
ياسمين خرجت من الشركة بعد ما خلصت شغلها، الشمس كانت ميلة للغروب، والهواء خفيف بيعدي بين الشجر.
لمحت عبدالرحمن واقف، ساند ضهره على عربيته، بيبص ناحيتها بابتسامة فيها انتظار وراحة.
اسمين رفعت حاجبها وقالت وهي بتقرب:
– اتأخرت؟
ابتسم عبدالرحمن وقال بثقة هادية:
– مبعرفش أعد الوقت وأنا مستنيكي، لو قعدتي سنة برضه كنت هستناكي.
بصّت له بعدم اهتمام مصطنع، وقالت بهدوء وهي داخلة العربية:
– ممم… تمام.
بعد شوية كانوا قاعدين في مطعم بسيط، الإضاءة هادية والموسيقى خافتة.
بدأوا ياكلوا، قطع عبدالرحمن الصمت وقال وهو بيضحك:
– غريبة… أول مرة تقبلي تتغدي معايا.
ياسمين رفعت عينيها وقالت بخفة دم:
– كنت واقعة من الجوع بصراحة.
عبدالرحمن فتح عينيه بدهشة مصطنعة:
– يعني مش عشان أنا واد حليوه وعايزة تخرجي معايا؟
ضحكت وقالت وهي تهز راسها:
– يا شيخ اتنيل.
ضحك هو كمان، وقال بنبرة فيها جدية ممزوجة بدفء:
– يعني مش ناوية تديني فرصة؟
ياسمين اتكأت بإيدها على الترابيزة، وقربت شوية وقالت بعينين فيها لمعة حذر:
– إنت واحد عينك زايغة، وأنا مأمنش أبقى معاك عشان ممكن تبص لواحدة غيري.
ابتسم عبدالرحمن وقرب هو كمان، المسافة بين عينيهم بقت ضيقة جدًا وقال بهدوء:
– بس إنتي ف إيدك تخليني أتوب.
ابتسمت ياسمين بسخرية ناعمة وقالت:
– وأنا معنديش وقت إني أخليك تتوب، لما تتوب لوحدك… ساعتها ممكن أفكر.
ورجعت ياسمين ضهرها للكرسي، جملتها الاخيره كانت كفايه… كأنها بتدي لمحة صغيرة لعبدالرحمن، أمل خفيف لعلاقة بينهم، رسالة صامتة يفهمها لو قلبه صاحي.
ابتسم هو ابتسامة خفيفة، عينيه لمعت، وفي لمعة دي كل الكلام اللي هو محتاج يسمعه… كأنه فهم بالظبط هي كانت بتقصد إيه.
عند هاجر
كانت العربية ماشية في الشارع، بس عقل هاجر كان تايه.
إيديها على الدركسيون، بس قلبها مش معاها…
مش عارفة تروح فين، كل مكان بقى بيخنقها، حتى الفيلا ، غريبة… مفيهاش روح، ولا دفء، ولا حتى ريحة بيت.
وقفت من غير ما تفكر قدام عيادة مكتوب عليها: "الدكتورة رُقية النفوس أولًا."
بصت للافتة، ولقت نفسها بتنزل من العربية من غير ما تحس… كأن رجليها اللي جابتها.
دخلت العيادة، كانت رُقية قاعدة ووشها زي دايمًا هادي ومرتاح.
رفعت عينيها وقالت بابتسامة فيها دفء الأم والأخت معًا:
– إيه الزيارة المفاجئة دي يا هاجر؟ اتفضلي، اقعدي.
هاجر قعدت، ووشها باهت كأن كل النور اللي فيها اختفى، والهالات السودة تحت عينيها
سكتت لحظات وبعدين بدأت تحكي…
حكت كل حاجة.
كل صدمة، وكل وجع، وكل كلمة خلتها تحس إنها اتخدعت.
