رواية مغرم مجنون الفصل السابع عشر17 والثامن عشر18 بقلم خديجة أحمد

رواية مغرم مجنون الفصل السابع عشر17 والثامن عشر18 بقلم خديجة أحمد
بعد ما خلص كلامه مع راكان، خرج عبدالرحمن من المكتب بخطوات واثقة.
ركب عربيته، صوت الموتور كأنه بيعكس اللي جواه… حماس ممزوج بمسؤولية تقيلة.
اتجه ناحية شركة راكان،.

وصل الشركة، نزل بهدوء،
دخل المكتب الكبير، مكتب راكان، وقعد على الكرسي وبدأ يراجع الأوراق اللي قدامه.

برا، كانت ياسمين  بتجهز الملفات اللي المفروض تسلّمها لراكان أول ما يوصل.
لما خلصت، اتجهت لمكتب راكان وهي شايلة ورق في إيدها.

 وقفت عند باب المكتب، لمحت عبدالرحمن قاعد مكان راكان.
قالت بنبرة فيها استغراب بسيط:
— هو مستر راكان مش هييجي النهارده؟

عبدالرحمن رفع عينه من على الورق، وقال بابتسامة:
— لأ، راكان مشغول شوية مع شغل أبوه، فهكون أنا مكانه الفترة دي.

دخلت وهي بتحط الورق على المكتب:
— تمام يا فندم… الورق كله مترتب، وده جدول الاجتماعات.

هو لمّ الورق وقال وهو بيبصلها بنظرة فيها هزار:
— تسلمي يا ياسمين… شكلك كده كنتِ مستنية تشوفيني من اخر مره.

رفعت له حاجبها وقالت وهي بتقف بثقة:
— مستنيّاك؟ أنا مستنية المرتب يا فندم، مش حضرتك.

ضحك وقال:
—  واضح إن لسانك دا هيفضل يتكلم دبش كدا

قالت بنبرة فيها ابتسامة خفيفة بس حازمة:
— اتعلمت أتعامل، عشان في ناس كلامهم ما بيخلصش.

ضحك وقال وهو بيهز راسه:
— تمام يا ست ياسمين، هحاول أقلل الكلام.

ردّت وقالت بسخريه وهي بتلف تمشي:
— جرب، بس لو قدرت.

خرجت ياسمين من المكتب بخطوات واثقة، ولسه ابتسامتها  الخفيفة بتلف في الجو.
عبدالرحمن فضّل متابعها بعينيه لحد ما الباب اتقفل وراها، وبعدها ساب القلم من إيده واتكأ على الكرسي، ابتسامة صغيرة طلعت غصب عنه.

عند راكان 

بعد ما خلّص راكان شغله، اتجه على طول للمستشفى، .

دخل راكان أوضة هاجر بخطوات تقيلة، التعب باين عليه من السهر والخوف.
الدكتور قاله إنها مستقرة… بس لسه في الغيبوبة.
قرب من السرير، قعد على الكرسي جنبها، مد إيده ولمس صوابعها بلُطف، حس ببرودتها فشد اللحاف عليها أكتر.

كان باصص لملامحها وهي نايمة، وشها هادي بس مجهد، شفايفها باهتة، وجفنها بيرتعش خفيف.
همس بصوت واطي جدًا:
— قومي يا هاجر… كفاية سكون بقى، تعبتي الكل حواليكي.

فضل قاعد كده وقت طويل، ماسك إيدها، صوته اتحشر لما قالها:
— لو كنتي تعرفي قد إيه خفت عليكي… كنتي فقتي بس عشان تقوليلي إنك بخير.

الوقت عدى، والتعب غلبه، فنام وهو قاعد جنبها، راسه مائلة على طرف السرير، وإيده لسه ماسكة إيدها.

الدنيا كانت هادية بشكل غريب، لا في وجع ولا صوت… بس في ثقل رهيب على جسمها.
فتحت عينيها ببطء، النور وجعها في الأول، وبعدين الصورة بدأت توضح.
سقف أبيض… جدران باهتة… ريحة مطهر قوي.
أول حاجة لمحتها كانت وش راكان، نايم جنبها على السرير، إيده ماسكة إيدها كأنه خايف تروح منه تاني.

قلبها وجعها قبل ما تفتكر كل حاجة.
افتكرت الصدمة، الصريخ، وجع القلب، والدم اللي كانت شايفاه قبل ما الدنيا تسوّد.
دمعة نزلت من غير ما تحس، ووشها اتقبض وهي تبصله.

