رواية مغرم مجنون الفصل الخامس عشر15 والسادس عشر16 بقلم خديجة أحمد

رواية مغرم مجنون الفصل الخامس عشر15 والسادس عشر16 بقلم خديجة أحمد
نيهال

خطت أول خطوة جوه الفيلا، والظلمة كانت خانقة…
الهدوء كأنه بيهمس في ودانها: ارجعي… المكان ده مش أمان.
بس رجليها ماقدرتش ترجع، كأنها اتسمرت في الأرض.

وفجأة — كليك!
الأنوار كلها ولعت مرة واحدة!
الضوء ضرب في عينيها، فرفعت إيديها تحمي نفسها،
ولما نظرت حواليها…
اتجمدت.

كل حيطه، كل عمود، كل ركن في الفيلا
معلق عليه صور "أميرة".
ضحكتها، ملامحها، نظرتها وهي صغيرة… وهي شابة… وهي مريضة…
كل صورة كانت سكين بيغرز في قلب نيهال.

شهقت، إيديها بدأت ترتعش، وصوت دقات قلبها بيعلو في الصمت.
ـ مستحيل… دا مش حقيقي…

صوت خطوات هاديه جاي من آخر الممر.
كل خطوة تقرب أكتر، وكل نفس منها يبقى أتقل.
وفجأة… ظهر راكان.

وقف قدامها، ضوء النور مسك وشه من النص،
عينه فيها برود قاتل وابتسامة صغيرة بتلعب ع شفايفه.

نيهال بصدمه، صوتها طالع متقطع:
ـ ا… انت اللي عملت كل دا؟

راكان مشى خطوتين لقدّام، وبص حوالين الصور كأنه بيتأمل معرض فني:
ـ حلوه صح؟
وقف عند صورة كبيرة في النص، ابتسامته اتسعت وهو بيبصلها بحنان غريب:
ـ طول عمرها حلوه… حتى وهي بتموت كانت حلوه.

رجع ببصره لنيهال، ونبرته بقت أعمق:
ـ بس إنتي خليتي موتها يبقى بشع.

عيناها ولّعت نار، وخطواتها تقيلة على الأرض، صوت قلبها بيعلو فوق صمت الفيلا:
ـ فين بنتي يا راكان؟ هاتها دلوقتي!
ـ لو ما حصلش اللي أنا عايزه، رد فعلي مش هيعجبك.

راكان وقف قدامها، ضحكته فيها برود وتهكم، ونظرة عينيه مسلطة عليها:
ـ م… كفاية عجرفة بقى. أنتي هنا في ملعبِي، هتمشي بواقعدي، وأنا هنا اللي هقول مين يمشي ومين يفضل.

نيهال شعرت بقلبها بينضغط، صوتها ارتجف وهي بتواجهه:
ـ يعني إيه الكلام ده؟ هتحبسني هنا أنا وبنتي؟

راكان اقترب خطوة، صوته بارد لكنه مليان غضب مكبوت:
ـ كفاية بقى، الوش اللي انتي لابساه دا… دي كانت بنتك؟ من إمتى؟ فهميني إمتى دا؟
ـ انتي مكنتيش بتعبريها حتى بكلمة… كل اللي كنتي شايفاه نفسك وبس، بتدوسي على كل اللي حواليكي عشان تحققي اللي انتي عايزاه…
بس دلوقتي… هاخد حقي منك… ومن اللي عملتيه في أمي.

قطع اللحظه هاجر!

صوت خطواتها على السلم اتقطع فجأة بصوت مرتجف:
ـ ماما؟

نيهال التفتت، الدموع في عيونها بتلمع، وصوتها اهتز:
ـ هاجر!

نيهال وقفت متجمده، اتنين بودي جاردز واقفين قدامها، مش سايبنها حتى تتحرك وتقرب من بنتها تاخدها ف حضنها بعد بعدها دا. 

هاجر بصوت مرتجف، عيونها مليانة خوف وفضول:
ـ إيه علاقتك بأم راكان… ي ماما؟

نيهال سكتت، عينها نازلة على الأرض، مش قادرة تلاقي كلمة واحدة ترد بيها، كل اللي حاولت تخبيه دلوقتي باين.

راكان، صوته عالي مليان غضب، عينه مولعة وكل حركته بتضغط على الموقف:
ـ قوليلها عن قذارتك وخيانتك لصاحبتك! احكي… ولا مكسوف من نفسك؟
ـ مظنش انك مكسوفه  لان اللي زيك معندوش دم… ولا إحساس!

نيهال شدّت صوتها، عيونها مولعة بالغضب، ووجهها متحمر من كترة الحزن والضغط:
ـ كفاااايه بقى! أنا مستحملة إهانتك ليا… بس كده كفاية!
ـ أنا مخونتش صحبتي، ولا كنت يوم خاينة… أنا واحدة حبيت… حبيت سمير… واتجوزته ُعرفي عشان مشاعر هاجر ومدخلش حد غريب عليها 

راكان، صوته مليان بسخرية وقسوة، زفر ببطء:
ـ انتي فاهمه انتي بتقولي اي؟ اتجوزتي ف السر عشان بنتك متعرفش .... كنتي بتجيلنا كل يوم وتروحي ف نص الليل وسايبه هاجر ف البيت كل المده دي لوحدها؟ أنا نفسي أعرف… إنتي إزاي جالك قلب تبصي لجوز صاحبتك؟ عملتيها إزاي دي… فهميني!

