
رواية عطر الانتقام والحب الفصل الثاني عشربقلم سيليا البحيري
في قسم البوليس – قاعة الانتظار الكبيرة
الجو مكهرب، العيلة كلها قاعدة مستنية خبر رسمي عن البنات.
مراد ماشي رايح جاي، ماسك دماغه كإنه هيجنن.
حور قاعدة جنبه بتعيط في صمت، وريم ماسكة إيدها تهديها.
مريم قاعدة في ركن القاعة، وإدوارد حاطط إيده على كتفها يهون عليها، ومازن حاطط إيده على كتف مراته لين اللي بتبكي بحرقة على علا.
إيهاب ملامحه متجهمة وعنيه محمرة من القلق، وديلان قاعدة جنبه، شكلها مليان قلق وغضب كاتماه.
فجأة باب القاعة يتفتح… يدخل آدم الأول، وراه سليم ماسك علا، وإياد شايل عهد في حضنه، وصوفيا ماشية جنب آدم.
اللحظة تنفجر:
حور (بصرخة وهي تشوف بنتها):
– "عهـــــــد!"
مراد (بيجري عليها):
– "يا روح قلبــــي!"
عهد (بترمي نفسها في حضنه وهي بتعيط):
– "بابا… ماما… كنت عارفة إنكم هتيجوا تنقذوني!"
مراد يضمها بقوة والدموع نازلة من عينه، وحور تنضم وتبكي بحرقة وهي ضامة بنتها الوحيدة.
على الناحية التانية:
مريم (بتجري على صوفيا وتاخدها في حضنها):
– "بنتي… حبيبتي… كنت هموت لو حصلك حاجة!"
صوفيا (دموعها بتنزل لأول مرة بضعف):
– "ماما… أنا بخير… أنا كويسة دلوقتي."
إدوارد (بيمسح دموعه وهو ضاممهم هما الاتنين):
– "الحمد لله… يا رب لك الحمد."
جنب الباب:
لين (بصرخة وهي شايفة علا):
– "علـــــــا!"
مازن (بيجري معاها):
– "بنتنا!"
علا (بتبتسم رغم التعب):
– "ماما… بابا… ما تخافوش… أنا بخير."
لين (بتحضنها جامد وهي بتعيط):
– "حسيت إني فقدتك للأبد!"
مازن (بيمسح على راسها):
– "الحمد لله رجعتي لنا."
الأجواء تزداد عاطفة:
ديلان (بتمسح دموعها وتقرب من عهد وصوفيا وتاخدهم في حضنها):
– "كنتم قلبي… والله لو كان حصلكم حاجة ما كنتش عشت بعدكم!"
زين (بيضم ابنه سليم بفخر ويمسح على كتفه):
– "كنت قدها يا سليم."
ريم (مبتسمة من بين دموعها):
– "ربنا يحميك يا ابني… ونحمد ربنا إن البنات بخير."
إياد (شايل عهد قدام الكل، صوته بيرتعش من التأثر):
– "لو كنت فقدتك… ما كنتش عرفت أعيش… أنا بحبك يا عهد… ما تتخيليش قد إيه."
عهد (عينيها بتدمع، بتحط إيدها على وشه):
– "وأنا كمان… كنت واثقة إنك هتيجي… قلبي كان حاسس بيك."
الجميع يتأثر، الدموع تتحول لدموع فرحة وشكر لله.
آدم واقف ساكت في الخلف، ملامحه جامدة بس عنيه مثبتة على صوفيا، كإن الدنيا كلها دابت حواليه وما بقاش شايف غيرها.
صوفيا تلتفت فجأة، تشوفه واقف بعيد… تتردد لحظة، وبعدين تبتسم ابتسامة صغيرة أوي، كإنها شكر صامت.
هو يرد عليها بنظرة باردة في ظاهرها… لكن جواها عاطفة كبيرة مخبيها.
********************
بعد فترة قصيرة
الجو في الفيلا هادئ بعد العاصفة. العائلة كلها مشتتة بين التعب والفرحة والصدمة، لكن عهد صعدت إلى غرفتها لتستحم وتغيّر ثيابها بعد ordeal الخطف.
