رواية مذكرات عاشق الفصل الرابع4بقلم صفاء حسني
"حنين" بتفرش السجادة وتصلي بخشوع،
عينيها فيها دموع بس قلبها كان مطمن، أول ما سلّمت من الصلاة
سمعت باب المكتب بيتفتح بخبط خفيف.
هناء (بابتسامة طيبة):
= حرما.
حنين (وهي بترد بابتسامة بسيطة):
= جمعًا إن شاء الله.
قربت "هناء" منها وهي ماسكة ورق صغير فإيدها، وقالت بنبرة فيها حماس:
= أنا عارفة كنتِ عاوزة إيه، واطمني، إن شاء الله الساعة اتنين الظهر هيكون عندك.
حنين (بحماس وامتنان):
= مش عارفة أشكرك إزاي والله يا هناء.
هناء (بحنية):
= انتي اللي تشكريني يا حنين! نسيتي إنك جبتيلي حقي ونصفتيني؟
ابتسمت "حنين" ابتسامة فيها تواضع وقالت بهدوء:
= أنا كنت بعمل واجبي وبس.
هناء (بحب):
= صدقيني عندهم حق لما بيقولوا إنك أعظم محامية.
وإن شاء الله ربنا هينصرك قريب.
استأذن أنا بقى.
حنين (بلطف):
= اتفضلي… وابعتِلي فنجان قهوة لو أمكن.
هناء (بمزاح خفيف):
= لأ، علشان خطري كفاية قهوة… مضرة ليكي،
هجيبلك عصير ليمون فريش ساقع، أوكي؟
حنين (بضحكة خفيفة):
= تمام، زي ما تحبي.
رجعت "حنين" مكانها، بدأت تراجع الأوراق وتكتب ملاحظات سريعة،
وبصت في الساعة قبل الأذان، وبعد صلاة العصر قفلت الملفات وقررت تمشي.
خرجت من المكتب بخطوات هادية، وركبت التاكسي اللي بيستنّاها كل يوم،
كانت الشمس نازلة، والجو هادي،
فتحت شنطتها وسحبت منها الدفتر القديم اللي بقى ملازمها زي ظلّها.
فتحته على أول صفحة،
ابتدت تقرأ بخوف ولهفة في نفس الوقت،
كل كلمة كانت بتسحبها لورا… لذكرياته هو.
............................................
صوت حازم (من بين الذكريات):
= في الوقت دا، الكابتن حاتم كان مصمم إني أكون في فريقه،
حاول مع بابا كتير...
حاتم (بحماس):
= ابنك شاطر وبيلعب حلو، وعنده موهبة حرام تضيع!
أنا هضمه لفريق المحترفين، والولد دا هيبقى ليه مستقبل كبير!
الأب (بعناد هادي):
= هو دلوقتي في إعدادي، إزاي يهتم بالنادي وينسى المذاكرة؟
هو في الآخر لازم يمسك المصانع بعدي.
الجد اللي كان قاعد على الكرسي الهزاز، رفع راسه بصوت واهن لكنه مليان رجاء:
الجد:
= علشان خطري يا ابني، ما تكسرش خاطر الولد.
واعتبرها وصيتي ليك يا علي.
الأب (بقلق وحب):
= بعد الشر عليك يا أبي، ما تقولش كده.
حازم (يروي والدمعة بتلمع في عينه):
= وبعدها بشهرين، جدي توفى...
كنت حاسس إن جزء مني راح معاه.
سكت لحظة كأنه بيسترجع المشهد جوه دماغه،
وبعدين كمل بصوت مبحوح:
= بس بعد وفاته بشهر، بابا أخدني للنادي...
قال إنه مش عايز يخالف وصية جدي، وفي نفس الوقت مش عايز يضيع مستقبلي.
علي (بهدوء):
= ابني يقدر يوفق بين الموهبة والدراسة.
حاتم (بثقة):
= متقلقش، عندنا خطة مخصوصة.