"إزاي لسه قاعد جنبي بعد كل اللي حصل؟"
"إزاي بيبصلي كده، كأنه خايف عليّ وأنا السبب في نص وجعه؟"

حسّت بإيده وهي لسه ماسكاها بقوة، دفء غريب دخل قلبها، يمكن أمان، يمكن وجع تاني.
مدّت صباعها بخفة على إيده، كانت عايزة تشيله، بس قلبها منعها.
فضلت تبصله كأنها بتحاول تفهمه من جديد، ملامحه النايمة فيها تعب السنين، لكن فيها كمان حنية مخبيّة.

نَفَسها كان بطيء، بس عقلها فَوَق تمامًا…
عارفة هي فين، وعارفة كل اللي حصل، وعارفة إن اللحظة دي بداية جديدة، بس مش عارفة هتستحملها ولا لأ.

همست بصوت واهي:
— راكان…

فتح راكان عينه بسرعة، كأنه سمع نداء من عالم تاني، أول ما شافها بصّها مش مصدق.
وقف فجأة، عيونه بتلمع بدموع مكبوته:
— هاجر...؟

ابتسمت بخفوت، صوتها واهي وضعيف:
— شكلك اتفاجئت.

قرب منها بخطوة، قلبه بيدق بعنف، ما بين فرحة وخوف لا يوصف.
— الحمد لله... الحمد لله إنك فقتي، كنت فاكر...
كتم باقي الجملة، صوته اختنق قبل ما يكمل.

هي بصتله بهدوء، ملامحها فيها تعب كبير، بس كمان فيها راحة غريبة وهي شايفاه قدامها.
قالت بهمس:
— أنا سمعتك...
هو اتجمد:
— سمعتي؟
— كنت بتكلمني وأنا نايمة... كنت ماسك إيدي وبتعيط.

صمت ثواني، حرك نظره بعيد عنها، مسح دموعه بسرعة وقال بصوت واطي:
— كنت فاكر إني هفقدك... معرفش أعيش على فكرة وانتي مش هنا.

هاجر ابتسمت بخفة، دمعة نزلت من عيونها:
— طبعا كنت هتعيش إزاي من غير ما تتخانق معايا كل يوم؟

ضحك من قلبه، ضحكة مرتعشة لكنها صافية، وقرب منها وهو بيقول:
—  أوعدك إن المرة الجاية هنتخانق وإنتي فايقة مش نايمة.

ضحكت هي كمان، وغمضت عينيها لحظة، تحس بدفا غريب لأول مره من زمن
هاجر بعد ما هدت شوية، بدأت ملامح القلق تظهر على وشها وهي بتحاول تفتكر اللحظات الأخيرة قبل ما تفقد الوعي، صوتها طالع متردد ومليان خوف:
— هي ماما… مسألتش عليا؟

اتسمر راكان في مكانه، عيونه رمشت بسرعة، وصوته طلع متقطع وهو بيحاول يخفي توتره:
— لا، لسه…

هاجر بصت له بوجع خفيف، دمعة وقفت في عينيها وهي بتسأله:
— طب وبابا؟

ابتلع ريقه وقال بسرعة كأنه بيحاول يطمنها:
— بصراحة… أنا بعتله من فونك رسالة إنك بخير عشان ميقلقش.

هاجر ابتسمت ابتسامة باهتة، فيها شكر بس كمان فيها وجع:
— كويس…

سكتت لحظة، وبعدين قالت وهي بتحاول تقوم من السرير:
— أنا هروح هشوف حتة أقعد فيها، كفاية تعبك معايا كل دا.

اتحرك راكان بسرعة، وقف قدامها كأنه بيحاول يمنعها:
— إيه الكلام دا؟ طبعًا لأ، انتي هتفضلي معايا لحد ما تخفي خالص.

هاجر بصت له بحدة خفيفة وسخريه حزينة في صوتها:
— مش هينفع طبعًا أقعد معاك لوحدنا… ولا هتخطفني وتقعدني بالعافية تاني؟

كلامها نزل عليه زي السكين، حاول يتمالك نفسه وقال بصوت واطي، مليان خوف وصدق:
— هاجر، أنا مش عايز أوجعك تاني، أنا بس… خايف عليكي.
بصتلها وهو بيكمل:
— هتروحي فين؟ مين هيعرف ياخد بالك زيي؟ أنا هنا، وحابب أكون جمبك.

