رواية دعيني ابرئ اسقامك الجزء الثاني2 من لطيفها عاشق الفصل الاول1 بقلم سميه رشاد

رواية دعيني ابرئ اسقامك الجزء الثاني2 من لطيفها عاشق الفصل الاول1 بقلم سميه رشاد 

فتاة مُلقاه على فراشٍ تغير لون دثاره من كثرة استخدامه، ملامحها صفراء شاحبة وكأنها فارقت الحياة لتوها، شفتاها الورديتان دائمًا فرت الدماء منهما لتحيل إلى لون قاتم قارب البنفسجي، أنفها المرتفع دائمًا بشموخ يبدو أنه سقط من الطابق العشرون ليبدو صغيرًا لهذه الدرجة، وكأنه ينكمش بذاته خزيًا مما ألمَّ بصاحبته، عيناها اللامعتان بحيوية تبرز من بندقيتيها؛ مغلقتان بفعل المنوم وكأنهما عاجزتان عن العودة للحياة ومواجهة قدر تراه قاسيًا تفضل الموت عليه.


يجلس أمامها أحد الشباب منكسًا رأسه إلى الأسفل، وذراعيه تسند رأسه خشية سقوطها من ثقل الهموم التي تحملها بداخلها، لا يصدق أنه فعل بها هذه الجريمة، لقد ذبحها! بالفعل هذا ذبح، أهذه ريهام التي كان يراها كقطعة من الماس لا يجرؤ على لمسها؟ 


ضرب رأسه بيديه عدة مرات كلما استشفى حجم مصيبته التي شكلتها يداه، ولكن أيجدي الندم نفعًا بعدما زلت القدمين في ظلمات الرذائل؟!

اقشعر بدنه بارتعاب فور وصول أنينها المتألم إلى أذنيه، لازمتها عيناه المذعورتان وهي ترمش جفنيها تحاول فتحهما برفق أجبرتها عليه آلامها، ارتسم الضيق على وجهها عقب تذكرها لكابوسها المريع التي كانت تصارعه، فتحت عينيها على وسعهما وهزت رأسها بهستيرية فور انتباهها للمكان الذي كان يشهد على كابوسها. 


انتفض واقفًا عقب وقوع عينيها عليه، رمقته بنظرة ارتشقت بصدره كالسهام الحادة الملوثة بآثام ذنبه، نظرة لم تقلّ حسرة وقهر عن ما نطقت به الصرخة التي تبعتها، لا يعلم ماذا يفعل، وماذا يقول؟! مشتت ذهنه، وصراخها الذي يتناغم مع بكائها الموجع للقلوب يزيد من تشتته. 


حاول الاقتراب منها بعدما استقام واقفًا إلا أن صراخها بدأ في التصاعد أكثر من ذي قبل فتقهقر خطوتين إلى الخلف وهو يشير بيده يحاول طمأنتها ولسانه يردد: 

- اهدي.. مش هقرب لك تاني والله.. ما هعمل حاجة خلاص اهدى. 


ولكن أيوجد للهدوء مكانًا بقاموس الانتهاك؟! ألِنور الطمأنينة محل بين ظلمات الرعب الحالكة السواد! 


ساعة مرت والحال ذاته لم يتغير، لم يفعل سوى أن خرج واقفًا أمام الغرفة؛ لعل هدوءها يجد مكانًا يرسو بأحماله فوقه، إلا أن هدوءها يبدو وكأنه ضل الطريق فلا يجد أي مرسى. فكر قليلًا قبل أن يخطو ببطء تجاه الغرفة لتبرق عيناها برعب فور دخوله فنطق بما ظنه سيبهجها: 

- متخافيش أنا مش هسيبك .. هنتجوز والله ومحدش هيعرف بحاجة.. متخافيش. 


انتظر ردها وليته ما انتظر، فلم تفعل سوى أن رفعت يديها على وجهها وظلت تلطمه بقوة وتخدش وجهها بأظافرها، وكأنها هكذا تنتقم من بدنها الهزيل على ضعف لم يمكنها من مقاومته، بسبب مخدر لعين حقنها به ليتمكن من فعل ما يريد. 


