
رواية غرام في العالم السفلي الفصل التاسع9 بقلم داليا السيد
رائحة.. خشب محروق وقهوة
"أنت تعصى أوامري"
لم ينظر للكبير وهو يحدق بنافذة السيارة التي بجواره وقد توقع هذا الانفجار ولكن الأمر لم يعد يشغله
"أنت لم تمنحني أي أوامر بخصوصه"
الجنون أصاب الكبير بسبب تصرفات نائبه "أخبرتك أن تبتعد عن طريقه لا تستغل سفري وتفعل ذلك وتأتي لي وكأنك لم تفعل شيء"
لف وجهه للكبير الثائر من أجل طفله المدلل وغيرته تلعنه كما لعن إبليس بسبب كرهه لآدم وطرد من الجنة ولكنه لم يكن حزين بل سعد بإفشاء الفساد بالأرض
"هو يستحق العقاب، عبث مع من لا قبل له به"
الكبير يدرك هوس نائبه تجاه هارون وظن أنه أوقفه ولكنه لم يمكنه السيطرة عليه وما بلغه من تصرفاته لم تأتي بوقتها بل بعد فوات الأوان
هارون بين الحياة والموت..
"أين هي!؟"
ظلت ملامحه فارغة، باردة، صب عليها أكوام من مكعبات الثلج ففقدت أي شعور
"لا أظن أنها تهمك"
"إذا أصابها مكروه لن أرحمك، إلى هنا وانتهينا وعليك بإصلاح ما أفسدته ولو مسست هارون مرة أخرى سيكون حسابك معي"
هل ذاب الثلج عنه حتى تتحول ملامحه لجمرة حمراء تشتعل على وهج الغيرة والحقد، لم يمكنه الجدال الآن فقد تخطى حدوده وفقد الزمام لذا فتح باب السيارة ونزل وهو يجذب هاتفه
"لا تتصرف وحدك"
أبعد الكبير وجهه وأغمض عيونه وهو لا يصدق ما وصل له نائبه من تهور كاد يزهق روحين بسبب الغيرة.. اللعنة
الغيرة سماء لا ترضى على الغيم أن يعانق سواها..
****
الهواء الساخن ضربها والشمس غشت رؤيتها أكثر بالاتفاق مع دموعها..
جسد سخيف صد طريقها بطريقة غير لطيفة فرفعت وجهها الباكي كي تفجر غضبها به لكنها فزعت لرؤية وجه سيد أمامها
هل كان يتبعها؟
تراجعت ولكنه قبض على ذراعها وهو يبدي غضب لا تقبله منه "هل ظننت أن بإمكانك الفرار مني؟"
الفرار كلمة لم تنطق بها لكن هي حياتها، لطاما فرت من كل شيء ولم تصل لأي شيء
حاولت جذب ذراعها من قبضته وهي ترتجف من المفاجأة وهتفت "أنا لا أفر منك، أنا لا أعرفك بالأساس، أبعد يدك عني"
جذبها دافعا إياها بطريق لا تعرفه وهو لا يهتم بكلماتها "تجهلين خطيبك؟ عندما نعود البيت سنتعارف جيدا"
رحلت الدماء من وجهها وأدركت السيارة الخاصة بالريس التي اصطفت بمكان الانتظار وهو يفتح الباب ويدفعها
"أنا لن أذهب معك لأي مكان"
حاولت مقاومته وهي تصد بيداها على السيارة كي لا تدخل ولكنه كان أقوى وهو يكتف ذراعيها ويدفعها للداخل ويغلق الباب
"لن تذهبي لأي مكان سوى معي"
كان أسوأ رجل رأته بحياتها.. ستموت قبل أن تتزوجه
حاولت فتح الباب ولكنه أغلقه الكترونيا ودخل بجوارها وهي تصرخ كي يتركها وقبل أن يلتفت لها ويغلق بابه كانت يد قويه تنزعه من مقعده وتجذبه للخارج ولكمة كسرت أنفه بالحال وجعلته يترنح
شهقت عندما أدركت من الذي أمكنه نزع هذا السيد من مكانه وإسقاطه بلكمة
****
منح مالك كوب القهوة لطلال الذي كان واجما وهو يتابع حركة الأطباء أمام غرفة العمليات ومالك يحاول أن يسيطر على قلقه
"أربع ساعات بالداخل"
تناول طلال القهوة وتنفس رائحة البن بدلا من رائحة العقارات والمعقمات
"الطبيب قال إن حياته على المحك"
تحرك أنس تجاههم وبدا وجهه متورم ومكدوم ..
تعرضوا هم أيضا لهجوم من سيارة أوقفتهم لتمنعهم من متابعة سيارة هارون وما أن فر الرجال منهم ولحقوا بهارون حتى وجدوه بحالة يرثى لها
وليال اختفت!!