نيهال، عيونها مولعة بالغضب وكأنها بتبرر لنفسها:
ـ أنا مكنتش أعرف إنه جوزها… أبوك أعجب بيا وحبني من أول نظرة لما شافني في شركته… كنت مجرد موظفة.
ـ سمير حبني قبل ما أعرف إنه جوز أمك، وانا غصب عني حبيته… وسط الخناقات اللي كانت بيني وبين طليقي أحمد كنت محتاجة حد يهتم بيا، يخاف عليا زي ما هو كان بيعمل.

هاجر واقفة، صدمتها واضحة على وشها، صوتها بيرتجف:
ـ يعني إيه؟ لحظة… يعني إيه؟ إنتي كنتي بتحبيه وانتي متجوزة بابا أصلاً؟ ولما اتطلقتي استغليتي الوضع و واتجوزتيه عرفي؟ أنا طلعت مغفله أوي كدا؟

نيهال بصوت فيه تأنيب لكن برضه دفاع عن نفسها:
ـ أبوكي هو السبب… هو اللي كان دايمًا بيتخانق معايا ودايمًا بينتقدني… بصيت لبرا بسببه، لو مكانش عمل فيا كده ماكنتش بصيت لغيره!

هاجر بصوت مليان ألم وسخرية:
ـ انتي بتقولي إيه؟ انتي مدركة اللي انتي بتقولي؟ طب عارفة بيقوله عن الست الخاينة ايه واللي بتتجوز ف السر بيقولوا عنها اييي؟ مفكرتيش فيا لحظة؟ شكلي قدام نفسي هيبقى عامل إزاي لما أعرف إن أمي بصت لواحد تاني غير بابا؟

نيهال، بصوت منخفض:
ـ مكنتش ناوية أقولك عشان كده… عشان متحسيش بوجع… بس كل حاجة اتكشفت أهو.

هاجر، بسخرية مرة، عيونها بتلمع بالغضب:
ـ لا… فيكي الخير! خبيتي عني قذارتك ووساختك… ولما اتكشفت مش معترفة برضه إنك غلطانة وبتلبسيها ف بابا! إنتي إيه يا شيخة جباروت؟

نيهال اتصدمت، عيونها اتفتحت جامد، طلعت إيديها عشان تضرب هاجر بالقلم،
 لكن وقفتها إيد راكان بحزم:
ـ طول ما أنا عايش… محدش يمسها!

هاجر، بوجع واضح وصوت مليان كره وقرف:
ـ عارفة… أنا مش قادرة أصوف مشاعري ناحيتك دلوقتي… كمية كره وقرف منك مش قادر أوصفها.

بدأت عيونها تدمع أكتر، وفجأة دموعها تحولت لدم…

نيهال بصدمه:
ـ ه… هاجر… عينك!

هاجر مسحت عيونها، وبصت للعدم، بصوت فيه سخرية وعتاب:
ـ لا… دي حاجة عادية… متعودة عليها.

نيهال، مصدومه، بصت لها بعينين مليانين استغراب وهي مش فاهمه اي اللي عندها يخليها تبكي دم؟

ـ أنا عندي Haemolacria… مرض نادر بيظهر بسبب الضغط النفسي والتوتر الشديد، بقالي خمس سنين بعالجه وانتي ولا عمرك لاحظتي، ولا عرفتي.

كملت بوجع صاخب، وكأن كل الكلام هو صرخة مختبئة جواها:
ـ كنت بعيط كل يوم… بدل الدموع دم! وانتي ولا مرة لاحظتي… كنت بفضل بالساعات، ويمكن بالايام، في أوضتي لوحدي وانتي ولا عمرك سألتي… حتى لما فسخت خطوبتي مع مصطفى، ما حاولتيش تخففي عني، ولا تشوفي زعلي، ولا حتى تحسي بيا… كل همك كان شغلك
وجوزك اللي لسه مكتشفه انك متجوزاه بقالك كتير !

ثم بزعيق متفجر:
ـ وأهو نتيجته… إنك أطلقتِ من بابا… وبقيتي كمان ست خاينة!

راكان واقف في زاوية الغرفة، عيناه مركزة على نيهال، مبتسم بسخرية باردة، متلذذ بشكلها وعينها اللي مليانه دموع ، كل وجعها بالنسبة له كان جزء من الخطة… جزء من السيطرة… جزء من لعبته اللي رسمها بدقة على مدار السنين.

قطع اللحظه!
رقيه ظهرت فجأة من ضلمة زاوية الطرقه. ضحكتها كانت حادة وكأنها صدى تحكم كامل باللحظة:
ـ أوووف… واضح إن الجو سخن أوي هنا!

نيهال جمدت مكانها، عينها اتسعت من المفاجأة، مش قادرة تتحرك ولا تعرف ترد، بينما هاجر وقفت، قلبها بيتسارع، ودموعها لا تزال على خدها.

راكان وقف ساكت، عينه على رقيه، ابتسامته بقت أكثر برودة، وكأن وجودها يزيد من حدة اللعبة كلها:
ـ آه… أهو عمته  الحنونة قررت تحضر اللحظة.

رقيه نظرت لنهاية الغرفة، عينها مركزة على نيهال، بصوت هادئ لكنه فيه قوة:
ـ واضح إن كل حاجة اتكشفت دلوقتي… وكل اللي كان مستخبي عن هاجر انكشف.

هاجر وقفت مكانها، كأن رجليها اتثبتوا في الأرض، عينيها متسعة وصوتها بيخرج متقطع من الصدمة:
ـ عمتك؟

راكان أخد نفس عميق وقال بهدوء فيه حذر:
ـ آه.

