رواية مذكرات عاشق الفصل الثامن8بقلم صفاء حسني
فتحت حنين الصفحة تخيلت حازم وهو
كان بيكتب حازم، وهو ووضح من سرده للأحداث إن الغضب ماليه من جوّه، الخط على الورق مهزوز، وكأن كل كلمة بتطلع من وجعه مش من قلمه.
اتسند على المكتب، وبدأ يكتب بسرعة كأنه خايف ينسى التفاصيل:
"انتي عارفة يا حنين، أنا كمان مريت بأيام ما يعلم بيها إلا ربنا.
أولها مرض أبويا، لما عرف إنه عنده سرطان في الدم.
بس كان راجل مؤمن، ما يئسش من رحمة ربنا، وطلب من أمي يقضي آخر أيامه في الشقة القديمة.
أمي كانت متعودة على العيشة المرتاحة والرفاهية، بس رجعت معاه على مضض وضيق.
أبويا كان حاسس بكده."
سكت شوية، أخد نفس عميق، صوته في خياله اتكسر وهو بيكمل كتابة:
"(بيتنهد بقلب موجوع) أنا روحت معاهم كام يوم، بس جه لي ماتش مهم أوي بره مصر، كان في النمسا... وما شوفتش أبويا بعدها.
وما عرفتش إيه اللي حصل إلا لما رجعت. بدأت الخيوط تبان لي."
رفع عينه من على الورق للحظة، كأن الذكريات خنقاه، وبعدين رجع يكمل بحروف مضغوطة:
"أنا قعدت في النمسا حوالي 5 شهور، وفي الشهور دي أبويا مات... وأمي اتجوزت عمي علشان ما تخسرش العيشة الحلوة والمنظرة.
وعمي رشح نفسه في الانتخابات ونجح، وكل حاجة بتاعة جدي وأبويا عمي أخدها بدعم من أمي وعلاقاتها.
أكيد تعرفي عمي صالح السيد، عنده 3 ولاد: ياسر، وآسر، وأمير، كلهم أكبر مني.
اتجوزها بعد مرات عمي ما ماتت، كانت ماتت قبل أبويا بسنة."
وقف لحظة، اتنهد، وضحك ضحكة مرّة وهو بيكتب السطور اللي بعدها:
"وأنا عارف إن عمي كان نفسه يتجوز أمي من زمان، مش دلوقتي بس.
جدي كان غاصب عمي يتجوز علشان كان طايش ومستهتر.
وبرضه، اداله أرض بنى عليها عمارات، ومن ضمنهم العمارة اللي انتي ساكنة فيها.
المهم، عمي كان بيكره أبويا علشان أبويا مش أخوه شقيق... من الأب بس.
وده حكاية تانية، وممكن تكون الحكاية اللي كانت السبب في كل اللي حصل معايا."
رفع القلم لحظة، وبص على السطر الأخير وهو بيبتسم بخفة، كأنه بيكلم نفسه:
"تحبي أحكيهالك؟"
وبعدين كمل، ضاحك بمرارة وهو بيحرك القلم:
"ويبتسم ويرسم ضحكة على الدفتر...
هو أنا بفضفض أصلًا ومش عارف إمتى أتجرأ وأبعتلك الدفتر ده.
وعشان كده شايفيني جايبلك حتة من الشرق وحتة من الغرب، كل ما أفتكر حاجة بكتبها.
اعتبريها مذكرات قصة من القصص اللي بتقريها."
كان حازم لسه ماسك القلم، صوته الداخلي مليان حنين وغضب ووجع وهو بيكتب كأن كل حرف بيحفر جوه قلبه:
"جدى اتجوز على زوجته، واحكيلك شوية عن جدتى اللي هى الزوجة التانية.
جدتي كانت ست بسيطة، من نفس الحتة، من الناس الطيبين اللي بيعيشوا على قدهم، بس قلبها أبيض.
جدي اتعرف على جدتي في الشغل، كانت شغالة في المصنع، وجدي كان لسه شاب، والمصنع كان في أوله بعد ما اتخرج من الجامعة.
قرر يفتح مصنع تفصيل هدوم، كان وارث قرشين من أبوه وأمه.
كانت أم عمي صالح بنت ناس كبار، جدي حبها وهي كمان اتجوزها.
لكن هى مكنتش شبهه، كانت ست من المجتمع الراقي، بتحب الشوبينج والسهر، وما كانتش بتهتم بيه، ولا عمرها حست بتعبه ولا شافت شقاه."