طلال التفت لأنس وقد أدرك كل ما وقع لهارون ورجاله وليال التي ضاعت
"ألا توجد أي أخبار عنها؟"
لوى فمه بخزي واضح، كان حارسها الشخصي وفقدها.. كان حارس الاثنين وزعيمه بين الموت الحياة عالقا
"لا، لقد عجزنا عن حمايتهم"
أبعد طلال وجهه ومالك يتفهم ما يمر به أنس، رجال هارون تخلص له وتفديه بحياتها فهو منحهم الكثير
"لا مجال لذلك الآن أنس، لا أعلم كيف سنصل لها وهو هنا بين الحياة والموت؟"
تحركت مجموعة من الرجال تجاههم وعرفوا بالطبع أنهم مباحث
تقدم واحد وقال "علي حسين، رائد مباحث"
حياه الجميع فقال "من كان موجود بالمكان وقت الحادث؟"
أجاب أنس بآلية "لا أحد، قطعوا علينا الطريق فلم نلحق بسيارته"
التفت مالك وطلال لأنس والضابط يكمل أسئلته "كان وحده؟"
رد أنس بلا حاجة لإخفاء الأمر، الأمر لن يمر هكذا وأكيد الكبير سيتدخل "وزوجته، ليال وتم خطفها"
هز الضابط رأسه وقال "لدينا رادار على الطريق يمكننا معرفة أرقام السيارات التي مرت بذلك الوقت، ألم يخرج من العمليات؟"
هز رأسه بالنفي فلم يكثر الضابط واكتفى "سأعود عندما يخرج ويستطيع الحديث"
نفخ أنس ومالك يربت على كتفه محاولا فهم تصرفه "ظننت أنك لن تخبره عن ليال"
مرر يده بشعره ومنحه تبرير "عليهم بمساعدتنا بالأمر"
هاتفه رن فتحرك ليجيب بينما التفت طلال لمالك "لا أعرف كيف سيتقبل الأمر؟"
وافقه مالك بلا ذرة شك "سيزحف على بطنه لينقذها"
هز طلال رأسه وقال "لقد انتظر سنوات طويلة لينالها وعندما فعل فقدها والأصعب أنهم أخذوها منه هو"
لم يرد مالك وهو يدرك صحة كلماته ولا يجد ما يقوله ولا يعرف كيف يمكن أن يساعد صديقه
****
استعادت وعيها فجأة لكن لم يمكنها فتح عيونها فقد كان هناك شيء حول عيونها، غطاء للعين تمنع عنها الرؤية
لاصق على فمها أغلق شفاها..
لم يمكنها تحريك أي شيء بجسدها حتى يداها كانت مقيدة للخلف وكذلك قدماها، رأسها المستقر على شيء بارد جعلها تدرك أنها ملقاة على أرض باردة ورائحة كريهة فاحت من حولها ولفها صمت صم أذنيها
شعرت بالفزع يصيبها وهي تستوعب ما حدث لتفيق من صدمة الظلام الذي لفها لما حدث لها ولزوجها.. حبيب قلبها
منقذها.. الوصي الذي انهار أمامها وهو يحاول التخلص من عشر رجال ليصل لها ويحررها وينقذها
لكنه لم يستطع.. هزموه بالغدر
قلبها صرخ متألما عندما استرجعت مظهر رجلها وهو ملطخ بالدماء والرجال تجمعت عليه وتكاثرت الأيدي تنهش جسده بلا رحمة وهو وحده يضرب هذا ويسقط ذاك حتى غلبته الكثرة
لسعتها الدموع بعيونها وأوجعها الألم بقلبها وهي لا تعلم هل مات أم ما زال على قيد الحياة بعد كل ما أصابه؟
صوت مزلاج حديدي يتحرك جعلها تنتبه وتدرك أنه صوت باب يفتح ثم أقدام تتحرك ورجل يتحدث
"هو لم يطلبها حتى الآن ولم يخبرنا ماذا نفعل بها"
صوت آخر انضم للأول "لنتركها كما هي حتى يرسل لنا أوامره"
عاد الأول "ألن يفحصها؟"
"أخبرتك أنه لم يحدد ماذا يريد منها"
لم تتحرك وقدم تضربها بقوة ببطنها فأنت من الألم وشعرت برغبة بالقيء
"من الواضح أنك أفقت يا جميلة"
انكمشت بسبب الألم وقبضة قوية تقبض على شعرها الذي كان ما زال يؤلمها بسبب الرجل الذي جذبها منه عند السيارة
تألمت مرة أخرى خلف اللاصق والرجل الثاني يقول "ماذا بك يا رجل؟ اتركها"
صوت الضحكة صم أذنيها "لن تخدعني بهذا الحنان فأنت عندما تدخل غرفة الجراحة تتحول لجزار"
الرعب تملكها أكثر من كلماته، رنين هاتف ارتفع فقال "هيا، يبدو أنه هنا"
تحركت الأقدام مبتعدة وصوت الباب يغلق مرة أخرى بقوة والدموع تسقط من عيونها وهي تحاول أن تستوعب ما يحدث حولها وتعرف أين هي وماذا تفعل هنا؟
لكن لا شيء يمنحها تفسير أو إجابة
****
اعتدل سيد ليواجه رشدي الذي لم يمهله وهو يضع قبضته بمعدته فانحنى ولكنه صد لكمة رشدي التي كاد يوجها لوجهه ثم دفع قبضته لوجه رشدي الذي تراجع للخلف ليتفاداها ثم دفع رأسه للأمام لتصطدم بجبهة سيد بقوة جعلته يترنح للخلف ويسقط على ظهره ورشدي يعدل جاكته وينظر له
"لا تفكر بلمسها مرة أخرى، انزلي"
كان قد لف وجهه لها وهي تحدق به من داخل السيارة وتراجعت من صوته الذي أفزعها ولكنها لم تفكر وهي كالعادة أصبحت كالجارية تطيع سيدها
تحركت خارجة من السيارة، حقيبتها على ظهرها، تجاهه وهي ترى سيد على الأرض يحاول جمع شتات نفسه مواجها رشدي
"هي خطيبتي"
حدقت به وهي ناقمة على أخيها الذي فعل بها ذلك..
أدرك ما لم تخبره هي بها، أخيها قرر عقابها بزواجها من نكرة..