اقشعر بدنه فور رؤيته لرد فعلها القاسي هذا، حتى أن عيناه أدمعتا تأثرًا بها، لم يكن يريد أن يؤذيها هكذا، بل لم يخطط يومًا ليشعرها بالحزن فكل مخططاته كانت تدور حول كيفية إسعاد ريهام ولكن ماذا يفعل؟ لم يكن أمامه طريقة لنيلها سوى ما فعل، فقد تقدم لخطبتها ما يزيد عن عشر مرات، ولم يلقَ طلبه سوى رفضًا حتى بات يغازلها كلما رآها علها تلين، ولكن أيضًا لم يجد أي استجابة حتى جن بأحد الأيام، وجذبها من مرفقها مهددًا إياها بكلمات قاسية ولم تلن أيضًا، إلى أن جن جنونه بالأمس وهو يستمع إلى أحد الشباب يردد بأنه يريد أن يتقدم لخطبتها؛ فخطفها دون تفكير في العواقب، وفعل بها ما فعل كي لا تجد ملجأ سواه  وسيكون أكثر من مرحب باحتضانها آنذاك.

**************

(شمس أيامي كما أسميتك منذ ولادتك، ترأفي بحالي وعودي لقلب تعلقت نبضاته بابتسامة ثغرك التي تكبلني بأسرها، فها أنا وفؤادي حائرين،  لا ندري أنقف على أعتاب أبواب الهم أم السعادة، نحن بحاجة لإمائة من رأسك لتكون دليلًا لنا فنختار أي السبل سنختار، فقط اغفري لي ذلتي وعودي كما كنتِ؛ شمس أيامي وضياءها الذي انقطع عني كضياء عين يعقوب حينما فقد يوسف، فبِتُّ أعيش في سؤادٍ حالك بانتظار دعوتك للتنعم بنور قلبك مرة ثانية وأخيرة، فإن واتتني الفرصة مرة أخرى؛ فحتمًا لن أفلتها ولو على حد السيف..

..حبيبك الأبدي والوحيد، مهدي الصبَّاح)


ها هي الرسالة التي لا تعلم عددها قُذفت إليها من شُرفة غرفتها التي تود لو تجعلها حائطًا كي لا يجد منفذًا إليها مرة أخرى، يظن رسائله تؤثر على قلبها؟! أيظن حبر على ورق قادر على تجميع شظايا قلبها المتناثرة بفعلته؟! يبدو أنه مازال يملك بعض الأمل ليتجرأ ويطلب منها السماح، لا يدرك حتى الآن أنها محت السماح من قاموسها حتى لم يعد له أثرًا.


انتفضت من شرودها على نداء شقيقتها لها فطوت الرسالة وسارعت بإخفائها تحت الوسادة قبل أن تنهض واقفة تردد إليها:

- جاية أهو. 


بدت شقيقتها من باب الغرفة تصيح بعتاب محب:

- اتأخرتِ كدا ليه يا شمس.. يلا عشان تأكلي العشا أذنت وأنت مكلتيش حاجة من الصبح. 


رسمت ابتسامة فقيرة على شفتيها قبل أن تسير خلفها بعدما غادرت شقيقتها بينما رأسها تلتفت تنظر لأثر الرسالة قبل أن تنتظم  في مشيتها تبدي تجاهل لا تمتلكه.


أوشكت قدماه على التورم من طول المدة التي انتظرها بها تحت الشرفة؛ علها تروي ظمأ اشتياقه بنظرة واحدة تغرس ثمار الأمل بداخل قلبه بعد رؤيتها لرسالته، إلا أنها ضنت عليه حتى بالنظرة، اختفى خلف إحدى الأشجار حينما وقع نظره على أخيها الأكبر خارجًا من باب المنزل، وسرعان من ظهر مرة أخرى وهو يركل جدار الشجرة بعنف غضبًا من نفسه التي جعلتها أبعد ما يكون عنه بعدما كان يجمعهما عقد زواج واحد! 


***********

في الثانية بعد منتصف الليل، أمام إحدى العمارات التي تتكون من سبعة طوابق حديثة البناء، وقف أوَّاب بيأس جوار منزل العمارة الحديدي الذي يبدو أن جده اعتقد رجوعه فأغلقه من الداخل كعادته، زفر بضيق وهو يخلل أصابعه في لحيته الكثيفة ثم أدخل يده في جيبه وأخرج هاتفه ليدق جرس هاتف شقيقته ومنقذته في مثل هذه الحالة دائمًا.