بعد دقائق، يُفتح الباب بخفة… إياد يدخل الغرفة مترددًا، وجهه شاحب من السهر والتوتر، عيناه حمراوان من كثرة البكاء والصراخ في الساعات الماضية.
عهد كانت تقف عند النافذة، شعرها ما زال رطبًا، ترتدي ثوبًا بسيطًا مريحًا. تلتفت نحوه، وعلى الفور ترى في ملامحه ما يكسر قلبها.
عهد: (بصوت منخفض وقلق)
"إياد…"
إياد: (يمشي نحوها بسرعة، صوته يختنق)
"أنا… لو كنت فقدتك يا عهد… كنت هتجنّن… كنت هموت قبل ما أعرف إنك مشيتِ من حياتي."
يمسك يديها بقوة، كأنها الحبل الوحيد الذي ينقذه من الغرق.
عهد: (تدمع عيناها، ترفع يدها لتلمس وجهه)
"أنا بخير… شوفني… أنا هنا… قدامك."
إياد: (يهز رأسه، يكاد يبكي)
"أنتِ ما تعرفيش أنا كنت عامل إزاي… كنت بدور في الشوارع زي المجنون، بكسر أي حاجة قدامي، بضرب أي حد يقولي معلومة مش مؤكدة… ولما اتصل بيا آدم… لما قالي إنك عند قاسم…"
(يبتلع ريقه بعنف، صوته يزداد حدة)
"كنت هقتله بإيدي. والله يا عهد… لو ما كنتش شفتك تاني، كنت قتلت قاسم وخلصت، حتى لو اتسجنت باقي عمري."
عهد: (تدمع أكثر، تضع يدها على صدره لتهدئته)
"حبيبي… أنا كنت واثقة إنك هتيجي… كنت حاسة بقلبك بيناديني… كنت بقول للبنات طول الوقت: إياد مش هيسيبني. مستحيل."
إياد: (يضمها فجأة إلى صدره بقوة، كأنها قد تضيع لو تركها)
"ما أقدرش… ما أقدرش أعيش من غيرك، عهد. أنتِ حياتي كلها. أنتِ اللي بتخليني إنسان. لما شفتك في القبو… لما شفتك بخير… حسيت إني رجعت اتولدت من جديد."
عهد: (تتنهد بين ذراعيه، همسها يرتجف)
"وأنا… لما شفتك… حسيت إني رجعت بيتي… مهما صار، وجودك جنبي هو الأمان الوحيد."
يسحب رأسها للخلف قليلًا لينظر في عينيها، عينيه تمتلئان بالدموع رغم محاولته التماسك.
إياد:
"وعديني… ما تسيبينيش. ما تغيبش عني عيونك حتى لحظة… أنا مش عايز أعيش كابوس زي ده تاني."
عهد: (تبتسم وسط دموعها)
"بوعدك… طول ما أنا عايشة، هكون معاك. إنت نصفي الثاني، إياد."
يقترب منها أكثر، يلمس جبينها بجبينه، أنفاسهما تختلط، وكأن العالم كله اختفى من حولهما.
ثم يطبع قبلة طويلة على جبينها، قبلة ممتلئة بالوجع والاشتياق والراحة بعد عاصفة الخوف.
إياد: (بهمس صادق)
"أنا بحبك… أكتر من نفسي."
عهد: (تغلق عينيها وترد بنفس الهمس)
"وأنا كمان… بحبك، يا كل حياتي."
إياد يحتضن عهد بقوة، وكأنهما أخيرًا استعادا العالم الذي كان على وشك أن يُسلب منهما.
********************
في منزل عائلة علا
علا في غرفتها بعد عودتها مع والديها. الغرفة ما زالت تحمل آثار الفوضى: حقيبتها المرمية، ثيابها مبعثرة، وهي مستلقية على السرير، تحدّق في السقف بعينين متعبتين، لكن قلبها مليء بمشاعر متضاربة.
فجأة، يهتز هاتفها، يظهر اسم: "سليم المتغطرس" (هكذا مسجّلة رقمه).