هاجر بصت له بنظرة كلها رجاء، ملامحها فيها خوف ووجع، كأنها بتتوسل إن اللي في بالها يطلع غلط:
ـ انت كنت عارف؟ كنت عارف إن هي اللي بتعالجني يا راكان؟

راكان بسرعة، صوته فيه توتر وصدق واضح:
ـ أقسم بالله ما كنتش أعرف، هاجر! أنا قابلتها من كام يوم بس.
ـ أنا بقالي أكتر من عشر سنين معرفش عنها حاجة… سمير بعدني عنها من ساعة م اتجوز نيهال ُعرفي.

كلماته وقعت على قلبها زي حجر،  صوته اتغير، وبص قدامه كأنه بيرجع بالزمن فجأة.
موسيقى الماضي اشتغلت في دماغه، وصوته بقى خافت كأنه بيحكي لنفسه أكتر منها.

هاجر كانت بتتكلم وصوتها بيرتعش من الغضب، بس عينيها كانت بتلمع بدموع مكتومة.
وقفت قدام نيهال كأنها مش شايفاها أمها، شايفاها غريبة… غريبة خانت حتى نفسها.

هاجر بوجع وسخرية في نفس الوقت:
ـ أنا دماغي لفت ومش قادرة أستوعب… يعني إيه؟ أمي كانت تعرف واحد على أبويا، ولما اتطلقت راحت اتجوزته في السر؟
كانت بتروح له من ورايا وأنا كنت فاكرة إنها مشغولة في شغلها!
ولما سافرت المنحة، اتجوزته رسمي… كانت مستنية اللحظة اللي أرجع فيها وتفاجئني؟
هاجر ضحكت ضحكة مكسورة، باين فيها القهر أكتر من السخرية:
ـ لا برافو بقى، مفاجأة حلوة أوي… دا انتي طلعتِ شاطرة أهو في المفاجآت!

قربت منها خطوة، عينيها بتترجف بالغضب:
ـ إزاي يا ماما؟ إزاي خنتي صحبتك؟ دي كانت بتأمنك على بيتها وجوزها… ازاي قدرتي تتجوزنيه حتى بعد اما عرفتي انه جوز صحبتك؟
ازاي قدرتي تنامي وانتي عارفة إنك خنتي أقرب واحدة ليكي؟

نيهال حاولت تتكلم، لكن صوتها اختفى بين شهقات هاجر اللي صوتها كان بيعلو:
ـ خونتي جوزك عادي، خونتي صاحبتك أهو… طب أنا؟ أنا بنتك، خونتيني في كل حاجة كدبتي عليا وخدعتيني وخلتيني مبقاش واثقه فيكي
انا بجد بكرهك!

كل كلمة قالتها هاجر كانت بتكسر فيها أكتر…
وركان واقف ساكت، ملامحه متوترة، بس في عينيه لمحة رضا خفية، كأن انتقامه بدأ يكتمل خطوة بخطوة.

هاجر كانت بتتكلم وصوتها بيعلو، وكل كلمة بتخرج منها كان فيها وجع سنين مكتوم.
بس فجأة، صوتها بدأ يتهز… إيدها اتحركت بشكل لا إرادي كأنها بتدوّر على حاجة تسندها.
عيونها اتسعت، نفسها بقى متقطع، والدنيا قدامها بدأت تتهز.

نيهال بخضة:
ـ هاجر؟!
هاجر حاولت ترد، بس الكلام ماطلعش، مجرد همهمة ضعيفة وهي بتحط إيدها على صدرها.

راكان اتجمد مكانه، ورقية قامت بسرعة من مكانها،
ولسه نيهال بتجري ناحيتها، كانت هاجر خلاص… وقعت من طولها ع الأرض، صوت ارتطام جسمها بالرخام كان قاسي،
الكل اتصدم.

نيهال وقعت على ركبها جنبها وهي بتصرخ:
ـ هاجر! ردي عليا يا بنتي!
مسكت وشها، بتحاول تفوقها، دموعها نازله بغزارة، أول مرة صوتها يرتجف بالشكل دا.

رقيه بسرعة وهي بتقيس نبضها:
ـ النبض ضعيف جدًا، حالتها دخلت في صدمة عصبية حادة.

نيهال بصوت مبحوح:
ـ اعملي حاجة، انقذيها!

راكان كان واقف مش عارف يعمل إيه، ملامحه فيها توتر وحيرة وذنب لأول مرة يظهر عليه.
رقيه صرخت:
ـ راكان، ساعدني! نوديها المستشفى فورًا، لو اتأخرنا دقيقة ممكن تفقد وعيها تمامًا!

راكان بسرعة شالها في حضنه، عينيه كانت بتزوغ بين وشها الباهت ودموع نيهال اللي مرعوبة عليها،
وخرج يجري بيها برا الفيلا،
وصوت نيهال وراهم بيصرخ باسم بنتها كان بيشق السكون زي السكين.

لكن البودي جاردز منعوها تخرج

الفصل السادس عشر16 
عينيه كانت معلّقة في الباب الزجاجي، كل حاجه حواليه شبه اختفت… مافضلش في ودنه غير صوت الأجهزة وهي بتصدر إنذار متلاحق، كأنها بتعدّ دقايق روحه قبل ما تقع.

