رواية عطر الانتقام والحب الفصل السابع عشر17 بقلم سيليا البحيري

رواية عطر الانتقام والحب بقلم سيليا البحيري
رواية عطر الانتقام والحب الفصل السابع عشر17 بقلم سيليا البحيري
في صباح دافي ومشمس – أوضة إياد وعهد

الضوء الدهب بيدخل من الشباك، بيضوي وش عهد اللي باين عليها التعب وهي متقلّبة على السرير. الساعة كانت 8:30، والعصافير برّه مشبعة الجو حياة… بس جو الأوضة كان ساكت، مليان قلق.

إياد قاعد على طرف السرير، بيبص على مراته اللي بالكاد رافعة راسها، وحاسس بالذعر لما شافها حاطة إيديها على بطنها وبتتنفس بصعوبة.

إياد:
ـ "عهد؟ حبيبتي، إيه مالك؟ ليه وشك شاحب كده؟"

عهد فتحت عينيها بصعوبة، وبنبرة تعبانة:
ـ "مش عارفة… من الصبح وراسي بيوجعني وبطني مقلوبة… يمكن أكلت حاجة امبارح ما كانتش تمام."

إياد مد إيده على جبينها وحس إنه سخن شوية:
ـ "حرارتك طالعة شوي… يمكن بردتي بالليل؟ تعالي أجيبلك دوا ولا نروح المستشفى."

عهد هزّت راسها ورفضت، وترجعت على المخدة:
ـ "لا… ما عايزة أروح مكان… بس خليني أنام شوية، يمكن أحسن."

إياد قرب منها أكتر، وبيحاول يطمنها، مرّر صوابه على شعرها بحنية:
ـ "بس يا عهد… من امبارح وإنتِ مش طبيعية… الصبح رجعتي ثلاث مرات، وشك أبيض، وقلبي مش مرتاح."

عهد ضحكت ضحكة خفيفة رغم التعب، وقالت بصوت واهن:
ـ "يمكن جامعة القاهرة نفسها تعبانة معايا حتى وأنا نايمة… خليني أغيّب اليوم، مش قادرة اتحرك."

إياد قاعد جنبها وحط كباية ميه على الترابيزة الصغيرة:
ـ "أكيد ما تروحيش الجامعة… اليوم ارتاحي، وأنا هفضل جنبك. بلاش تعب زيادة."

سكت شوية، وبعدين بص لها بقلق صادق:
ـ "بس غريب يا عهد… مفيش أعراض برد، ولا حاجة واضحة… بتحسي بدوخة؟"

عهد أومأت خفيف وهي مقفلة عينيها:
ـ "أيوه، شوية دوخة… وريحت العطر بتاعك مش قادره أتحملها."

عيون إياد اتسعت بدهشة، وبص لعطره المفضل على الترابيزة وضحك بخفة:
ـ "دي أول مرة حد يكره ريحتي… أكيد في حاجة مش تمام."

عهد رمقته بابتسامة ضعيفة:
ـ "حتى صوتك النهارده مزعج… بدّي هدوء… بدّي أنام."

إياد مسك إيدها برقة وقال بحنية:
ـ "نامي يا حبيبتي، وأنا هفضل جنبك… لو حسيتي بحاجة قوليلي فوراً… مش بتحمل  اشوفك تعبانة كده."

عهد تقلبت شوية قبل ما تتمتم بصوت واطي وهي مقفلة عينيها:
ـ "ما تقلقش يا إياد… يمكن تعب بسيط… بس… غريب."

إياد فضل قاعد جنبها، بيراقب تنفسها المنتظم وهي بتغفى شوية شوية. مد إيده على شعرها برقة وهمس لنفسه:
ـ "يارب تكوني بخير… مش عارف ليه حاسس إن الموضوع مش مجرد تعب."

بص لها بحنان عميق — وشها الهادئ رغم الشحوب، ابتسامتها الصغيرة وهي نايمة — وهمس بابتسامة قلقة:
ـ "لو عرفتي قد إيه بخاف عليكي يا عهد…"
*********************

إياد نازل السلالم بخطوات متوترة، بيلعب في شعره من وقت للتاني، شكله قلقان جدًا، وعينيه بتدور بسرعة على كل حتة في الفيلا. أصوات ضحكات خفيفة جايه من الصالون اللي على الجنينة.