عقد حاجبيه بضيق متعجبًا من تأخر شقيقته في الرد، فدائمًا ما كانت تمضي أقل من دقيقة وتغلق دون إجابة ثم تهبط إليه من الطابق الرابع وتفتح له الباب وهي تتصنع الضيق على إزعاجه الدائم لها بمثل هذا الوقت. 


برقت عيناه بشدة وسرعان ما ضرب جبهته متذكرًا أن من يهاتفها قد زفَّت إلى زوجها قبل ثلاثة أيام، ولم تعد تستقبله بوجهها الذي يبعث الطمأنينة والراحة بقلبه، دمعت عيناه بتأثر من قلبه الذي يئن حنينًا لشقيقته، ما لبث أن استمع إلى رنين هاتفه ولم يكن المتصل سوى هي، شقيقته غالية.. 


أجاب اتصالها متلهفًا ليصله صوتها القلق تسأله:

- خير يا أوَّاب في إيه؟! 


أشفق على قلقها ليجيبها بصوت مازال متأثرًا بفراقها:

- تكالب عليَّ النسيان فحسبتُ أن أميرة بيتنا مازالت تنيره، إلا أن ذاكرتي صفعتني بالحقيقة المُرَّة وأرغمتني على الاعتراف بنجاح زوجك في اغتصاب النور الذي كان دليل قلوبنا ودواءها.


استمع إلى أنينها الباكي، يعلم أنه أخطأ بفعلته، فهي تعاني من فراقهم ولم تكن بحاجة كلماته التي سردها بالعربية الفصحى التي تعشق وتتأثر بها إلا أنه لم يقدر على قلبه، وقوة القلب إذا أراد لا تُخفى على أحد ولا تعجز أمام ما تعلق به، تمالك دموعه التي تنساب على وجنتيه مهددة رجولته التي ممكن أن تنهار إن رآه أحد يبكي أخته بهذه الطريقه فقال محاولًا إصباغ نبرة صوته بالمزاح:

- أنا أسف إني كلمتك في الوقت دا، بس مش أسف لزوجك أنا أكلمك في أي وقت أنا الأصل وهو احتياطي.


تبسمت حينما التمست غيرته من زوجها فهمست بصدق يغلفه الحنان:

-أنت  فعلا الأصل يا حبيبي، تكلمني في أي وقت.


ليقول منهيًا الحديث:

- امشي بقا إما أشوف مين هيفتح لي دلوقتي. 


أومأت وكأنه يراها، فأغلق الهاتف، ووقف جوار نافذة جده يردد بصوت حاول ألا يكون عاليًا كي لا يزعج أحد الجيران:

- يا جدي.. جدي.


ولكن ما من مجيب فجده ضعيف السمع وإن بقى ينادي لسنوات لن يجد ما يسُّره.


ابتعد خطوتان بيأس من دخول البيت ثم رفع رأسه ناظرًا إلى شرفات المنازل؛ لعله يجد أحد من أبناء عمومته مستيقظًا فيفتح له، إلا أن محاولته فشلت، فتقهقر راجعًا إلى الخلف عازمًا على إمضاء ليلته في السير بين الطرقات إلى أن يُفتح المسجد لصلاة الفجر فيقابل عائلته حيث سيجدهم.


ذهب يتجول بين الطرقات ثم جلس فوق صخرة كبيرة جوار المسجد إلى أن يأتي أحد الموظفين بالمسجد ويقوم بفتحه، وقعت عيناه على شيء عجيب قابعًا جوار المسجد من الجهة اليمنى بينما هو كان جالسًا في اليسرى، نهض واقفًا يسير تجاه هذا الشيء المجهول، إلى أن اقترب منه فبطَّأ خطواته واقترب أكثر بحذر إلى أن التقطت عيناه اللون الأسود الذي يخرج منه أنين شخص يبكي، هرول سريعًا حينما ذهب عقله أنه ربما أحد الأطفال، ولكن بمجرد وقوفه أمامه وجدها فتاه تخفي أكثر من نصف وجهها خلف ذراعها وجسدها ينتفض كمن يصارع الموت.


وقف مترددًا لا يدري ماذا يفترض أن يفعل بمثل هذا الموقف، إلى أن أسعفه لسانه وهو يردد السلام.