هاجر ردت وهي بتحاول تخلي صوتها ثابت رغم رعشة إيديها:
— برضه مينفعش نقعد فـ بيت واحد يا راكان…

هاجر بعد ما قالت كلمتها الأخيرة سكتت، بس عقلها فضل شغال.
كانت عارفة إنه عنده حق… هي لسه ضعيفة، ولسه كل حاجة جواها متلخبطة.
بس فكرة إنها تقعد معاه لوحدهم كانت عاملة زي حاجز جواها، حاجز بين الماضي اللي وجعها وبين الأمان اللي مش قادرة تنكره.

بدأت تفتكر…
كانوا قبل كل دا قاعدين في نفس البيت، هي ومامتها وجوز أمها وراكان.
هو كان دايمًا محترم، ما مدّش إيده عليها، ما حاولش يضايقها حتى وهي لوحدها معاه.
كانوا ساعات بيقعدوا يتخانقوا على اتفه الحاجات لحد ما أهلها يرجعوا، بس كانت بتبقى مستمتعه بخناقها معاه.
افتكرت نظراته ساعتها… كلها كانت خوف واهتمام ، مش رغبة ولا غدر.

تنهدت بهدوء وقالت وهي بتحاول تهدي الموقف:
— يمكن فعلاً عندك حق، أنا بس مش عايزة أتقل على حد…

بصتلها راكان بسرعة وقال بصدق:
— محدش بيتقل على حد لما يكون غالي عليه.

سكتت، قلبها دق دقة وجعتها، بصت له ثواني كأنها بتحاول تقرأ وشه وتشوف هل الكلام دا طالع من وجع ولا من حب.
وفي الآخر قالت بصوت واطي:
— خلاص، لحد ما أقدر أقف على رجلي… هفضل معاك.

ابتسم راكان ابتسامة صغيرة، كلها راحة، وقال بهدوء:
— الفيلا هتنور من تاني يا هاجر.

هي بصت له بنظرة فيها خجل وحنين متردد…
وكان جواها إحساس غريب، خليط بين الخوف من إنها تصدق تاني، والرغبة إنها ترتاح في حضن الأمان اللي افتقدته سنين.

كانت الشمس بتغرب لما العربية وقفت قدام بوابة الفيلا.
هاجر بصت من الشباك، قلبها اتقبض أول ما شافت المكان اللي شهد على كل حاجة… البداية والنهاية، الضحك والوجع.

دخلت بخطوات مترددة، كل خطوة كأنها بتمشيها فوق وجع قديم.
الفيلا كانت ساكتة، بس السكون فيها كان بيصرخ…
صور أميرة لسه متعلّقة في كل ركن، ضحكتها في الصور عاملة زي شبح جميل بيطاردها.

الريح خفيفة عدّت من الشباك، حرّكت طرحة كانت متعلقة على الكرسي… .

عينها وقعت على الطرقه… نفس المكان اللي اتكشفت فيه الحقيقة، نفس اللحظة اللي قلبها اتكسر فيها.
افتكرت صدمتها ف أمّها، الصوت، الجدال، دموعها وهي مش قادرة تصدق.
كل حاجة رجعت مرة واحدة، الوجع، الخوف، والتوتر. 

حطّت إيدها على صدرها تحاول تهدي دقّات قلبها اللي كانت بتجري،
بس الألم كان واضح في كل ملامحها…
كل زاوية في الفيلا كانت بتحكيلها حكاية موجعة،
وكل ذكرى كانت بتسحبها خطوة لورا، ناحية اللحظة اللي غيرت حياتها للأبد.

وقفت وسط الصالة، بصت حواليها وقالت بهمس شبه البكاء:
— نفسي الزمن يرجع قبل كل دا… قبل ما كل حاجة تتكسر.

فتح راكان كان واقف بهدوء  على بعد خطوات منها، وصوته واطي:
— هاجر…

اتجمدت شوية، قلبها اتقبض… بس لما بصت له، شافت عينه مليانة قلق واهتمام.
حركت شوية، وكأنها عايزة تهرب من كل ذكرى رجعت لها فجأة..

قرب منها خطوة، ورفع إيده بهدوء:
— مفيش حاجة دلوقتي… أنا هنا.

تنهدت بصوت مبحوح، دموعها بدأت تنزل، مش عارفة تقول كلمة واحدة.
هو حط إيده على كتفها بلطف، ماسكها كأن حضنه ممكن يمسح كل الألم اللي جواها:
— كل حاجة هتبقى تمام، مفيش داعي تخافي… أنا جنبك.