وصل هناك، لقى حور، أم عهد، قاعدة على الكنبة، ومعاها ريم، مرات عمه زين، وعمته الهادية ديلان. الجو كله نسوان، أكواب القهوة على الترابيزة، وريحة الياسمين ماليه المكان.

رفعوا راسهم كله في نفس اللحظة لما دخل. ابتسمت حور بحنية:
ـ "صباح الخير يا حبيبي… وين عهد؟ دايمًا بتنزل معاك!"

إياد تنهد بقلق:
ـ "هي فوق يا خالتي… أقصد يا طنط حور… ما قدرت تنزل، تعبانة من الصبح، بطنها بيؤلمها وتعبانة جدًا، كأنها فعلاً مريضة."

حور قعدت مستقيمة على الكنبة، وعلامات القلق على وشها:
ـ "تعبانة؟! ليه ما صحيتينيش؟ بنتي عمرها ما بتشتكي! يا نهار أبيض… شكلها ما فطرتش من امبارح!"

ريم ضحكت خفيف وحطت فنجانها على الترابيزة:
ـ "اهدئي يا حور… يمكن بس تعب بسيط، برد أو أكل حاجة مش تمام… إحكي يا إياد، إيه أعراضها بالظبط؟"

إياد قعد قدامهم، ومرر إيده على رقبته متوتر:
ـ "من الصبح، دوخة، ووجع راس، وترجع أكتر من مرة… وبتقول ريحة عطري مضايقاها، كأنها مش طايقة تشم أي حاجة!"

ريم بصت له بعينين لامعين ومالت شوية لقدام، وابتسامة صغيرة على وشها:
ـ "إياد… ممكن أسألك حاجة بسيطة؟ هي تأخرت الفترة الأخيرة عن دورتها الشهرية؟"

وقف شوية وهو بيحاول يفتكر، وبعدين هز راسه:
ـ "مش متأكد… هي ما قالتش حاجة… بس يمكن فعلاً تأخرت شوي!"

ابتسامة ريم كبرت شوية وهي بتبص لحور وديلان:
ـ "واضح جدًا يا جماعة… دي مش أعراض مرض."

حور رفعت حاجبها بدهشة وأمل:
ـ "إيه قصدك يا ريم؟"

ريم ضحكت خفيف وحطت إيدها على كتف حور:
ـ "قصدي إن بنتك الصغيرة… ممكن تكون حامل!"

إياد وقف من مكانه كأنه مش مصدق اللي سمعه، وشهق:
ـ "إيه!! حامل؟ عهد؟!!"

حور قفزت من مكانها فرحانة، وحطت إيدها على وشها:
ـ "ياااااه! معقول؟! عهد حامل؟ يا رب!"

أما ديلان ابتسمت بهدوء وهي ماسكة فنجانها:
ـ "واضح جدًا من الأعراض… وغثيان الصبح من العلامات الأولى، خصوصًا لو بتكره ريحة حاجة كانت بتحبها قبل كده."

إياد قعد مذهول، ومرر إيده على وشه كل شوية، وبصوت مرتعش بين الدهشة والفرحة:
ـ "يعني… يعني أنا؟! راح أكون أب؟!"

ريم ضحكت بحنان:
ـ "واضح كده يا إياد… بس خليك عاقل، لازم تتأكدوا بفحص، يمكن بكرة تودوها للدكتورة ونعرف أكيد."

حور ما قدرتش تصبر، قعدت تاني وهي ماسكة إيد ريم:
ـ "يا رب! بنتي الصغيرة… هتصير أم! يا رب! امبارح كنت بشيلها عالمدرسة واليوم حامل؟!"

ديلان ضحكت خفيف وهمست:
ـ "دي سنة الحياة يا حور… بيكبروا قدامنا بسرعة."

إياد وقف وهو مش مصدق، وعينيه بتنور من الدهشة والفرحة:
ـ "والله ما كنت متخيل… كل اللي فكرت فيه إنها تعبانة… بس تكون حامل؟ يا رب تكون صح!"

حور قربت منه وحطت إيدها على كتفيه بفرحة حقيقية:
ـ "مبروك يا حبيبي مقدماً… عهد تستاهل كل خير، وإنت كمان تستاهل تكون أب جميل زيك."