"الرجال هي من تخطب النساء أما أمثالك فيسقطون أقدامهم بالمياه بعد تقليم أظافرهم"
رفعت وجهها له وكلماته تثير جنون سيد الذي ترنح وهو يحاول الجلوس بينما لمسته على ذراعها نبهتها أنه يقودها لسيارته الاسبورت التي تعرفها ولم تجد قوة لترفض الباب الذي فتحه لها وهي تجلس وبابها يغلق
قاد بلا كلمات حتى انطلق على الكورنيش وصوته العميق يخرق الصمت "هذا ما فعله سعد بك؟ سجن الزوجية"
أبعدت وجهها وهي تردد "لم يختلف كثيرا عنك"
لف وجهه لها وهي لم تكن حمقاء ولا غبية، هي تعي كل ما يدور حولها هي فقط لا تقوى على المواجهة..
لفت وجهها لتلتقي بنظراته القاتمة فأبعد وجهه وضوء الإشارة يسمح له بالتحرك
عادوا للصمت حتى دخل منطقة راقية جدا ونزل جراج أحد المباني الشاهقة وأوقف السيارة فتأملت الجراج الممتلئ بسيارات فاخرة وتملكها الرعب مما يرغب به بوجودها هنا معه
"هي شقتي"
هي بالحقيقة الوكر خاصته، كل نزواته تقام بها وهي الأخرى نزوة يرغب بها وبطعم العسلية..
هزت رأسها بلا وعي نافية ما يفكر به وهو رأى حركتها وشعرها المبعثر حول وجهها الشاحب
"أنا أم سيد؟"
هل يجرؤ على قول ذلك؟ يقايضها؟
"أنت حقير"
فتحت الباب بلا تفكير وكما اندفعت خارج المطعم أرادت أن تفعل المثل لكنه لم يمهلها وهو يلحق بها ويصد طريقها وهي تواجه وجهه الجامد بوجهها الحانق والرافض لما يدفعها له
"لن أنكر أني حقير ولكن هل تظنين أن سعد أقل حقارة مني؟ هل سيتركك بعد أن يعرف أنك كنت معي؟"
صدمتها كلماته التي غابت عن ذهنها.. سيد سيخبره.. سيقتلها.. أو
"سيلقيك لسيد بلا ثمن"
ارتجفت شفتاها وضعف نبض قلبها حتى شعرت أنه لم يعد ينبض
هي ضائعة.. تائهة بلا هدف.. هي حشرة تدهس تحت قدم الأقوى
أحنى رأسه، طارقا الحديد وهو ساخن "أنا سأمنحك الثمن.. زواج عرفي، شيك يؤمن لك حياتك عندما نفترق.. ووقتها سيكون لك عمل بمكان بعيد عن هنا يؤمنك من سعد"
لم تجد أي نور بكل السواد الذي سقطت به، زواج عرفي.. عاهرة بثمن بخس؟ هي ليست كذلك..
التفتت وتحركت باتجاه عكسي كي يفهم أن طرقهم مختلفة..
****
انهى صفوان ممر المشفى خارجا من الباب الأمامي حيث رأى الرائد عزيز، الذي يتعامل معه هارون داخل المباحث، يقف بانتظاره "أخبرني أن لديك شيء؟"
تراجع الرجل وملامح صفوان تعني عدم تقبل كلمة لا شيء
"فقط هذا الرقم تم التقاطه من الرادار الذي بأول الطريق وقد كان موجود أيضا عند محل الآيس كريم مما يعني أنهم كانوا يتبعونه"
جذب صفوان الورقة من يد عزيز بفارغ صبر وحنق من نتيجة قد لا تفيد بحالتهم "وماذا أفعل به؟ أريد بيانات"
هتف الضابط بصدق "الرجل الذي أعرفه بالمرور لا يجيبني بالصباح سأحاول الوصول له"
لف صفوان وجهه واليأس هو كل ما يحمله داخله، كل الأبواب موصده بوجهه ولا خطوة اتخذها للأمام وكأن كل شيء توقف بسقوط الزعيم
"وقد يكون رقم مزيف أو مسروق وبهذا لن نصل لشيء والوقت ليس بصالحنا نحن لا نعرف ماذا يحدث لها الآن!؟"
وصمت يفكر ويستعيد كل ما تعلمه من الريس "ألا توجد صورة لسائق السيارة؟"
حدق به الرائد لحظة وهو الآخر يحاول التفكير بإيجابية قد تنفع بحالتهم هذه "هل تظن أنك ستتعرف على صورته صفوان؟"
الرائد كان يعرف هارون وصفوان جيدا فقد أنقذوا أخته من مصير مثل الذي كادت ليال تسقط به وربما أسوأ وأعادوها لبيتها والرائد من وقتها يحمل لهم الدين
صفوان أمسك بطرف الخيط بقوة فهو كل ما لديه الآن "لدي طرقي الخاصة مثلك سيادة الرائد؟"
هز الرجل رأسه وقال "سأحاول وسأبذل قصارى جهدي، كيف حاله؟"
تجهم وجه صفوان وغضبه من نفسه لاح بعيونه لأنه لم يكن بظهر رئيسه "ما زال بالعمليات، طعنتين بالسكين وطلق بالصدر وضلوع مكسورة واشتباه بارتجاج، لو نجى ستكون معجزة من الله"
تنهد عزيز ولمعت عيونه ببريق حزن صادق "هارون يقدم الكثير من الأعمال الجيدة صفوان لذا لن يتركه الله"
هل يمكن أن يرى الله نزلاء العالم السفلي!؟
الله مالك السماوات والأرض
تحرك عزيز مبتعدا وارتد صفوان للداخل ورآهم يقفون وأنس نظر له "لقد خرج للعناية"
حدق مالك به متسائلا "هل وصلت لشيء؟"
رفع رقم السيارة وأخبرهم بها فأشاح طلال بيده وقال "مزيفة، مسروقة، مجهولة الهوية"
هز أنس رأسه مؤكدا كلماته "من الأفضل البحث بطريق آخر"
عقد صفوان ذراعيه أمام صدره العملاق بلا أفكار جديدة "وهل لدينا أي طرق الآن أنس؟ نحن أمام طريق سد"
لم يجيب الرجال واليأس يتسرب لصدورهم
****
البرد ازداد حولها وكأنهم رحلوا لديسمبر أو يناير وليسوا بنهاية أغسطس، تألمت ذراعيها وقدماها من وضعها وصداع بالطبع لا يتركها والعطش يزداد، كم ساعة مضت بها هنا؟ ترى كيف حال هارون؟ هل عرف رجاله شيء عنها؟
هل الموت اقترب؟
صوت المزلاج الحديدي عاد مرة أخرى وانقبض قلبها من القادم، انفتح الباب ثم ساد السكون مرة أخرى
ارتجفت من الانتظار وهي تحاول أن تسمع أي شيء حتى بدأت الخطوات لكنها لم تكن للرجلين السابقين بل مختلفة وتتحرك بهدوء وثبات مخيف بخطوات متزنة
الخطوات تقترب.. خطوات لفرد واحد، ثقيلة وبطيئة، ثابتة تعرف طريقها جيدا.
