رواية ندبة روح
الفصل الثاني 2
بقلم نانسي عاشور
رائع، نتابع الآن
"بعض الأحلام ليست رؤى… بل استدعاءات من عوالم لم نُخلق لفهمها."
كان الصباح في القاهرة يشبه ألف صباحٍ قبله. لكن بالنسبة لـآدم، كان هذا اليوم مختلفًا تمامًا.
استيقظ وعيناه نصف مغمضتين، محاطًا بثرثرة المدينة: صوت الباعة، وضجيج السيارات، ورائحة الخبز المختلط بالغبار.
لكنه لم يكن حاضرًا في ذلك كله…
كان قلبه لا يزال عالقًا في الحلم.
بل ليس حلمًا…
نداء.
جلس على طرف السرير، يمرر يده على عنقه، حيث العلامة لا تزال موجودة. ليست وشمًا، وليست خدشًا… بل نقشٌ حقيقيّ تحت جلده.
تذكّره بصوتٍ سمعه في حلمه:
"روح… يا من وُسمت بالعهد."
نهض، ذهب إلى الحمام، غسّل وجهه كأنه يريد أن يُنقّي وعيه، لكن كل رشّة ماء كانت تُذكّره بصورتها.
فتاة لا يعرفها.
لم يلمسها.لم يتكلم معها.
لكنه رأى عينيها… وشيئًا ما في داخله احترق.
في الطرف الآخر من العالم… أو بالأحرى، على الحافة بين العوالم…
كانت روح لا تزال طافية في الدوامة الذهبية.
عالمها لم يكن واقعًا، ولا نومًا، بل حالة بين الموت والحياة.
كانت تُغني. لا بصوتٍ مسموع، بل بأنفاسٍ تُشقّ الحجب، كأنها ترتّل الشوق لشيءٍ لا تتذكره.
وكان يعقوب هناك.
يختبئ في ظلّها، يتسلّل عبر الفراغ، يراقبها دون أن يتدخل.
عينيه مليئتان برغبةٍ لا تنتمي إلى عالم الجنيّة، ولا الشيطانية، بل إلى عشقٍ محرّم.
في إحدى الرؤى، وجدت نفسها تمشي في معبد قديم.
الهواء مزيج بين الرماد والعطر، الجدران من حجرٍ محفور عليه تاريخٌ سريّ، والتماثيل تنظر إليها كأنها كانت تعرفها من قبل.
ظهرت الملكة نفرتارا فجأة، مرتدية ثوبًا أبيضًا وتاجًا مرصّعًا بالفيروز.
"أنتِ التي حفظتِ السر في دورتك الأولى، وحُكم عليكِ أن تحمليه عبر الزمان."
"أيّ سر؟ من أنا؟" سألتها روح، صوتها يرتجف.
"أنتِ التي كُتبت باسم النار ولم تحترقي. وعلامتكِ هي المفتاح."
رفعت الملكة يد روح، لتكشف عن الرمز ذاته: عين داخل دائرة، تحتها ثلاث نقاط.
"حين تُمسّ هذه الندبة، سيستيقظ من لا يسجد."
ارتجفت روح، وسألتها:
"يعقوب…؟"
"هو الساجدُ لغير السجود. الذي اختاركِ دون إذنٍ من السماء. احذريه… لأنه يحب، لكن حبه يأكل العالم."
استيقظت من الرؤيا، تنفّست بصعوبة.
لكنها لم تكن وحدها… كانت تشعر به.
يعقوب كان قريبًا.
كانت تحاول أن تصلي…
لكن كل سجدة كانت تجذب إليه انتباهه، كل ذكر يُثير غيرته.
كان يشاهدها من بعد، يتألّم بصمت، ويهمس:
"حتى صلاتكِ تُبعدك عني… فكيف لا أغار؟"
في مملكة الجن، تحت الجبل الذي لا يُرى، كان يعقوب جالسًا على عرشه.
عرشه من عظام الملوك الأوائل، تحيط به نار لا تُطفأ، وسيفه مغروس في الأرض، ينبض.
دخل عليه أحد أتباعه، جني طويل اسمه فَهِم، يلبس خوذة من رماد، وصوته جاف.
"مولاي، ممالك العدو تتحرّك. لقد علموا أنك أظهرت وجهك للبشر."
"فليعلموا." قالها يعقوب بنبرة باردة.
"الندبة تحرّكت، والعهد استُدعي. لن أسمح لأحدٍ بلمسها. لا إنسي، ولا جني، ولا حتى من نور."
"لكنها مسلمة، يا مولاي. قد تفتن بك… وقد تُصلب بك."
ضحك يعقوب، لكن ضحكته كانت مجروحة:
"هي تُصلّي… وأنا أُحارب الصلاة."
ثم وقف، اقترب من حافة القاعة حيث تُشرف النار على الظلال، وقال:
"لكنني أحبها… ولن أسجد لها."
في ذات الوقت، كان آدم يكتب في دفتره كلمات لا يفهم معناها، كأن يده تتحرك وحدها:
"هي الندبة… وهي السبب.
حُكم علينا أن نحرق، أو نُحرق.
يا من تسكنين النور… هل تعرفين من يحبك من الظل؟"
أغلق الدفتر، وحدّق في المرآة.
ثم رأى ظلًا خلفه…
ليس ظلّه.
بل ظلّ رجلٍ يملك عينين من نار.
