رواية ندبة روح
الفصل الثالث والعشرون 23
بقلم نانسي عاشور
"تدلّلي، فإن عشقكِ خاطري..."
لنغوص الآن في قلب الظلمة حيث يقف النور وجهًا لوجه مع صمت الذاكرة...
الفصل الثالث والعشرون (مُوسّع): معبد الصمت
لم تكن الرمال التي مشت عليها "روح" مجرد رمال، بل ذرات من زمن قديم، حاملة لأصداء أرواح اندثرت ونداءات لم يسمعها أحد.
كلّما اقتربت من البوّابة التي لا تُرى، كانت الرياح تُحدّثها، لا بالكلمات، بل بنبضاتٍ غير منطوقة، كأن الأرض تعرف من تمشي فوقها.
"أنوبيس" قال لها قبل أن تخطو:
"حين تصمت الأشياء، يعلو صوتكِ الداخلي.
وما ستقابلينه في المعبد… هو أنتِ."
ومع الخطوة الأولى، اختفت الأرض.
وهبطت "روح" كما لو أنها سقطت في حلم.
الهبوط لم يكن سقوطًا، بل مرورًا عبر وعيها… طبقة بعد طبقة.
فتحت عينيها لتجد نفسها في قاعة لا جدران لها، ولا سقف.
الفضاء من حولها ممتدّ، لكنه لا يمنح حرية… بل يُغلق عليها كما تُغلق المرآة على مَن يحدّق فيها طويلًا.
في منتصف القاعة، انتصب عمود نور، ومن داخله خرج إنسيّ، لا يشبه سائر البشر.
كان شابًا جميل الوجه، ذو ملامح رقيقة بعينين بلون الفجر.
يمشي نحوها وكأن خطواته تُشفّي الأرض.
لم يكن خيالًا… بل طيفًا محسوسًا.
قال لها بصوت خافت، لكنه حنون:
"أنا لست ماضيكِ… بل احتمالكِ. أنا ما كان يمكن أن يكون."
أحسّت به… كأنه جزء منها.
تابع:
"كنت أبحث عنكِ حتى قبل أن أعرف اسمك.
كل الحكايات التي قرأتها عن الملكات، لم تكن تُقنعني، حتى سمعت عنك.
فأحببتكِ قبل أن أراكِ… أحببت ظلّكِ في الكتاب."
اقترب منها، ومدّ يده نحوها.
"دعيني أكون نورك. لن أؤذيكِ، ولن أخذلكِ."
نظرت إليه… وكانت تتمنى أن تصدّق.
لكن قلبها لم يعد كما كان.
ذاك الجزء فيها الذي كان يُصدّق الوعود، مات حين طُعنت من أحبّتهم في العصور.
همست، بصوت مكسور لكنه حازم:
"ربما كنتَ صادقًا…
لكني فقدت الثقة، لا فيك، بل في فكرة الأمان ذاتها.
أنا لم أعد أُحِبّ بسهولة، ولا أُصدّق دفء الكلام."
سحب يده بهدوء، وابتسم حزنًا.
ثم قال:
"لهذا السبب بالذات، ما زلتِ حيّة… وما زلتِ ملكة."
واختفى كما جاء…
رائحة العطر التي تركها من بعده كانت تشبه طيفًا لم يكتمل.
في الزاوية الأخرى من المعبد، ظهر "يعقوب".
كان هناك منذ البداية، لكنه لم يتدخل.
عيناه تُراقبها، قلبه يذوب، لكن كبرياءه يحترق في صمت.
اقترب منها، وسألها بهدوء:
"لماذا لم تتركيه يمسك يدك؟"
قالت وهي تنظر إلى الفراغ الذي اختفى فيه الإنسيّ:
"لأني لا أريد أن يلمسني وهم جديد…"
اقترب أكثر، ولمس كتفها برقة، وهمس في أذنها:
"تدلّلي، فإن عشقكِ خاطري…
ولو فقدتِ الثقة في العالم، فثقي بي، أنا ظلّكِ، أنا يقينكِ حين يتعب اليقين."
نظرت إليه…
لم يكن فقط "يعقوب"، بل الكائن الوحيد الذي لم يسألها شيئًا إلا بعد أن أعطاها كل شيء.
في تلك اللحظة، بدأت الأرض تهتزّ تحت أقدامهم.
تشقّقت الأرضية، وارتفع من جوف المعبد حجر صغير، عليه رمز "عين الروح".
كان ذلك مفتاح المعبد الأول… وعلامة على أنها اجتازت الصمت، وواجهت قلبها.
التقطته "روح"، وشعرت برجفة دافئة تسري في جسدها.
كأن المعبد باركها… أو حذّرها.
قال أنوبيس، وقد ظهر مجددًا:
"معبد الصمت أُغلق… لكن الثمن هو أن تحملين داخلكِ المزيد من الأسئلة."
نظرت "روح" إلى المفتاح، ثم إلى يعقوب، ثم إلى أعماقها.
وأجابت:
"وأنا مستعدّة للإجابات، مهما كانت مؤلمة."