رُقية كانت ساكتة، بتسمعها بعينين فيها فهم وحنان، ولما خلصت، قالت بهدوء:
– إنتي متضايقة عشان حسيتي إنه كدب عليكي، بس صدقيني يا هاجر… لو مكنتيش قد الوظيفه دي مكانوش وظفوكي
هاجر رفعت عينيها ليها، ودموعها كانت بتلمع وهي بتقول بصوت مكسور:
– بس أنا مش عايزة حد يكدب عليا… حتى لو لمصلحتي.
أنا ليّا الحق إني أعرف الحقيقه ، وأواجه وجعي بإيدي…
أحسن ما أكون ضعيفة كده… ضعيفة زي ما أنا دلوقتي.
رُقية مدت إيدها، مسكت إيدها برفق وقالت بهمس:
– الضعف مش دايم يا هاجر… بس الكتمان بيكسره.
اعملي اللي قلبك شايفه صح، مش اللي خوفك بيقولك عليه.
هاجر سكتت، وبصت في الفراغ، كأنها بتحاول تلاقي في كلام رقية الطريق اللي ترجع بيه لنفسها من تاني.
هاجر مسحت دموعها وهي بتتنهد تنهيدة تقيلة خرجت من جوّا قلبها وقالت بصوت مبحوح:
– يبقى أرجع كندا… كانوا أحلى سنتين في حياتي.
بعيدة عن المشاكل، عن الوجع، عن الضغوطات اللي هنا.
هناك كنت بصحى على هدوء، على نفسي… مش على الخناقات اللي جوايا.
ابتسمت بسمة صغيرة فيها وجع:
– هناك كنت بنام وانا مطمنة شويه، هنا حتى وأنا نايمة بحلم إني بتخانق.
كل حاجة هنا بقت بتوجعني يا دكتورة رُقية… حتى الأماكن اللي كنت بحبها.
رُقية بصتلها بهدوء وقالت:
– كندا كانت راحة يا هاجر ، بس الهروب مش دايما الحل.
يمكن راحتك المرة دي مش في البُعد… يمكن في المواجهة.
هاجر سكتت شوية، عينيها سرحت في نقطة على الأرض،
وقالت بهمس:
– يمكن عندك حق… بس أنا تعبت من المواجهة.
كل مرة بمسك نفسي أكون قوية، بس بحس إني بنكسر أكتر.
رُقية ابتسمت وقالت بلُطف:
– القوة مش إنك ما تتكسريش… القوة إنك تقومي بعد كل كَسرة.
هاجر حست ان كلام الدكتوره صح وقررت تمشي بعد م قالت كل اللي جواها
خرجت هاجر من عند الدكتوره
ركبت العربية وعيونها مليانة دموع مكبوتة، . قررت ترجع الفيلا... يمكن دي تكون آخر محاولة.
في الليل، لما أمّها رجعت من الشغل، كانت الصالة غارقة في ضوء أصفر باهت طالع من الأباجورة. نيهال قاعدة على الكنبة، ماسكة الموبايل ووشها غارق فيه.
هاجر وقفت قدامها وقالت بصوت خافت لكن مليان وجع:
– ماما... محتاجة أتكلم معاكي.
نيهال من غير ما تبص حتى:
– مش دلوقتي، مشغولة.
هاجر حسّت إن الكلمة دي وجعت صدرها أكتر من ألف سكين، شدّت نفسها وقالت بحِدّة:
– ماما، محتاجة بجد أتكلم معاكي.
نيهال رفعت عينيها، زفرِت وقالت بنفاد صبر:
– ها، خير؟
هاجر اتنفست بعمق، كأنها بتحاول تطلع وجع سنين:
– الدكتورة قالتلي إني لازم أواجه وجعي... وأنا قررت أواجهه.
نيهال رفعت حواجبها باستغراب:
– دكتورة مين؟
هاجر ضحكت ضحكة مكسوره، فيها مرارة الدنيا كلها:
– آه، صح... إنتي متعرفيش. أنا بقالي خمس سنين بتعالج عند دكتورة نفسية، اسمها رُقيّة.
من يوم ما إنتي وبابا انفصلتوا... وأنا بتعالج من وجع عمري ما قدرت أحكيه ليكي.