توقفت الخطوات..
الهواء تغير.. كأن الغرفة امتلأت بشيء لا يرى؛ رائحة دخان داكن، ممزوجة بخشب محترق ونفحة حلوة مربكة.. قد تكون قهوة
رائحة لم تشمها من قبل لكنها شعرت بها وهي تنزلق داخل صدرها، كأنها تخدر قلبها وتكاد توقفه عن الدق وتصيبها بالاختناق
تشجنت أطرافها.. شعرت بالخوف يزداد ورغبة في الهروب لكنها مقيدة ولا ترى ولا تستطيع حتى الصراخ والرائحة بالأساس كانت أقوى من صوتها
عادت الخطوات.. ولكن ماذا!؟
صوت غريب اندمج بخطواته، وقع عصا خفيفة تضرب الأرض بنفس الوقع والثبات وكأن كل نقرة منها عداد موت يقترب
وأخيرا توقف العزف الثقيل بجوارها..
الهواء أصبح أثقل والرائحة ارتفعت أكثر، العطر يزداد وضوح جعلها تشعر بالظلام والقلق وكأنه ظلال بشرية تتساقط داخل ظلمتها
ارتجف جسدها ووجهها ملتصق بالبرد النابض من الأرض الصلبة الخشنة، لا ترى شيء، لكن هو قريب، قريب جدا
فجأة، شعرت بشيء بارد يلمس خدها، رفة خفيفة ثم حركة أبطأ، كأنها لمسة تأمل، لا ضرب
عصاه..
انزلقت بنعومة على خدها، مرت برفق حتى ذقنها، ثم توقفت عند عنقها كأنما يختبر ملمسها.. أو يوقظ فيها خوفا جديدا
ظلت العصا لحظة على عنقها والخوف بالفعل استيقظ داخلها هل قرر قتلها؟
هو أهون من مصير مختلف..
عاد وتحرك حتى كتفها وضغط بطرف العصا ثم ضغط قليلا على عظام كتفها الذي أدركت أنه انكشف من ملابسها الممزقة فارتجف جسدها كله رغم أن الضغط لم يكن قويا لكن يثير الرعب داخلها
انسحبت العصا وانزلقت لفتحة الجاكيت ولكنها انتفضت محاولة الفرار بلا قدرة على الحركة
ابتعدت العصا وبلحظة عادت الخطوات الثابتة تنسحب والعزف المخيف يتراجع والهدوء يعود للمكان والسكون ينزل كستار يعلن نهاية مشهد الفزع والرعب الذي عاشته بتلك اللحظة
الهواء عاد لطبيعته وهي جذبته لصدرها الذي تذمر من حاجته للأكسجين..
الدموع أصبحت رفيقها والأمل بالنجاة صعب، بمكان كهذا تصبح فرصتها بالنجاة منعدمة فقط لو تعرف هل نجا هارون؟
هل ما زال يتنفس؟
هي لا تهتم بأن تخرج من هنا أم لا المهم هو، لا ذنب له بدفع حياته ثمنا لحمايتها
أغمضت عيونها لتزيد ظلامها قتامة واليأس يزحف ويسكن خلاياها بلا أمل بالنور
****
هو هارب من ملجأ لا يعرف متى دخله.. هو الرذيلة الملتصقة به
الذئب الذي عوت حوله الثعالب مقدمة فروض الطاعة للزعيم
الريس هوى.. سقط دون أن يعلم من العدو المترصد خلف الظلام؟
الذئب لا ينافسه أي حيوان فقط، الشيب..
هل تحققت الاسطورة يا ديب وهزمك الشيب؟
"الشيب هو مخلوق اسطوري يتكون نتيجة لتزاوج الذئب والضبع على الرغم من استحالته بيولوجيا ويقال أنه أشرس من الذئب"
****
أفاق الديب بصعوبة والطبيب يناديه، فتح عيونه التي اختلط فيها الأحمر بزرقتها الباهتة ورأى المكان من حوله فأدرك أين هو والطبيب ما زال يناديه
"زوجتي؟"
تراجع الرجل وقال "هل تذكر شيء سيد هارون؟ كنت وحدك عندما وصلت هنا"
تذكر آخر شيء رآه، عيونها الباكية والتي كانت مميتة، طعنته برجولته، فشل بحمايتها..