إياد ابتسم بخجل وقال بصوت مليان مشاعر:
ـ "إن شاء الله يا طنط حور… بس لما أتأكد… أول حد هقولهولك إنتي."

ريم ضحكت وهي ماسكة إيد ديلان:
ـ "واضح إن قريب هنسمع أول صرخة بيبي جديد في العيلة!"

ديلان ابتسمت وهي بتراقب فرحة الكل:
ـ "الحمد لله… بعد كل اللي عدينا بيه، محتاجين نسمع خبر حلو زي ده."

إياد بص لفوق وابتسامة خفيفة على وشه:
ـ "يارب تكون فعلاً حامل… يا رب."
*********************

الجامعة كانت زحمة أوي الصبح ده، صوت الطلبة، ضحك هنا وهناك، والجو المعتاد من الزحمة والدوشة…
بس في ركن من الساحة بره، قعدت صوفيا وعلا على واحد من الكراسي الحجرية تحت شجرة كبيرة، بيبصوا على الممر الرئيسي بقلق خفي، كأنهم مستنيين حد يعرفهم يوصل وما ظهرش لحد دلوقتي.

صوفيا كانت بتحرك رجلها بعصبية، بتبص على موبايلها كل شوية، بتزعل وبتتنهد بخفة:
– "مش طبيعي خالص يا علا! عهد عمرها ما تغيّبت عن الجامعة، حتى لو تعبانة كانت بتيجي وتقولي: (أنا مش بحب أتأخر على محاضراتي)!"

علا رفعت حواجبها من غير مبالاة، لكن جواها كانت قلقة زيها بالظبط، وقالت بصوت أهدأ:
– "يمكن تعبانة شوية… أو نامت زيادة عن اللزوم، إياد مدلّلها زيادة عن اللزوم بصراحة."

صوفيا بصت لها بنظرة حادة شوية:
– "إياد؟! هو مش بيتأخر عن شغله… يعني لو كانت تعبانة كان على الأقل بعتت لنا خبر!"

ضحكت علا وحطت الشنطة جنبها:
– "آه يا صوفيا، إنتِ دايمًا بتفكري في الأسوأ. يمكن البنت بس عندها صداع أو برد، ما تبالغيشي."

هزّت صوفيا راسها ومقتنعةش وقالت وهمس بقلق أكبر:
– "لا… قلبي مش مرتاح. امبارح كنا بنكلمها على الواتساب وكانت تمام جدًا، والنهارده مش ردّت ولا حتى على مكالماتي."

علا رفعت موبايلها وبصتله كسل:
– "جربي تتصلي فيها مرة تانية."

صوفيا ضغطت على الأزرار بسرعة وحطت الموبايل على ودنها. عدت ثواني، وبصّت لعلا وعبّست:
– "لسه ما ردتش."

سكتوا شوية، بعدين قالت علا بنبرة جدية أكتر وهي بتبص على باب المبنى الرئيسي:
– "بصراحة… أنا كمان قلقت شوية. عهد مش من النوع اللي يتغيب من غير ما تقولنا. حتى لو كانت تعبانة، كانت على الأقل تبعت رسالة."

صوفيا حطّت راسها بين إيديها بعصبية واضحة:
– "يارب تكون تمام… عهد مش بتتعب بسهولة، يمكن حصل لها حاجة فجأة؟!"

علا ربّتت على كتفها وحاولت تطمّنها:
– "بصي… نكمّل المحاضرات النهارده، وبعدها نروح على بيتها نشوف حصل إيه. مش هنهدي غير لما نتطمن عليها."

صوفيا رفعت راسها بسرعة وعينيها بتلمع بالأمل:
– "جد؟ نروح سوا؟"

ابتسمت علا بخفة:
– "أكيد، مش هسيبك تروحي لوحدك. بس وعد، ما تعيطيش لو لقيتها نايمة مرتاحة وما فيهاش حاجة!"

ضحكت صوفيا رغم قلقها، وقالت بصوت هادي:
– "أبداً مش هعيط… بس لو كانت تمام، رح أصرخ من الفرح."

رنّ جرس المحاضرة، فقوموا مع بعض، لكن خطوات صوفيا كانت تقيلة بشوية حاجة غامضة، إحساس جوّاها بيقولها إن النهارده مش هيبقى عادي خالص.

