
رواية نبضات لاتعرف المستحيل الفصل الحادي عشر11بقلم اميرة احمد
داخل غرفة الانتظار أمام غرفة العمليات، جلس يوسف بجوار مالك يحاول بث الطمأنينة فيه، بينما كان أنس واقفًا بالقرب منهما، عاقدًا ذراعيه بصمت، لكن القلق كان واضحًا في عينيه.... نظر مالك إلى يوسف وكأنه يحاول حفظ ملامحه قبل أن يدخل إلى المجهول..... كان مستلقيًا على السرير، يرتدي ثوب المستشفى الأزرق، وجهه شاحب لكن عيناه كانتا تحملان هدوء غريب.... ابتسم يوسف بخفة وقال بصوت حاول أن يجعله مرحًا: بصراحة أول مرة أشوفك لابس أزرق فاتح... مش لايق عليك.
ضحك مالك بهدوء، لكنه شعر بثقل في صدره، ليس بسبب المرض فقط، بل لأنه يدرك أن هذه اللحظة قد تكون الأخيرة التي يرى فيها يوسف قبل أن يغيب عن الوعي، اقترب يوسف منه أكثر، وانحنى حتى يكون اقرب له و قال بنبرة حاول ان تبدو واثقة: مالك... انت هتقوم من العملية دي وهتوجع دماغي تاني ببرودك.
ابتسم مالك، رفع يده بصعوبة وربت على ذراع يوسف، ثم قال بهمس خافت لكنه مليء بالثقة: لو جرالي حاجة... خلي بالك من جميلة.
تجمدت ابتسامة يوسف، انعقد حاجباه وقال بحدة وهو يمسك بيد مالك: بطل تتكلم كأنك مش راجع، أنت هتقوم بالسلامة و هتقولها انت بنفسك، و هارقص في فرحكوا و فرح ولادكوا كمان.... صحيح انت قولتلها انت فين الأيام دي؟
قال مالك بصوت ضعيف مليء بالحزن: انا وجميلة مش بنتكلم من يوم خطوبتك... زعلانة مني.
عقد يوسف حاجبيه: زعلانه منك.... ده عمره ما حصل... عملت ايه يزعلها يا مالك؟
بنبرة مهزوزة وصوت متحشرج أجاب: قولتلها تتجوز.
حاول يوسف ان يضفي المرح على الجو المشحون و ضحك: انت مجنون... بس ملحوقة... اول ما تخرج بالسلامة قولها الحقيقة.
ابتسم مالك نصف ابتسامة حزينة...
أنس، الذي كان صامتًا طوال الوقت، تحرك أخيرًا ليقترب منهما، وصوته كان هادئًا لكنه مشحون بالعاطفة: أنت هتدخل وهتخرج سليم، مفهوم؟ محدش هنا مستعد يخسرك، وأنا مش مستعد أخسر أخويا، انت فاهم؟
نظر مالك إليه طويلًا قبل أن يبتسم ابتسامة دافئة: كل شيء وارد يا أنس... بس لو حصلي حاجة.....
قاطعه أنس فورًا، صوته حازم لكنه ارتعش في آخره: مفيش لو حصل حاجة! هتخرج وهتعيش حياتك مع جميلة وهتقرفنا زي ما بتعمل دايمًا.
ضحك مالك بخفوت، ثم نظر إليهما واحدًا تلو الآخر، ممتنًا لوجودهما وهمس بصوت ضعيف: هتوحشوني لحد اما أخرج.
قبل أن يستطيع أي منهما الرد، جاءت الممرضة تشير إلى أن وقت الدخول قد حان.... تبادل يوسف وأنس نظرات سريعة قبل أن يربت يوسف على كتف مالك، بينما أمسك أنس بيده للحظة، ضاغطًا عليها كأنه يريد نقل قوته اليه.
أخذ مالك نفسًا عميقًا، ثم تحرك نحو باب غرفة العمليات، لكن قبل أن يعبره، استدار لينظر إليهما للمرة الأخيرة، وعيناه كانتا تحملان كل الكلمات التي لم يستطع قولها.... ثم دخل، تاركًا يوسف وأنس في انتظاره.