إيده كانت بتترعش، بيحاول يثبّت نفسه بس قلبه مش قادر.
رقيه لمست ضهره بهدوء وقالت بصوت حنون:
ـ إن شاء الله هتبقى كويسة يا راكان، صدقني ربنا مش هيكسر قلبك المرة دي.

هو ما ردش…
بس عيونه كانت بتحكي كل حاجة، كانت مليانة خوف، ندم، وذعر من فكرة إنه ممكن يفقدها.

شهق نفس طويل وقال بنبرة مبحوحة، صوته مكسور:
ـ عمتي… أنا حبيتها، أوي… مش عارف ازاي ولا إمتى، بس حبيتها لدرجة وجعتني.
ـ شوفت فيها نفسي، نفس الكسرة، نفس الغُربة، نفس الخوف من الناس.
ـ بس الفرق… إنها كانت بتحارب الوجع وأنا كنت بستخبى وراه.

رقيه بصت له بنظرة فيها حزن وفهم:
ـ  لو فعلاً بتحبها، متخليش حبك يبقى لعنة عليها.

كلماتها دخلت جوه قلبه زي سكينة باردة، حس بيها بتشق طبقات الغضب اللي عاش بيها سنين.
غرز إيده في شعره، بيحاول يمسك نفسه من الانهيار، لكن أول دمعة غدرت بيه ونزلت على خده، كانت حارة كأنها بتحرق الذنب من جوه.

وفجأة…
صوت الأجهزة جوّا تغيّر، ضربات سريعة، والأنوار الحمرا بدأت تومض.
رقيه شهقت:
ـ يا ساتر يا رب!

الجسم اللي واقف اتشلّ، رجله مش قادرة تتحرك، قلبه وقع قبل ما يسمع صوت الدكتور بيصرخ:
ـ البنت بتفقد الوعي تاني!

وقتها راكان همس بصوت مبحوح، صادق، مليان خوف حقيقي لأول مرة في حياته:
ـ لأ… متسبينيش يا هاجر، متسبينيش انتي كمان…

الدكاترة خرجوا بسرعه، ووشوشهم مش مريح.
راكان اتجمد مكانه، عينيه بتجري على ملامحهم كأنه بيستنى يسمع كلمة "نجت"، بس محدش نطقها.

الدكتور بص لرقيه وقال بهدوء حزين:
ـ الحالة دخلت في غيبوبة، ضغطها وقع فجأة ومخها محتاج وقت يستقر… هنحاول نثبتها.

الكلمة نزلت على راكان زي طلقة.
غيبوبة.

فضل واقف قدام الإزازة، بيبص لها وهي نايمة هناك، سلك في دراعها، أجهزة بتقيس نبضها، ووشها شاحب كأنها مش هنا…
قرب بإيده ناحية الإزاز، حط كفه عليها بهدوء، صوته خرج مبحوح وواطي:
ـ هاجر، فوقي بقى… أنا اللي غلطت، أنا السبب فكل اللي حصلك، بس فوقي عشان أقولك إني آسف…

دموعه نزلت غصب عنه، مش قادرة تتخبّى المرة دي.
قعد على الكرسي جنب باب الغرفة، رأسه بين إيديه، كل حاجة ف دماغه بتلف…
صورها وهي بتضحك، وهي بتتخانق، وهي بتبصله بخوف، وهي بتنهار.

رقيه قعدت جنبه وقالت بهدوء:
ـ ادعيلها ادعيلها وهي هتبقى بخير ان شاء الله 

رفع عينه الباينة فيها الهزيمة وعيونه اكتفت بالبكى 

فونه كان بيرن كتير، والصوت مزعج وسط سكون الممر الطويل.
طلعه بالعافية من جيبه، بإيد مرتجفة شوية، وبص على الشاشة…
عبدالرحمن.

فتح الخط بصوت مبحوح ومتعب:
ـ أيوه يا عبد الرحمن.

عبدالرحمن صوته كان مليان قلق:
ـ راكان! البودي جاردز قالولي إنك في المستشفى مع هاجر، إيه اللي حصل؟ اسم المستشفى إيه؟! بسرعة!

راكان مسح دمعة كانت نازلة من غير ما يحس وقال بصوت واطي متكسر:
ـ مستشفى****... الدور التالت، غرفة ٣٠٥.

عبدالرحمن:
ـ جاي حالًا، استنى، ما تعملش أي حاجة لوحدك.

راكان سكت لحظة، وبعدين قال بصوت مخنوق:
ـ مش فاضل أعمل حاجة يا عبد الرحمن... كل حاجة خلاص اتعملت.

قفل المكالمة وهو بيبص تاني ناحية باب الغرفة، وكأن نظره ممكن يصحيها.
كل نَفَس منها، كل صوت للجهاز، كان بالنسبة له حياة أو موت.

الفون رجع يرن تاني، المره دي الرقم غريب، لكن راكان عرفه فورًا… رقم واحد من البودي جاردز اللي في الفيلا.
مسح دموعه بسرعة، ومسح وشه بإيده وقال بصوت متعب:
ـ في إيه؟

صوت البودي جارد جه وراه دوشة هوا:
ـ باشا… لقينا واحد بيلف حوالين الفيلا بقاله ربع ساعه، شكّينا فيه… مسكناه. نعمل فيه إيه؟

راكان وقف مكانه، ملامحه بدأت تتغير:
ـ ابعتلي صورته دلوقتي.

لحظات… وجات الصورة.
بص فيها، عينه اتسعت وبعدين ضحك ضحكة قصيرة غريبة، نصها وجع ونصها غضب.