حينها شعر بها ترفع ذراعها رويدًا عن وجهها حتى بدا له وجهها بالقدر الذي سمح له الظلام رؤيته، وما لبثت أن غربت بعينيها حتى سقطت رأسها فوق جسدها كما كانت، ولكن هذه المرة مغشيًا عليها!


يتبع..

سمية رشاد


الترياق الأول 

- ريهام حبيبتي عرفيني مالك عملوا فيكي إيه؟ من اليوم اللي اتخطفتي فيه ومبتتكلميش.. طمني أمك يا روح قلبي.


ولكن أتقدر على الإجابة؟! أهناك كلمات بالعالم تستوعب ما تعانيه؟ فأحيانًا ما يكون الألم عظيم بقدر تعجز الكلمات عن وصفه، بل تعلم أن والدتها التي تنعي ضحكتها الآن وتبدي قلقًا عليها ربما ستكون أول المعاقِبين لها على جريمة لم تكن فيها سوى ضحية، انتهك فيها جسدها وشبابها وانبساط قلبها الذي كانت تبديه للرائح والغادي. 


قلبت والدتها شفتيها بحزن على حال ابنتها الذي تبدل منذ ذاك اليوم الذي لم تمر بأسوأ منه، ذاك الذي لم يجدوا لإبنتهم فيه أثر، فمرَّت عليها ساعات كالعلقم إلى أن قدم الليل، فصاروا يتخيلون أبشع الأحداث ويأسوا من رؤيتها مرة أخرى، إلى أن طرق أحدهم باب البيت عقب آذان الفجر وأخبرهم أنه وجد ابنتهم مغشى عليها بجوار أحد المساجد وأنه علم البيت عن طريق منشور بصورتها عبر موقع الفيس بوك، أخبرهم أن الفتاة لم تنبس بكلمة واحدة، ومنذ ذلك الحين والكلمات تهجر لسانها فلم يعد والديها يشتاقون لشيء أكثر من سماع صوتها.. فجميع النغمات صارت كعواصف مخيفة وصوت ريهام وحده القادر على إحياء راحة قلوبهم التي خمدت من جديد. 


التفتت ريهام إلى صديقتها وابنة خالها "دنيا" التي لم تفارقها منذ ذاك اليوم، تلك التي كانت وزوجها يؤديان عمرة ولم تعد على بيتها حينئذ، بل قدمت إليها وآزرتها بكل ما تستطيع من قوة، إلا أنها أيضًا لم تنجح في إخراج ريهام من الحالة التي غرقت فيها رغم مرور أكثر من شهر على ذاك الاختطاف الغامض، هذا وإن صح توقعهم، فريهام لم تشِر إلى أي اختطاف، بل هذا ما خمنوه وأخبروا الناس به كي لا تثار حولها الأقاويل، أما ما حدث فلا يعلم حقيقته سوى صاحبته.


- يا ريهام أنا همشي عايزة حاجة يا حبيبتي.. 


رددت دنيا بهذه الكلمات فأشارت إليها الأخرى بالنفي لتدنو منها فتقبل وجنتيها وهي تهمس بمرح مصطنع: 

- خلاص يا ستي فكي كدا شوية دا أنت جاي لك عريس..


انتفضت ريهام رغمًا عنها وتعلقت أنظارها بدنيا مهتمة على غير العادة فاندهشت الأخرى من اهتمامها هذا وتابعت لعلها تجد منها تجاوبًا:

- هيكون مين غير الفارس الولهان اللي بيجدد طلبه كل شهر 


على ذكر اسمه ارتعشت أطرافها بطريقة عجيبة جعلت دنيا تربت على كتفها بقلق تسألها عما ألمَّ بها فوجدتها تنطق للمرة الأولى:

- فارس؟ 


فأومأت دنيا رأسها بإيجاب وهي مازالت لم تفهم ما يحدث معها فوجدتها تقول بلهفة لا تشبه لهفة العروس بصلة:

- قولي لماما إني موافقة عليه.. موافقة على فارس.. 


حاولت دنيا الاعتراض على ما تقول، فمن فارس هذا الذي لا تعرف الأخلاق إليه سبيلًا؟ إلا أنها منعتها وهي تصيح بقلة صبر:

- نادي ماما بس وقولي لها كدا يا دنيا.

