رواية مذكرات عاشق الفصل الثالث3بقلم صفاء حسني
في صمت المكتب اللي مكسّره ضوء النهار، كانت حنين لسه عايشة في عالم تاني، سرحانة بين سطور الدفتر، ومش حاسة بالدنيا حواليها.
إيهاب كان واقف عند الباب بقاله أكتر من ربع ساعة، بيبص عليها في دهشة، على أول ابتسامة يشوفها على وشها من أكتر من سنة ونص.
اتكلم بنبرة هادية فيها شجن خفيف:
= انتي مش انتي يا حنين... أنا هنا من ربع ساعة ومحستيش بيا، وأول مرة أشوف الابتسامة دي من سنة ونص.
مذاكرت عاشق الكاتبه صفاء حسني
اتخضت حنين، عيونها اتسعت شوية، وشها اتبدّل من السرحان للجدية فجأة:
= إزاي تدخل عليا من غير إذن يا أستاذ؟
ضحك إيهاب بخفة، ووشه فيه لمحة ذنب:
= مش بقولك؟ أنا خبطت الباب مرتين وقلقت عليكي، فـ فتحت الباب.
حنين وهي بتعدل قعدة الكرسي بنفَس متضايق بس مهذب:
= طيب ما كنتش تستنى لما أخلص؟
ردّ وهو بيقرب خطوة، صوته فيه صدق وقلق حقيقي:
= قلقت عليكي، صدقيني... وأنا آسف مرة تانية.
اتجه ناحية الباب كأنه هيخرج، لكن صوتها ناداه في آخر لحظة:
= استنى يا أستاذ إيهاب... كنت عايز إيه؟
(سكتت لحظة، وبصت له وهي بتحاول تخلي نبرتها عادية)
= لو سمحت، يا أستاذ إيهاب، دقيقة بس.
وقف إيهاب، لفّ ناحيتها، نظرته فيها احترام ممزوج بحب مكبوت:
= نعم يا أستاذة حنين؟
قالت وهي بتقوم من مكانها بهدوء وبتفتح درج المكتب:
= أستاذ حسن طلب أسلّم أوراق القضايا اللي معايا ليك.
ابتسم ابتسامة بسيطة وهو بيقرب منها:
= عارف، وكنت جاي أستلمهم منك.
حنين:
= تمام... في خدمة تانية من حضرتك؟
اتحركت ناحية الرفوف الكبيرة، كانت خطواتها هادية بس وراها تعب وشجن. مدت إيدها وسحبت شوية ملفات، رجعتله بيهم، وشها متماسك، بس ملامحها فيها حذر واضح.
= اتفضل... دي الملفات الخاصة بقضية شركة السكر، ودي اللي خاصة بالمهندس فارس.
إيهاب استلم منهم الورق، عيونه ناعمة وهو بيبصلها:
= تمام، هادرسهم وشوف إيه اللي مستعجل وإيه اللي ممكن يتأجل.
ابتسمت بخفة وقالت:
= تمام... ممكن خدمة تاني؟
بصّ لها إيهاب بنظرة طويلة، فيها حب صامت مش عايز يتقال، وقال بهدوء:
= أكيد يا حنين، أمّري.
مدّت إيدها وطلعت ورقة صغيرة بيضا، كتبت عليها بخط مرتب اسم “سالم محمد محيي”، وناولتُهاله:
= الورقة دي فيها عنوان واحد... وده اسمه. ممكن تعمل تحريات دقيقة، بليز؟
إيهاب بص في الورقة، وبعدين رفع عينه ليها، عيونه بتسألها حاجات كتير مش قادر يقولها:
= من عنيا يا حنين... عاوزاهم امتى؟
حنين بصوت هادي وفيه توتر خفيف:
= بكرة إن شاء الله لو أمكن… معلش، عارفة مش من اختصاصك، بس مش عايزة أروح المكان دا دلوقتي.
ابتسم إيهاب، وقال بهدوء ودفء واضح:
= ولا يهمك… اعتبريه خلص.
في اللحظة دي، حنين بصت له نظرة قصيرة وسكتت، كأنها شكرته بعينيها، وبعدين رجعت تقعد على مكتبها وهي بتحاول تستعيد هدوءها…
بس قلبها كان لسه مش مستوعب إن حد لاحظ ابتسامتها اللي ماتت من سنين.
إيهاب وهو باصص لها من غير ما يفهم:
= حاضر يا حنين، أي خدمة تاني؟
حنين بسرعة وهي بتحاول تبان طبيعيه:
= آه... ولاّ أقولك، مش وقته... شكرًا.
إيهاب باستغراب وهو بيقرب منها خطوة:
= في حاجة يا حنين؟
حنين مرتبكة وبتحاول تهرب بعنيها:
= هااه؟ لا، آه... نادِي هناء.
إيهاب بدأ يلاحظ توترها، نبرته بقت أهدى:
= هي الزيارة بتاعة إياد بكرة؟
حنين بحزن وهي بتتنهد:
= آه... كان نفسي يفضل معايا طول الوقت، مش كل خميس بس.
كان نفسي ينام هنا، نصحى سوا... مش مجرد ساعات الليل، وتاني يوم ياخدوه.
إيهاب بلُطف:
= معلش يا حنين، مين اللي هيروح يجيبه؟
حنين:
= للأسف أنا ممنوعة أروّح أجيبه... لازم حد من طرفي.