ـ سمير…!
ضحك وهو بيهز دماغه:
ـ حتى دلوقتي لسه بتلف حوالين الخراب اللي عملته بإيدك؟

سكت لحظة، صوته اتغير وبقى تقيل وواضح:
ـ حُطّه مع نيهال.

البودي جارد رد بسرعة:
ـ أوامرك يا باشا.

قفل الخط، وفضل باصص قدامه ف الهوا، حس إن الدنيا كلها بتلف حواليه…
كل الوجوه، كل الأسرار، كل الوجع… دلوقتي بقى محبوس في مكان واحد.

بعد دقايق، باب الطوارئ اتفتح بعنف، وعبدالرحمن دخل وهو لاهث، لسه نفسه متلاحق من الجري.
قرب من راكان اللي كان واقف قدام باب الغرفة، وشه شاحب، وعينه حمره من كتر الدموع.

عبدالرحمن بحنين وقلق:
ـ معلش اتأخرت عليك، وصلت بس ياسمين لبيتها وجيتلك على طول… هي حالتها إيه دلوقتي؟

راكان بصله، صوته مبحوح، كأنه طالع من وجع مش من حنجرة إنسان:
ـ دخلت ف غيبوبة.

عبدالرحمن وقف مكانه، الكلمة كسرت جوه قلبه رغم إنه مش يعرفها زي راكان، بس شاف الألم في وش صاحبه وقال باستغراب:
ـ انت بتعيط؟ مالك يا راكان؟ مش دي بنت الست اللي كانت السبب ف موت أمك؟

راكان عض شفايفه، حاول يمسك نفسه، لكن صوته خرج مكسور:
ـ كنت فاكر كده… كنت فاكرها جزء من وجعي، بس طلعت هي الوجع نفسه…
سكت ثواني، دموعه نزلت وهو بيكمل:
ـ انت كنت عندك حق يا عبدالرحمن، هي ملهاش ذنب… والله ملهاش ذنب ف أي حاجة.
بص على الغرفة اللي جوها هاجر وقال بصوت واطي مليان ندم:
ـ أنا بجد اكتشفت إني بحبها.

عبدالرحمن قرب منه، حط إيده على كتفه بهدوء وقال بصوت مطمن:
ـ خير إن شاء الله يا صاحبي… ربنا كبير، وهتقوم بإذن الله، بس إنت لازم تفضل جمبها دلوقتي، متسيبهاش لوحدها.

راكان وقف ساكت، عينه مركزة على هاجر اللي كانت في غيبوبتها، وأومأ بصمت، وكأن كل الكلام اتلخص في حركة واحدة.

عبدالرحمن بص حواليه، عينه لاقت رقيه واقفة جنبهم، حضورها كان هادي لكن فيه وزن، كأنها شريكة في كل اللي حصل وملامحها مليانة حزن وحنان مختلطين مع بعض.

راكان، بصوت هادي لكنه مليان حزم ودفء، قال:
ـ دي عمته اللي حكيتلك عنها.

عبدالرحمن مد إيده ليها، بعينين فيها احترام وتقدير، وابتسامة خفيفة على وشه:
ـ اتشرفت بحضرتك.

رقيه لمست إيده، ابتسمت بحزن، وقالت: 
  - انا اكتر.

راكان وقف لحظة، عيونه مركزة على هاجر اللي لسه في غيبوبتها، قلبه مليان توتر وقلق مش قادر يتحكم فيه. بعد صمت قصير، نطق بصوت هادي لكنه واثق:
ـ أنا هرجع عشان أشوف هتصرف إزاي مع نيهال وأبويا… قفل انت حساب المستشفى.

عبدالرحمن بص له، وقال بصوت هادي:
ـ تمام متقلقش هتابع كل حاجه.

رقيه حركت راسها، عيونها مليانة حنان كأنها مش بتعتبر هاجر مجرد مريضه عندها لا كمان بتعتبرها بنتها :
ـ أنا هفضل هنا جمبها.

راكان أومأ، صوته واثق لكنه مختلط بشوية شعور بالارتياح:
ـ طيب اللي يريحك.

ركب راكان العربية واتجه للفيلا وعيونه مولعة بالغضب، كأن النار مولعة جوا قلبه، ويده مشدودة على المقود. كل عضلة في جسمه كانت جاهزة للانفجار.

وصل الفيلا، والبودي جاردز فتحوا له الطريق بصمت. الهواء في المكان كان ثقيلاً، ريحة الحديد والخرسانة مختلطة بالغبار، وكأن المكان نفسه بيستنكر وجوده.

دخل وقف قدام باب حديدي ضخم ومقفل بإحكام. أحد البودي جاردز فك القفل بصوت صرير حاد، والباب فتح ببطء، كأن المكان نفسه يتألم.

سمير ونيهال كانوا مربوطين بكلبشات نازلة من الحيطة، وجسدهم يرتجف من الخوف. عيون سمير كانت مليانة غضب مختلط بالرعب، بينما نيهال حاولت تثبت دموعها بصعوبة.

راكان دخل، وابتسامة باردة مرعبة رسمت على وجهه، صوته هادئ لكنه مليان تهديد:
— أهلا أهلا يا أبويا… نورت السجن بتاعي. رأيك في المكان؟ حلو مش كدا؟

سمير، بغضب مختلط بالخوف، صوته مرتجف:
— آه يا قذر… دي آخر تربيتي فيك؟

راكان تقدم خطوة، عينيه ثابتة على سمير:
— آخر تربيتك؟ لأ  … دي بس البداية.