- إزاي يا ريهام فارس مين دا اللي موافقة عليه دا لا يختلف على سوء أخلاقه اتنين 


إلا أن ريهام أصرت وصاحت بضيق وطريقة بدت فيها غير متزنة:

- نادي ماما يا دنيا مش هتجوز غير فارس.


لتأتي والدتها دون الحاجة إلى نداء فصوت ابنتها جعلها تهرول بسعادة لتتيقن من تحدثها بعد طول انقطاع إلا أن فرحتها لم تكتمل وهي تستمع إليها تردد أبشع مقولة نطقتها شفتيها منذ أن ولدت

(مش هتجوز غير فارس)


- مالك يا ريهام في إيه يا حبيبتي وفارس خايفة منه ليه كدا هو عمل لك إيه 


هزت رأسها عدة مرات بالنفي القاطع وهي تردد:

- معمليش حاجة أنا بحبه وعايزاه هو كويس لو.. متجوزتهوش مش هتجوز غيره 


حاولت والدتها تهدئتها وإثنائها عن الفكرة إلا أنها لم تقدر عليها بسبب ثورانها الغير طبيعي هذا..


حضر خالها الذي كان يمر على بيتهم بين الفينة والأخرى ليطمئن على شقيقته الأرملة وابنتها ليجد ريهام على ثورتها، حاول تهدئتها كما يفعل الجميع ولكن نتيجته لم تختلف عنهم  لتقول أمها كذبًا كي تخفف من حدة انهيار ابنتها الذي عجز الجميع عن ردعه:

- خلاص ماشي بس اهدي يا حبيبتي اهدي.


ولكن لم تصمت ريهام ولم تستطع الحد من بكائها الذي تكبحه منذ ذلك اليوم، لقد جاءتها الفرصة كي تتنصل من أحزانها على صورة دموع ولن تفلتها قبل أن تتيقن من أن الدموع لن تطرق لعينيها بابًا مرة أخرى.

**************

- النهاردة العيلة كلها هتتجمع يا شمس عشان يحتفلوا بخطوبة أوَّاب.. وأنتِ من وقت اللي حصل مبتجيش.. أمك مصرة إنك تيجي.. وعمالة تعيط من إمبارح وتقول إنك كدا بتصغريها مع أخوالك هما كل مرة بيسألوا عليكِ بالإسم.


استقبلت كلمات شقيقتها بالصمت التام، تعلم الغرض من طلبها على الخصوص، تدرك جيدًا أن العائلة أجمع يطمحون للمّ الشمل ومحاولة ردّها لمهدي مرة أخرى، غير أنها متيقنة من أن الأخير لن يترك فرصة الاجتماع بها إلا وسيحاول رصّ كلماته القميئة فوق مسامعها، ليتهم وليته قبلهم يدركون أن طريق عودتهم سُدَّ ببنيان مرصوص  شُيد بقساوة قلبه التي اصطدمت بها ولا تظن أن هناك قوة تقهر قوة تلك القسوة التي لن تقدر على العيش تحت ظلالها.


انتبهت من شرودها على هزة شقيقتها لكتفها، حتى هذة التي من المفترض أن تشد عضدها وتؤازرها لا تفكر سوى بمهدي ومعاناته بسبب انفصالهم، الجميع يردد بحبهم لها وخوفهم على مصلحتها، ولكنها تعلم أن مشاعرهم تجاهه تتغلب على أي مصالح، ولن تلومهم على هذا فكما تقربهم هو يقربهم، وبسبب أنهما لم يعلنا سبب طلبها للانفصال منه يرونه الطرف المظلوم خاصة والجميع يعلم أنها من أصرَّت على الطلاق وهو لا يكفّ عن محاولة ردّها مرّة ثانية.


- حاضر يا هاجر هروح خلاص بقا.


أهدتها شقيقتها ابتسامة سعيدة بمرافقتها لها، تعلم أن جزء من سعادتها هذه مرتبط بمخطط العائلة الأكبر لمحاولة جمعهم مرة أخرى، ولكن لا بأس، يكفي أن قلبها أقسم على عدم الرضوخ لمحاولاته وهي أكثر من كفيلة بإجبار قلبها على الوفاء بيمينه. 