وعمّي احتمال يرجع بكرة متأخر، وكمان تعبان.
إيهاب بعرض نية صافية:
= طيب خلاص، أنا أروّح أجيبه.
حنين بسرعة وهي بتخاف يتكرر اللي حصل قبل:
= لا بلاش، كفاية المرة اللي فاتت... استفزّوا عمي وكنت هاتحرَم أشوفه.
هناء وعدتني إنها هتجيبُه.
إيهاب بابتسامة خفيفة:
= أنا بعرف أمسك أعصابي يا حنين، مش هتعصب زي عمك.
بس اللي تشوفيه... سلام، وهبعتهالك هناء تتفقوا مع بعض.
حنين بهدوء وامتنان:
= شكرًا جدًا يا أستاذ إيهاب.
إيهاب:
= العفو يا حنين.
...
صوت الأذان بدأ يعلو في كل مكان، "الله أكبر... الله أكبر..."
حنين قامت بهدوء، دخلت توضّت، وبعدها وقفت تصلي بخشوع.
وفي مكان تاني، في أكتوبر... عند العاشق.
فيلا كبيرة فخمة، حديقتها مليانة خُضرة وورد من كل ناحية.
بوابة حديد ضخمة، ووراها باب خشب متقسم لمربعات زي المثلثات.
من أول ما تدخل، تلاقي الرِسبشن الكبير متزين بأثاث كلاسيكي راقي،
وفي آخره مطبخ على الطراز الأمريكي.
السلم الرخامي يطلّعك للدور العلوي المليان غرف،
لكن نروح لغرفة "العاشق"...
كان لسه مخلص صلاة، يسلم يمين ويسار،
يقوم من على السجادة وهو يسمع رنة تليفونه.
يبُص على صورة "حنين" وهي ضاحكة في حضن "إياد"،
يبصّ لها بابتسامة حزينة:
= إن شاء الله... هترجعي ليّ من تاني.
جلس حازم على الكرسي الجانبي في أوضته، الدقّات الهادية لساعة الحيطة كانت هي الصوت الوحيد اللي بيكسر الصمت.
ضوء النهار كان داخل من الشباك، يمرّ على وشه المرهق اللي باين عليه السهر،
وعينيه فيها خليط من حيرة ووجع قديم.
مدّ إيده ناحية الموبايل اللي بيرن على الطاولة، وبنظرة مترددة ضغط على زرّ الرد.
بصوت مبحوح ومائل للحزن:
حازم:
= ألو؟
من الطرف التاني، جاله صوت حاتم الحماسي، نبرته دايمًا مليانة طاقة، كأن مفيش حاجة في الدنيا توقفه.
حاتم:
= إزيك يا ابني؟ قررت إيه؟
لمعة صغيرة لمعت في عين حازم، بس مش لمعة فرح… كانت لمعة غيظ من نفسه.
نزل بعينه على الصورة اللي قدامه فوق المكتب — صورة "حنين" وهي بتضحك، شايلة إياد —
ضحكتها كانت بتنكّشه في قلبه، بتفكره إنه ضيّع أكتر حاجة كان محتاجها.
قال بهدوء متكلف، يخبي بيه اضطرابه:
حازم:
= لسه بفكر يا كابتن.
حاتم على الناحية التانية، اتنهد وبصوت مليان حماس وضغط:
= يا ابني دي فرصة متتعوضش! تكون مدرب لفريق منتخب عالمي!
حازم حط إيده على خده وسند دماغه،
نظراته راحت بعيد… كأنه شايف وشها في المراية، بتبصله بنظرة عتاب.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفايفه، بس كانت باهتة، فيها كسرة وجع مش فرح.
بصوت خافت، أقرب للهمس:
حازم:
= عارف يا حاتم... بس مستني حاجة.
اديني شهر واحد، شهر بس، وهرد عليك بالموافقة أو الرفض.
حاتم صمت لحظة، وكأنه فهم إن ورا كلامه وجع مش عايز يقوله.
قال بنبرة فيها تسليم:
= ماشي يا ابني... زي ما تحب.
انتهت المكالمة، وفضل حازم ماسك الموبايل،
أنفاسه تقيلة، عينيه معلقة بالصورة اللي قدامه.
مدّ إيده ببطء ولمس طرفها،
ابتسم ابتسامة مكسورة، وقال بصوت مبحوح وهو بيهمس لنفسه:
حازم:
= يا رب... ترجعلي مرة تانية، حتى لو صدفة.
وقف حازم قدام الصورة اللي فيها "حنين"، وشه باين عليه تعب السنين،
نظراته تايهة بين الشوق والندم، وإيده بتترعش وهو بيمسح التراب عن البرواز.
قرب منها خطوة كأنه بيكلمها قدامه فعلاً، وصوته اتكسر وهو بيهمس:
حازم (بوجع واشتياق):
= عايز فرصة أخيرة... يمكن الرسالة دي تخليكي تعترفي، لو فعلاً بتحبيني زي ما أنا بحبك...
ولا أنا كنت عايش وهم؟ ضيعت سنين من عمري في انتظارك على الفاضي؟
نزلت دمعة سريعة على خده، مسحها بسرعة كأنه بيخبي ضعفه،
وبصّ في الصورة تاني وهو بيكتم تنهيدة تقيلة خنقاه من جواه.