أمسك يوسف بهاتفه... اتصل بجميلة... التي كانت تشعر بضيق غريب في صدرها منذ الصباح، إحساس بالخوف يسيطر عليها دون سبب واضح. حاولت أن تتجاهله، لكنها فشلت. منذ أن ابتعدت عن مالك، وهي تشعر أن جزءًا منها مفقود.
لحظات واتاه صوتها التي حاولت ان يبدو مرحا: ازيك يا يوسف.
لم يستطع يوسف ان يخفي قلقه، لكنه أيضا لم يستطع ان يقول لها الحقيقية، اكتفي بان هتف: انتي فين دلوقتي يا جميلة؟
- انا مع ليلي بنشتري حاجات.
- طيب هابعتلك لوكيشن ممكن تيجي عليه بسرعة.
بدأ يتسرب القلق إلي نفسها أكثر: في ايه يا يوسف؟ لارا كويسة؟ ثم توتر صوتها أكتر وهي تهمس: مالك كويس؟
حاول ان يخفي مشاعره وهمس: مستنيكي يا جميلة متتأخريش.
دقائق قليلة، وكانت جميلة مع ليلي في المستشفى، خرجت من المصعد امام الممر الطويل، وجدت يوسف و بجواره أنس يقفان في نهايته، توجهت إليهما مسرعة و صاحت بتوتر: مالك فين؟
تردد يوسف قليلًا، ثم زفر بضيق، نظر إلى عينيها مباشرة وهمس: مالك جوه في العمليات دلوقتي.
شعرت جميلة بأن العالم يدور من حولها، نظرت له بصدمة وهي تهمس: عمليات؟! مالك؟!
شعرت بدوار مفاجئ، لم تكن قد استوعبت معنى كلمات يوسف، لكن وقعها علي أذنيها كان اثقل من ان تتحمله، أسودّت الدنيا أمامها وسقطت مغشيًا عليها.
عندما فتحت عينيها، وجدت نفسها على مقعد في المستشفى، ليلي تمسك بيدها وعيناها مليئتان بالقلق.
نظرت جميلة ليوسف بسرعة وقالت بصوت متحشرج : قولي إن اللي سمعته كان كذب... مالك فيه إيه؟
تنهد يوسف بحزن ثم قال: مالك عنده سرطان الغدة الدرقية... عارف إنه صعب، بس الحمد لله اكتشفوه بدري، وعمل العملية النهاردة عشان يشيل الورم.
وضعت جميلة يدها على فمها، دموعها بدأت تتجمع في عينيها، قلبها ينبض بعنف و كأنه سيخرج من صدرها و يذهب إلي مالك، ا لم تسمع شيئًا في حياتها مؤلمًا بهذا الشكل. لماذا لم يخبرها؟ لماذا تحمّل كل هذا وحده؟ كيف استطاع أن يدفعها بعيدًا وهو يمر بكل هذا الألم؟
صاحت بألم من بين دموعها: ازاي ميقوليش... وانت يا يوسف تعرف ومتقوليش.... هو فين دلوقتي
همت أن تقف لكن خانتها قواها، شعرت بدوار عنيف مرة أخري، أجلستها ليلي وهمست: امسكي نفسك شوية يا جميلة... حاولي تهدي.. وانا هاروح اشوفلك عصير او حاجة تشربيها.
في ممر المستشفى الطويل، كانت خطوات ليلى سريعة، كانت تحمل كوب العصير لجميلة، تحاول أن تتمالك نفسها بعد ما حدث لصديقتها، لكنها توقفت فجأة عندما رأت أنس يقف خارج غرفة العمليات، ملامحه جامدة، لكن يديه المرتجفتين وهو يمررهما بين خصلات شعره كانت كافية لتكشف عن توتره.
اقتربت منه ببطء، قبل أن تلاحظ أن أنفاسه تتسارع بشكل غير طبيعي، وعيناه معلقتان بالأرض دون تركيز.
وضعت كوب العصير على الطاولة القريبة، ونادته بحذر: أنس؟ ...... لم يرد، كانت أنفاسه تتلاحق وكأن الهواء يضيق من حوله، كأنه يحاول أن يستعيد السيطرة على نفسه لكنه يفشل..... وضعت ليلى يدها على ذراعه وهمست له بصوت قوي: أنس، بصلي....