لم يمكنه أن ينسى مشهدها وهي تقاوم الرجل الذي يجذبها من شعرها ويدها تمتد أمامها له تستنجد به وصوت صراخها باسمه ما زال يرن داخل أذنيه كموسيقى الأموات
ضاعت.. القدر يعاقبه على سواد سنوات عمره بحرمانه منها
"سيد هارون هل تسمعني؟"
حول عيونه للرجل وتنفس بصعوبة من ألم صدره وضلوعه ومع ذلك لم يهتم فقط هي
"نعم"
اعتدل الطبيب براحة من رؤية رجل عاد للحياة بعد أن كان يصارع الموت "لقد نجيت بمعجزة"
فمه الجاف لم يساعده على الحديث فلم يرد، رغبته بالحديث انتهت
ورغبتي بالكتابة ذهبت..
اختفى الطبيب ثم رأى طلال ومالك أمامه وطلال يقول "هل أنت بخير؟"
هز رأسه وابتلع ريقه الجاف مع تفاحة آدم تتحرك بعنقه "ليال!؟"
نظر الرجال لبعضهم وبالطبع فهم ولم يهتم بالوخزات المؤلمة بكل مكان بجسده رغم المسكنات التي يتم منحها له
"أخرجوني من هنا"
انحنى مالك عليه وقال "سنفعل لكن عندما يمكنك النهوض"
أراد أن ينهض، يحطم ذلك الألم الذي يقيده بالفراش، هذا الألم الذي تحبسه داخلك كي لا يقتلك يدمرك، يحطمك، يهزم الريس
عقله يأمره أن يحارب عجزه الذي يفصله عنها، يصارع تلك الجراح التي أصبحت وحش يلتهمه، يبرز أنيابه ويغرزها بقلبه
لن تنجى مني..
صفوان وأنس تحركا له ونظرات الخزي بعيونهم لكنه لم يهتم هو نفسه انهزم
صفوان تجاوز ما بداخله وقفز للعمل "حصلت على صورة سائق السيارة التي أخذتها"
لا شيء، ما زال عالق بذلك الفراش، عاجز، جسد سقط من الطعنات وقلب ما زال يصارع من أجل من أحب وهي بالمجهول وصورة لن تمنحه أي شيء
"هل تواصلت مع الباشا؟"
حدق به أنس وهو لا يفهم تفكير رئيسه "أنت تشك به؟"
هو يشك بالعالم كله وعندما يضع قدمه على الأرض لن يترك باب إلا وسيحطمه ولا جحر إلا وسيزحف داخله باحثا عنها ولن يرحم من فعل به ذلك
طالما ما زال به نبض فلن يضيع أنفاسه إلا بالبحث عنها وبعدها ربما يمنح نفسه للموت بروح راضية
"ربما"
نظرات أنس له كانت تعني الحيرة والاستجابة لكل ما يقول فهو الريس
"عليك بأن تنفذ تعليماتهم كي تخرج بأسرع وقت"
لم يرد وهما يخرجان وبلحظة كان يسقط بالنوم من أثر الدواء وما زال يحمل نظرتها الأخيرة معه للحلم ربما تخبره أي شيء ليصل لها ولكن بدا أن الأمر أصعب مما كان يظن
****
تحركت مي بلا وعي داخل ممر المشفى ودموع تغطي عيونها ووجهها حتى رأت صفوان يجلس وسعد واقفا بجوار باب العناية
صدمتها عندما عرفت بالأمر جعلتها كالمجنونة
هي السبب..
ذلك الرجل استغل غضبها وغيرتها، جذب منها معلومات عن الرجل الذي تحبه
كاذبة.. خائنة..
أي حب هذا الذي يدمر من تحب؟
هي من عرفت أن تلك اللعينة ستذهب لمقابلة شخصية وفرصة قتلها وهي بعيدة عن الريس لا يمكن فقدها..
لكن القدر انتقم.. هارون من يدفع الثمن..
لماذا ذهبت لها هارون؟ كنت دعها تموت حتى تعود لي..
"صفوان!؟ أين هارون؟ ماذا أصابه؟ هل نجا؟ تحدث"
نهض صفوان وهو يشفق عليها، هو يعلم بمشاعرها تجاه رئيسه كما يعلم بمشاعر أنس تجاها لكنه لم يتحدث بأي يوم
هو لا يتدخل بما لا يعنيه..
انحنى عليها من طوله الشاهق كي يمنحها بعض الطمأنينة والهدوء وإلا ستصاب بأزمة قلبية حادة
لو علم بما فعلته سيمارس هوايته المفضلة بتجميل وجهها وأظافرها وجسدها الجميل..
"نعم نجا مي لكن ما زال بالعناية، حالته خطر"
بكت أكثر، دموع ألم، ندم، خيبة أو حسرة لكن لا شيء يمكن أن يوقف تلك الدموع
لكن لديها أعذار تمحي ذنبها، كانت تنتظر منذ الطفولة لتكون زوجته، عاشت في الظل حتى يسقط نوره عليها ويراها ويجذبها له حتى سقطت عليها الصاعقة
الصغيرة.. بل الحقيرة، تلك التي أمضى سنوات يدللها ويمنحها ما لا تستحقه ولم تظن أنه كان يعدها لنفسه
هي اكتسحت كل شيء، احتلت المكان الذي آمنت أنه لها، أسدلت الستار عليها ووقفت هي على خشبة المسرح ونالت البطولة وحدها بلا أدنى حق
وتعالت التصفيقات..