(ابتسم حازم وهو بيكمل كأنه شايف المشهد قدامه)
"وهو بقى يلهي نفسه في الشغل، لحد ما في يوم وهو في المصنع، لقى القماش اللي مش مظبوط، وكان باين إن في غلط في الخامة.
طلب من واحد من الصنايعية يجيب حد من المصنع يفهم الفرق ويقارن بين النوع الوحش والنوع الكويس.
وفجأة... ظهرت جدتي فاطمة.
كانت لابسة طرحة بسيطة، وإيديها فيها أثر الشغل، بس وشها منور بالبركة.
كأنها كانت النسمة اللي دخلت قلبه من أول نظرة.
وقتها حس كأن الدنيا وقفت لحظة، واتغير كل حاجة في حياته من بعدها."
(في اللحظة دي، حنين كانت غارقة في القراءة، عايشة كل حرف بيكتبه حازم كأنه بيتقال قدامها، صوت دق خفيف على الباب قطع شرودها المفاجئ.
ارتبكت، بصت حوالينها بسرعة، وضمّت الدفتر على صدرها كأنها خايفة حد ياخده منها.)
(كانت حنين قاعدة في هدوء، عيونها لسه متأثرة بكلام حازم في المذكرات، لحد ما سمعت صوت دق على الباب، فقامت بخطوات مترددة وهي بتتمسح من دموعها.)
قامت بهدوء، خطواتها كانت بطيئة، قلبها بيدق من التوتر، وبصوت واطي قالت:
"يا ترى مين؟"
مدت إيدها على المقبض وهي لسه في عالم تاني، بين الماضي اللي بيكتبه حازم... والواقع اللي على وشك يخبط على بابها.
حنين: (بصت من العين السحرية وابتسمت أول ما شافت مين) "هالة حبيبتي! إيه أخبارك؟ وحشتيني أوي!"
هالة: (حضنتها بحب ودفء) "أنتي أكتر والله. إيه أخبارك إنتي؟ وإيه ريحة الأكل اللي تجنن دي؟"
حنين: (ضحكت وهي ماسكة بطنها من كتر الضحك) "هههه! جاية على طمع بقى؟"
هالة: (غمزت بعفوية) "حاجة كده يعني."
حنين: (مشيت قدامها وبتلوّح بإيديها للمطبخ) "ماشي، تعالي معايا على المطبخ."
هالة: (رفعت حاجبها بخفة دم) "لا يا بت، أنا هدخل على البلكونة، وحشتني القعدة فيها. فاكرة أول مرة زورتك فيها بعد ما نقلتي؟"
حنين: (ابتسمت بنغمة حنين) "ياااه! حد يقدر ينسى؟ كانت أيام زي الفل."
هالة: (ضحكت وهي فاكرة الموقف) "ولما كانت بسنت هتموت على الكابتن حازم، وما صدقتش نفسها لما شافته."
حنين: (ضحكت وهي تفتكر المنظر) "آه! كانت هترمي نفسها من البلكونة علشان بس يمضي لها على صورة."
هالة: (بحركة تمثيلية) "آه، ولزقت فيكي بس علشان تشوف حازم من البلكونة."
حنين: (بتضحك وتخبطها بخفة على دراعها) "وانتي كنتي بتغيري منها أوي، كل ما تيجي عندي تلاقيها لازقة."
هالة: (عملت نفسها زعلانة وبصت بعيد) "طبعًا أغير! مش كل يوم عندك! أنا يادوب يومين بس في الشهر كنت باجي فيهم."
حنين: (نظرت لها بعينين كلها حب) "بس انتي عارفة إنك أغلى صاحبة وأخت ليا."
هالة: (ابتسمت بصدق وهي تلمع عينيها) "أكيد. أخبارها إيه؟"
حنين: (تنهدت بوجع بسيط) "بعد ما اتجوزت قطعت علاقتها بيا، وهي أصلا كانت علاقة على الوش."
هالة: (باستغراب وهي بترفع حاجبها) "إزاي يا بنتي؟ أنا سمعت إنها اتجوزت أخو آسر."
حنين: (ميلت راسها بتفكير) "مين فيهم؟"
هالة: (بتفتكر بسرعة) "أظن أمير."
حنين: (رفعت كتفها ببرود) "الله أعلم..."
(في نفس الوقت، عند الشاب الوسيم، قاعد في أوضته، نور الشمس بيقع على وشه، ماسك الموبايل وبيتكلم بنغمة هادية.)
حازم: (بصوت دافئ) "ألو."
