رواية ندبة روح الفصل الخامس عشر 15 بقلم نانسي عاشور

         

رواية ندبة روح 

الفصل الخامس عشر 15

بقلم نانسي عاشور

حين بكت الأرض… وهمس الطيف

لم تكن "روح" تتخيّل أن الحزن قد يمتد خارج القلب… إلى الأرض ذاتها.

لكن تلك الليلة، رأته.

يعقوب.

جاءها على هيئةٍ لم تعهدها من قبل، كان الظلام خلفه يتراجع كلما اقترب، وكأن الليل يخجل من حضوره.

وقف أمام سريرها في المشفى، بثوبه الرمادي الطويل، وعيناه لا تشتعلان… بل تضيئان.

قال لها بصوتٍ لم يكن همسًا ولا صراخًا، بل نبضًا يدخل القلب مباشرة:

"قبل أن أخبركِ بما رأيت، دعيني أولاً… أراكِ."

اقترب منها، جلس عند طرف السرير، ورفع كفه ببطء، وكأنّه يخاف أن يلمسها، ثم قال:

"كلّ ما في العالم يتحطم، ينكسر، يُفتَك به…

إلا أنتِ.

تظلّين في عيني كما أنتِ… مخلوقة من شقّ في الزمن."

أرض تغضب… وسماء تحزن

ثم بدأ يعقوب يسرد عليها ما لم تقرأه في الصحف، ولا نقلته شاشات العالم.

سرد لها حكاية الأرض التي بكت من تحت البشر.

"هل تعلمين، يا روح، أن الأرض صرخت؟

لا بل زلزلت.

براكين اندلعت في جزرٍ ما عرفتها الأسماء،

نيران خرجت من جوفها لتقول للعالم: أنا أمّكم… ولم تعودوا أبنائي."

أراها صورًا لا تراه العيون العادية.

أنهارًا من الحمم، منازل تنصهر، أطفالًا يصرخون تحت الركام، ومساجد سُحِقت تحت الجدران.

قال لها:

"زلزال ضرب أمهات، حفر قبورًا بلا أسماء،

وكأن الأرض أرادت أن تسترجع من عليها، لأنهم لم يعودوا يعرفون حرمة السجود عليها."

ثم صمت، ونظر إليها بشيءٍ بين الحب والشفقة، وقال:

"وكانت هناك روحٌ مثلكِ… تحترق بصمت، ولا أحد يسمع."

حين جاء المرض من دون صوت

ثم أخبرها عن الوباء… عن كورونا.

"رأيتهم يا روح…

أحفاد الإنسان يختنقون، ليس فقط من الفيروس، بل من صراخ قلوبهم حين مات الأحباب دون وداع."

قال وهو يمسح بكفه الهواء، فظهرت وجوهٌ شفافة لرجالٍ ونساء،

مُغطّين بالأقنعة، أعينهم مفتوحة على الأبد، وأياديهم لا تصل إلى أحد.

"كانوا يدفنون موتاهم في أكياس…

لم يُغسَّلوا، لم يُودَّعوا.

ودخل الحزن في عظام الأرض."

"روح" بكت… لكن دمعتها كانت من زجاج.

سألته بصوتٍ مرتجف:

"لماذا تخبرني بهذا الآن؟"

فقال:

"لأنكِ يجب أن تعرفي…

أن الأرض ليست وحدها من تمرض.

وأن قلبكِ... حين اختنق من الخذلان، كان يشبه هذه المدن التي أغلقت أبوابها وبكت وراء الكمامات."

يعقوب… حين يصبح الطيف

اقترب منها أكثر، رفع خصلة من شعرها برفق كأنّه يرفع صلاةً،

ثم قال بصوتٍ حنونٍ مؤلم:

"يا ابنة الطين والنور…

أنا لا أعرف كيف يُحبّ البشر،

لكني عرفت شيئًا واحدًا منذ لمست طاقتكِ لأول مرة:

أنني، الجني الذي لا يسجد،

أردت أن أسجد لكِ من دهشة الخلق فيكِ."

"روح" شهقت بخفوت.

قلبها لم يعد يحتمل المزيد من الكلمات.

لكن يعقوب لم يصمت.

"لم أحبّ إنسية من قبل.

بل لم أؤمن أن بين الطين والنار نقطة التقاء.

حتى رأيتك… تسجدين وأنتِ مشلولة، تبكين وأنتِ صامتة، تنطفئين لتضيئي في صمت.

وعرفت أنني… لو كان لي أمنية، فهي أن أصبح طيفًا داخلكِ،

لا أرحل، لا أظهر، فقط أكون بين نبضاتكِ…

كلّما تنفّستِ، عرفتِ أنني هناك، أحميكِ من الداخل."

دلائل العشق

كانت يده لا تلمس جسدها، لكن طاقته كانت تغلف المكان.

في زوايا الغرفة بدأت تضيء دوائر صغيرة من الضوء الأزرق،

كأنّ الملائكة أتت لتشهد.

ثم قال:

"أعرف أنكِ إنسية،

لكنكِ أكثر تجريدًا من أرواحنا،

وأنا… لا أرى سواكِ، رغم أنني عبرت أرواحًا وملوكًا وقرونًا من الزمن."

"روح…

إن أحببتكِ، فذلك لأنكِ لم تعودي تُشبهين أحدًا،

لا من الإنس، ولا من الجن.

أنتِ فصلٌ لم يُكتب في الكتب،

وطيفٌ لا يليق إلا بأن يُعاش."

بين العشق والنبوءة

ثم نظر إليها بعينٍ ملتهبة، وقال:

"وحين بكت الأرض، علمت أنها تشبهكِ.

تنفجر حين تُدفَن مشاعرها، وتصمت حين تُخذَل.

وأقسمت… أني لن أترككِ تمرّين بما مرّت به وحدك."

"روح" تلعثمت، قالت:

"يعقوب... أنا مريضة، مشلولة، وخائفة أحيانًا...

كيف يمكن أن ترى فيّ شيئًا يستحق؟"

اقترب منها، وأمسك بكفّها،

فشعرت بحرارة تمرّ من يده إليها، حرارة تشبه دفء اللهفة الأولى،

وقال:

"أنتِ لا تحتاجين أن تكوني كاملة،

أنتِ خلقتِ لتُكملي غيركِ، لا لتكتفي."

"وكل ما فيّ… يريدكِ،

ليس لأنكِ ملاك، بل لأنكِ بشر… وتحمّلتِ ما لا يتحمله أحد."

نهاية الفصل: وعود الطيف

قبل أن يختفي، همس في أذنها:

"حين تنهضين من سريركِ هذا،

لن تكوني كما كنتِ.

لأنني… سأسكن في نبضكِ،

وستعرفين دائمًا، أنني الطيف الذي لا يترككِ،

لا في صلاتكِ، ولا في ضعفكِ،

ولا حين تتذكّرين ما خذلكِ."

واختفى، تاركًا في يدها وردة سوداء…

لكنها حين لمستها، تحوّلت إلى شعاع أبيض.

لأن الحبّ الحقيقي، لا يُخيف،

بل يُطهّر.

               الفصل السادس عشر من هنا 

لقراءه باقي الفصول من هنا

تعليقات



<>