تتأفف بصوت مسموع:
علا: "يا رب… هو تاني؟!"
تضغط على زر الإجابة:
علا: (بصوت بارد ساخر)
"إيه يا باشا؟ ما خلصناش من وشك في القصر، لازم تتصل كمان؟"
سليم: (يضحك بخفة، صوته عميق ومُستفز)
"ما تتكبريش أوي… اتصلت بس أطمن عليكي. إيه، مش من حقي؟"
علا: (بحدة)
"من حقك؟! هو أنا خطيبتك ولا مراتك عشان يهمك ولا لأ؟"
سليم: (بنبرة واثقة ساخرة)
"لا… بس كنتِ هتعيشي إزاي لو أنا ما أنقذتكيش النهاردة؟"
علا: (تشهق وتجلس فجأة، غاضبة)
"إيه؟! أنقذتني؟! أنا اللي كنت واقفة زي الصقر، ولا نسيت؟ مش حضرتك اللي أول ما شفتني وقعت وشك اتغير كأنك شفت ملاك؟"
سليم: (ساخرًا، يخفي ارتباكه)
"ملاك؟ لا يا شيخة… كنت متأكد إني شايف مشكلة جاية في وشي! إنتِ كارثة متحركة مش ملاك."
علا: (ترمي وسادة على الجدار بقوة)
"إنت إنسان مستفززززز! مغرور وغثيث!"
سليم: (بضحكة قصيرة، صوته يلين فجأة)
"بس بخليك تضحكي… صح؟"
(علا تتوقف لحظة، صمت قصير يفضح ارتباكها، لكنها بسرعة تستعيد لهجتها القوية).
علا:
"أنا؟! أضحك؟ من نُكَتَك السخيفة؟ بلاش… أنا بضحك على غبائك مش أكتر."
سليم: (بهدوء مفاجئ، صوته جاد)
"المهم إنك بخير… كنت خايف عليكي."
(علا ترتجف للحظة من كلماته، قلبها يخفق أسرع، لكنها لا تريد أن تظهر ذلك).
علا: (تحاول التماسك)
"هو إيه الجو دا؟! فجأة بقت إنسان لطيف وحنون؟ لا يا بيه… فضّل متغطرس زي ما إنت، ده أحسن."
سليم: (يبتسم وهو مستلقٍ على سريره، صوته منخفض)
"يمكن أكون متغطرس… بس مش مع أي حد. إنتِ مختلفة."
(تصمت علا، كلماتها تخونها، فتختار الهجوم كالمعتاد).
علا: (بتوتر ساخر)
"إيه، ناوي تكتبلي شعر دلوقتي ولا إيه؟ قوم نام يا أستاذ قبل ما تفقد آخر ذرة رجولة عندك."
سليم: (يضحك، ثم يهمس بجدية)
"تصبحي على خير يا علا…"
علا: (تحاول الرد بسخرية لكن صوتها يلين)
"… تصبح على… مشاكل. باي."
تغلق الخط بسرعة، قلبها يخفق بعنف، تضع الهاتف على صدرها وتحاول إقناع نفسها:
"ده مغرور… ده مستفز… أنا مش طايقاه… بس ليه قلبي بيدق كده؟!"
وفي الطرف الآخر، سليم يبتسم ابتسامة ناعمة لأول مرة، يحدّق في شاشة هاتفه ويتمتم:
"كارثة أو لا… هي الكارثة اللي أنا عايزها في حياتي."
**********************
في حديقة الفيلا ليلاً
الجو هادئ، الأضواء الخافتة تحيط بالمكان، والهواء العليل يحرّك أوراق الأشجار.
آدم جالس على مقعد خشبي، يحدّق في الفراغ بعينين غارقتين في التفكير.
تدخل صوفيا بخطوات مترددة، تتوقف للحظة ثم تقترب وتجلس مقابله.
صوفيا: (بصوت منخفض)
"ما كنتش متوقعة ألاقيك هنا في عز الليل."
آدم: (يلتفت لها، صوته هادئ)
"الهدوء هنا… بيساعدني أرتّب أفكاري. وأهرب من ضجة العيلة."