وقبل ما يدخلوا القاعة، تمتمت علا وهي بتبص للسماء الرمادية:
– "إن شاء الله يكون خير يا عهد… دايمًا كنتِ أقوى مننا كلنا."

أما صوفيا فشدّت شنطتها وهمست لنفسها:
– "لو حصللك حاجة، إياد أول واحد هوبّخه!"
************************

المحاضرة كانت على وشك ما تبدأ، والطلبة بيدخلوا واحدة واحدة للقاعة الكبيرة.
صوفيا وعلا قعدوا في الصفوف الأمامية، ولسه بيتكلموا بصوت واطي عن غياب عهد، والقلق باين على وشوشهم.

وفجأة، دخل المعيد يوسف بخطوات واثقة، شايل شوية ورق في إيده، لابس قميص غامق، ووشه عليه الجدية اللي دايمًا بتشد الانتباه.
بس عنيه —زي كل مرة— كانت بتدور في الصفوف على وش محدد… وش عهد البدراوي.

وقف قدام المكتب وحط ورقه، وبص بسرعة على الطلبة.
ولما لاحظ الكرسي الفاضي اللي عهد عادةً بتقعد فيه، اتشد فكه لحظة، وبعدين قال بنبرة هادية بس فيها حدة:
– "فين الآنسة عهد البدراوي؟ مش شايفها دخلت من بداية المحاضرة."

تبادلت صوفيا وعلا نظرات متوترة، وبعدين ردّت صوفيا بعفوية وهي شايلة إيدها شوية:
– "أستاذ يوسف… عهد النهارده ما إجتش، يمكن تكون تعبانة أو حصل لها حاجة بسيطة."

قرب منهم يوسف بخطوات بطيئة، لحد ما بقى قريب من الترابيزة اللي قاعدين عليها، وقال بنبرة هادية ووراها حاجة غامضة:
– "تعبانة؟… عهد البدراوي عادة ما بتغيبش عن محاضراتها، صح؟"

علا بصتله بابتسامة خفيفة عشان تهدي الموقف شوية:
– "صح… بس ساعات الواحد بيتعب… مفيش داعي للقلق، أكيد هتبقى كويسة."

يوسف فضل يبص لهم لحظة أطول من اللازم، بنظرات فيها فضول وكمان حاجة من الكره المكبوت، كأنه عايز يقرا ورا كلامهم.
بعدها قال بصوت واطي، فيه نغمة ساقعة شوية:
– "هممم… يارب تكون كويسة فعلاً. بعض الغيابات… ممكن تغيّر مجرى الأمور، صح؟"

صوفيا وعلا تبادلوا نظرات مستغربة، ومفهموش قصده بالظبط.
قالت صوفيا وهي مبتسمة بخجل:
– "أكيد… إن شاء الله ترجع بكرة… عهد ما بتحب تتأخر."

ابتسم يوسف ابتسامة صغيرة، بس مفيهاش أي دفء.
بعدها لف ورجع لمكتبه، ورمى الورق شوية بعنف وقال:
– "يلا نبدأ الدرس، مفيش داعي نأجل أي حاجة عشان غياب حد."

صوته كان طبيعي… بس في عنيه كانت فيه شرارة مختلفة، نظرة انتصار صغيرة بدري، كأنه شايف غياب عهد فرصة جاية ليه.

قعد على الكرسي، مسك القلم، وبدأ يشرح، بس دماغه مكانتش مع الكلام…
كان دماغه غاطسة في ذكريات الماضي، فاكر أمه ثريا وصوتها وهي بتعيط:
"أخدوا مني كل حاجة… حتى اسمي!"

ودلوقتي، ابنها اللي محدش يعرفه، شايف اسم البدراوي قدامه كل يوم، مكتوب في دفاتر الطلبة، بيتقال على لسانهم، وبيحس حواليه كأنه بيستهزأ بيه.

وقف شوية نص الشرح، وبعدين رفع نظره للصف وقال ببرود:
– "الآنسة عهد… لو غايبة النهارده، مش هتغيّبنا عن اللي جاي."

صوفيا بصت لعلا مستغربة:
– "ها؟ يقصد إيه الأستاذ ده؟"

علا هزت كتفها بخفة وقالت:
– "يمكن يقصد إننا مانأجلش الدروس… بس طريقته غريبة شوية."