الأولاد دول محترفين من سن 12 لـ17 سنة،
وعندنا دروس تقوية عشان ما يتأثروش،
إحنا عايزين شباب متعلم ينافس العالم كله،
وابنك يا علي، إن شاء الله هيبقى منهم.
حازم (بحنين):
= كانت أول مرة في حياتي أحس إن حلمي ممكن يتحقق…
بس ما كنتش عارف إن كل حاجة حلوة ليها تمن غالي قوي.
كان صوت "حازم" لسه بيرن في ودن "حنين"، وكأنها سامعاه بنفسه مش بتقرأه من دفتر.
كل كلمة منه كانت بتلمس حاجة جواها، حاجة كانت ماتت من زمان.
كلامه كان بيحمل صدق وحنين ووجع عمره ما راح.
صوت حازم:
= وفعلاً يا "حنين" يا جميلتي... يا قلبي،
كنت بخرج من المدرسة على النادي، أحضر فصول التقوية هناك،
وكانوا المدرسين بصراحة غير أي حد...
أكفأ من مدرستي الخاصة اللي كانت بس مهتمة باللغات.
(نبرة صوته فيها فخر ودفء، كأنه بيحكي عن ذكريات بريئة مشبعة بالأمل)
= كنت بتدرب كل يوم، ماعدا الجمعة...
كنت بروح أنا وأبويا الشقة القديمة في نفس الحي،
هو كان بيقعد مع كبار الحي، وأنا كنت بشوفك.
ياااه... كنتِ طفلة صغيرة بتلعبي مع "هالة"،
ماكنتش أتخيل إن اليوم هييجي وتبقي جمبي بالشكل دا.
(صوته يتهدّى شوية، ويطلع منه تنهيدة طويلة كأن الذكرى وجعته)
= كنت بلمّحك زي باقي الأطفال،
بس بعد ما جيتي... بقيتي جزء من حياتي،
حتى وأنا مش واخد بالي.
ابتسمت "حنين" وهي في التاكسي، عنيها بترتعش،
حاسة كأنها بتعيش اللحظة، مش بس بتقراها.
سابت نظرها يهرب برة الشباك، والمدينة كلها بتمشي قدامها ببطء،
كأن الزمن بيرجع لورا معاها.
صوت حازم (مستمر):
= المهم... كان أبويا دايمًا بيحل مشاكل الناس،
يوظف شبابهم، يساعد رجالهم...
لما طور الشغل، بقى عنده بدل المصنع اتنين وتلاتة.
مصنع تغذية، ومصنع ملابس، ومصنع جلد.
وكان بيختار من الحي الشباب المتعلمين،
خريجين هندسة، تجارة، حقوق...
يدِّيهم مناصب كبيرة، وكانوا قدّ المسئولية فعلًا.
(نغمة فخر خفيفة في صوته، لكن مكسورة بحنين)
= أبويا كان بيعاملهم بحب...
بس كمان بحزم وعدل، وكان كريم معاهم في كل حاجة.
ومن كتر حب الناس ليه، طلبوا منه يرشّح نفسه لمجلس الشعب.
هو وافق، ودخل المجلس، واتغيّرت حياتنا من ساعتها.
"حنين" كانت بتقلب الصفحة بعناية،
إيدها بتترعش كأنها خايفة تكمّل،
عنيها فيها بريق إعجاب ممزوج بالحزن.
كانت شايفة قد إيه حازم كان بيحكي بكل صدق،
وقد إيه الحياة فعلاً بتاخد أكتر مما تدي.
صوت حازم:
= بقى معروف، والكل بيحترمه،
وأمي بقت سيدة مجتمع...
وأنا وقتها كان عندي 19 سنة.
كنت بحترف اللعب،
ونادي ورا نادي... لحد ما بقى اسمي معروف في فرق كبيرة.
(يتنهّد)
= بس نسيت حاجات كتير يا حنين...
ومنها الصلاة.
