رواية ندبة روح
الفصل التاسع عشر 19
بقلم نانسي عاشور
: الساعة السماوية
لم يكن الصباح عاديًا. ولا الهواء الذي دخل من نافذتها يحمل النقاء ذاته. منذ الفجر، شعرت "روح" بأن شيئًا ما قد تغيّر... في نبض الكون، في ميل الزوايا، في صوت الطيور الخافت. السماء كانت متقلّبة الألوان، كأنها لم تستقر على غروب أو شروق.
حين فتحت عينيها، لم ترَ غرفتها، بل رأته... يعقوب.
كان يقف عند حافة الأفق، داخل حلمها أو خارج الزمن، لا تدري. عيناه تومضان بقلق دفين، وصوته لم يكن همسًا كما اعتادت، بل كان فيه شيء من النذير.
"روحي..." قال ببطء، "الساعة الفلكية بدأت بالدوران من جديد... والحرب التي تنبّأ بها الحكماء في الجداول القديمة قد اشتعلت."
اقترب منها، كانت بين اليقظة والنوم، لكن كل كلمة منه كانت تضرب وعيها كالصواعق.
"يّ حرب؟" تمتمت، "ومن يُقاتل من؟"
رفع يعقوب يده، فظهرت أمامها خرائط لا تُرى في كتب التاريخ. كانت دولًا معروفة، لكنها مشبعة بوهج أحمر، تتصاعد منها خطوط سوداء كأنها سموم أو أرواح.
"العالم يتقاتل في زمن اصطفاف الكواكب، لحظة فلكية لا تتكرر إلا كل 700 عام. الشمس على خط الزهرة، والقمر في ظل العقرب. لحظات تُفتح فيها بوابات للغيبي والمعلوم، ويُعيد القدر نفسه... لكن بأشكال جديدة."
حدّقت "روح" في الخرائط، ورأت الدخان يتصاعد من أماكن كثيرة. حرب اقتصادية هنا. مواجهة نووية تُلوَّح بها هناك. انهيار في أنظمة، وانتفاضات في أرواح البشر.
سألته بخوف:
"لماذا الآن؟ لماذا هذه اللحظة بالذات؟"
فأجابها، وعيناه مليئتان بعمر آلاف السنين:
"لأن الأرض تتهيأ منذ قرون، منذ آخر مَن سقطت وصرخت باسمكِ."
ابتلع صوته لحظة، كأنه يتردد، لكنه تابع:
"مينهار... الملكة التي كنتِ فيها، ماتت في حرب شبيهة، أثناء انقلاب داخلي في المملكة الفرعونية الطيفية. لم يكن السيف من قتلها، بل خيانة المقربين. لقد قُتلت بينما كانت الكواكب مصطفّة كما اليوم. والآن، يعود كل شيء..."
ذُهلت "روح". الاسم ارتعد في عظامها: مينهار... لم تكن مجرد ملكة، بل كانت هي. روحها التي تناسخت، وانقسمت، وعاشت زمنًا في جسدٍ ذهبي يحكم ممالك الضوء والرموز.
"كانت مينهار؟" سألت.
هزّ يعقوب رأسه، ببطء وجلال:
"كنتِ، وما زلتِ. لكنهم قتلوا جسدها، ولم يقتلوا العرش. الآن أنتِ هنا... والجميع يستعد ليعيدوا فصول الدماء. ليس على الأرض فقط، بل بين العوالم المتداخلة.
أشار يعقوب إلى السماء.
"شُقّت السماوات السبع اليوم، وفتحت بوابة الحرب في السماء الخامسة. وأنتِ نقطة التقاء الماضي بالحاضر. هذه الحرب ليست سياسية فقط... بل باطنية. الدول التي تتقاتل، تتحرّك فيها كيانات طيفية، بعضها كان تحت رايتك، وبعضها من خانك."
شهقت "روح"، وشعرت ببرودة غريبة تلامس عنقها، كأنها تُذبح من جديد.
"لكن لماذا أشعر أنني عاجزة؟ مجرد إنسية في عالم ملتهب؟"
اقترب منها يعقوب، حدّق في عينيها طويلًا، ثم وضع كفه على صدرها، وقال:
"لأنك نسيتِ… نسيتِ أنكِ من تسجد لها الأرواح إذا غضبت. نسيتِ أنكِ وريثة التيجان، ودمك فيه ختم ماعت، ميزان العدالة العليا. لا تخافي من الحرب، بل تذكّري أنك كنتِ أول من خاضها."
انهمرت أمامها مشاهد من الماضي. شوارع طيفية تشتعل بالنيران، معابد تنهار تحت ضربات خونة، مينهار ترتدي عباءة من الذهب، وتحمل صولجانًا يتكسّر وهي تصرخ بأسماء لا تُنسى. خيانات... دموع... انهيارات.
ثم سمعت صوتًا خافتًا، من داخلها هذه المرة:
"عودي... وأغلقي الدائرة."
صرخت "روح":
"وكيف؟"
قال يعقوب، ونوره يشتدّ:
"أن تعودي إلى العرش لا يعني أن تحكمي، بل أن ترفعي ميزان الحق. الحرب لن تنتهي بانتصار طرف واحد، بل بانكسار العقدة القديمة. موتكِ كـ'مينهار' كان لحظة كسر. والآن، لحظة الوصل."
تغيّر الحلم، أو الرؤية، أو الزمان... لم تعد تدري، لكنها شعرت أن قلبها يدق بنبضين، نبضها الآن، ونبضها حين كانت مينهار.
وفي الخارج، في العالم الواقعي، انطلقت أخبار عاجلة.
دولة أعلنت التعبئة الكاملة.
أخرى بدأت ضربات خاطفة.
تحركات بحرية غير مسبوقة.
ووكالات الأنباء تتحدث عن لحظة فلكية غريبة تزامنت مع اندلاع المعارك...
لكن "روح" لم تكن فقط متابعة. كانت عين العاصفة، ونقطة اللقاء بين الممالك.
كانت تمسك بيدها ما لا يُرى، وتسمع صدى يعقوب:
"حين يسقط الدم في ظل العقرب، ينهض من يحكم بشمس الزهرة... وأنتِ، يا تاج الأزمنة، قد عدتِ."