يوسف ابتسم ابتسامة لنفسه، وبعدين كتب حاجة على الورقة قدامه —كلمة واحدة بس—
"البدراوي"… وتحتها خط غامق طويل.

******************

ليان كانت قاعدة في مكتبها الأنيق في الدور العاشر بشركة البدراوي القابضة، الورق بتاع التقارير متفتح قدامها، وشاشة الكمبيوتر منورة وشها الهادئ.
كانت غارقة في الشغل، بتراجع مشروع جديد واللي أطلقه أبوها إيهاب البدراوي، وعنيها مش شاردة من الأرقام والجداول.
رغم نجاحها وتميزها، كانت جواها حاسة إن الشغل هو المكان الآمن الوحيد… المهرب من الفراغ اللي سابه مجدي من خمس سنين.

سمعت صوت طرق خفيف على الباب، فقفلت على اللي كانت فيه.
رفعت راسها وقالت بهدوء:
– "تفضل."

دخل كريم، مدير الموارد البشرية، شايل ملف في إيده وابتسامة خجولة على وشه.
راجل في آخر التلاتينات، أنيق ووقور، ودايمًا هادي.
بس في الأسابيع اللي فاتت، بدأ يقرب منها أكتر من اللازم… نظرته، طريقته في الكلام، اهتمامه اللي مالوش داعي.
ليان كانت واخدة بالها من كله، لكنها كانت بتتجاهله بصمت.

قرب منها وحط الملف على المكتب وقال بلطف:
– "صباح الخير أستاذة ليان… حبيت أراجع معاك تعديلات القسم الجديد، بس… قبل كده، في موضوع حابب أتكلم فيه لو ما فيه مانع."

رفعت ليان حواجبها ببرود، وبعدين قفلت الملف وقالت بنبرة رسمية:
– "موضوع يخص الشركة؟"

ابتسم كريم ابتسامة صغيرة، وتردد شوية قبل ما يقول بصوت واطي لكن حازم:
– "لأ… يخصني أنا… ويخصك."

ليان حست بانقباض في قلبها، ورجعت شوية في الكرسي وهي بتبصله بحذر.
قالت بنبرة متوترة:
– "تفضل كريم، قول اللي عندك."

تنفس كريم بعمق، كأنه جمع شجاعته كلها دلوقتي، وقال بصراحة خارجة من قلبه:
– "أنا من فترة… بحترمك جدًا، وبصراحة… مع الوقت، بقيت بشوف فيك مش بس مديرة ناجحة، لكن إنسانة كويسة، قوية، مختلفة… وأنا، مش عارف لو مسموح أقولها، بس… حابب أطلب إيدك."

سكتت الغرفة كلها.
نظرات كريم كانت صريحة وصادقة،
أما ليان، حسّت كأنها اتجمدت في مكانها.

بصتله ببطء، وشيء من الذهول في عنيها، وبعدين قالت ببرود مفاجئ:
– "تطلب إيدي؟!"

ومأ رأسه بخجل، محاول يبتسم:
– "أيوه… عارف إن الفرق بينا كبير، بس أنا مش بشوف الأمور كده، أنا بشوف الشخص اللي قدامي، مش اللقب ولا الاسم…"

قاطعت كلامه بحدة، وصوتها بيرتعش بين الغضب والانفعال:
– "كريم! انت عارف بتكلم مين؟ أنا ليان إيهاب البدراوي، بنت صاحب الشركة دي، وبنت عيلة محدش يقدر يذكر اسمها كده!"

اتسعت عني كريم شوية، واتصدم من قسوتها، لكنه ما ردش.
ليان كملت بانفعال أكتر، بتحاول تخفي ارتباكها بحدة مصطنعة:
– "وانت مدير موارد بشرية عندنا، محترم في شغلك، بس… مش في المستوى اللي تفكر فيه!
افهم، في حدود لازم تبقى بينا… بينك كموظف، وبيني كمديرة وابنة صاحب المكان."

كريم فضل واقف مذهول من كلامها، وبعدين قال بصوت واطي جدًا:
– "ما كنتش متوقع منك الكلام ده يا ليان… كنت متأكد إنك مختلفة عن الناس اللي شايفين الدنيا طبقات."

أطرقت ليان للحظة، لكن كبرياؤها ما سمحش لها تتراجع فورًا.
قالت ببرود مصطنع:
– "أظن الكلام خلص، ممكن تمشي دلوقتي."