(صوفيا تبتسم بخفة، ثم تجلس وتضع يديها في حجرها).
صوفيا:
"خالو مراد قرر إنك تبات الليلة هنا… ده غريب بصراحة."
آدم: (بابتسامة ساخرة خفيفة)
"مين كان يصدق… أنا وصوفيا في نفس المكان من غير خناق."
(صوفيا تضحك بخفة لأول مرة أمامه).
صوفيا:
"فعلاً… إحنا طول الوقت كنا نتعامل كأعداء. يمكن اتعودت إنك تستفزني."
آدم: (يميل للأمام قليلًا، صوته يلين)
"وإنتِ فاكرة إني فعلاً كنت بستمتع؟"
(صوفيا ترفع حاجبها بدهشة، لكن تلاحظ أن نبرته مختلفة. تصمت لحظة، ثم تتنفس بعمق).
صوفيا:
"عارف يا آدم… افتكرت حاجة وأنا قاعدة هنا. حاجة من زمان أوي."
آدم: (ينظر لها بتركيز)
"افتكرتي إيه؟"
صوفيا: (ببطء، كأنها تخشى أن تخطئ)
"كنت في مستشفى في لندن… من 15 سنة تقريبًا. فاكرة إن كان في ولد صغير قاعد في الممر، عيونه مليانة دموع… كان بيحاول يخبي انهياره. أنا قعدت جنبه، وحكيتله قصة عبيطة عشان أضحكه شوية."
(آدم يتجمد للحظة، ثم يغمض عينيه، وصوته يخرج مبحوحًا).
آدم:
"إنتِ… إنتِ فاكرة."
صوفيا: (تحدق فيه، عينيها تتسع بدهشة)
"كنت إنت… مش كده؟"
(آدم يفتح عينيه، ابتسامة حزينة ترتسم على وجهه).
آدم:
"أيوه… كنت أنا. اليوم ده كان أسوأ يوم في حياتي… اليوم اللي ماتت فيه أمي. وكنت الوَحيد… محدش سندني غيرك. ضحكتيني وأنا كنت محطم."
(صوفيا تضع يدها على فمها، مصدومة، عينيها تلمعان بالدموع).
صوفيا:
"يا إلهي… كل السنين دي… وإحنا ما كناش عارفين. أنا… أنا مش مصدقة."
آدم: (بصوت منخفض، عينيه تلمعان)
"أنا ما نسيتش. كنتي أوّل ضحكة بعد موت أمي. ومن وقتها… ملامحك محفورة جوا قلبي."
(صمت قصير. كلاهما يتبادل نظرات صادقة لأول مرة، بلا عراك. صوفيا تشعر بارتباك، قلبها يخفق بعنف).
صوفيا: (بهمس)
"يمكن… مش صدفة إننا نلتقي تاني. يمكن القدر كان بيرتبها من الأول."
(آدم يمد يده ببطء نحو يدها المرتجفة. تتردد، ثم تسمح له أن يمسكها. أصابعهما تتشابك لأول مرة).
آدم: (يهمس وعينيه مثبتة عليها)
"يمكن… بس المرة دي، مش هسيبك تروحي."
صوفيا لا ترد بالكلام… فقط تبتسم ابتسامة خجولة، وعينيها تدمع بخفة. لحظة نادرة من السكينة بينهما
*********************
الليل كان قاسٍ كعادتها — شوارع المدينة لامعة بمطر خفيف، وأنوار المصابيح ترسم خطوطًا باهتة على الأرصفة. ثريا تمشي بسرعة بلا هدف واضح، كأن كل خطوة تسرعها إلى فراغ أعمق. وجهها شاحب، عيونها مرهقة، وعلى شفتيها بقايا ابتسامة مراوغة لم تستطع أن تحييها اليوم.
توقفت تحت ضوء عمود شارع، نفخت في يديها لتدفئتهما، ثم توقفت ونظرت إلى السماء كأنها تنتظر حكمًا سماويًا. في رُكن قلبها القاسي كان شيءٌ يئن — غضب لا يطفئه شيء، خيبة لم تُحتَمَل. طوال الليل كانت تحاول أن تصلّح ما انكسر في لعبتها: قاسم اختفى، خطتها انهارت، وحلمها بأن تكون الوحيدة التي تملك زمام الأمور تبدد أمام عيون الجميع.