فتحت عيونها وبصّت له، لأول مرة حسّت بالطمأنينة بعد كل الوجع اللي مرت بيه.
همست بصوت ضعيف:
— أنا… خايفة.

ابتسم لها بخفة، وهدأ صوته وهو بيقرب أكتر:
— عادي… طبيعي. بس دلوقتي خلاص… انتي معايه متخافيش من اي حاجه.

وقفت شوية، راحت تحضنه لأول مره، هو شد حضنه حواليها بلطف، حسّت لأول مرة إن في حد حقيقي جنبها، مش بيتركها تواجه الألم لوحدها.(الغلبانه متعرفش إنه سايكو ومجنون)
الفيلا اللي كانت مليانة ذكريات موجعة فجأة بدأت تحس فيها بالدفء، وجوده حواليها خلى كل حاجة تقيلة تبقى أخف شوية.

بعد ما هاجر طلعت تستريح في أوضتها، راكان اتجه للغرفة اللي محبوس فيها نيهال وسمير.
الغرفة دي كانت  غرفه بعيده عن أعين حد، سُكونها يُدور جوه المكان شعور بالخوف والضغط.

المرة دي هو اللي فتح الباب بنفسه، دخّل بخطوات ثابتة، عيناه بتراقب كل تفصيلة قدامه.

لقاهم قاعدين على الأرض، شكلهم يثير الشفقة… بس هو كان مستمتع بالشكل اللي هما فيه.
سمير كان بيبصله بغضب، كل عضلة في وشه متوترة، مش قادر يخفي الاستفزاز.
نيهال كانت بتبصله بخوف، عينها مليانة رعب، وركبتها مرتجفة.

راكان وقف قدامهم، ضحكة قصيرة وقاسية على وشه، وصوته واطي لكنه مسيطر:
— ربنا دابّب فيكم الروح لغاية دلوقتي…بس يلا، كلها كام شهر ومش هتستحملوا، وربنا ياخدكم.

سمير حاول يتحرك، لكن الخوف كان ماسكه… ونيهال اكتفت بالارتجاف، وهي شايفاه قدامها، خوفها مسيطر على كل حاجة فيها!

سمير اتنفس ببطء، عيونه متقدة بالغضب:
— مش احنا السبب في موت أميرة؟

راكان ضحك ضحكة قصيرة وقاسية، وصوته واطي بس فيه استهزاء:
— بالله كفايه كدب بقى… أنا مش عيل صغير تضحك عليه بكلمتين، أنا عارف كل حاجة.

سمير تحداه بنظرة مليانة غضب:
— سألتني قبل كده… وقلتلي، هو الميت بيرجع تاني؟

راكان اتفرج عليه بسخرية، عيناه فيها لمعة تهكم:
— إنت ناوي ترجع امي للحياه من تاني ولا اي؟

ابتسم سمير ابتسامة مش مفهومة، وقال  بصوته منخفض:
— لو قولتلك إن أميرة لسه عايشة…؟

سكتت الغرفة لحظة… السكون كله

 اتكسر بنظرة راكان ليه، وابتسامته اتوسعت بسخريه:
— المفروض اصدقك؟

نيهال بتسرع، صوتها مرتعش:
— والله زي ما بيقولك كده… أميرة لسه عايشة!

راكان اتجمّد لحظة، ووجهه اتغيّر لونه، الغضب ماليه:
— إنتوا بتقولوا إيه؟ أنا بروح أزور قبرها كل يوم!
أزاي يعني لسه عايشة؟ شكل قعدتكم لوحدكوا خليتكوا تتجننوا… بس أحسن، زي ما جننتوها  زمان .... إنتوا كمان لازم تتجننوا؟!

نيهال اتقدمت بحذر، عيونها مليانة خوف ودموع:
— والله دي الحقيقة، يا راكان… أميرة بعد ما اتجنّت إحنا خفنا نخليها  معانا، ودينها لمستشفى العباسية… وهي دلوقتي هناك!

سمير قعد ساكت، ووشه مليان غضب وخوف في نفس الوقت، ما قدرش يرفع صوته.
راكان اتجمّد للحظة، عيونه ولّعت بالغضب، وصوته خرج جامد:
— إنتوا كدابين! أمي ماتت من أكتر من عشر سنين… إنتوا بتقولوا إيه دلوقتي؟
وصرخ فيها وقال:
—نفترض إنها عايشه ....أنا بزور مين كل يوم؟! مين اللي مدفون هناك؟!