بعد ساعتان جلست بجوار والدتها بعدما سلمت على جميع الحضور، بما فيهم زوجة خالها وحماتها السابقة التي لم تبخل عن رمقها بتلك النظرات العدوانية وهي تترك يدها ممدودة في الهواء قبل أن ترفعها وتصافحها بفتور وجفاء شديدين، ابتلعت تلك الإهانة بحلقها وجلست متصنعة الانشغال بهاتفها، تعلم قبل مجيئها بأن هذا وأكثر سيحدث، فبالطبع لن ترى المرأة ابنها مخطئًا وإن كان هو المذنب فكيف ستراه وهما لم يبديا سببًا للانفصال.


شعرت بظلّ طويل يقترب من جلستهم فتسارعت دقات قلبها حينما اعتقدت بأنه هو، ولكن سرعان ما التقطت أنفاسها وهي تستمع إلى صوت أوّاب الهاديء يصافح والدتها بحياء وحنان شديدين، راحة غريبة اعترتها فور إدراكها ماهيته وكأنه شقيقها الذي لم تنجبه والدتها، فأوّاب بالرغم من أنه يتجنب جميع فتيات العائلة ولا يحدثهم إلا لإلقاء السلام إلا أن الجميع يحمل تجاهه محبة ويشعر تجاهه براحة وألفة عجيبة، فهناك أشخاص تألفهم القلوب منذ النظرة الأولى ولا تضع احتمالًا للغدر من جهتهم ولو بنسبة واحد في المائة وفاز هو بكونه من أولئك الأشخاص. 


انصرف بهدوء كما جاء بعدما ألقى السلام عليها وعلى شقيقتها فعادت لانشغالها بالهاتف كما كانت. 


دخول مزعج من جهته حدث بعد ما يقارب العشرون دقيقة من دخولها، فعلى الرغم من عدم رفعها نظراتها تجاهه إلا أن ترحيبهم المبالغ فيه له أعلمها بوصوله، ظلت على حالها إلا أن قلبها لم يبقَ على حاله، الألم مازال كما هو لم ينقص منه شيء، فكلما مرّ طيفه أمامها تشعر بقيح قميء ينزفه نياط قلبها ولم يهدأ الألم بعد.. لم يكن ما فعله باليسير، فحينما تطلع أحدًا على مكان أوجاعك المدفونة لعله يسرق بعضها منك ثم تجده حفظها عن ظهر قلب ولم يفعل سوى أن يعيِّرك بها فتتفاقم الآلام عندك فهذا ليس بالشعور اليسير، ولم يكن هو أي شخص بل هو من جعلته سكنًا لها ولأوجاعها فلم يفعل سوى أن عرَّى تلك الأوجاع وجعلها مشاع للحشرات لتنهش فيها. 


شعرت بنفسها يضيق والهواء ينحصر ويقل من المكان رغم وسعه، أرادت المغادرة على الفور ولكن نظرات والدتها المحذرة منعتها خاصة وهو يقترب تجاههم وجميع العائلة تراقبهما بابتسامة حالمة تزين شفاهم كتلك التي زينتها للمرة الأولى التي تقدم فيها لخطبتها، أرادت البكاء لكن دموعها رفضت التحرر منها في هذه اللحظة فظلت جامدة تدعو ألا تنهار وتفعل ما لا تحمد عقباه، صافح والدتها ومن بعدها شقيقتها التي لا تمانع رغم حرمة ما فعلا، جاء الدور عليها فتركت يده ممدودة قليلًا قبل أن تقول بنبرة ترتجف من الداخل بدت للجميع باردة كالجليد:

- مش بصافح الأغراب


طعنته كلمتها تعلم ولكن ألم يعد غريبًا؟ أليست كلمة الطلاق التي لفظها لسانه قطعت كل أحبال الود الذائبة بينهما؟ شعرت باهتزاز قدمي والدتها بالغضب كما اهتزت أفواه الجميع تردد بعدم رضاهم عن تدللها الغير مبرر، ربما أوّاب وحده من لم يفعل وربما أيضًا مهدي نفسه لم يفعل، تعلم رغم ما حدث بينهما أن لو اجتمع العالم على انتقادها فهو وحده من سيدفع لهم أسباب الخطأ ويطمس عيوبها بذكر مزاياها ولكن رغم هذا ففعلته لا تغتفر وقلبها لم يصفح ربما لأن الألم يكون على قدر المحبة لا تعلم ولكن كل ما هي متيقنة منه أن فؤادها مازال ينزف ولا تظن أنه سيتداوى في وقتٍ قريب..