نظرات صفوان واجهتها ورأت كم كانت مليئة بالحزن لصاحبه ورئيسه وليس بالذنب والندم مثلها
غافلت نفسها ومنحت التهمة لنظيفة اليدين وانحنت أمام العدالة تعلن براءة مزيفة
"هي السبب، منذ دخلت حياته وهو لم يرى يوما جيدا، كان عليه ترك فريد يأخذها بعيدا عنا"
اعتدل صفوان ونظرات العتاب بدت واضحة بعيونه، الغيرة تجعلها بلا عقل، تلقي الكلمات بلا أي تفكير، لكن عند الريس وزوجته عليها أن تتوقف
"كفى مي، لا تنسي أنها زوجته"
أشاحت بيدها "زواج شؤم، متى أحبها ورغب بالزواج منها؟ لطالما أبعدها عنه فما الذي تبدل؟ هي خبيثة، تلاعبت به وأفقدته عقله وكاد يفقد حياته بسببها"
كفاها تجاوز فهو لن يسمح لها بأن تمس زعيمه أو زوجته بأي إساءة، عليها أن تعرف متى تتوقف
"كفى، أنت تتحدثين عن الريس مي، كلمة أخرى وسأحملك والقيك بالخارج"
شحب وجهها أكثر مدركة تهورها فحتى لو كانوا كلهم يعرفونها جيدا إلا أن الريس بالنسبة لهم بمكان آخر
تعلم أن لا أحد من رجاله سيكون بصفها، كلهم سيطيعون زعيمهم بلا وعي وتلك المخادعة عرفت كيف تطويهم تحت جناحها
ونست أنها الخائنة..
تجمدت دموعها من نظرات صفوان الغاضبة، ما زال الريس موجود ولن يسمح لأحد بالتجاوز بحقه أبدا
التفت حول نفسها تفر من نظراته وربما تفر من عقدة الذنب داخلها، سيظل سرها داخلها ولن يكشفها أحد
لم تفكر أن يسقط هو بالفخ..
"أين الطبيب؟ سأبحث عنه لأفهم حالته ثم أراه"
لم يجادلها وقد أرادها أن تذهب، غيرة النساء هذه لا تشغله، النساء كلها لا تمثل له شيء لكن ليال مختلفة
ليال تسللت داخل كل الرجال بطريقتها البريئة.. طعامها، قهوتها المميزة ابتسامتها الرقيقة ومرحها الذي يضفي جو من البهجة حولها جعل الجميع يحبها
زوجة الزعيم.. تستحق مكانها
غاضب.. غاضب جدا لفقدانها.. رئيسه يتألم ليس من إصاباته بل من جرح واحد.. جرح أدمى القلب الذي نبض داخله لها وحدها
التفت ليرى سعد يحدق به ولا يعلم لماذا تذكر أحلام بتلك اللحظة ودموعها وكلماتها له.. هي الأخرى مجنونة، تتحدث عن أمور كصفوان لا يعرفها
هاتف سعد اهتز فأخرجه ليرى اسم سيد، تحرك للخارج عندما أسقط عليه سيد خبر فرار أخته مع رشدي ولم يفكر وهو يسرع لأول سيارة أجرة ويصرخ بالسائق أن ينطلق به لشركة زيتون هذا وهو يهاتف تلك العاهرة التي جلبت له العار
لكنها لم تكن تسمع الهاتف الصامت بحقيبتها ولا تهتم بالأساس ودموعها لا تتركها وقدماها تسرع بها خارج ذلك الجراج
اندفاعها للطريق كان جنون امتزج بدموع جعلتها لا ترى تلك السيارة التي أطلقت صرير صارخ عندما أوقفها قائدها فجأة بالمكان الذي كانت تقف به صارخة
توقفت الصرخة عندما اندفن وجهها بالصدر الجامد الذي اصطدمت به وذراعه تجذبها بعيدا قبل أن تصدمها السيارة بأقل من الثانية
كانت تبكي بقوة ولا تهتم بأنها كادت تدهس تحت إطار السيارة ولا أن جمع غفير تجمع حولهم يبغون الاطمئنان عليها
هو من تحدث بكلمات منحت من حولهم الراحة وقائد السيارة الإذن ليذهب وظلت تدفن وجهها بصدره وهو يشعر برطوبة دموعها تتبلل قميصه وتلتصق ببشرته
قادها بصمت مرة أخرى للداخل ولكنها لم تكن تشعر بشيء، فقدت الشعور بما حولها
يتم أدى لوحدة أخذت منها الشجاعة على مواجهة الحياة بقوة
هي الخوف.. هي الجميلة بصورة هرة لا مخالب لها
شيء بارد لمس شفاها وطعم العصير جعلها تذوقه بلا شعور حتى رفعت عيونها لتراه أمامها
نظراته كانت آمرة وقلقة وهي تبتلع السائل بلا أي مذاق ونزعت عيونها عنه مبعدة فمها لترى سجاد فاخر تحت قدميها فاستعادت وعيها كله ووجهها يلف بالمكان
تلك هي الشقة التي تحدث عنها، لم تر لها مثيل سوى بالمسلسلات.. شيء خيالي، صورة تعبر عن الغناء الفاحش
"أخبرتك أنها شقتي"
عادت لظهره الذي واجهها وهو يتحرك للمكان الذي أضاء بمجرد أن خطا له، مطبخ حديث بكل ما فيه، ماكينة غريبة وقف أمامها وضغط زر بها
عادت تتأمل كل شيء وقلبها نائم بالعسل وعقلها فقد الحياة أو ربما سقط تحت السيارة التي كادت تقتلها بالأسفل
عندما ثقل الجو حولها أدركت عودته وقد تخلص من الجاكيت وفك أزرار قميصه ورأت بقعة على صدره، دموعها..
وضع كوب قهوة أمامها وجلس بمقعد مواجه وكوبه بيده ولاحظت السيجارة المشتعلة
"هل تفقدين عقلك كثيرا هكذا؟"
كانت شاحبة، ضعيفة وهشة، لا قوة لها على الجدال "أنا لا يمكنني البقاء هنا"
نفخ الدخان بعيدا وعيونه اختفت خلفه والقهوة المرة تمر عبر فمه "أخشى لو تركتك تلك المرة تأخذين البحر بالأحضان"
هي لم تقصد الانتحار..