نيهال انهارت بالبكاء:
— دي كانت جنازة صوريه… إحنا خفنا عليك، وخفنا الناس تعرف إنها اتجننت!

راكان بصّ لهم بصدمة، وشه شاحب وعيونه بتلمع بالذهول:
— يعني كل السنين دي… كنت بعيش في كدبة؟

سمير اتنهد، وصوته خرج مبحوح:
— إحنا اتعودنا على غيابها، على إنها مش موجودة… عشان كده مكنش  لازِم أقولك انها عايشة.

الكلمة دي كانت كفيلة تخلّي راكان يفقد السيطرة، ضرب الحيطة بإيده وقال بصوت مبحوح من الغضب:
— "اتعودتوا"؟! أنا كنت بموت كل يوم، وانتوا متعودين؟!

قرب منهم بخطوات تقيلة، كل خطوة فيها وجع وكره مكبوت:
— هتعرفوني دلوقتي عنوان المستشفى… وهشوفها بنفسي. ولو كلمة منكم طلعت غلط… والله ما هتشوفوا نور تاني

الفصل الثامن عشر18 

  
سمير رفع راسه وبصله بثبات، وقال بنبرة فيها عناد:
— بس مش هقولك غير لما نتفق الأول.

راكان بصله بحدة، صوته بدأ يعلى:
— نتفق على إيه؟

سمير بابتسامة خفيفة فيها تحدي:
— تخرجنا من هنا.

ضحكة قصيرة طلعت من راكان، ضحكة كلها سخرية واحتقار:
— هتفضل وسخ طول عمرك، مبتعرفش تعمل حاجة غير لما تقبض تمنها، حتى لو اللي قدامك بيتحرق!

كمل بصوت حاد ونظراته كلها تحدّي:
— أوعدك، لو كلامك طلع صح، هخرجك إنت والزبالة اللي جنبك من هنا.

نيهال رفعت عينيها له بضيق وقالت بحدة:
— بس إحنا مش واثقين فيك، إنت ممكن تغدر ومتخرجناش.
إيه اللي يضمنلنا إنك مش هتغدر؟

راكان ابتسم بسخرية وقال بنبرة غيظ:
— مفيش حاجة تضمنلكوا...
زي ما مفيش حاجة تضمنلي إن أمي لسه عايشة.

وقف قدامهم خطوتين، عيونه بتقعد فيهم وحدة وحدة:
— اللي أضمنهلكم دلوقتي إنّي هروح العباسية وأشوف بعيني. هاتوا اسم المستشفى، رقم الملف، واسم المريضة اللي سجلتوها بيه — دلوقتي.

سمير وقع منه نفس طويل، وقال:
— اسم الملف ... مش باسمها أصلاً، سجلناه باسم «منى عبدالله »، رقم الملف 3890، قسم الأمراض النفسية

راكان بص في وش سمير بنبرة تهديد ما فيهاش هزار:
— وخلّوا بالكم، لو طلعت الكذبة دي حقيقية، أنا هطلعكم من هنا… ولو طلعت مش كده، هتعرفوا معنى كلمة "عقاب".

وخرج راكان وقفل الباب وراه بقوة، صوت القفل وهو بيتقفل دوّى في المكان وساب وراه صمت ثقيل.
خطواته كانت سريعة وغاضبة وهو ماشي في الممر، عروقه باينة في رقبته من شدة العصبية.

قبل ما يروح، وقف قدام باب غرفة هاجر.
مسك مقبض الباب بثبات، تنفس بعمق كأنه بيحاول يسيطر على غضبه...
وبهدوء دخل.

كانت هاجر قاعدة في هدوء قدام الشباك، ضوء الشمس داخل خفيف على وشها، والسكينة مغلفة الأوضة.
لما لمحت راكان داخل، ابتسمت له ابتسامة دافية خففت من قلقه لحظة.

راكان وقف عند الباب وقال بصوت منخفض:
— يا رب تكوني بخير.

هاجر بابتسامة بسيطة:
— الحمد لله... بقيت أحسن دلوقتي.

قرب منها بخطوات بطيئة، وقعد  على السرير، ملامحه فيها حزن واضح وقال بنبرة مبحوحة:
— أنا متوتر أوي يا هاجر.