نيهال شدّت نفسها على الكنبة وقالت بسخرية باردة:
– انتي مش أول واحدة ولا آخر واحدة أهلها يتطلقوا.
بلاش دراما اللي عندك دي يا هاجر،زي أبوكي بالظبط.
سكتت هاجر لحظة، بصّت لها بعينين فيها وجع وسنين من الكتمان، وقالت بصوت مبحوح:
– يمكن فعلاً أنا زي بابا... بس انتي عمرِك ما حاولتي تفهمي ليه بقى كده.
نيهال بغضب، صوتها علي واتكسر في آخره:
– افهم؟ افهم إيه اللي فاهماه إنك مديا الموضوع اكبر من حجمه! ....جايه دلوقتي تحاسبيني؟ تحاسبيني على إيه؟
دا أنا كنت بلبسك أحسن لبس، وبأكلك أحسن أكل، ومكنتش بسيبك تحتاجي حاجه!
كنت بجري طول اليوم عشان أوفرلك كل اللي تتمنيه، وبدل ما تشكري تقوليلي إني قصّرت؟!
هاجر سكتت لحظة، ، وبعدين قالت بهدوء موجع:
– فعلاً يا ماما، عمرك ما خلّيتيني محتاجة حاجه... غيرك.
كملت هاجر بحزن، صوتها بيتهدج وهي بتحاول تمسك نفسها:
– حتى لما سافرت... مكنتش عايزة أسافر ولا أتغرّب كنت بس مستنياكي تمنعيني وتقوليلي خليكي معايه، بس لما ملقتش منك كدا قولت خلاص اهو ههرب.
ههرب من البيت، من الزعل اللي مالي الجدران، من نظراتك اللي فيها عتاب أكتر من حب.
كنت فاكرة إن البُعد هيخليني أنسى، بس لما رجعت هنا لقيت كل حاجه بتتعاد من جديد
نيهال بصوت متوتر ومليان غضب متخنق:
– هاجر! إنتي صدّعتيلي دماغي! أنا طالعة أنام.
ولمّا قامت، كانت خطواتها تقيلة، مشيها سريع بس مهزوز، كأنها بتجري من نفسها مش من بنتها.
كانت بتهرب… بتهرب من الحقيقة اللي جوّاها،
اللي عارفاها كويس،
بس عاملة نفسها مش واخدة بالها.
عارفة إن كل كلمة قالتها هاجر صح،
بس الاعتراف بيها كان هيكسرها.
هاجر فضلت واقفة في مكانها، عينيها فاضية، بتتفرج على ضهر أمها وهي بتطلع السلم.
وقفت في نص الصالة، عينيها على الأرض، همست لنفسها :
– كانت آخر محاولة...
هرجع كندا.
فجأة، حست بوجود حد وراها، التفتت بصعوبة ولقت راكان واقف، عيونه متعلقة بيها، فيها مزيج من القلق والحزن:
– هترجعي كندا؟
هاجر نظرت له بحذر، صوتها هادي لكنه قاطع:
– آه... اكتشفت إن حياتي هناك أحسن بكتير من هنا.
راكان اتقدّم خطوة، وعيونه مليانة حزن:
– بس...
قبل ما يكمل، هاجر قاطعته بصوت جاف وحاسم:
– الموضوع منتهي يا راكان.
سابته وطلعت لاوضتها
قعدت على حافة سريرها، عينها واقعة على الأرض،
كانت نفسها تقول كلمة... كلمة تعتذر بيها لراكان عن اللي حصل منها النهارده.
لكن الصوت جواها اتوقف، وكأن عقلها بيزّق قلبها:
– لأ... خلاص... أنا هسافر والكل هيستريح مني
صحّت تاني يوم، والبيت كله ساكت، كل واحد راحل لشغله
كانت حجزت التذكرة من بليل، ودلوقتي بتحضر شنطتها عشان تسافر.
