رواية ندبة روح
الفصل الثامن عشر 18
بقلم نانسي عاشور
: مملكة التيجان السبعة
كان الليل ساجيًا فوق المدينة، لكن في قلب "روح"، اشتعلت أنوار لم تُخلق لهذا العالم. منذ أن همس لها يعقوب: "دمك ليس فقط إنسيًّا... بل فيكِ عرشٌ دفين من زمن التيجان السبعة." وهي تشعر أن النداء الذي يسري في عروقها، أقوى من الواقع، أصدق من الحلم، وأقرب من النَفَس.
كانت في فراشها، لكن الوجود كله تحوّل من حولها، وكأن الأرض مالت قليلاً، لتُفتح بوابة لا تراها العين المجردة. لم يكن نومًا، ولا صحوًا. بل حالة معلّقة بينهما. فجأة، وجدت نفسها واقفة على أرض ليست أرضًا، وسماءٍ ليست سماءً، وجدران من ضوء ذهبي تشعّ بكتابات هيروغليفية تنبض كما لو أنها تتنفس.
سمعت صوتًا أجوفًا، عميقًا، كأنه يخرج من مقبرة تحت البحر:
"ملكة التيجان... قد عدتِ."
رفّت عيناها في المكان، وكان كل شيء حولها نُحت بدقة هائلة. أعمدة شامخة تحيط بها، تعلوها رؤوس نسور، وأسود، وثعابين مجنّحة. كانت الأرض مكسوة بفسيفساء تُجسّد معارك روحية بين الملوك الطيفيين، وأرواح منسية تعود من العدم لتستعيد ما سُلب منها.
"أين أنا؟" تمتمت.
جاءها الصوت من خلفها، وظهر طيف امرأة طويلة، وجهها مزيج من الحكمة والحزن. شعرها أسود كالغسق، ترتدي عباءة من دخان ونور.
"في مملكة ميريت، الأرض الطيفية لأحفاد العرش المقدس."
اقتربت الطيفية، ومدّت يدها نحو روح:
"أنتِ لستِ زائرة. بل مالكة ضائعة."
تشوّش عقل "روح"، لكن قلبها بدا وكأنه يتذكّر. لم تكن هذه الكلمات غريبة. هناك شيء فيها، قديم، موجِع، مخبوء في ذاكرتها، كأنها سمعتها وهي طفلة في رحم أمها.
فجأة، بدأ المكان يهتزّ. اهتزاز غير مادي، بل روحي. وشعرت روح بحرارة تنبع من راحة يدها اليمنى. نظرت إليها، فإذا بها تشتعل برموز هيروغليفية لم تتعلمها يومًا، لكنها كانت تفهمها كما تفهم نفسها.
"عين رع... ختم إيزيس... صولجان ماعت..." كل الرّموز التي تمثل السيادة، تتوهج فيها.
عندها فقط، قالت الطيفية:
"لقد بدأوا يعرفون أنكِ هنا... الكيانات التي انتزعت المملكة منذ آلاف السنين."
وقبل أن تسأل، تزلزلت الجدران الطيفية. وخرج من أحد الممرات شبح ضخم، يرتدي رداءً أسود تتدلى منه أطراف ممزقة من أرواح قديمة. وجهه بدون ملامح، لكنه يتنفس كأن داخله فوهة بركان.
صرخت الطيفية:
"روح، إنهم حرّاس العرش المزيف، استولوا على الميراث الفرعوني عندما غادرتِ. لقد جاؤوا ليمنعوكِ من استعادته!"
لكن "روح" لم تهرب. بل وقفت. شيء ما فيها انكسر ثم عاد أقوى. حدّقت في الكيان الطيفي، وقالت:
"أنا روح بنت الأرض والنور، حفيدة ميريت، صاحبة الختم الملكي، لا تخيفني وجوهكم المسروقة!"
بمجرد أن نطقت، انبعث من صدرها نور أزرق، كأن نجمة قد انفجرت بداخلها. وقف الكيان، يصرخ بلغة لا يفهمها البشر، لكن الطيفية ترجمتها:
"لن نسمح لك باستعادة التيجان السبعة! لقد أصبحنا نحن الملوك الآن!"
صرخت "روح"، وهي ترفع يدها نحو السماء، فتفتّح سقف المعبد الطيفي، وسقط منه شعاع من نور صافٍ، نزل إلى يدها ليشكل صولجانًا فرعونيًا محفوفًا بعقارب ذهبية، وأجنحة إلهية.
"هذا ميراثي، وهذه قوتي،" قالت بثبات، "عودوا إلى العدم الذي خرجتم منه."
اندلع قتال لم يكن بالسيوف، بل بالصراخ، بالرموز، بالأصوات التي تزلزل الأرواح. كل ضربة من "روح" كانت تتردد في أركان المملكة الطيفية، وتُعيد بناء جدرانها التي كانت منهارة. مع كل صرخة منها، كانت تستعيد جزءًا من عرشها القديم.
بدأت الكيانات تتفكك، وكأن النور يُذيبهم. وكلما حاولوا الالتفاف حولها، ظهرت دوائر نور تحميها، وكل دائرة كانت تنطق باسم من أسمائها القديمة:
"إيني رع... كيبور... نيثي..." أسماء لم تعرفها يومًا، لكنها أحسّت بها تتردّد في عظامها.
ومع آخر شعاع، انهار آخر كيان، وتهاوت جدران المعبد القديم، لتعود أقوى، أبهى، أنقى.
جثت "روح" على ركبتيها، تتنفس بصعوبة، والصولجان ما زال يتوهج في يدها.
اقتربت الطيفية منها، وهمست:
"لقد استعدتِ التيجان السبعة. لكن الصراع لم ينتهِ... هذا فقط كان باب المملكة."
قالت "روح" وهي تنظر نحو المدى:
"أشعر أنني لم أكن في حلم، بل في أصل الحقيقة... وأنا مستعدة، مهما كان الثمن."
وقبل أن تغمض عينيها، شعرت بهمسة مألوفة تلامس قلبها، لم ترَ وجهه، لكن عرفت أنه يعقوب:
"أنا هنا، فيكِ... لا تخافي، يا تاجي الأزلي."