هاجر استغربت نبرته، قربت منه وقعدت مقابله، عينيها بتدور على السبب:
— من إيه؟

اتنهد وقال بعد تردد:
— سمير قالي إن أميرة... لسه عايشة.

هاجر فتحت عينيها بصدمة:
— إزاي؟!

راكان بص لتحت، صوته مليان قلق:
— معرفش... قال كلام غريب. بيقول إنها في مستشفى للمجانين... وأنا مش عارف أصدق ولا لأ، بس قلبي خايف

هاجر بصت له بنظرة مليانة قلق وحزن:
— خايف يكون كلامهم صح وتشوفيها في الحالة دي... ولا خايف يكون كلامهم غلط ويختفي منك الأمل اللي كان باقي عندك؟

راكان اتكتم شوية، وعيونه بترمش ببطء وهو بيفكر:
— الاتنين... خايف أشوفها في حالتها دي، خايف ما تفتكرنيش ، وما تتقبلنيش...
وخايف برضه يكون كلامهم غلط، وتضيع مني فرصة أشوفها تاني.

سكت للحظة، وبص بعيد من الشباك، وكأن قلبه بيتقسم بين الألم والأمل.

هاجر قربت منه وحطت إيديها على يده بلطف، عيونها مليانة حنية:
— راكان... حتى لو كلامهم صح، مش لوحدك. أنا معاك، وهتلاقي طريقة تواجه كل ده.

راكان شال إيدها بحذر، وابتسامة ضعيفة ظهرت على وشه رغم القلق اللي جوّه:
— بس ... لو  اتغيرت ... لو ما قدرتش تفتكرني؟

هاجر هزّت راسها بثقة:
— مش هيتغير شيء... المواقف واللي جوّا قلبها مش هيتمسحوا بسهولة.
— وأنا هنا... عشان أتأكد إنك مش هتكون لوحدك في كل ده.

راكان بص لهاجر بعينين مليانين أمل وقلق:
— تيجي معايا نشوفها؟

هاجر ابتسمت بابتسامة هادئة:
— المقابلة دي خاصة بيك إنت ومامتك… لازم تاخدوا راحتكم مع بعض من غير أي عائق بينكم.

راكان ابتسم بخفة:
— وجودك عمره ما كان عائق.

هاجر هزّت راسها بخفة:
— فاهمة… بس برضه لازم تكون اللحظة خاصة بيك إنت وهي بس… ومفيش حد تالت معاكم.

راكان نفخ نفسه شويّة، وفهم الرسالة:
— تمام… أنا هروح دلوقتي. ادعيلي.

هاجر ابتسمت بحنان:
— إن شاء الله هترجع مجبور الخاطر.

وقف راكان عند الباب، قلبه مليان قلق وأمل في نفس الوقت، وبخطوات ثابتة خرج عشان يواجه الحقيقة اللي منتظراه عند أميرة.

ركب راكان عربيته، شغّل المحرك وبدأ يتحرك في الطريق، لسه ذهنه مشغول باللي جاي.
قطع شروده صوت الموبايل، كان عبدالرحمن بيتصل.

راكان رد وهو بيحاول يخفف توتره بابتسامة:
— الحمد لله بخير، إنت؟ إيه الدنيا؟ روي مضايقك تاني؟

عبدالرحمن ضحك وقال:
— لا يا عم، دا بيحبني أوي!

راكان ضحك وقال بنغمة سخرية لطيفة:
— آه ما أنا عارف، بأمارة العضّ اللي كان بيعضّهولك وإنت بتأكّله!

عبدالرحمن ضحك وقال:
— إيش فهمك إنت؟ دي محبّة!

راكان ضحك أكتر، وقال وهو بيعدّل في المراية:
— يا عم ماشي، ع العموم أنا رايح مشوار كده، وبعدها هرجع آخده، هاجر أكيد وحشها… أفرّحها شوية.

عبدالرحمن:
— اشطا يا عم، مستنيك.

قفل راكان الموبايل، والابتسامة لسه ع وشه، بس عيونه كانت رايحة بعيد… ناحية المستشفى اللي فيها الحقيقة كلها.

عند عبدالرحمن

كان قاعد على الكرسي، بيبص لـ روي اللي كان واقف قدامه، عيونه كلها شر خفيف وكأنه ناوي يعضّه.
عبدالرحمن رفع إيده بحذر وقال بخوف:
— لا، بقولك إيه… كفاية عض النهارده!