ثريا (تهمس لنفسها بصوت خفيض، مزيج من سخرية وحزن):
«كل ده علشان؟ كل تعب العمر والخصام والجِدال… وبس؟»
نهضت كأنها تريد أن تفعل شيئًا نهائيًا. فتشت في شنطتها بيدين مرتعشتين، أخرجت منها سكينًا — قطعة لامعة كالذكريات السامة — ماسكتها بحزم كأنها خاتمة القصة. وضعت أصابعها على الشفرة لبرهة، ثم ضحكت ضحكة قصيرة قبيحة.
ثريا (بصوت مبحوح، تخاطب الظل):
«لو كان لازم واحد يموت علشان أريح قلبي… يبقى هو ولا أنا؟»
خطت خطوة إلى منتصف الطريق، وقع حذائها على المياه، انعكاس الأنوار رقص تحت قدميها. الناس في السيارات تمر ببطء؛ بعضهم ينحرف لتفادي بركة ماء، وبعضهم لا يلحظ امرأة واقفة في منتصف ليلها. ثريا لم تعد تفكر في خوف، لم يعد داخِلها ما يخشى. كان الحقد قد أكلها حتى آخر عظمة.
في تلك اللحظة، من بعيد، سيارة مسرعة تقترب — سائقها مُنهمك في هاتفه، لا يراها. السكون في صدرها ازداد، وكأنها تنتظر قرارًا أخيرًا. رفعت يدها كمن يلوح للقدر.
ثريا (همسة أخيرة، نصف استسلام ونصف تحدٍ):
«يلا… خلصيني… خلّصيني من لعنة الذاكرة دي.»
ولم يَدُر في بالها أن الموت هذه المرة لن يكون منظر قتل بطولي، ولا فخ مخطط له بدقّة، بل كان حادثًا ضئيلًا وغاضبًا مثل كلّ حياتها. السيارة اخترقت الضوء، صفّارة متأخرة، تصادم صامت مع المطر، ثم صمت أعظم.
سقطت ثريا على الأسفلت كقصةٍ أنهت نفسها بنفسها. الطقس استمرّ في بكائه بغزارة، والمارة تجمهروا، ولكن لا أحد شعر في هذه اللحظة بكثافة ما كانت تشعر به ثريا طوال عمرها: فراغٌ لا شاغل له سوى مرارةٍ لا تتبدد. الشرّ الذي زرعته عاد إليها — ليس بعنفٍ أسطوري، بل بنهاية صغيرة، مفاجئة، لا دراماتيكية إلا لروحٍ لم تُهذب.
قليل من الناس اقتربوا، صوت همهمات، وهواء الشرطة المنبعث من بعد. وفي الطفول الصغيرة للمدينة، عاد الهدوء ليتسلل إلى الرصيف. على مقربةٍ منها تركت يدها سكينًا تلمع تحت المصباح، قطعةٌ رديئة من آلةٍ صنعت بها أحزانًا لا تُحصى.
في غرفة مجاورة، في فيلا العائلة، سمعوا صوت الأخبار، ولم تبقَ إلا كلمات متقطعة: «حادث… ثريا الريس… توفيت». مشاعر مختلطة — ارتياح لدى من اعتدوا عليه، حسرة لدى من عرفوها قبل أن تصير شرًا، وحتى بعض الأسى لمن كانت امرأةً ضائعة في نفسها.
وهكذا انتهت ثريا: ليست بمشهد بطولي براق، ولا بحكمٍ قضائيٍّ عالٍ، بل بمصيرٍ بسيط ونهايتها في نفس ليلٍ بارَدٍ كانت تفضل أن تقلبه نارًا. ماتت كما عاشت في كثير من فصولها — بعزلة، متوهّجة بالكراهية حتى آخر نفس، وتترك خلفها فراغًا كبيرًا لا يملؤه أي انتقام بعد الآن.