ماكنتش عايزة تتغرب تاني… بس مفيش حل غير ده، ومفيش طريق تاني هتمشي من غير حتى م تسلم على اي حد .
خدت شنطتها بحذر، وودّعت روي، اللي كان واقف ساكت، عيونه مليانة حزن كأنه فاهم كل حاجة وإنه مش هيشوفها تاني.
نزلت السلم، وقفت قدام الفيلا.
عيونها معلقة فيها، كأنها بتودع كل حاجة… كأنها المرة الأخيرة اللي هتشوفها.
بعد كدا اتجهت للعربيه
حطّت شنطة السفر في شنطة العربية، وتنهدت بعمق، ركبت، ومشيت… كل حاجة حواليها كانت عادية، إلا قلبها اللي كان بيخبط بسرعة.
بعد نص ساعة تقريبًا، حست هاجر بحاجة غلط… عربية وراها، بتقرب بسرعة، كأنها بتطاردها. حاولت تهرب، لفّت في حارات ضيقة وأماكن صغيرة، لكن العربية ما سابتهاش… وفي لحظة، زنقت عليها فجأة.
اتصدمت، قعدت في العربية مش عارفة تعمل إيه. العرق نزل على وشها، قلبها كان بيغلي من الخوف.
وفجأة… ظهر اتنين كبار، جسمهم ضخم، كأنهم بودي جارد، جايين ناحية العربية بسرعة. واحد منهم فتح باب العربية بإيدين ضخمتين، مسكها من إيدها، وبدأوا يجروها ناحية عربيتهم.
حاولت تقاوم بكل قوتها، ركضت، صرخت، بس كل محاولة كانت بتخسرها قدام قوتهم.
وفجأة، واحد منهم حط حاجة على مناخيرها
وقال: اتهدي بقى
… ريحة قوية، خنقتها، وعيونها اتغشّيت… وغابت عن الوعي.!
الفصل العاشر
الليل كان ساكت إلا من صوت كعب نيهال وهي داخلة الفيلا، التعب باين على وشها، وعلامات الضيق لسه مرسومة من امبارح… من كلام هاجر اللي وجعها أكتر ما كانت متوقعة.
طلعت السلم وهي بتتنهد، ناوية تدخل أوضتها وتنسى كل حاجة،
لكن وهي ماشية، عينها وقعت على باب أوضة هاجر… مفتوح.
وقفت لحظة، قربت بحذر، دخلت بخطوات هادية،
بصّت حواليها… السرير متوضب، النور مطفي،
بس مفيش أي أثر لهاجر.
حست بخنقة مفاجئة، قلبها بدأ يدق بسرعة.
هاجر عمرها ما اتأخرت كده قبل كده… عمرها.
مدّت إيدها للفون بسرعة، دورت على رقمها،
الصوت اللي طلع من السماعة كان كفيل يخلي الدم يجري في عروقها خوف:
"الرقم الذي طلبته غير متاح حاليًا."
وقفت نيهال مكانها،
عينيها بتدور في الأوضة كأنها بتحاول تلاقي تفسير…
بس جواها، كانت حاسة إن في حاجة غلط جدًا حصلت.
على الرغم إنها دايمًا كانت مشغولة عنها،
ومكنتش بتقعد معاها كتير ولا تسمعها زي ما كانت هاجر نفسها،
لكن في الآخر… هي أمها.
لكن مهما اتقال ومهما حصل، بتحبها وبتخاف عليها،
وجواها قلب أم عمره ما عرف القسوة،
يمكن اتلخبط، يمكن اتأخر في الحنية،
بس دلوقتي الخوف سيطر على كل حاجة.
نيهال بدأت تمشي بسرعة في الطرقه، قلبها بيخبط ف صدرها،
فتحت باب البلكونة تبص لو العربية بتاعة هاجر لسه في مكانها…
لكن المكان فاضي.