روي بدأ يقرب منه بخطوات بطيئة، فـ عبدالرحمن اتراجع وهو بيحاول يضحك بخوف.
مد إيده بسرعة، خد شوية دراي فود من العلبة، وحطهم قدامه على الأرض.

روي شمشم فيهم، وبعد لحظة بدأ ياكل.
ابتسم عبدالرحمن وقال بنبرة مزاح:
— أهم حاجة رضاك يا باشا.

وفجأة، قطع كلامه صوت الباب وهو بيخبط جامد.
وقف عبدالرحمن متوتر، اتجه ناحية الباب بخطوات حذرة…
ولما فتح، الصدمة اتجمّدت على وشه وهو بيبص قدامه:
— إنت؟!

عند هاجر

كانت قاعدة في أوضتها، بتكتب حاجة في مذكرة صغيرة .
خلصت آخر سطر وسكرت القلم، تنهدت وقالت لنفسها بهدوء:
— زهقت.

وقفت وخرجت من الأوضة تتجول في الفيلا، لحد ما وصلت للجنينة.
الهوا كان لطيف، وريحة الورد مالية المكان.
البودي جاردز كانوا لسه واقفين قدام البوابة الكبيرة، لكن هي ما اهتمتش.

اتجهت ناحية كرسي خشب تحت شجرة، وقعدت عليه بهدوء، عينيها سرحت في السماء، بتفكر في كل حاجه ف حياتها الجايه ف وجعها ف مرضها ف العزله اللي هي عايشة فيها هي آه مستريحه لكن برضه حاسه ان في حاجه ناقصاها .

عيون هاجر كانت متركزة قدامها، سرحانة في اللا شيء…
لكن فجأة، لمحت من بعيد باب حديد رمادي غامق، مقفول بإحكام.

رفعت حاجبها باستغراب، قلبها دق بخفة وهي بتقول في نفسها:
_باب حديد؟ هنا

الفضول شدّها غصب عنها.
الفيلا كلها أبوابها خشب عادي، نفس اللون ونفس الشكل…
إلا الباب ده، شكله غريب ومختلف كأنه بيخفي وراه سر محدش يعرفه.

قامت من مكانها بخطوات بطيئة، كل ما تقرب منه بتحس إن الجو حواليها بيهدى أكتر، كأن الصمت نفسه واقف بيتفرج عليها.

قربت هاجر من الباب الحديد، مدّت إيدها ناحية المقبض لكنها لاحظت إنه مقفول من برّه بقفل كبير.
تنهدت بخيبة أمل وبدأت ترجّع خطوتها الورى...
لكن فجأة، سمعت صوت جاي من جوّا الغرفة!

اتجمدت مكانها، قلبها بدأ يدق بسرعة.
قربت تاني من الباب، حطّت ودنها عليه، وإيدها بترتعش من التوتر، بتحاول تميّز الصوت.

وفجأة...
اتسعت عينيها بذهول!
الصوت ده... صوت نيهال!
آه، متأكدة منه، حافظاه حرفيًا... ومعاه صوت رجولي!
عمو سمير!!

شهقت بخوف وحطّت إيدها على بقها بسرعة عشان ما يطلعش صوتها.
دموعها لمعت في عينيها وهي بتحاول تستوعب اللي سمعته.

رجعت خطوة، وبعدها جريت بعيد عن الباب، قلبها هيولع من السر اللي شافته وسامعاه.
اتجهت بسرعة ناحية البوابة، نفسها متقطع، وصرخت للبودي جاردز:
— افتحولي الباب! أنا عايزة أخرج من هنا فورًا!

أحد البودي جاردز قال بثبات:
— عندنا تعليمات إن حضرتك ما تخرجيش من هنا.

هاجر بصوت عالي ومرتجف:
— أنا بقولكم خرجوني من هنا!!!

بودي جارد تاني قال بخوف واضح:
— والله يا فندم دي تعليمات، ولو خالفناها... عيشنا ممكن يتقطع!

هاجر بصتلهم بعيون مليانة قلق ورعب، رجعت خطوتين لورا، نفسها بدأ يتسارع، وعقلها بيجري بألف فكرة.
إزاي نيهال وسمير هنا؟!
هو راكان مش خلّص انتقامه خلاص؟ مش كشفها قدامي؟!
ولا اللي حصل كان مجرد البداية بس؟!

حست بخوف غريب بيزحف جواها، إحساس إنها يمكن تكون الدور الجاي…
رفعت عينيها ناحية البوابة اللي مقفولة بإحكام، قلبها بيخبط في صدرها وهي بتفكر:
يا ترى… هيعمل فيا كده زي ما عمل فيهم؟!