"لم أرى السيارة، لست بحاجة لك"
لمس صدر قميصه وقال "بحاجة لقميصي ليجفف دموعك"
نهضت والغضب من كلماته يأخذها وقبل أن تتحرك كان يقف أمامها ونظرة حاسمة جمدتها "أنت لن تتحركي من هنا، ألا تجيدي شيء آخر سوى الفرار من أمامي؟"
ارتجف جسدها من نبرته المخيفة وانكمشت قوتها الزائفة.. غاض العسل بعيونها وتحول لبني قاتم، خائفة
"أنا لست عاهرة"
سقطت عيونه عليها ولسعه وهج سيجارته فلعن وهو يدهسها بالمطفأة "أنا عرضت زواج"
أشاحت بيداها ونبرة صوتها ارتفعت معلنة اعتراضها على تلاعبه بالكلمات "أنت تزيف الحقيقة، العرفي لعبة قذرة تحلل بها أغراضك الدنيئة ولا أعلم لماذا أردتني بطريقك؟ لا أنا نوعية نسائك ولا شيء يمكن أن يجعلني أقبل بما تريد"
ابتسم ببرود مواجها زيغ عيونها التي تدرك أنها الآن ضائعة، تائهة ولكنها تكابر وهو ما يعجبه، ما زال يريدها
ألا تعلم كم هي جميلة؟
"عندما يعجبنا شيء لا نسرقه نمنحه الشكل الشرعي ونشتريه والشكل الشرعي لي هو العرفي"
ابتعد وجلس واضعا ساقا فوق الأخرى وهو يشعل سيجارة أخرى نفخ دخانها كعادته وهي ما زالت تراقبه وتحاول مجاراته
تحركت باحثة عن حقيبتها، لن تبقى، لا شيء يجبرها على البقاء، هاتفها اهتز تحت يدها فأخرجته لترى اسم سعد
ارتجفت يدها واندفع الفزع لعيونها.. سيد أخبره.. سيقتلها
****
تسربت وسط صوت الأجهزة المنتظمة ورائحة المعقمات والأدوية تملأ الجو حولها
هي تعرف كل شيء هنا فهذا ما تعمل به لكن أن يتواجد بينها الرجل الذي أحبته، حبيس فراش مثل أي مريض مر عليها، هذا ما لا ترغب بتصديقه
ألم.. حزن.. عقدة ذنب
سقطت نظراتها عليه.. جسده مغطى بالضمادات
وقلب ينزف بلا توقف
دموعها غطت وجهها وصورته وهو يطردها تقف أمامها وبسبب فتاة لا قيمة لها
ماذا بها تلك الحقيرة المجرمة ابنة المجرم؟ ماذا بها يجعله يترك كل النساء اللاتي كانوا يسعين خلفه ويرفضها هي الدكتورة من أجلها؟
غرام.. ألا تعرفين معنى الغرام؟
لا.. أنا من أستحق قلبه..
لمست أصابعه المتورمة بيدها ففتح عيونه ليراها، عبق عطرها أغلق أنفاسه
ماذا عن الفانيليا؟
لا رغبة له برؤية أحد، عقله لا يستوعب سوى شيء واحد، كيف يعيد امرأته؟
ابتلع ريقه الجاف ولم ينطق ولكن هي ليست هنا لتقف صامتة "لماذا فعلت ذلك بنفسك هارون؟ لو كنا معا ما حدث ذلك"
أبعد وجهه، هل أتت لتغضبه بجنونها المنحرف؟
كيف يبعدها عنه؟ كيف يقنعها أن قلبه لامرأة واحدة عاش وسيعيش لها؟ لا مكان لسواها
عندما لم يرد لم تقبل بذلك التجاهل منه، أهانها، طردها، رفض مشاعرها وغرامها ومع ذلك هي هنا
من أجله..
وكأنك لست السبب!
انتهت الكلمات.
"هي لا تستحق أن تخسر حياتك من أجلها هارون"
هو خسر حياته وقت خسرها، لا أحد يدرك ماذا يسكنه الآن؟
جنون يعصف بكيانه كله لعجزه عن البحث عنها وإعادتها
أعاصير تهدد بقلع كل شيء من جذوره بمجرد أن ينهض ويعرف من فعل ذلك بهم؟
لن يرحم أحد..
الشيطان الذي خمد داخله منذ سنوات انتفض الآن، شيطان لم يكن يرحم.. أرعن مغرور لا يفرق بين الخير والشر
الآن شيطانه لن يرحم، سيحيل كل من فكر بلمس امرأته إلى رماد يتناثر بالهواء
لن يوقفه شيء..
"أنت لا تعرفين شيء عن حياتي"
"لا أحد عرفك مثلي هارون، كنت ظلك الذي لا يتركك، أعرفك كما أعرف نفسي، لماذا لا تفهم؟"
التعب لم يوقفه عن منحها ما تستحق "بل هو أنت من لا يفهم، أنت بالنسبة لي ابنة هندية، الفتاة التي نشأت بيننا، من العائلة، لم أمنحك أي تلميح ولو من بعيد بغير ذلك"
لا تفعل بي ذلك أرجوك، أنت تؤلم بلا رحمة فلماذا؟
"لا هارون، أنت فقط من ترفض رؤية الحقيقة، أنا موجودة داخلك، أنا.."
تنفس بصعوبة من ألم صدره وكلماتها لا تلقى أي قبول منه "أنت تغلقين عيونك عن الحقيقة، وهي أن ليال زوجتي ، أنا من اختارها وأنا من أرادها"
انبعث الألم من كل جزء من كيانها..