كريم فضل واقف شوية، عينيه بتلمع بخيبة أمل، وبعدين قال بصوت متماسك رغم الألم:
– "تمام… عن إذنك أستاذة ليان."

خرج ببطء، من غير ما يلف، وسب وراه صدى صمت تقيل مخنوق الغرفة.

ليان فضلت تبص للباب المغلق، وشعور بالندم بدأ يتسلل لقلبها.
حطت إيدها على جبينها، وقفلت عينيها، وهمست لنفسها بصوت مكسور:
– "يا إلهي… إيه اللي قولته؟!"

فاتت في بالها نظرات كريم، نظراته الصادقة لما قال "بحترمك"، فحست بألم في قلبها رغمًا عنها.
بس سرعان ما قبضت إيدها وقالت بصوت هادي وحازم:
– "لأ… مش هقدر. ما أسمحش لأي حد يدخل حياتي تاني… مجدي كان الوحيد… ومش هكرر وجع تاني."

بصت للنافذة، للسماء الرمادية بره، كأنها بتهمس للغياب:
– "مستحيل أسمح لحد ياخد مكانك يا مجدي…"
*******************

ليان وقفت مذهولة في مكانها، بتبص للباب اللي خرج منه كريم، وشها متقلب من الصدمة والندم.
كانت بتحاول تلم نفسيتها لما سمعت صوت غليظ وراها، صوت تعرفه كويس جدًا، خلا دمها يقف في عروقها:

– "خلص الكلام فعلاً يا ليان؟"

لفت ببطء، وشها شاحب.
كان إيهاب البدراوي واقف عند الباب، وشه قاسي، وعينيه بتلمع بالغضب المكتوم.
باين إنه كان هناك من شوية… وشاف كل حاجة.

همست بخوف وارتباك:
– "بابا؟! انت… من امتى هنا؟"

ما ردش على طول، قرب منها بخطوات بطيئة، ثابتة، كأن كل خطوة فيها عتاب السنين كلها.
وقف قدامها، وقال بصوت منخفض لكنه أشد قسوة من الصراخ:
– "من اللحظة اللي سمعت فيها موظف محترم بيطلب إيد بنتي باحترام، وبنتي… بتكسر قلبه وتهينه… عشان مش في مستواها؟"

خفضت ليان راسها، وصوتها بيرتعش:
– "بابا، أنا ما قصدتش… بس هو… هو تجاوز حدوده، وأنا…"

ما خلّاش الجملة تكمل.
فجأة، ارتفع صوت صفعة مدوية، كسرت سكون المكان.
إيد إيهاب اتعلّت وبعدين هوت على خدها بقوة، خليتها تتراجع خطوة ورا وهي ماسكة خدها المصدوم.

بصت له بعينين مليانين دموع مش مصدقة اللي حصل.
صرخت بصوت مبحوح:
– "بابا!"

قال بصوت صارم وهادئ ومخيف:
– "ما كنتش متوقع أسمع بنتي النهارده بتتكلم بالشكل ده!
احنا يا ليان ما اتربيناش على إن الناس طبقات!

بدأت دموع ليان تنزل بصمت، لكن إيهاب ما رضي يلين.
كمل بغضب مكبوت:
– "كريم موظف مجتهد، محترم، مخلص لشغله، ما غلطش في حاجة.
لو مش عايزة منه حاجة، كان ممكن ترفضي بأدب، مش تهينيه كأنه اتجرأ على الملكة."

انفجرت ليان فجأة، دموعها نزلت بحرارة، وصوتها ارتفع وهي بتصرخ:
– "باباااا! لأنك ما تفهم!"

اتصدم إيهاب من نبرتها، لأول مرة شاف ابنته تكلمه بالشكل ده، لكنها كانت منهارة تمامًا.
كملت وهي بتعيط، واقفة قدامه بكل ضعفها وغضبها:
– "أنا ما قولتش له كده عشان مغرورة! قولتله عشان… عشان ما أقدرش أحب بعد مجدي!
مستحيل! مجدي هو حياتي… أول حب في حياتي، قلبي، الماضي والمستقبل!
ما أقدرش أسمح لأي حد ياخد مكانه… ولا حتى يحاول!"

