رواية ندبة روح الفصل الثاني عشر 12 بقلم نانسي عاشور

        

رواية ندبة روح 

الفصل الثاني عشر 12

بقلم نانسي عاشور

 مرايا من دخان

الليل لا يشبه نفسه حين يناديها. كأنّ الظلمة تُنبت فيه أصواتًا لم تُولد بعد، وريحًا تسير عكس كل الجهات، فتسأل "روح" نفسها:

هل السماء تفتح أبوابها حين يُغلق قلبي؟

مرّت أيام وليالٍ بعد ظهور "حورس"، ظلّها الحامي، ولم تعد "روح" كما كانت.

صوت داخلي بات يهمس لها بأسماءٍ غريبة، طلاسم لا تعرف معناها، ورؤى لا تدري من زرعها في ذهنها: وجوهٌ فرعونية، تيجان مكسورة، دماء على النيل، وحُب غائر في الرمال.

كانت تجلس قرب شرفة بيتها، تلفها عباءة رمادية كالضباب، بينما كانت عيناها شاردتين في الأفق البعيد.

في ذلك الصمت، شعرت به...

يعقوب.

لم يقترب، لم يظهر، لكن الهواء تغيّر فجأة، وكأنّه يحمل أثر قدميه في طبقات الزمن.

وسمعت صوته، لا من الخارج، بل من داخلها:

"أنا لم أذهب... لكنكِ كلّما اقتربتِ من نفسكِ، أضعُكِ في مرآة."

تنفست "روح" ببطء.

كل شيء فيها كان يحترق، لكنها لا تشتعل.

بداية الانعكاس

في تلك الليلة، عاد "المنام" إليها، لكنه لم يكن منامًا.

كان دخولًا إلى مقامٍ لم تطأه من قبل.

رأت نفسها تقف أمام مرآة ضخمة، مصنوعة من الزجاج الأسود، تتصاعد منها أدخنة بلون الدم.

لم يكن في الغرفة غيرها، والمرآة... ونَفَسها.

اقتربت ببطء، وكل خطوة نحو المرآة كانت تسحب من ذاكرتها صورة.

نسيت ضحكتها، وجه أمها، رائحة الليمون في يديها، صوت القرآن حين كانت تبكي ليلًا...

ثم رأت نفسها في المرآة.

لكن لم تكن هي.

التي تنظر إليها كانت روحًا بلا جسد، ذات عينين من لهب، ووشم فرعوني فوق جبينها، وأجنحة سوداء كأنها نُسجت من ندم الخائنين.

مدّت تلك "الروح الأخرى" يدها من الزجاج، ولمّا لامست يد "روح"، خُدشت يدها فورًا، وخرج منها دخانٌ أحمر.

"أنا أنتِ... إن صدّقتِ."

قالت المرأة داخل المرآة.

فارتجّ المكان، وظهرت حولها كلمات محفورة على الجدران:

"من لا يواجه ظلّه، سُحِق بنوره."

زمن العودة

حين استيقظت، كانت جدران غرفتها مليئة بالرموز القديمة.

لم تكتبها، لم ترَ أحدًا يكتبها.

لكنها ظهرت.

استشعرت روحٌ داخلها تتقلب كالأفعى.

شيء ما استيقظ.

ليس شيطانًا، ولا ملكًا.

بل "نصفها الآخر" الذي خنقته طويلاً.

في صباح اليوم التالي، زارها شيخٌ في المنام.

كان رجلاً بلا عينين، يحمل في يده عصا من الذهب ومصحفًا مغطى بالنار.

قال لها:

"يا روح، نُفخ فيك من النور، لكن النور لا يصمد إن جهل مصدره.

أنتِ من نسل ملوكٍ خانوا العهد، وحُملتِ أمانةً لا تنكريها.

الزمان يُعيد نفسه، والذين خانوكِ، سيعودون... لا ليطلبوا المغفرة، بل ليأخذوا ما بقي منكِ."