نيهال حاولت تتحرك لكن القيود شدتها أكثر، وصوت الحديد وهو بيصر على جلدها زاد من رعب الجو.

راكان ضحك ضحكة قصيرة لكنها حادة، وكأنها سكين بتقطع الهواء:
— استعدوا… هتعرفوا يعني إيه الوجع الحقيقي .

راكان شاور لاحد البودي جاردز.
البودي جارد طلع مكنة حلاقة للرجال، صوتها الميكانيكي صدى في المكان الصامت.

عيون نيهال اتسعت، وصوتها اتقطع:
— إنت هتعمل إيه؟

راكان ضحك ضحكة قصيرة وباردة:
— هتشوفي دلوقتي.

قرب منها، هي حاولت تتحرك، تحاول تهرب، لكن القيود شدتها، كل حركة كانت صعبة ومؤلمة.

سمير، بغضب مختلط بالخوف، صوته مرتجف لكنه حاد:
— اللي هتعمله دا ليه عواقب يا راكان!

راكان رفع المكنة بحركة هادئة، عيونه مليانة برود:
— أركن انت على جمب لسه دورك مجاش.

راكان شد المكنة بحركة باردة، وابتسامته ما زالت مرعبة.
نيهال حاولت تتحرك، لكنها مربوطة، وكل محاولة كانت تزيد من شعورها بالعجز والخوف.

صوت المكنة بدأ يقرب من شعرها، والجو كله صامت إلا من دوي المكنة وصوت أنفاسهم المخبولة.
نيهال بدأت تبكي بصوت مكتوم، شعرها يتحرك تحت يد راكان، وهو يمسك المكنة بثبات:
— افضلي ساكته ...... ده أفضل ليكي.

قطرة عرق نزلت من جبينها، قلبها كان بيدق بسرعة، وكل شعرة تقع من رأسها كانت كأنها قطعة من كرامتها بتروح.

سمير حاول يهتف بغضب
— كفاية يا راكان…حرام عليك!

راكان ضحك ضحكة قصيرة وقاسية:
— حرام عليا؟ واللي عملتوه في أمي دا مش حرام؟ إنتوا السبب ف اللي انتوا فيه دلوقتي هحرق قلبكوا زي م حرقتوا قلب امي.

نيهال كانت منهارة تمامًا، عيونها مليانة دموع، ووجهها شاحب من الصدمة والرعب.
كل خصلة من شعرها تسقط على الأرض كانت كأنها قطعة من روحها بتروح. 

 ضحك راكان ضحكة قصيرة، قاسية، مسكها من هدومها بشدّة كأنها لعبة بين إيديه، وقال بصوت يخرّج القسوة من كل حرف:
— دي بس البداية… لسه مشفتوش الوجع بجد.

سمير اتجمد للحظة، صوته فيه حدّة وارتجاف خفيف:
— نعمل إيه عشان تسيبنا؟

راكان بصله بسخرية، عيونه مليانة استهزاء:
— هو الميت بيرجع تاني؟

بص عليهم بقرف، وبصوت هادي بس فيه تهديد خفي قال للبودي جاردز:
— كل يومين، ابقوا ارميلهم أي أكل.

ومشي راكان، رجليه بتخبط الأرض بصوت تقيل كأنه إعلان عن نهاية أي أمل ليهم. الباب اتقفل وراهم، والصمت ملّ المكان، صمت غريب تقيل على القلب.

عند عبدالرحمن 
رجع عبدالرحمن بيته وعيونه مرهقة من يوم طويل، رمى نفسه على الكنبة كأنها الملجأ الوحيد اللي يقدر يستريح فيه. قبضته على الهاتف بدأت ترعش شوية، ولما فتحه لقى ياسمين متصلة بيه.

ضغط على زر الاتصال، وصوتها وصل له بنبرة فيها قلق واضح:
— إيه اللي حصل عندك؟ أهلك كلهم بخير؟

ابتسم عبدالرحمن، حاول يخفف التوتر اللي حسّه في صوتها:
— انتي قلقانة على أهلي ليه بقى؟

ياسمين حاولت تبين إنها مش مهتمة زيادة، لكن القلق كان باين:
— أ… أنا بسأل بس عشان استعجلت وخليتنا نرجع فجأه  و كان ورانا شغل كتير ومخلصنهوش.

عبدالرحمن حس بدفء اهتمامها، ابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهه، رغم إرهاقه.

عبدالرحمن بنبرة مرحة شوية:
_ طيب تمام… شكراً على سؤالك. على فكرة، اهتمامك ده بيريحني أكتر من أي حاجة.

ياسمين ابتسمت من التليفون، قلبها دق بسرعة، وحست إنها فعلاً مهمة ليه، حتى لو حاولت تخفي مشاعرها.

ياسمين بنبرة خجولة: 
_طيب… كويس. على الأقل كده عرفت إنك بخير…

عبدالرحمن رجع يتكئ على الكنبة، وهو حاسس براحة غريبة، وكأنه مهما كان اليوم صعب، وجودها في حياته بيخليه يقدر يبتسم.

**بعد اسابيع**
عند نيهال 

نيهال بصوت مبحوح من أثر التعب، عيونها شبه مغلقة بسبب الإرهاق وقلة الطعام:
_ أنا تعبت خلاص… قوله بقى على الحقيقة!
نيهال بهمس مرتعش: 
_الحقيقة… إن أميرة عايشة!