تجمّد إيهاب مكانه.
عيونها ما كانتش عين بنت مدللة… كانت عين واحدة محطمة.
انكسر صوته شوية وقال:
– "ليان… عدت خمس سنين. كفاية."

هزت راسها بعناد وبكاء:
– "لأ! خمس سنين، خمسين سنة، مفيش حاجة هتتغير!
كل يوم أعيشه بعده، عقاب، مش حياة.
وأنا… أقسمت على قبره إني ما أحبش أي راجل بعده!"

قرب منها إيهاب بهدوء، بص في وشها المبلول بالدموع، وحط إيده على كتفها برفق نادر وقال بصوت واطي ومتعب:
– "ليان… يا بنتي، الله وحده يعرف وجعك ووجعي كمان.
بس الحياة ما بتقفش، ومجدي… راح."

صرخت فجأة وهي بتدفع إيده:
– "لأ… متقولهوش! ما تقولش راح! هو مش مات جوة قلبي، مش مات لحظة!"

ابتعدت عنه خطوة، ومسحت دموعها بعنف وقالت بصوت مرتجف وحاد:
– "مش عايزة أسمع نصايح ولا مواعظ… سيبني بحالي يا بابا، أرجوك."

إيهاب فضل ساكت لحظات، بص لها بصمة طويلة مليانة حزن وخذلان، وبعدين قال بصوت واطي:
– "ما كنتش متوقع إن الحب يخليكي تجرحي اللي حواليك يا ليان.
ولا كنت أتخيل إن بنتي ممكن تخسر نفسها وهي بتحاول تحافظ على الذكرى."

بعدها استدار وخرج من الغرفة بخطوات بطيئة وثقيلة، وساب الباب وراه مفتوح.

أما ليان، انهارت على الكرسي، غطت وشها بإيديها، وبكت بصوت مخنوق موجع.
حست إن قلبها متقطع بين ندم لا يُحتمل، وجرح قديم ما يلتئمش.

وهي بتعيط، همست بصوت بالكاد مسموع، موجهة كلامها للغياب:
– "لو كنت عايش يا مجدي… لو كنت بس موجود… ما كنتش هعيش كل الوجع ده."
*********************

الجو كان هادي في أروقة شركة "البدراوي جروب"، شمس الضهر بتدخل من الزجاج الكبير وبتنور المكاتب، بتضوي وش كريم اللي قاعد في مكتبه، شارد قدام شاشة الكمبيوتر.
الملفات مبعثرة على الترابيزة، بس دماغه مش هنا… كان بعيد جدًا، في الجنوب، عند الأرض والحقول ونسيم الصعيد اللي شبه كرامته: بسيط، بس محدش يقدر يدوس عليه.

مد إيده وقفّل الكمبيوتر بهدوء، بعدين مسك ورقة بيضا وابتدى يكتب:

> "للسيد إيهاب البدراوي المحترم… أنا بقدّم استقالتي من منصبي كمدير الموارد البشرية، شاكراً ثقتكم ومقدّر كل السنين اللي قضيتها معاكم…"

وقف شوية، حس بمرارة في حلقه، لكنه ابتسم ابتسامة صغيرة من غير روح، وهمس لنفسه:
– "خلاص يا كريم… الكرامة قبل أي حاجة."

وبعدها وقّع اسمه بالقلم، بس إيده ارتجفت شوية وهو بيحط النقطة الأخيرة.
بص على صورة معلقة قدامه تجمعه بفريق الشغل في مناسبة قديمة، فكر في ضحكهم مع بعض، وحتى ضحكتها هي… ليان.
شد إيده من الألم كأنه عايز يطرد صورتها من دماغه، بس عبث… عينها كانت بتلاحقه في كل مكان.

سمع صوت طرق خفيف على الباب صحاه من شروده.
– "اتفضل!"

فتح الباب، ودخل إياد بابتسامة كبيرة ووشه منور كالعادة.
– "صباح الخير يا مدير الموارد البشرية المجتهد! إيه؟ مخبي عليّ حاجة؟ شكل وشك حزين النهارده."

ابتسم كريم مجاملة وقال بنبرة هادي:
– "صباح النور يا إياد، مفيش حاجة."

بس إياد ما اتخدعش بسهولة، قعد قدامه، وحط دراعه على الكرسي وقال بمزاح خفيف:
– "آه طبعًا، أنا ابن عم العيلة كلها بس مش فاهم حاجة! وشك بيقول إن فيه قصة كبيرة."