أبويا انشغل في البرلمان، وأنا انشغلت في السفر والمباريات.
ولما كنت برجع على فترات، كنت بروح أشوف "وليد" كل فين وفين...
كل حاجة كانت بتبعد، حتى نفسي.
صوته بدأ يهدي، كأنه بيحكي آخر سطر في ذكرياته:
= بس يا حنين، الحياة كده...
يوم تديك كل حاجة بسخاء،
ويوم تاني تاخد منك كل حاجة بدون ميعاد.
....................................................
قفلت "حنين" الدفتر ببطء،
ونظرتها كانت غرقانة بين دمعة وابتسامة حزينة.
بصت من شباك التاكسي،
السايق وقف قدام بيتها.
حنين (بهمس وهي بتطلّع نفس طويل):
= فعلاً يا حازم... ماينفعش تدي كل حاجة.
مدّت إيدها ودفعت الأجرة،
نزلت من العربية بخطوات هادية،
الهوا لمس وشها، بس قلبها كان تقيل.
رفعت راسها تبص ناحية "الفراندة" اللي كانت دايمًا فيها ذكرياتها مع العاشق المجهول...
بس المرة دي، كانت فاضية.
لا في ضحكة، ولا في ظلّ، ولا حتى ريحته.
(تبتسم بخفة وهي بتهمس)
= يمكن خلاص... انتهى الحلم.
ومشت بخطوات بطيئة لحد باب البيت،
وبين إيدها الدفتر...
كأنها شايلة فيه عمرها كله.
💔💔💔💔💔💔💔💔💔💔
كانت واقفة قدام البيت، بتبص حواليها يمين وشمال، عينيها فيها قلق وفضول، قلبها بيدق بسرعة كأنها حاسة إن في حد بيراقبها. أنفاسها كانت متلاحقة وهي بتحاول تلمح أي حركة غريبة، بس المكان كان هادي...
العاشق المجهول في نفس اللحظة كان ماسك صورتها في إيده، بيتكلم معاها بصوت واطي فيه وجع ولهفة. عنيه سايحة في ملامحها وكأنه بيكلم روحها مش صورتها.
حنين طلعت السلالم ببطء، كل خطوة كأنها تقيلة على قلبها. وصلت الشقة، فتحت الباب ودخلت، رمت شنطتها على الكنبة وهي حاسة بتعب مش جسدي بس، تعب جوه القلب.
دخلت أوضتها وسرحت في السقف، حست بوحدة تقطع القلب. تمتمت بصوت مبحوح:
"يعني هو لازم الحياة تبقى قاسية كده؟ ليه بتجبرنا نمشي في طريق مالناش اختيار فيه؟ ليه تاخد مننا أجمل ما فينا؟"
قامت وهي مهمومة، دخلت الحمام وفتحت الميه السخنة، نزلت في البانيو المليان برغوة الصابون ومية الورد.
الريحة كانت هادية وجميلة بس عقلها مش عارف يهدى. فضلت هناك نص ساعة، تغمض عينيها تارة وتفتحها تارة تانية، كأنها بتحاول تنسى كل حاجة...
خرجت بعدين، لفت شعرها بالفوطة ولبست لبسها الواسع، وقتها كان آذان المغرب بيعلو من بعيد.
قامت توضت، وقفت تصلي بخشوع، الدموع كانت بتلمع في عينيها وهي بتدعي ربنا يريح قلبها ويبعد عنها الهم.
خلصت صلاتها، راحت المطبخ وهي تايهة في أفكارها. كل حاجة بتعملها آليًا من غير تركيز، بتحط الأكل ع النار وتسيبه، ثم تجلس تاكل وهي شاردة، المعلقة تطلع وتنزل وهي مش حاسة بطعم الأكل.
صوتها الداخلي كان بيغلي بأسئلة مش لاقية ليها إجابة:
"هو ليه سكت طول السنين دي؟ وليه دلوقتي؟!
هو ممكن يكون ابن عم جوزي؟!
