّب:
ـ مش فاهم… ليه كل ده؟
رحمة تنهدت وهي بتبص له بعطف:
ـ يمكن حضرتك مش فاكر، بس إنت اللي حققت في قضيتنا أنا ونور. إنت السبب اللي خلاهم يتسجنوا، وإنت السبب إن حياتنا اتغيّرت.
وبعدها اتصبت بالنار وبقيت على الكرسي ده… مش بعيد يكون هما اللي وراها.
ابتسمت نور وهي بتكمل:
ـ مش ناسية يا حضرة النقيب لما قلتلي: "انسِ اللي حصل وركزي في مذكرتك."
ومن يومها وأنا بكافح… ربنا كرّمني ودخلت كلية الطب. سنتين وأبقى دكتورة. لو رفضت مساعدتي دلوقتي، يبقى فعلاً أنا فاشلة وما استحقش الحياة.
نامق حاول يقاطعها:
ـ بس إنتي صغيرة… وجميلة… مش عايزك تعرضي نفسك للخطر.
مسكت نور إيده، عينها مليانة إصرار ودموعها بتلمع:
ـ بالله عليك… متكسرش بخاطري. إنت السبب إني أقف على رجلي دلوقتي، إنت اللي رجّعتلي حياتي. لو مش أوفي دينك دلوقتي… يبقى عمري ما هعرف أرفع وشي قدام نفسي.
الكلمات وقعت على نامق زي الجبل… حسّ كأن روحه بتتهز، لأول مرة من سنين حد يفتكره بالخير، حد يشوف فيه المنقذ مش المعاق.
طاهر كان واقف بعيد، بيسمع كل كلمة. قلبه اتخبط من جوّه… مشاعره متلخبطة، ومش قادر يصدق إن فيه بنت شافت في نامق السند، بينما رحمة نفسها ابتدت تقفل قلبها عنه هو.
جلسوا في الطيارة بعدها. نور بجوار رحمة، ونامق قاعد جنب طاهر… بس المرة دي، الصمت ماكنش عادي… كان تقيل، وكل واحد غرقان في أفكاره