سمير بصوت متقطع وهو بينهج، ووشه مليان توتر:
_شكل فعلاً… مفيش حل غير كده… بس لازم… قبل ما نقوله… نضمن إنه يخرجنا من هنا.

نيهال رفعت عينيها ليه، عيونها مليانة خوف وقلق:
_إزاي نضمن ده… سمير؟ إحنا محبوسين هنا… وزي م غدر مره ممكن يغدر بينا تاني!

سمير أخد نفس عميق، يحاول يثبت نفسه، صوته صار أهدأ لكنه حاد:
_لازم نلعبها صح… خطوة واحدة غلط، ومش هنخرج أبدًا.

الجو حوالينهم مليان صمت ثقيل، صدى الحديد والزنجير بيخلي اللحظة مشحونة بالخطر، وكل حركة أو كلمة ممكن تغيّر مصيرهم.

في صباح اليوم التالي، قبل ما يروح راكان الشغل،  اتجه للمستشفى اللي  هاجر محجوزه فيها.

لقى رقية، عمته، نايمة على السرير المقابل من الارهاق ، وهاجر نايمة في غيبوبة بهدوء، وشها شاحب وعيونها مغلقة كأنها بعالم بعيد عن كل حاجة.

قرب راكان وقعد على الكرسي المقابل لهاجر، قلبه موجوع، وعينيه مليانة حزن وحنين.

راكان بصوت خافت واهتزت كلماته: _وحشتيني… وحشتني ضحكتك وهزارك… وعصبيتك… وحشتني كل حاجة فيكي… قومي… وده وعد مني… هاحمي قلبك من أي وجع بعد كده…

عيناه مليانة دموع، لكنه مسك نفسه، 
مد إيده بحذر، ماسك كفها بلطف، وحس بدفء ضعيف تحت يده، كأنه بيهمس لها إنه موجود معاها، مهما كانت صعبة اللحظة.

رقيه فاقت، لقته قاعد جنب هاجر وعيونه مليانة قلق. قربت منه بابتسامة هادئة وطبطبت على ظهره:
— هتفوق وهتبقى أحسن من الأول.

هو رفع عينيه عليها، لقى الاطمئنان فابتسامتها، وحس بشوية هدوء بيرجع له بعد التعب والقلق.

ودّع عمته بالسلام، وركب عربيته وهو حاسس بشوية فراغ جوّه، طريقه للشركة كان كله زحمة، لكنه مش مركز، عيونه على الفون. قلبه اتلخبط لما بص للتاريخ 11/11… ده تاريخ موت أمه!

وقف فجأة على جنب الطريق، جنب محل ورد صغير. نزل من العربية بخطوات ثقيلة، وريحه شمس بعد المطر حركت في دماغه ذكريات قديمة. دخل المحل، وأيده تختار من بين الورود، وردتها المفضلة اللي كانت دايمًا بتحبه. شمّه شوية، حس بريحة بتفكرّه بيها، وفي عيونه لمعة حزن وحنين.

رجع للعربية، قلبه بيدق بسرعة، وعينيه شايفة الطريق قدامه كأنه بيعدّه كل ثانية. حرك العربية ورايح المقابر، كل متر بيعديه كان بيقربه من لحظة مواجهة الألم الحقيقي… مواجهة فقدان الأم اللي عمره اتعود عليه بالذات ف اليوم دا.

وصل المقابر، والدنيا ساكته، حتى الهوا واقف كأنه بيشارك حزنه.

وقف قدام قبر أمه، نظرته كانت تايهة، 
مد إيده بهدوء، حط الورد اللي كانت بتحبه، 
وساعتها قلبه
 بدأ يدق جامد… كل نبضة كانت بتوجعه أكتر.

عيونه اتملت بالدموع، حاول يمسك نفسه، لكن فجأة انهار، انفجر من البُكا كأنه طفل صغير بيدور على حضن يطبطب عليه ويطمنه.

قعد على الأرض جنب قبرها، لمس الحجر بإيده، وقال بصوت مبحوح بيتكسر بين شهقاته:
— أنا تعبت أوي يا أمي… كل حاجة حلوة بتروح مني، انتي رحتي مني، وهاجر كمان بتروح مني…
اتنهد تنهيدة طويلة، وكمل بصوت واطي مليان شوق:
— انتي وحشتيني أوي، نفسي أحضنك وأشكي لك همي، نفسي أسمع صوتك وانتي بتقولّي لي "ما تخافش يا حبيبي".

فجأة، لمس كتفه حد بخفة. رفع عينه ولقى عبدالرحمن واقف جمبه، صامت، بس عيونه مليانة تعاطف. قعد معاه على الأرض ساكت، من غير كلام، 

قعد عبدالرحمن جنبه ساكت، وسايب له المساحة يبكي براحتُه.
بعد شوية، الصوت اتكسر بين شهقاته وهو بيحاول يتكلم:
— عارف يا عبدالرحمن… أنا كنت فاكر إنّي قوي، بس الحقيقة لأ… أنا ضعيف أوي.
مسح دموعه بإيده المرتعشة وكمل:
— كل حاجة بحبها بتضيع، أمي راحت، وهاجر بتبعد عني يوم بعد يوم… حسّيت إن ربنا بياخد مني كل اللي بيخليني أعيش.

عبدالرحمن سكت لحظة، وبصله بنظرة كلها صدق، وقال بهدوء:
— يمكن مش بياخدهم، يمكن بيعلّمك إزاي تتمسك باللي باقي… أو يمكن بيجهزك لحاجة أكبر.