إيديها بدأت ترتعش وهي بتنزل السلم،
كل خطوة فيها خوف وأسئلة كتير في دماغها:
"هي راحت فين؟ طب ليه ما قالتش؟ طب ليه التليفون مقفول؟"
فضلت نيهال واقفة في نص الصالة، عقلها بيلف بأفكار متشابكة،
فجأة لمعت في بالها فكرة،
قالت لنفسها بصوت متردد:
– ممكن تكون سافرت؟
بس سرعان ما سكتت، نظرتها راحت بعيد وهي بتهمس:
– بس لو كانت سافرت… كانت هتقول، ولا عشان اللي حصل امبارح؟
الخوف اتبدّل بقلق أعمق، وبسرعة راحت على أوضة هاجر،
فتحت الدولاب بإيدين بيرتعشوا،
وبصت جوا… الفراغ كان أبلغ من أي رد.
الهدوم مش موجودة.
وقفت لحظة، خبطات قلبها بقت مسموعة،
وبعدين قعدت على السرير ببطء، كأن التعب وقع على جسمها كله مرة واحدة.
نظرتها اتجمدت على الأرض،
وشها اتبدّل، مابين صدمة ووجع وندم،
وقالت في سرها وهي بتتنهد تنهيدة طويلة:
– يعني فعلاً… سافرت.
دمعة نزلت بهدوء على خدها،
مش بس خوفًا… لكن حزنًا على بنت كانت محتاجة حضنها، وهي ما فهمتش غير بعد ما راحت.
هاجر قامت وهي بتتنفس بصعوبه،
عينها بتلف في المكان الغريب اللي حواليها،
الحوائط لونها باهت، والإضاءة خافتة كأنها جاية من لمبة صغيرة ف الركن.
بصت على نفسها…
اللبس مش لبسها!
فستان بسيط، مش بتاعها خالص،
حست برعشة في إيديها وهي بتقول لنفسها بصوت مبحوح:
– إيه دا؟ أنا… أنا فين؟!
جريت بسرعة على الباب،
شدته بكل قوتها…
خبطت عليه، صرخت:
– في حد! افتحواااااااا!
لكن مفيش ولا صوت.
الهدوء كان مرعب، كأن المكان مفيهوش روح.
رجعت تبص حوالينها،
قلبها بيدق بسرعه،
راحت ناحية الشباك، حاولت تفتحه بالعافية،
لكن لما بصت من بره…
اتجمدت.
المسافة عالية جدًا،
شايفه تحتها زي فناء كبير،
بس مفيش أي صوت عربيات، ولا ناس، ولا حتى طيور.
كأنها في مكان بعيد عن الدنيا كلها.
رجعت بخطوات بطيئة لورا،
قعدت على الأرض وهي بتحاول تهدى،
وبصوت واطي مليان خوف قالت:
– أنا… فين؟!
طلعت نيهال السلم بخطوات بطيئة، التعب باين على ملامحها، بس قلبها هو اللي متقلق أكتر من جسدها.
وقفت قدام باب أوضة راكان، خبطت بخفة وقالت:
ـ "راكان؟"
صوته جه من جوه هادي وواثق:
ـ "اتفضل ."
دخلت، عينيها فيها قلق واضح وحزن،
ـ "كنت عارف إن هاجر هتسافر؟"
ابتسم راكان ابتسامة خفيفة، فيها مزيج غريب بين الهدوء والخبث، وقال:
ـ "سمعتها امبارح وهي بتقول إنها ناوية تسافر."
نيهال عقدت حواجبها:
ـ "يعني مقالتش ليك بنفسها؟"
ـ "لا."
قالها وهو بيبص بعيد عنها، صوته ثابت أكتر من اللازم… كأنه حافظ الكلام قبل ما يقوله.
ـ "غريبة، كنت فاكرة إنكم قريبين."
ضحك بخفة، ضحكة باهتة مفيهاش روح، وقال:
ـ "كنت فاكر كده برضه… لكن يمكن كنت متوهم."
سكت لحظة، نظره راح للأرض، بس في عينيه لمعة غريبة، لمعة مش مفهومة — مابين غموض ورضا مكتوم.