ضحك بخفوت، بس عينيه فضلت جدّيتين، وبعد شوية لمح الورقة على المكتب.
مد إيده بسرعة وأمسكها قبل ما يمنعه كريم.

قرأ العنوان بصوت عالي:
– "استقالة؟! إيه الكلام ده؟!"

سحب كريم الورقة من إيده بهدوء وقال:
– "زي ما قريت يا إياد، أنا قررت أمشي."

رفع إياد حواجبه بدهشة:
– "تمشي؟! ليه يا راجل؟ إنت من أنشط الناس هنا، الكل بيحترمك!"

تنهد كريم، ارتاح في الكرسي، وبص للنافذة شوية وقال بصوت واطي فيه مرارة:
– "احترام الناس مش كفاية لما كرامتك تتجرح… لما تحس إن وجودك ملوش قيمة عند اللي حسبتهم عيلتك."

عبس إياد وهو بيحاول يفهم:
– "مين اللي ضايقك؟ في حد في الشركة غلط فيك؟ قولّي مين وأنا..."

قاطعه كريم وهو مبتسم ابتسامة حزينة:
– "سيبك يا إياد، مش لازم تعرف كل حاجة."

لكن إياد مال عليه بإصرار وقال بجدية:
– "مش هسيبك غير لما أفهم. إحنا صحاب قبل ما نكون زملاء شغل. إحكيلي، مين؟"

صمت كريم شوية، بعدين قال ببطء وهو بيبصله نظرة غامضة:
– "اسأل اختك."

تجمّد إياد في مكانه، حواجبه ارتفعت بدهشة أكبر:
– "اختي ؟ تقصد مين؟ ليان؟!"

أومأ كريم برأسه بصمت.
الصدمة ظهرت على وش إياد:
– "ليان؟! هي عملت إيه؟!"

ضحك كريم ضحكة قصيرة مليانة وجع وقال:
– "ولا حاجة… بس هي وضّحتلي حاجة مهمة جدًا: مش كل الناس بتشوف البشر بنفس العيون. فيه ناس بتشوفك أقل مهما عملت."

ارتبك إياد، وحاول يوضح:
– "أكيد حصل سوء تفاهم، ليان مش كده يا كريم، يمكن قالت كلمة..."

قاطعه كريم بسرعة، نبرته فيها كرامة مكسورة وفخر في نفس الوقت:
– "مش زعلان منها على كلمة، أنا زعلان عشان فهمت إني ما أستاهل مكاني هنا.
لما تبقى نظرة احتقار طالعة من بنت البدراوي، يبقى خلاص… رجّعت للصعيد. هناك الناس بتقيّمك بشغلك، مش باسمك."

وقف إياد ببطء، إيده لسه ماسك الكرسي وكأنه مش مصدّق اللي سامعه.
– "يعني ناوي تسيب كل ده؟ الشركة، مستقبلك، اللي بنيته سنين؟"

ابتسم كريم بخفة وهو بيطوي ورقة الاستقالة بعناية:
– "مستقبلي هناك يا إياد، مع والدي في الحقول.
يمكن أعيش بسيط، بس على الأقل أنام مرتاح."

اقترب إياد منه وحط إيده على كتفه بإخلاص:
– "كريم، لو فعلاً ناوي تمشي، مش هقدر أوقفك، بس صدقني… ليان ندمانة أكيد، دي مش طبعتها. هي بس موجوعة من حاجات قديمة، يمكن غلطت في التعبير."

ابتسم كريم نظرة نصها حنان نصها وجع:
– "يمكن، بس الكلمة لما تطلع… ما بترجعش."

مد إيده وصافح إياد بحرارة:
– "إنت من القليلين اللي فعلاً بحترمهم يا إياد، خليك دايمًا زي ما أنت، نقي القلب."

رد إياد بابتسامة حزينة:
– "مش هودعك، عشان متأكد إنك راجع يوم من الأيام."

ضحك كريم بخفوت وهو بياخد معطفه:
– "يمكن، لما تتغير النفوس."

بعدها خرج من المكتب بخطوات ثابتة، راسه مرفوع، بس عينيه مليانة حزن دفين.
إياد فضل واقف، بيبص للباب المغلق ويتمتم لنفسه بقلق
تعليقات



<>