استيقظت فزعة، فوجدت في يدها نقشًا جديدًا، لم يكن موجودًا بالأمس.

عين حورس، لكن مشقوقة من المنتصف.

ظهور محمد من جديد

في تلك الليلة، اتصل بها رقمٌ لم تره منذ شهور.

رقم "محمد".

ذلك الإنسيّ الذي ظنّت أنها دفنته خلف سبعة أرواح.

لم ترد، لكنها شعرت بخيطٍ يمتدّ من الهاتف إلى صدرها، وكأنّ روحه تسحب منها شيئًا.

وفي الليلة التالية، رأته في المنام.

لكن هذه المرة لم يكن كما تتذكّره.

كان جسده محاطًا بكائناتٍ رمادية، ملامحه باهتة، وفمه يخاطبها لكن صوته يخرج من جدار.

قال لها:

"روح... الماسة التي أعطيتني إياها... لم تكن حجرًا."

فانفجر حوله كل شيء.

الماسة، التي ظنّت أنها مجرّد رمز، كانت مفعّلة بروحها، مسكونة بأثرها، و"محمد" خان العهد واستخدمها لاستدعاء شيءٍ أعظم.

استيقظت "روح" وهي تتقيأ دمًا.

عهد المرايا

ذهبت إلى المقبرة القديمة، التي كانت تفرّ إليها في صغرها.

جلست قرب قبرٍ لا اسم عليه، حفرت تحته مرّة صندوقًا صغيرًا، وضعت فيه خصلتها الأولى، وكلمةً كتبتها ذات حزن: "يا رب لا تجعل قلبي حجرًا."

فتحت الصندوق...

كان كما تركته، لكن داخله ظهرت ورقة جديدة، مكتوبة بلغة لا تعرفها، وفيها ختم ذهبي على شكل هلال وثعبان.

وبينما كانت تنظر إلى الورقة، ظهر يعقوب.

أتى كنسمةٍ حادة، بردها يلسع.

جلس أمامها، وقال دون أن يحرّك شفتيه:

"هذا عهدكِ الأول، وقد نكثته حين أحببتِ من لا يعِد...

لكنكِ لم تنسي، ولهذا لم أنسَ أنا."

سألته والدموع تترقرق في عينيها:

"لماذا لم تنقذني منه؟ من محمد؟ من نفسي؟"

اقترب منها، وضع يده على كتفها، فشعرت أن جلدها يكاد يحترق:

"لأن من يُنقذكِ من الألم، يسرق عنكِ المعرفة.

وأنتِ، يا روحي، خُلقتِ لتعرفي، لا لتُنجَي فقط."

الصعود الثاني

في نهاية الليل، عادت المرآة السوداء لتزورها.

لكن هذه المرة، لم تكن تنظر فيها لتكتشف نفسها...

بل لتواجهها.

دخلت عالمها الطيفي بإرادتها، وقابلت تلك المرأة الجنيّة ذات الأجنحة السوداء.

لم تتراجع.

نظرت لها، وقالت:

"أنا من خانتني الأقدار، لكنني لم أخن قلبي.

وسأعيد الماسة من يد الخائن، وأطرد أثره من دمي."

ضحكت الجنيّة، ثم ضمّتها إلى صدرها، وقالت:

"إذًا... آن أوان الحرب."

واختفت، تاركة خلفها درعًا من الضوء، ونصلًا مكتوب عليه:

"اسمكِ نار، فكوني حربًا."

نهاية الفصل

في عتمة الغرفة، جلست "روح"، يدها ترتعش وهي تمسك بالنصل.

لم تعد فتاة تتلقى الرؤى فقط.

صارت مرآة... تُكسَر لتكشف النور داخلها.

لكنها لا تعلم أن كل مرآة تُكسر، تفتح بوابة.

والبوابة التالية... تؤدي إلى عالمٍ لا رجوع منه

             الفصل الثالث عشر من هنا

لقراءه باقي الفصول من هنا

تعليقات



<>