نيهال قالت بحزن:
ـ "حصل امبارح بينا كلام، يمكن أنا زعلتها… قللت من مشاعرها، بس كل دا من خوفي .... خوفي اني أواجهها وأنا عارفة إني غلطانة."
قرب منها بخطوة، صوته بقى ناعم أكتر من اللازم وهو بيقول:
ـ "ما تلوميش نفسك يا طنط، هاجر محتاجة وقت، يمكن السفر يكون راحة ليها."
كلماته كانت ناعمة، لكن في نبرته حاجة باردة، كأن اللي بيواسيها مش فعلاً حاسس بيها،
كأن كل حرف بيطلع منه محسوب…
وبينما نيهال بتبص له بعين أمّ حنونة،
هو كان بيبصلها بعين فيها سرّ، سرّ تقيل محدش يعرفه غيره.
في تاني يوم الصبح، راكان خرج من البيت ببرود كأنه رايح شغله عادي، لكن في عينيه نظرة مختلفة، نظرة فيها سرّ مخفي وهدوء مريب.
ركب عربيته، شغّلها بهدوء، والابتسامة الصغيرة اللي على وشه كانت غريبة… فيها راحة، بس راحة من نوع مش طبيعي.
الطريق كان طويل، ساعتين وهو ساكت، لا صوت غير الموتور وأنفاسه المنتظمة كأنه حافظ الرحلة دي كويس.
كل ما قرب أكتر، الملامح حواليه بدأت تتغير، البيوت قلت، والطريق بقى أوسع… كأنه داخل عالم تاني، بعيد عن العيون والناس.
وفي الآخر وقف قدام فيلا كبيرة، فخمة بس هادية بشكل يخوف، مافيهاش أي حياة.
قدام الباب، كان واقف اتنين بودي جارد أجسامهم ضخمة، ملامحهم جامدة، أول ما شافوه فتحوا له الطريق من غير كلمة.
نزل راكان من العربية بخطوات ثابتة، عيونه بتلمع ببرود غريب،
طلع السلم، وكل خطوة كانت محسوبة، لحد ما وصل الدور التاني، وقف قدام باب معين…
مد إيده في جيبه وطلّع مفتاح صغير، فضي اللون،
دخل المفتاح في القفل بهدوء، صوته المعدني دوّى في الممر،
ولما لفّه… الباب فتح.
وقف لحظة، خد نفس عميق، وابتسامة خفيفة ارتسمت على وشه كأنه داخل على مشهد مستنيه من زمان.
جوه، كانت الغرفة غارقة في ضوء خافت جاي من لمبة صغيرة في الركن،
وفي نص الأوضة… كانت هاجر.
قاعدة على السرير، عنيها متعلقة بالباب،
أول ما شافته اتجمدت في مكانها، كل عضلة في جسمها تشدت،
الخوف اتجمع في ملامحها وهي بتهمس بصوت مبحوح:
ـ "راكان؟!"
دخل راكان بخطوات باردة وهادية، كأنه داخل بيته،
قفل الباب وراه بالمفتاح، وراح يحطه في جيبه بهدوء…
ابتسامة صغيرة ظهرت على وشه، فيها غموض ووثوق غريب، وقال بصوت واطي:
ـ "مفاجأة مش كده؟"
هاجر وقفت بسرعة، قلبها بيدق بعنف،
ـ "إنت… إنت اللي… خطفتني؟!"
قرب منها بخطوة، نظراته سابتش وشها لحظة،
ـ "خطف؟! كلمة تقيلة أوي يا هاجر، أنا بس حبيت اخد حقي "
ـ "إنت مجنون حق اي؟!"
صوتها اتكسر وهي بتقولها، دموعها بدأت تلمع في عينيها،
لكن راكان ضحك بخفة وقال:
ـ "مجنون؟ يمكن… بس كلامك مش هيأثر فيا ولا هيخليني اتراجع عن اللي ف دماغي ."
الكلمة دي خرجت منه بهدوء، لكن وقعها كان تقيل عليها،
هاجر قالت وهي بتضحك ضحكة فيها وجع وسخرية، صوتها بيرتعش وهي بتحاول تخبي خوفها ودموعها:
ـ "كل دا… عشان اللي حصل في المكتب؟!"