رفع عينيه أخيرًا إليها، لكنها كانت نظرة زائغة، وكأن الخوف قد سيطر عليه بالكامل... قالت بنبرة حادة: مالك هيبقي كويس... هيقوم بالسلامة.
لم يرد..... فقط أخذ خطوة للخلف مستندا إلى الجدار خلفه، واضعًا يده على صدره كأنه يحاول كتم ارتجافه قلبه...... فهمت ليلى في لحظة أنه لم يكن مجرد قلق طبيعي، بل نوبة هلع.
أغمض عينيه ، محاولًا استعادة تحكمه، لكن صدره ظل يعلو ويهبط بسرعة، مما دفع ليلى للإمساك بيده بقوة، و قالت: أنس.... خد نفس عميق... نظم نفسك... انت كويس.. ومالك هيبقي كويس.... اتنفس معايا يا أنس... يلا مع بعض..... شهيق..... زفير.
كانت ليلي تقوم بتمرينات التنفس امامه، وتجبره علي أن يستعيد السيطرة علي أنفاسه الهاربة.
ظل صامتًا لثواني، ثم أخيرًا بدأ تنفسه يهدأ تدريجيًا. أبعد يديها عنه بهدوء، لكنه لم يبتعد تمامًا، لا يزال مستندا إلى الجدار وأغلق عينيه....ثم همس بضعف: مالك كل حاجة ليا في الدينا... مالك مش بس أخويا الصغير... انا اللي ربيته بعد ما ماما و بابا اتوفوا... مش هاقدر اشوف بيحصله حاجه.... مش هاعرف أعيش من غيره.
اقتربت منه ليلي مجددا وهمست: ان شاء الله مالك هيقوم بالسلامة و هيبقي كويس.... حاول بس انت تهدي علشان أكيد مالك محتاجك تكون قوي في موقف زي ده.
لحظات من الصمت مرت وأنس مغمض العينين مستند برأسه إلى الجدار خلفه، ثم فتح عينيه و نظر إلي ليلي و هتف بحدة: انتي مشفتيش حاجة... مفهوم.... و اللي حصل ده مش هنتكلم فيه تاني.
ابتسمت ليلي : هو انا مشوفتش حاجة، بس عادي لو تبين انك انسان طبيعي يا أنس باشا.. بتهتم باللي بتحبهم.
لم تنتظر منه ردا... قالتها ومضت تحمل كوب العصير وتتجه ناحية جميلة.
مرت ساعات وهم في انتظار خروج مالك من العملية، حتى وجدوه محمولا علي السرير النقال و اتجه به الأطباء و الممرضين إلي غرفته.
لم تفكر، لم تنتظر، فقط نهضت جميلة وركضت إلى غرفته، كان لا يزال تحت تأثير التخدير، ملامحه شاحبة لكنها هادئة. اقتربت منه ببطء، عيناها تمتلئان بالدموع، أمسكت بيده برفق وهمست بصوت مرتعش: أنا هنا يا مالك... أنا مش هسيبك، حتى لو كنت إنت اللي حاولت تسيبني... بحبك يا مالك، كنت غبية لما صدقت إنك مش بتحبني.
لكن قبل أن تستطيع استيعاب ما يحدث، سمعت صوته المبحوح، ضعيف وكأنه يهمس كأنه في حلم: مالك: بحبك يا جميلة... بحبك من أول يوم شفتك فيه... بس كنت خايف عليكي مني.
تسمرت جميلة مكانها، نظرت إليه بصدمة، ثم سمعت صوت الممرضة تهمس بابتسامة: لسه تحت تأثير البنج... بيقول اللي في قلبه من غير ما يحس.
نظرت جميلة إليه، وهي تشعر أن قلبها يكاد ينفجر داخل صدرها، لم تكن بحاجة إلى أي شيء آخر... فقط سماعه يعترف بحبها دون أن يقصد، كان ذلك كافيًا ليجعلها تدرك أن كل شيء سيتغير.
توتر يوسف وأنس بعد سماع اعترف مالك بحبه لجميلة وهو تحت تأثير المخدر، نظر يوسف إلي أنس وقال بارتباك: تعالي نروح نشوف الدكتور يا أنس.
خرجا معا ليوفرا الحرج علي جميلة التي ظلت عيناها ينهمر منها الدمع دون توقف.