- أسف فكرت إني لسة أقرب ليكِ من نفسك 


لتجيبه بغلظة غير مقصودة:

- الدين مش باللي بنفكر فيه.. الدين بيكون بالواقع اللي احنا عايشينه 


أومأ بإيجاب والحسرة تشيد  قصورًا في قلبه بسبب امتناعها عن النظر إليه، يؤلمه ألمها ولكن لمَ لا تغفر، لمَ هي قاسية إلى درجة لم يكن يتصورها هكذا؟! 

ليتمتم قبل أن يعود بخطواته للخلف:

- عندك حق أنا آسف مرة تانية إني فكرت نفسي حافظك أكتر من نفسي


أومأت إليه قبل أن تجيب بهدوء مستفز: 

- اعتذارك مش مقبول.. 


تظاهر بعدم الاستماع كما تظاهر بنسياته لتلك الكلمات التي لفظتها أمامه سابقًا بأن الموت أقرب إليها من غفرانها لفعلته! 


جلست وكأن لن يحدث شيء لتشعر بوالدتها تتقدم منها وتجذبها من ذراعها بغيظ وهي تردد 

- يلا هنمشي وجودك هيدمر علاقتي بأهلي يلا نمشي أحسن 


وتحت نظرات الجميع الكارهة حملت حقيبتها السوداء الصغيرة  وتبعت والدتها متحسرة على حبٍ زائف كانوا يتشدقون به مادام مهدي راضيًا، أما الآن فليست شمس سوى شخصية تسببت لغاليهم بالأذى ولن يتوقفوا عن مراشقتها بالنبال مادام مهدي غير سعيد.


حاول أن يحجم نظراته عنها؛ كي لا تزيد العائلة حقدهم عليها إلا أن عيونه العاشقة خانته بآخر المطاف وتتبعت أثرها بافتقاد مميت.

**********

بإحدى المكتبات الكبرى التي اشتهرت في المدينة ببيع الكتب والروايات دلف ناصر كعادته يوميًا لاستلام الكتب التي يجب عليه توصيلها، لقد اتفق مع مدير المكتبة منذ ما يقارب الثلاث أعوام على توصيل الطلبات الخاصة بمنطقة معينة يسهل عليه التوصيل فيها، وها هو قدم اليوم ليمارس عمله ولكن قبل أن تنحدر قدماه جهة اليمين ليصل إلى مكتب مدير المكتبة وقعت عيناه على الركن الذي خصصته المكتبة للقراءة بسعر رمزي لمن لا يقدر على شراء الكتب.


نفس الفتاة التي يجدها شبه يوميًا منكبة على أحد الكتب تقرأه بدون تركيز بسبب دموعها التي تنهمر من عينيها بصمت تام، لم يكن جمالها الفاتن هو ما جذبه تجاهها، بل لم تتبين له ملامحها سوى بعد عدة أيام من انشغال فضوله بمتابعتها وهي ترفع المنديل الورقي على وجهها تكفف دموعها، بالحقيقه لم يكن يراها سوى من الجانب الأيسر فقط، ولكن هيئتها وهي ترفع المنديل أخبرته بأنها تبكي فأثارت فضوله لدرجة تثير الخطر بعقله، ومنذ رآها قبل شهرين وهو يفكر في سبب بكائها الذي لا ينوي على الجفاف.

استمع إلى صيحة صاحب المكتبة باسمه فانتبه له وذهب إليه على الفور كي لا يفسر نظرته للفتاة بشيء خاطيء يسيء لسمعتها وهي التي لا تعلم به ولا بوجوده من الأساس، أخذ الكتب المغلفة بكيس بلاستيكي المدون فوقه الاسم والعنوان ورقم الهاتف وقبل أن يخرج رمق الفتاة بنظرة أخيرة فوجد أحد العاملين بالمكتبة يخاطبها بحذر قائلًا:

مدام عبير، زوج حضرتك في انتظارك أدام المكتبة! 

                  الفصل الثاني من هنا

لقراءة باقي الفصول من هنا

تعليقات



<>