ابتسامة راكان اتسعت، بس كانت ابتسامة خالية من الدفا، فيها برود غريب ونغمة خبيثة خلت قلبها ينقبض:
ـ "لا يا هاجر، أنا مش تافه أوي كده… أنا هاخد حقي من الشخص اللي كان السبب في موت أمي."
سكت لحظة، وصوته اتغير، بقى تقيل كأنه طالع من جرح قديم، عيونه لمعت بغل دفين وهو بيكمّل:
ـ "هاخد حقي منهم بالطريقة اللي توجعهم."
هاجر اتراجعت خطوة، ملامحها اتبدلت، الخوف بدأ ياكل ملامحها، قالت:
ـ "وانا مالي؟ مالي بكل ده؟ أنا معرفش مامتك ولا عمري شوفتها!"
نظرات راكان سكنت عليها، كان فيهم وجع مش مفهوم، قرب منها بخطوة بطيئة وقال بنبرة خافتة بس بتغلي من جوّه:
ـ "ما تعرفيهاش… بس هي هتعرف وجع فقدِك، زي ما أنا عرفت وجع فقد أمي."
هاجر بصّت له بذهول، حاجبها اترفع وملامحها اتجمدت كأن الزمن وقف للحظة،
صوتها خرج متقطع بين الخوف والدهشة:
ـ "مين اللي هتعرف وجع فقدي؟ أنا مش فاهمة حاجة!"
راكان ضحك ضحكة خفيفة بس مليانة مرارة، ضحكة مافيهاش ولا ذرة دفء،
قرب منها بخطوة، عيونه كانت بتولّع غضب، وصوته نزل حاد زي السكينة:
ـ "أمك… نيهال عمر القاضي، هي السبب في كل اللي بيحصلك دا."
هاجر اتجمدت مكانها، الكلمة دخلت ودنها بس عقلها رفض يصدق،
ـ "ماما؟! إنت بتقول إيه؟!"
راكان شد نفسه وقال ببرود قاتل، كل حرف بيخرج منه كأنه بينتقم:
ـ "أيوه، مامتك… هي السبب في موت أمي، والنهارده… جاي الدور عليكم تحسّوا بنفس الوجع اللي أنا عشت فيه سنين."
صوته كان ثابت بس عنيه كانت بتكشف كل العاصفة اللي جواه،
دموع الغضب مكبوته، وهاجر حسّت إن الدنيا بتلف بيها، قلبها بيتخبط في صدرها،
الكلمات تقيلة… تقيلة أوي، والهوى في الأوضة بقى خانق.
سألت بصوت واطي مبحوح:
ـ "إزاي؟! إزاي ماما تكون السبب؟!"
راكان بوجع:
_ياااه إزاي دي محتاجه اقولك من اول م امك دخلت شركه أبويا و .....
صوت الموبايل قطع اللحظة زي سكينة بتشق الهوا،
راكان عض شفايفه بزفره مليانة ضيق،
مد إيده ف جيبه وسحب الفون رد وهو بيحاول يسيطر على نبرته:
ـ "ألو، في إيه يا عبدالرحمن؟"
جاله صوت عبدالرحمن متوتر، نفسه متقطع كأنه جري قبل ما يتكلم:
ـ "طنط نيهال يا راكان… جت الشركة وهي متعصبه وشكلها غضبان ومنهاره"
راكان اتعدل في مكانه، عضلة فكه شدت، وصوته بقى حاد:
ـ "منهارة ليه؟ إيه عرفت حاجه؟"
عبدالرحمن بلع ريقه وقال بسرعة:
ـ "لندا… وهي بتنضّف الصبح لقت باسبور هاجر!
يعني البنت مسافرتش، ونيهال دلوقتي بتدور عليها في كل مكان…
وكمان شاكّة فيك، بتقول إنك كدبت عليها وقلت إنها سافرت!"