بعد ساعات، فتح عينيه ببطء، كانت الغرفة هادئة، والضوء خافت، لا يقطع الصمت سوى صوت جهاز نبضات القلب يعلن عن استمرار الحياة في جسده المُرهق. حرك عينيه ببطء يحاول ان يتدارك ما حوله. ضوء خافت يتسلل من النافذة، وبجواره... كانت جميلة، تجلس على مقعد صغير بجوار سريره، رأسها مسندة إلى ذراعها، عيناها متورمتان من أثر البكاء.
حاول تحريك يده، فشعر بوخز الإبرة في معصمه، تأوه بصوت خافت، ففتحت جميلة عيناها علي الفور ما ان سمعت صوته...... نظرت إليه بعينين غارقتين بالدموع، ثم أمسكت يده بحنان وكأنها تخشى أن تخسره.
همست بأسمه، نظر إليها مطولا وكأنه لا يصدق انها هنا، ثم همس لها بصوت متعب وابتسامه جاهد ليرسمها علي وجهه و ضغط علي يديها الممسكة ليده بوهن: وحشتيني.
لم تستطع جميلة السيطرة على دموعها، نظرت إلي الممرضة التي تضع المحلول في يد مالك و همست: بيخرف برضه.
لكن الممرضة فاجأتها حين همست: لأ.. فاق دلوقتي.
ضغطت جميلة علي يد مالك وهمست: كنت فاكرة اننا قريبين... كده متقوليش... ليه يا مالك تشيل كل ده لوحدك... انا هنا وجنبك ومش هاسيبك ابدا.
ابتسم مالك بضعف وهمس وهو يحاول ان يمد يده ليمسح دموعها: مكنتش عاوز تشوفيني وانا كده يا جميلة.
مرر أصابعه على وجنتيها بحنان وهمس: لسة زعلانه مني؟
ابتسمت جميلة رغم دموعها: زعلانة!! .... هو انت كنت فاكر إنك هتخلص مني بالسهولة دي.
حاول ان يتكلم، ان يشرح لها مكنون صدره، لكن خانته كلماته، فاكتفي بابتسامة...
دخل عليهما يوسف وأنس.... حاول أنس أن يرسم ابتسامة على وجهه القلق وهو يقترب من مالك و يربت علي كتفه: حاسس بايه؟ في حاجة بتوجعك؟
بينما ضحك يوسف وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره وينظر إلي أعلي: حاسس انه عايزنا نخرج بره طبعا.
ضحك أنس رغما عنه، بينما نظرت إليهما جميلة بارتباك وعدم فهم.
مال يوسف علي أذن مالك وهمس: اعمل زي ما اتفقنا بقي.... اديك قومت بالسلامة.
همس مالك بصوت ضعيف: انت حسابك معايا بعدين يا يوسف علشان كلمتها و قولتلها.
نظر مالك إلي عيني أنس بتوتر ملحوظ، فهمه أنس علي الفور وأقترب من مالك، امسك يديه و قال بنبرة هادئة: الدكتور طمنا يا مالك... قدروا يشيلوا الورم كله... العملية نجحت الحمد لله.
انفرجت اسارير مالك وهمس بضعف: الحمد لله.
خرج أنس وقف في الممر، الأنوار ساطعة وبرودة الجو سرت قشعريرة في جسده، حرر دخان سيجارته في الهواء بتوتر، وقفت ليلي ترقبه من بعيد، اقتربت منه وضعت يدها على معصمه، التفت إليها، تلاقت أعينها، لأول مرة تشعر ليلي بذلك القرب من شخص، خاصة أنس... همست له بصوت بالكاد مسموع: حمدالله علي سلامة مالك.
ابتسم لها أنس بامتنان: الله يسلمك.
ابتعد أنس عنها، لكنها استوقفته: رايح فين؟
دون ان ينظر لها، ودون ان يلتفت هتف: محتاج قهوة.
اسرعت بخطواتها خلفه وهي تهتف: طيب مش تسألني .... أنا كمان محتاجة قهوة.
وقف أنس، ونظر إليها مطولا قبل ان يبتسم: ولو جبتلك قهوة ايه يضمنلي إنك مش هتوقعيها عليا تاني؟
ضحكت وهي تسير إلي جواره: لأ دي مفيهاش ضمانات