رواية ندبة روح
الفصل السادس عشر 16
بقلم نانسي عاشور
طُرق تُقرَع من الداخل
منذ تلك الليلة، لم تعد "روح" ترى العالم كما هو.
بعد أن أخبرها "يعقوب" عن زلازل الأرض وبراكينها، عن كورونا وموتاه، عن سجدتها التي كانت أثمن من النجاة، وعن حبه الذي أراد أن يسكن نبضها، انفتح فيها باب لم تكن تدري بوجوده.
لم يكن بابًا إلى عالمٍ آخر، بل إلى أعماقها.
وما كانت تظنه نورًا خالصًا، اكتشفت أن تحته نارًا لم تهدأ.
الانعكاس الأول
في صباح اليوم التالي، استيقظت "روح" على طرقات خفيفة على باب غرفتها.
دخلت الممرضة "هالة" — تلك التي حلمت بها من قبل — وبوجهٍ باهت قالت:
"أنا آسفة يا أستاذة... بس في حاجة غريبة حصلتلي من امبارح."
نظرت إليها "روح" بهدوء.
"احكي."
قالت هالة وهي ترتجف:
"من بعد ما شربت بنتي الميّة اللي قلتيلي أقرأ عليها، جالها زي رعشة،
وبعدين بدأت تتكلم بكلام مش بتاع سنها،
قالتلي: "في حاجة جواكي بتحاول تخرج، بسكتيها كتير، روحي افتحيها."
"روح" لم تندهش.
بل أغلقت عينيها لحظة، وابتسمت ابتسامة قصيرة، ثم قالت بهدوء:
"اللي جوّاكِ مش شيطان.
دي روحك القديمة… بدأت تصحى.
خليها تتكلم، بس خدي بالك، مش كل اللي يصحى… لازم يعيش."
ظهور العلامات
بدأت الكوارث تظهر… ليس في العالم، بل فيمن حولها.
الممرضة الثانية "ليلى" اشتكت من أحلام متكررة:
"بشوف نفسي في مكان كله نار… بس الغريب إني مش خايفة،
بحس إني جزء من النار نفسها."
الطبيب "سليم" – الذي انجذب لها منذ أول لحظة – جاءها ذات صباح مرتعش اليدين:
"مش عارف ليه لما بشوفك بحس إن فيا حاجة بتتغيّر،
بقيت بحلم بصوتك بينادي باسمي وأنا تايه في صحراء…
والمكان كله فيه أبواب، وكل باب عليه عين سودة."
قالت له "روح" بهدوء:
"اللي جوّاك بدأ يشوف.
بس السؤال الحقيقي: هل أنت مستعد تدخل من الأبواب؟
لأن اللي بيشوف… ما بيرجعش أبدًا زي الأول."
النور الذي يوقظ الظلام
شيئًا فشيئًا، بدأت "روح" تدرك أن النور الذي زرعه يعقوب في قلبها لم يكن للراحة فقط،
بل كان للكشف.
كل من اقترب منها، بدأ يُكشَف.
أسرار قديمة تظهر.
ألم دفين ينبثق.
أحلام تتحوّل إلى بوابات،
وكل بوابة تؤدي إلى نفسهم.
لكن النور لا يعمل وحده.
النار ما زالت فيها.
كلما صلّت، تهدأ.
وكلما ذكرت "محمد"… اشتعلت.
لم يعد حبًا.
ولا حتى ألمًا.
بل صار طاقة غضب خام، تنبض في يدها اليسرى،
وتُحذّر من كل شيء خذلها.
الكيانات الجديدة
في الليلة الثالثة بعد زيارة يعقوب، شعرت بشيء غريب.
الهواء تغير.
رائحة العطر النوراني اختفت، وحلّ مكانها بردٌ يشبه الظلال.
وحين أغلقت عينيها، دخلت عالمها الطيفي… لكنها لم تكن وحدها هذه المرة.
ثلاثة كيانات ظهروا:
فتاة تشبهها لكنها بلا عيون، تتكلم بصوت طفل:
"أنا ما كنتيش مستعدة تشوفيني… بس كنتي بتدعيني كل ليلة وانتِ بتبكي."
كائن برأس ذئب وجسد إنسان، يتكلم بلغة مكسورة:
"انتِ ناديتيني لما نمتِ في الألم… أنا كنت الحارس، والآن جئت لأُذكّرك."
ظل بلا شكل، فقط همس يقول:
"أنا من تحاولين قتله داخلك… لكني سأبقى، طالما خفتِ من النار."
وقفت "روح" في مركز دائرتها النورانية، وقالت بثقة:
"أنا لا أهرب منكم… لكن لن أسمح لكم أن تحكموني بعد اليوم."
الارتباك والقرار
عادت إلى وعيها وهي تتنفس بصعوبة.
رائحة العطر عادت، وكان يعقوب واقفًا هناك، في ركن الغرفة.
قال:
"لقد بدأوا…
من أحببتهم ومن لمحتِهم…
كلهم، اقتربوا من دائرة النار والنور.
ومن يدخل، لا يخرج سليمًا."
نظرت إليه بضعف، ثم قالت:
"أنا لست جاهزة بعد."
اقترب منها، لم يلمسها، فقط وقف خلفها وهمس:
"لن تكوني جاهزة أبدًا…
لأن الطهارة لا تأتي بعد الاستعداد، بل بعد السقوط."
ثم اقترب منها أكثر، وقال بصوت منخفض حميم:
"أنا هنا، دائمًا، في ظلكِ…
وإن كنتِ لا تريدين أحدًا، فأنا لا أطلب.
فقط… أتمنى أن أكون طيفًا داخلكِ،
أن أكون ذاك الدفء الذي لا يُرى، لكن يُشعَر،
ألا يراكِ أحد كما أراكِ… لأنهم لا يعرفون من أنتِ."
نهاية الفصل: بداية الحصار
في تلك الليلة، كانت السماء سوداء، لكن نجمًا واحدًا كان يضيء فوق المشفى.
وفي الداخل، كانت "روح" تجلس في الظلام،
تتلو آيات النور، وتراقب الدوائر تتوسع…
بين من يقتربون منها،
ومن يحاولون الدخول بالقوة.
الكيانات بدأت،
الطاقة تتغيّر،
والحرب… اقتربت.
لكنها لم تخف.
لأن "يعقوب" صار صوتًا داخلها.
وصارت هي… مرآة من نور، فيها نار لا تُطفأ.