هي لا تفهم ما يحمله داخل قلبه من حب وغرام لامرأته، لا تعلم معنى الحب، الغرام
الحب فيضان هائج يجتاح بلا تفرقة والتراجع باب سد من خرسانة مسلحة لا يمكن اختراقها..
ببساطة هو حبيس حب تلك الصغيرة..
حب ليس وليد اليوم بل منذ سنوات لا يعرف عددها بل لا يعرف متى بدأ حبها بقلبه؟
انحنت عليه ورفضت التسليم بالأمر الذي أقره "وانا أحبك هارون، أنا لم أعرف سوى أني أحبك وعشت أصدق أنك لي وأنا لك والزواج نهاية قصتنا، لا يمكنني تصديق ما فعلته، لا يمكنك أن تأتي بها وتتزوجها هكذا وتطالبني بأن أقف مشاهد وأصفق مثل باقي الجمهور"
لم يرد فهي لا تستسلم ولم يعد لديه ما يخبرها به فاختار الصمت
الصمت دواء حين يفشل الكلام..
مسحت دموعها بأصابع مرتجفة ونظراته لها تخبرها أن مهما قالت فلا شيء سيتبدل، هو لا يهتم بحبها، قلبها، جنونها عليه
فقط تلك الصغيرة هي من احتلت مكانها، لكنها لا تقبل بذلك..
"هيا هارون فكر جيدا، لابد أن تراني بعيدا عن تلك الفتاة، وقتها ستدرك أن وجودها بحياتك غلطة، غلطة أنت نادم عليها وأنا هي من تستحق أن تكون معك وسأسامحك ونعود معا، هيا هارون تحدث وأخبرني الحقيقة، كلانا يعلم أن تلك الفتاة.."
قاطعها وهو تعب من أحلامها التي تعيش بها وعليها مواجهة الواقع "زوجتي، للمرة المليون تلك الفتاة زوجتي وللأبد، لأني لم أتزوجها لعدة أيام ثم ألقيها خلفي كأنها لم تكن، ولا، هي لم تكن غلطة بل هي الشيء الصح الوحيد بحياتي"
انهارت الفيضانات من عيونها بلا قدرة منها على إيقافها وهي تتحداه بعيونها بلا فائدة وهو يجذب كل أمل ولو ضئيل من تحت أقدامها ليفقدها اتزانها ويسقطها بهاوية الحب المستحيل
"لماذا فعلت بي ذلك إذن؟ لماذا جعلتني أحبك، لماذا؟"
خطوط الوهم ترسم داخل عقولنا وتكبر وتنمو لتمتد داخل بواطن البشر حتى تلتهم الواقع ونظل نحيا بلا حقيقة
"لم أفعل هو خيالك من صور لك ذلك"
الغضب حل محل الحزن داخلها وحام الظلام الدامس حولها وغشى عيونها
اعتدلت وهي ترغب بأن تؤلمه كما يؤلمها واندفعت بلا تفكير تقول بلسان الغيرة والحقد "كما هو خيالك الذي صور لك أنك تحبها دون أن تدري أن نهايتك ستكون على يدها، أنت تنسى أنها مجرد مجرمة حقيرة ابنة مجرم كبير كانت ترغب بسرق.."
وكأنها نفخت بالهشيم فاشتعل بالسنة محرقة لا تبقي ولا تذر..
وارتفع نصفه الأعلى محاولا النهوض رغم الألم الذي صرخ من جسده بلا اهتمام منه، فقط توهجت نظراته بلون ألسنة النيران ونفث فمه لهيبها
"كلمة أخرى وسأجعلك تندمين على أن أمك أوجدتك على وجه الأرض، اخرجي ولا تجعليني أرى وجهك مرة أخرى، اخرجي"
رغم ارتجاف قلبها من ملامحه ونبرته إلا أنها احتمت وراء دموعها ومشاعرها الغبية ولم تمنح العقل أي مساحة
فقط اختارت أن تضغط بغباء، بلا وعي وبلا تفكير
الغيرة توقف العقل عن التعقل وتدفع القلب بجهل وهو ليس دوره
"أنت ترفض أن تسمع الحقيقة، هي مجرمة لا تستحق لحظة تفكير منك ألا تدرك ماذا.."
ارتفع الجنون داخله أكثر وهو يحاول أن ينهض لجذبها من شعرها ومسح الأرض بها، لا أحد يهين امرأته، امرأة الزعيم
تحرك بالفراش والأجهزة تصرخ بجنون من نبض قلبه الذي ارتفع من غضبه وقاطعها بنفس القوة والغضب "اختفي من أمامي الآن، سأقتلك، سأقتلك"
أسرعت الممرضة وهي تراه يحاول النهوض فحاولت منعه وهو ما زال يصرخ بها أنه سيقتلها وهي تجمدت مكانها فاقدة لكل وعي وإدراك وكأن وظائفها الحيوية توقفت عن العمل دفعة واحدة
"دكتورة هل تخرجي من فضلك، دكتورة!؟"
صوت الممرضة كان كالصدمة الكهربائية التي صعقت جسدها فأعادته للحياة وما زال صوته يسري بعروقها كالسم يهري أحشائها
"أخرجوها الآن، لا أريد رؤيتها"
أيدي دفعتها للخارج وأخرى اعتنت به بوضع مهدئ بالمحلول وهو لا يقبل أن تهان امرأته بتلك الطريقة
أما مي فتسمرت أمام باب العناية وعيونها تفقد رؤيته بعد أن انغلق الباب مغلقا معه أي أمل بقصتها
قتل القلب.. رحلت الحياة