رمق راكان الأرض وقال بصوت واطي:
— بس الوجع صعب، صح؟

ابتسم عبدالرحمن ابتسامة باهتة وقال:
— أيوه صعب… بس مش دائم، ولازم تفتكر إن اللي بيحبونا عمرهم ما بيروحوا فعلاً… بيعيشوا جوانا، جوه كل ذكرى وكل نفس بناخده.

سكتوا هما الاتنين، سكون بسيط، والريح عمالة تعدي عليهم بهدوء.
بص ناحيه قبر أمه وقال بخفوت:
— وحشتيني قوي يا أمي.

عبدالرحمن حط إيده على كتفه وقال:
— وهتفضل في قلبك طول العمر، بس قوم… هي أكيد مش كانت تحب تشوفك مكسور كده.

رفع عينيه، بص في السما، كأنّه بيدور على طيفها بين الغيوم…

مسح دموعه بهدوء، وبص تاني على القبر كأنه بيودعه .
عبدالرحمن وقف جنبه، مد له إيده يساعده يقوم، قال بصوت واطي فيه حنية:
— يلا يا صاحبي… خلينا نمشي، عندنا حاجات لازم نخلصها.

قام ببطء، ولسه عيونه فيها أثر الدموع. 

ركبوا العربية، وساد الصمت بينهم شوية. عبدالرحمن كان سايب له المساحة، وهو سايق بعينين تايهة، بس جوّه دماغه قرار بدأ يتكوّن.
بص قدامه وقال بنبرة هادية لكنها حاسمة:
— لازم أخلص اللي بدأته … مفيش رجعة.

عبدالرحمن اكتفى ببصة صغيرة ناحيته، عارف إن الكلام مش محتاج رد. العربية اتحركت، والدنيا برا كانت رايحة في اتجاه الشركة…

وصلت العربية قدام الشركة، المبنى واقف شامخ كعادته، 
نزل من العربية بخطوات واثقة، رغم إن جواه لسه في دوشة من البكاء اللي لسه مخلصش.
دخل الشركة، وكل العيون اتلفت عليه. الموظفين واقفين مش فاهمين ليه سمير بقاله فتره مجاش الشركه
وابنه جه دلوقتي؟ ، الهوا في المكان متوتر، كأنهم حاسين إن في حاجة كبيرة هتحصل.

وقف في النص، بنبرة هادية بس حازمة، وقال:
— يا جماعة، من النهارده أنا المسؤول عن إدارة الشركة.

همهمات خفيفة بدأت تنتشر، نظرات استغراب وتساؤلات.
رفع إيده يشير لهم يسكتوا، وكمل بثقة:
— الأستاذ سمير هو ومدام نيهال سافروا برا البلاد لأسباب خاصة، وسابوا لي توكيل رسمي بإدارة الشركة لحد ما يرجعوا .

مد يده بملف فيه الورق، وقال وهو بيقلب نظره في الوجوه قدامه:
— كل القرارات هتعدّي من خلالي. واللي عنده أي اعتراض، يقوله دلوقتي.

سكت الكل… النظرات متبادلة، بس محدش نطق.
ابتسم ابتسامة خفيفة، فيها مزيج من ألم ودهاء، وقال بهدوء:
— تمام… نبدأ الشغل.

اتجه لمكتبه، خطواته تقيلة لكنها مليانة عزيمة، كأن البكاء اللي كان في المقابر تحوّل دلوقتي لقوة صلبة جوّه.

قعد راكان على الكرسي الكبير في مكتب سمير، أول مرة يحس بثقل المكان ده على روحه.
السكوت مالي الغرفة، وصوت عقرب الساعة هو اللي بيكسر الهدوء.
عبدالرحمن قعد ع الكرسي المقابل ليه وقال بهدوء:
— محدش من الموظفين كان مصدق إنك هتجي النهارده بنفسك .

ابتسم راكان ابتسامة خفيفة بس فيها وجع وتعب، وقال:
— في حاجات لازم تتعمل بإيدي
عشان محدش يشك ف اختفائهم.

سكت لحظة، عيونه رايحة ناحية المكتب اللي كان بتاع سمير، وبعدين بص لعبدالرحمن وقال بنبرة هادية بس حاسمة:
— من النهارده، انت هتبقى مسؤول عن شركتي… كل التفاصيل الكبيرة والصغيرة هتعدّي من خلالك.

عبدالرحمن اتفاجئ شوية:
— شركتك؟ طب وإنت؟

راح راكان معدّل قعدته، وقال وهو بيحط إيده على سطح المكتب:
— أنا هكون مسؤول عن شركة أبويا.
صوته كان ثابت، بس وراه طبقة وجع مش بيحاول يخفيها.

عبدالرحمن بصله باستغراب وقال:
— يعني خلاص… ؟

ابتسم راكان ابتسامة خفيفة، وقال بنبرة غامقة فيها تصميم:
— أيوه قولتلك الوجع هيبقى اضعاف 

عبدالرحمن سكت لحظة، وبصله بنظرة قلق:
— بس راكان، اللي بتبدأه ده طريق مش سهل.

راكان رفع عينه ليه وقال بهدوء قاتل:
— ولا عمري اخترت السهل .... وانت ف ضهري وانا واثق من دا.

ابتسم عبدالرحمن ع كلامه لكن كان جواه حاجه بتقوله إن مش دا الصح وان عمر الانتقام ما كان حل! لكن اكتفى بالسكوت. 

تعليقات



<>