ولا كل ده صدفة؟!"
وضربت بإيديها على الطرابيزة بخفة وهي تتمتم:
"لا، في حاجة غلط... في سر أنا لسه معرفتوش."
تجري حنين على الباب وهي قلبها بيدق بسرعة، مش عارفة ليه إحساسها بيقولها إن اللحظة دي مش عادية.
تمد إيدها وتفتح الباب بلهفة، تلمح وش صغير منور قدامها، وعينيه فيها فرحة الدنيا كلها.
إياد (بصوت مليان شوق):
= ماما... حبيبتي... وحشتيني أوي!
حنين (بدموع نازلة وهي بتحضنه بقوة):
= إنت قلبي ونور عيني يا إياد... وحشتني أكتر، أكتر من كل حاجة في الدنيا.
تضمه في حضنها بكل قوتها، كأنها بتحاول تعوض كل لحظة غياب، وكل يوم اتحرمت فيه من دفء ابنه.
دقايق قصيرة، بس كانت كفيلة تخطف معاها وجع سنين، دقايق من الحنان اللي من حق كل أم.
إياد (ببراءة):
= إنتي ليه على طول مسافرة يا ماما؟
حنين (تمسح دموعها وتبتسم):
= مين قال كده؟ أنا هنا، موجودة على طول يا حبيبي.
إياد:
= جدو قال إنك سافرتي تتفسحي وسِبتيني هنا.
حنين (تضحك بخفة وهي تحاول تخبي وجعها):
= أنا أقدر أتفسح من غيرك؟! دا عمو حسام هو اللي سافر، مش أنا يا قلبي.
إياد (بتلقائية):
= أنا مش بحبه خالص.
حنين (بهدوء):
= ليه بس كده؟ دا بيحبك أوي يا إياد.
إياد:
= علشان زعق مع جدو، وجدو مش بيحب الظابط... بيقول وحشين.
حنين (تتنهد وهي ترفع عينيها للسقف):
= لا حول ولا قوة إلا بالله...
تلتفت وراها تلاقي هناء واقفة على الباب، وشها متأثر بالموقف.
حنين (بابتسامة خفيفة):
= آسفة يا هناء، كان واحشني أوي، اتفضلي.
هناء (بدموع خفيفة):
= ولا يهمك يا أستاذة، موقف مؤثر بجد.
حنين:
= تعالي يا حبيبتي اتغدي معانا، عاملة صينية مكرونة بشاميل وبوفتيك.
إياد (بحماس):
= الله! الأكل اللي بحبه!
حنين (وهي شايلة إياد على كتفها):
= آه يا روحي، أنا عملته مخصوص علشانك يا قلب ماما.
هناء (بابتسامة):
= أنا هستأذن بقى يا أستاذة.
حنين:
= لسه مصممة تمشي يعني؟ طيب استني دقيقة.
تدخل حنين جوه المطبخ، وترجع بصينية مغلفة، تمدها لهناء بابتسامة دافية.
حنين:
= خدي دي معاك، وسلميلي على ماما وأخواتك، وقولي لماما يا رب أكلة بنتك حنين تعجبك.
تمدلها كمان ظرف صغير.
هناء (بدهشة):
= دا كتير أوي يا أستاذة حنين، مش عارفة أرد جمايلك دي إزاي.
حنين (تضحك بخفة):
= امشي يا عبيطة، مفيش جمايل بين الأخوات، مفهوم؟
هناء (تضمها بحب):
= ربنا يكرمك يا رب ويحققلك كل أحلامك.
حنين (وهي تبتسم والدموع تلمع في عينيها):
= آمين يا رب... أنا وانتي سوا يا حبيبتي.
تخرج هناء، وتفضل حنين مع إياد، تلعب معاه، وتطعمه بيدها، وتضحك على كل كلمة بيقولها، لحد ما ينام في حضنها وهي بتحس إن قلبها رجع ينبض من تاني.