وليد: (بحماس واشتياق) "يا حبيبي! أخبارك إيه؟"
حازم: (ابتسم وهو بيبص على صورتها اللي في قدامه) "لما بشوف ابتسامتها بحس إن الدنيا ملكي."
وليد: (ضحك بخفة) "يا عم الحاج! ماشي يا باشا."
حازم: (بابتسامة حزينة) "آه، أنا بكون باشا بس وأنا بفكر فيها. آه، صحيح، متشكر أوي يا وليد إنك وافقت إن هالة تبات عند حنين النهارده."
وليد: (بجدية رايقة) "يا عم عبيط أنت؟ هالة وحنين دول أكتر من الأخوات، ولازم تكون معاها في الوقت ده، وخصوصًا بعد ما خسرت قضية حضانة ابنها."
حازم: (قبض على العكاز بيده بقوة وعينه لمعت بالغضب) "عارف. وأنا برضه مش هسيب صالح إلا لما يتحاسب على كل اللي عمله. مش كفاية أخد أمي وكان السبب في موت أهل حنين وآسر."
وليد: (بتنهيدة طويلة) "أنا مش معاك في ده. كفاية ترجع الواد ليها، وتعترف لها بحبك وتاخدها معاك."
حازم: (بص على البلكونة بنظرة بعيدة) "لما نشوف الأيام الجاية مخبية لنا إيه."
وليد: (بهدوء) "ماشي يا عم، سلام."
(قفل التليفون، ومد إيده للعكاز، قام ببطء، وخرج على البلكونة. الهوا خبط في وشه وهو بيشوف من بعيد شقتها، مسك المنظار ووجهه ناحيتها، عيونه وقعت على حنين وهي بتضحك مع هالة. ابتسم وهو بيكلم نفسه بالهمس.)
حازم: (بصوت مبحوح) "يا حبيبتي يا معشوقتي. عارف إنك عرفتيني، بس لازم تعرفي كل حاجة من الأول، وليه ما قدرتش أبوح بحبي ليكي قبل كده. حازم، دي حبيبتي حنين، دي الروح والقلب. لما بتكون مع هالة بتنسى نفسها وبتعيش الماضي وبتضحك."
(في البلكونة التانية، هالة كانت مستمتعة بالجو وريحة النسيم، وبصت للبحر في البعيد بنظرة حالمة.)
هالة: (بابتسامة شوق) "وحشتني البلكونة دي أوي، ليها طعم خاص غير أي مكان تاني."
حنين: (بضحكة خفيفة وهي بتحط الشاي) "هههه! أكيد، علشان هنا كنتي بتشوفي وليد، صح؟"
هالة: (اتكسفت وعضت شفايفها بخجل) "وقتها كنت خايفة أبويا ما يرضاش أجي عندكم."
(وكأن العدوى جات للجميع، وسرحت هالة فجأة في ذكرياتها القديمة...)
فلاش باك:
هالة: (بصوت طفولي وهي ماسكة طرف فستانها) "بابا، بكرة الخميس، عايزة أروح عند حنين، وحشتني."
ممدوح عباس: (ابتسم وهو بيقلب الجورنال) "يا حبيبتي، ما فاتش على نقلهم إلا أسبوعين، وأنا وعدتك هنروح كل شهر."
هالة: (بلهفة) "أنت عارف يا بابا إني بعتبر حنين أختي مش جارة ولا صاحبة."
ممدوح: (ضحك وهو بيهز راسه) "طيب يا هالة، أنا هتصل بعمك محمد."
(دخل أوضة النوم، قعد على الكرسي جنب التليفون وبدأ يتصل.)
ممدوح: (بصوت ودي) "ألو."
محمد الدسوقي: (بحماس ودفء) "يا صاحبي وأخويا، واحشني."
ممدوح: (ضحك بصدق) "وانت أكتر. هنصلي الجمعة مع بعض في السيدة زينب؟"
محمد: (بصوت مطمئن) "أكيد، كل جمعة إن شاء الله لحد ما ربنا ياخد أمانته."
ممدوح: (بلهفة وقلق خفيف) "بعد الشر عليك من كل سوء. كنت عايز أقولك على حاجة."
محمد: (بصوت حنون) "هالة تنور في أي وقت، السواق هيكون عندها من الصبح."
ممدوح: (ضحك بخجل وهو بيحك دماغه) "عرفت إزاي؟"
محمد: (ابتسم بثقة) "أنا وعدت حنين يوم ما نقلتوا مش هتقطع علاقتها مع حد من الحتة، وخصوصًا هالة دي، دي توأمها."