********************
الليل كان نازل على الفيلا، الكل متجمع في الصالة الكبيرة بعد يوم طويل مليان خوف وقلق، ووشوشهم باين عليها الإرهاق. فجأة موبايل مراد رن، رد، وبعد ما خلص المكالمة بص للعيلة بصوت جاد:
مراد:
– "عندي خبر… ثريا ماتت. عملت حادثة عربية النهارده بالليل."
سكتوا كلهم لحظة، كأن الزمن وقف. العيون بتتبادل النظرات… خليط من صدمة وارتياح وحيرة.
حور (حطت إيدها على بوقها):
– "يا نهار ســـــود!"
مراد (ماسِك إيدها يشد عليها):
– "حور… هدي نفسك. هي اتجننت من زمان. وكان لازم نهايتها تبقى كده."
زين (بيتنهد بهدوء تقيل):
– "قدَر… بس بصراحة، النهاية دي قليلة قوي على اللي عملته."
ريم (بتبص له بارتباك):
– "زين… دي برضه كانت مرات أخوك."
ديلان (بتقاطعه بعصبية):
– "مرات إيه! ما تقوليش مرات ولا حاجة. دي كانت عار على العيلة من يوم ما دخلت من بابها. وأخيرًا الشر ده خلصنا منه."
مريم (عنّيها مليانة دموع وهي بتبص على صوفيا):
– "كنتِ هتروحي مننا بسببها… ربنا خلصنا من شرها قبل ما تعمل مصيبة أكبر."
إدوارد (يهديها):
– "خلاص يا مريم. انتهى. خلينا نشكر ربنا إن البنات رجعوا بخير."
عهد (بغضب مكتوم):
– "دي كانت عايزة تبيع صوفيا! وعايزة تقتلني أنا وصحبتي… موتها مش كفاية."
إياد (قاعد ساكت، وشه شاحب، باصص في الأرض):
– "…هي أمي."
الجميع سكتوا عند كلمته، كأنهم افتكروا فجأة إن ثريا مش بس شريرة… دي كمان أم.
إيهاب (بصوت مبحوح وعنيه حمرا):
– "لأ يا إياد… اسمعني. هي فقدت معنى الأمومة من زمان. أنا ندمت يوم وافقت أتجوزها… كنت فاكر إني بديها فرصة وأعمل خير. لكن كنت أعمى. هي خانتني… خانتكم… وخانت العيلة كلها."
إياد (بغضب وحزن ممزوجين، بيخبط إيده على الترابيزة):
– "كنت أتمنى… كنت أتمنى تبقى مختلفة. بس أنا عارف… عارف إنها ما كانتش يوم أم بجد. دلوقتي خلاص… انتهت."
سليم (يبصله بهدوء):
– "إحنا هنا يا ابن عمي. إحنا عيلتك. مش هتكون لوحدك."
صوفيا (تحط إيدها على كتفه):
– "هي اللي اختارت طريقها بنفسها. إحنا اللي فضلنا. المهم نحمي بعض."
آدم (واقف طول الوقت ساكت، بيراقبهم بعنيه الباردة، يتكلم بهدوء):
– "الناس اللي بيزرعوا كراهية… مصيرهم يخلصوا لوحدهم. ثريا مش أول واحدة ولا آخر واحدة. بس… أنتو عندكم فرصة تبدأوا من جديد من غير سمومها."
مراد (يبص لآدم لأول مرة بتركيز):
– "يمكن معاك حق. لازم نطوي الصفحة دي… ونحمي أولادنا. عهد، إياد، صوفيا، سليم… حياتكم لسه قدامكم."
ديلان (بابتسامة مرة):
– "وأنا فرحانة إنها ماتت قبل ما أشوفها تبوظنا أكتر."
قعدوا كلهم في صمت تقيل، كل واحد غرقان في أفكاره. في اللي حس بالراحة، وفي اللي حس بالمرارة، وفي اللي جواه حزن مخفي. بس اللي أكيد إن ثريا – بكل شرّها – راحت… والعيلة هتفضل واقفة، أقوى بعد ما عدّت عاصفة تانية.