الهوى بقى تقيل، وكل صوت حواليها اختفى، كأن الفيلا كلها حبست نفسها في صمت مرعب.

عند عبدالرحمن
فتح الباب وهو مش متوقع حاجة… لكن لما شاف ياسمين قدامه، اتجمد مكانه.
عيونه اتسعت، وكأن الزمن وقف لحظة.
ياسمين…
اللي عمره ما شافها غير في صورة البنت الهادية، المرتبة، اللي كل تفصيلة فيها محسوبة — دلوقتي واقفة قدامه، باصة في الأرض، شعرها منكوش، هدومها شبه مقطوعة، ووشها كله كدمات.

اتسحب صوته وهو بيقول بصدمة ووجع:
– ياسمين؟ إيه اللي حصل لك؟!

هي ما ردتش، بس دموعها كانت كفاية رد.
مد إيده ناحيتها بخوف، وكأنه بيخاف تتهشم لو لمسها.

عبدالرحمن دخلها بسرعة، وقعدها على أول كنبة قريبة، عيونه ما سابتش وشها لحظة.
قعد جنبها وهو بيقول بصوت مليان قلق:
— إيه دا؟ إيه اللي حصلك يا ياسمين؟

مدّ إيده ناحية الكدمة اللي على خدّها، لكنها سحبت نفسها بخوف واضح.
وقف لحظة، وبصوت أهدى قال:
— طيب اهدي… احكيلي، إيه اللي حصل؟

فضلت ساكتة ثواني، وبعدين صوتها اتكسر، والدموع نزلت من غير سيطرة.
— ابـ… ابن عمي جه البيت… قالّي لازم أعيش معاهم، وإني مينفعش أفضل لوحدي بعد ما بابا وماما ماتوا.
بلعت ريقها بصعوبة، وكملت بصوت بيترعش:
— لما رفضت… شدّني جامد، كان عايز ياخدني بالعافية، ولما قاومت… ضربني…

غطّت وشها بإيديها وهي بتبكي بحرقة، وصوتها اتكتم بين شهقاتها.
عبدالرحمن كان واقف مش قادر يصدق، الغضب والوجع متحاربين في عينيه.
عبدالرحمن بصّ لها باستغراب ممزوج بقلق:
— بس باباكي ومامتك متوفين بقالهم كتير… إيه اللي فكره بيكي دلوقتي؟

ياسمين هزّت راسها بسرعة، ودموعها بتنزل من غير ما تحاول تمسحها:
— معرفش… معرفش، يمكن عشان سمع إني بشتغل، يمكن عايز مني حاجة… أنا مش فاهمة حاجة يا عبدالرحمن!

قالت الجملة الأخيرة بصوت عالي مليان قهر، وقامت من مكانها وهي بتتمشى في الصالة بخطوات متوترة.
عبدالرحمن وقف ببطء، قرب منها وقال بهدوء وهو بيحاول يطمنها:
— خلاص يا ياسمين، اهدي. طالما انتي هنا، محدش هيقدر يقربلك… أنا مش هسيبك لوحدك تاني، تمام؟

بصّت له بعينين حمرا من البكا، وقالت بصوت واطي:
— أنا خايفة… خايفة يرجع تاني.

عبدالرحمن شدّ نفسه وقال بصرامة وهو بيبصلها بثبات:
— لو رجع… هيكون هو اللي لازم يخاف.

عند راكان

وصل المستشفى أخيرًا، قلبه مقبوض من التوتر والقلق.
دخل بخطوات بطيئة، كل خطوة كأنها تقربه من الحقيقة اللي خايف يشوفها.
الممر الطويل كان ساكت، صوت خطواته يتردد على الأرضية المبلطة، والهواء جاف وريحه المطهر تعبّيه.

بدأ يتجول بخفة بين الممرات، يبص على الأبواب، يحاول يفتكر كل كلمة قالها له سمير عن الغرفة والرقم.
كل ثانية كانت بتزيد قلقه، وكل غرفة كان بيعديها حس قلبه يدق أسرع.

وقف عند الباب رقم 3890 نفس الرقم اللي عنده من الورقة.
مدّ إيده ناحية المقبض، تنفس بعمق، وهمس لنفسه:
— يا رب تكوني بخير… ويارب متكونيش تعبتِ طول الوقت ده.

وببطء فتح الباب… 

تعليقات



<>