ممدوح: (ابتسم بدفء) "ربنا يديم المحبة دايمًا."
باك
(الليل كان ساكن، والقمر نوره خفيف بيعدي من بين ستارة الشباك. البيت كله غرقان في هدوء مريب، إلا حنين اللي كانت قاعدة على الكنبة، عينيها فيها لمعة حنين ووجع.)
حنين: (بصت للسقف بتنهيدة حارة وقالت بصوت واطي) "الله يرحمك يا بابا ويغفر لك، طول عمره بيحب يوفي بوعده."
(هالة اللي كانت قاعدة قصادها على الأرض، رفعت راسها وابتسمت بخفة حزن.)
هالة: (بهدوء دافي) "فعلا، قليل أوي اللي الصداقة بتستمر سنين من غير انقطاع ولا مشاغل في الحياة."
(ضحكوا شوية، ورجعوا يفتكروا أيامهم القديمة، فضلوا يرغوا كتير... لحد ما هالة بدأت تتكلم بكلام متقطع من كتر النعاس، وبعدين نامت وهي مسنودة على المخدة الصغيرة على الكنبة.)
(حنين بصتلها بحنان، وعدلت الغطا عليها، بس هي ما قدرتش تنام. كانت الأفكار بتلف في دماغها زي دوامة... القضية الجديدة، ابنها اللي بكرة هيكمل أربع سنين، سنة ونص بعيد عن حضنها... الوجع كان بيعض قلبها كل يوم شوية.)
(قامت بهدوء، مشت على أطراف صوابعها علشان ما تصحيش هالة، وخرجت من الأوضة. راحت على أوضة أمها وأبوها، النور الخافت خلاها تحس إنهم لسه هناك. وقفت قدام صورتهم المعلقة، ومدت إيديها وهي بتقرأ الفاتحة والدموع بتلمع على خدها.)
(بعدها فتحت الشباك، الهوا البارد دخل بهدوء، خلى شعرها يتحرك على خدها. قعدت على كرسي أبوها القديم، اللي لسه محتفظ بريحته، وطلعت الدفتر اللي بقى هو المتنفس الوحيد ليها. فتحته عند آخر صفحة كانت وقفت عندها، ومسكت القلم بس ما كتبتش... عينها كانت بتدور على معنى في السطور.)
(في الناحية التانية من الشارع، في شقة مقابلة، كان حازم واقف في العتمة. نور الأوضة عندها لمّح وشها من بعيد. حس بيها كأن في خيط بينه وبينها. خرج من أوضته على الصالة وهو ماسك العكاز، قرب من البلكونة بهدوء علشان يشوفها أكتر. شافها وهي بتقرا في الدفتر، وشفايفها بتتحرك بهمس، فغمض عيونه وتخيل صوتها.)
(ابتسم بخفة، وبدأ يتخيل إنه بيتكلم معاها... في خياله كانت قاعدة قصاده، نفس النظرة، نفس الهدوء اللي كان بيخطفه.)
حازم: (في خياله، وهو بيهمس لنفسه) "مساء الورد وصباح الفل على أحلى عيون في الكون. هههه، أنا كمان مش عارف أنام ومستني أكمل معاكي قصة حب جدي وجدتي، وإزاي اختار البنت الغلبانة على الست الغنية."
(حنين ابتسمت وهي بتقلب الصفحة، كأنها فعلاً سمعته. نظرتها راحت في الفراغ، بس عينيها كانت بتحكي شوق دفين.)
حنين: (بابتسامة شقاوة خفيفة) "صباح الفل. اتفضل احكي يا اللي طيرت النوم من عيني."
(حازم ضحك بخفة، وهو بيهز راسه من إحساسه بيها.)
حازم: (بنغمة مليانة وجع خفي) "هههه، شوية من نفسي. كنت كل يوم بتخيل إني بتكلم معاكي حتى لو في الخيال."
(حنين غمضت عيونها لحظة، وبعدين فتحتها ببطء، وهي بتقول الجملة بصوت واهن بس فيه صدق عميق.)
حنين: "أنا كنت نسيت الخيال وبدأت أعيش الواقع. ليه رجعتني تاني؟"
(حازم حط إيده على صدره، كأنه بيكلمها بصدق مطلق.)
حازم: "اعتبريني يا ستي حكاية بتقريها زي زمان."
(حنين ضحكت وهي تمسح دمعة نزلت على خدها، وقالت بخفة، بس قلبها كان بيرتعش.)
حنين: "احكي يا كابتن حازم."
