رواية ندبة روح
الفصل الرابع عشر 14
بقلم نانسي عاشور
النور الذي يشبه النار
لم تعد "روح" كما كانت.
الفتاة التي كانت تبكي لأجل رسالة، تنتظر صوتًا، تلهث خلف حبٍ هش… اختفت.
والتي نهضت من بين الرماد، لم تكن سوى شظايا معاد تشكيلها من الألم.
شظايا لامعة، لكنّها حادّة.
في صباح يوم جديد، جلست على سجادتها، رجلها اليسرى لا تزال مشلولة، لكن صدرها كان ينبض بنداءٍ خافت:
"الله أكبر..."
كانت المرة الأولى التي تصلي فيها منذ أيام.
صلاة خالية من الطلب.
مليئة فقط بالصمت… والصدى.
تحوّل المسار
شيء ما تغيّر.
حين سجدت، شعرت أن جسدها الثقيل صار خفيفًا، أن روحها التي كانت تتشبّث بالعلاقات، بدأت تتشبّث بالله.
لم تطلب شفاءً.
لم تطلب أن يعود محمد.
لم تطلب أن تُنسى الخيانة.
بل فقط همست:
"يا رب، اجعلني نورًا ولو احترقت."
وفي ذلك الدعاء، بدأت معالم جديدة تتشكل في باطنها.
لم تعد بحاجة لأحد.
لكنها بدأت تحتاج إلى شيء أعمق… إلى حضورٍ لا يخذل.
قوة الصمت
في أيامها التالية، لم تتحدث كثيرًا.
من زارها، وجد عينيها مختلفتين.
هادئتين… لكن فيهما شرر خفي.
الناس بدأوا يشعرون بشيءٍ غريب حولها.
ممرضة همست لأخرى:
"كلّما دخلت غرفتها، أشعر أن الزمن يتوقف."
وطبيبة الأورام كتبت في مذكرتها:
"هذه الفتاة تشعّ بهالةٍ عجيبة.
أشعة الورم لا تتراجع بعد الجرعات… لكنها لا تنتشر أيضًا.
وكأن جسدها يقاوم بنظام غير معروف."
لكن روح كانت تعرف.
لقد بدأت تبني سياجًا نوريًا حولها.
كل صلاة كانت ترسم دائرة غير مرئية.
وكل آيةٍ تتلوها، كانت تضع سيفًا آخر في يدها الغيبية.
الغضب الناري
رغم النور، لم تكن روح خالية من النار.
على العكس.
غضبٌ مكبوت بدأ يتكاثف داخلها، لكنه ليس غضبًا بشريًا.
كان حريقًا نقيًا، لا يريد الانتقام فقط… بل يريد العدل.
كانت حين تغضب، تحترّ الغرفة من حولها.
الأجهزة تصدر ذبذبات، المصابيح ترتج، والهواء يصبح أثقل.
قالت لها الممرضة ذات صباح:
"أشعر أحيانًا أنكِ تحلمين نارًا، أليس كذلك؟"
أجابت بهدوء:
"أنا لا أحلمها… أنا أكونها."
الذين يحاولون الاقتراب
بالتوازي، بدأ يظهر في حياتها غرباء.
وجوه جديدة، لكنها مألوفة… وكأنها رأتهم في حياة سابقة.
شابٌ يُدعى "سليم"، طبيب متدرّب، كلما رآها، شعر برجفة في قلبه.
لم يفهم لماذا يحلم بها وهي تلبس عباءة بيضاء وتحمل سيفًا من نار.
طالبة روحانية جاءت تزورها صدفة، وقالت:
"أنتِ من المنام... رأيتك منذ عامين تحملين طفلًا من نور، وتبكين أمام بحر من دم."
حتى سائق الإسعاف الذي نقلها ذات مرة، عاد بعد أيام يسأل عنها.
قال إنه رأى حلمًا غريبًا:
"كنتِ تطيرين فوق مدينة سوداء، وكنتُ أتبِعك… ثم سقطت."
لكن روح كانت تكتفي بالصمت.
لا تخبر أحدًا.
لا تُشير.
فهي تعلم… أن هؤلاء بدأوا يرون ما لا يُفترض أن يُروا.
وأنهم اقتربوا من مدارها الناري دون وعي… فإما يحترقون، أو يستفيقون.
الاختبار الأول
في ليلةٍ مقمرة، سمعت طرقًا خفيفًا على باب غرفتها.
دخلت فتاة تُدعى "هالة"، من طاقم التنظيف.
قالت بخوف:
"أنا آسفة، لكن حلمت بكِ البارحة.
كنتِ تبكين، وتنادين اسم محمد… ثم نظرتِ لي وقلتِ: لا تقتربي من مياهه، إنها مسمومة."
تجمدت "روح".
لم تقل شيئًا.
لكنها عرفت أن "هالة" تمشي فوق حقل طاقي خطير.
وأن أثر محمد، حتى وهو بعيد، ما زال يتسرّب في الأرواح التي لم تطهّر نفسها.
أغلقت "روح" عينيها، وبدأت تتلو آيات لم تقرأها منذ شهور:
"وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ..."
تجلٍّ آخر
في الليلة ذاتها، وفي عالمها الطيفي، ظهر كائن جديد.
شابٌ له عيون ذهبية، جلد أسمر كتمثال فرعوني، وجناح واحد مكسور.
قال لها:
"أُرسلت لأحذّرك... هناك من سيحاول التقرب منكِ باسم الشفاء، وهو يحمل لعنة.
النور الذي تصنعينه، لا يُرضي الظلال التي تعرفك."
قالت له:
"أنا لا أخاف بعد الآن."
فابتسم وقال:
"إذًا أنتِ اقتربتِ من درجتك.
والدرجات العليا... وحدها من ترى من هم في الأسفل، لكن لا تسمح لهم بالصعود بسهولة."
واختفى.
نهاية الفصل
جلست "روح" في غرفتها، وحدها، وبجانبها مصحف صغير، ونصف ماسة.
قالت بصوتٍ خافت:
"لن أحبّ أحدًا قبل أن يُطهّرني الله.
ولن أسمح لأحد بالاقتراب من حجرتي النورانية… إلا من وُلد في ذات النار."
ثم نظرت إلى يدها المرتجفة، وابتسمت للمرة الأولى منذ شهور:
"من النار جئتُ... وبالنور أعود.
لكن ويلٌ لمن يظنّ أن النور لا يحرق."
