
رواية دعيني ابرئ اسقامك الجزء الثاني2 من لطيفها عاشق الفصل الثاني عشر12 بقلم سميه رشاد
مبتهجة بالسعادة منذ أن استيقظت بالصباح على وروده، تعجز عن شكره بالطريقة التي يستحق وهو الذي يطمس كلمة الشكر من قاموس الحديث بينهما.
بدأت يومها بما تبدأه به دومًا والتقطت مصحفها المدني وبدأت في سرد وردها اليومي.
انغمست في الآيات إلى أن وصلت إلى الآية الثلاثين من سورة: ص، فتساقطت دموعها وخرج صوتها الشجي من أعمق نقطة بقلبها وهي تردد"نعم العبد إنه أواب" رددتها أكثر من مرة وبكل واحدة كانت تخرج من فمها بخشوع أكبر إلى أن انتقلت إلى الآيتين التاليتين وتوقفت على قوله" فقال إنّي أحببت حب الخير عن ذكر ربي" كررت الكلمات عدة مرات وهي تشعر بها توصفه، وكأن الله قصده بالآيات حينما جعلها تقرأ في الوقت الحالي.
بعد دقائق قليلة انتهت من سرد الآيات التي تحفظها عن ظهر قلب، فالتقطت الهاتف وبدأت في الاستماع وعيناها تمر على المصحف لتتيقن من صحة ما سردت، فهكذا تفعل كل يوم تقرأ الورد مما تحفظه بعدما تسرده دون النظر في المصحف كي لا تنسى.
توقفت على الآيات التي ذكر بها اسمه، تساقطت دموعها وشعرت بأن صوتها يبدو رائعًا من فرط خشوعها في هذه الآيات التي صدق قلبها بها، لطالما منَّ عليها الله ووهبها صوتًا حسنًا في قراءة القرآن، ولكن تخجل من القراءة أمام الناس فلا يعرف بحسن صوتها سوى والدتها وأبيها رحمه الله وصديقتها المقربة.
لمعت فكرة بعقلها، فإن كانت تعجز عن شكره بكلمات الشكر المعتادة فلت تعجز عن شكره بهذه الآيات التي سيفهم أنها رددتها لشعورها أنها تليق به وصفًا.
اقتصت من المقطع خمس آيات وأرسلتهم إليه عبر تطبيق الواتس آب ليظهر إليها أنه رآها فور وصولها إليه، ولمَ لا وهذه المرة الأولى التي تبادر هي بالحديث فيها إليه.
لم تمر أكتر من خمس دقائق وجاءها اتصال منه، اضطربت وأصابها الخجل، لوهلة ندمت على تسرعها وإرسالها، دائمًا تخمد ثقتها بنفسها وصوتها، وذاك كان من الدواعي العظمى لإخفاء صوتها عن الناس.
أجابت بحياء شديد وكأنها تحدثه للمرة الأولى، ليباغتها يسأل بصوته العميق:
- دا صوتك أنتِ صح
لم يكن السؤال على حقيقته، بل كان يقرّ حقيقة يؤمن بها ليصله صوتها:
- أيوة
لم يكن منتظرًا لتأكيدها بل تابع:
- صوتك أنا متأكد.. تعرفي.. من أول مرة كلمتك فيها وسمعت صوتك توقعت إن صوتك عذب.. أنتِ حققتي لي حلمي يا ريهام.. كل أحلامي اتحققت فيكِ وبيكِ
وقد كان صادقًا في قوله، فلم يكن حديثه مجرد غزل أزواج، لقد فتنته بصوتها، لطالما حلم أن يتزوج من فتاة عذبة الصوت لينام على صوتها كلما أراد، كلما شكى إليها ضيقًا أو همًا أجابه صوتها بآيه من القرآن، ربما يملك الكثير صوتًا حسنًا في تلاوة القرآن، بل في اليوم الواحد نُعجب بأكثر من صوت ولكن؛ أن نُعجب ونتأثر ووتبكي عيوننا خشوعًا، فلا يملك الجميع موهبة إشعارنا بهذا الشيء.
لن يبالغ أن صوتها كان أفضل صوت لأنثى تقرأ القرآن استمع إليه، لا يعلم أسبب هذا تأثرها بالآيات الذي انتقل إليه، أم أن الله تفضل عليها بهذه الموهبة لتكون هدية لقلبه ترطب بها جفاء أيامه، وقحط لياليه.
-أواب
همس رقيق باسمه أفاقه من شروده بصوتها الخجول فنطق يجيبها بصوت حاني:
- عيون أواب
لتسأله بتوتر:
- بتتصل ليه؟
عقد حاجبيه مندهشًا من سؤالها، سبب اتصاله واضح ومعلوم، ثم أهناك سببًا يقال ليبرر اتصال الرجل بزوجته!
أدرك أن سؤالها ما هو إلا ترجمة لارتباكها من أول بادرة لها بينهما فنطق يجيبها بصدق:
- مش قادر أتخطى صوتك.. لسة بيرن في ودني وكل ما أفتكره يرتجف قلبي و يقشعر بدني..
صمت قليلًا قبل أن يسألها برجاء:
- ممكن تقرأي لي؟
توترت وتلجلجت في حديثها قبل أن تنطق بوضوح:
- أنا بتكسف أقرأ قرآن بشكل مباشر أدام حد.. بتجرأ شوية في الريكورد بس مباشر كدا بتكسف.
على الرغم من تفهمه إلا أنه شاكسها بسؤاله:
- أنا حد؟
ابتسمت بخجل فتابع محاولًا إزالة حاجز من بينهما:
-متعتبرنيش حد يا ريهام.. اعتبري إنك بتقرأي لنفسك وأنا مقدر كل الارتباك والأخطاء اللي وراد تحصل.. حتى اللحظات اللي ممكن تحسي إن صوتك اختل فيها أنا مقدر دا.
امتنعت عن الرد فاغتاظ صائحًا بمرح:
- بقا كدا.. طب اقفلي بقا أروح أكرر سماع المقطع اللي بعتيه.. حتى يا شيخة مهانش عليكي تطوليه شويه باعتة لي نص دقيقة.
ابتسمت برفق ثم أغلقت بعدما أسرعت بإلقاء السلام عليه هربًا، وما لبثت أن أرسلت إليه المقطع المسجل بسورة "ص" كاملة دون أن تقتص منه شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فتحت عبير الكيس الكبير المغلف وعيناها تغيمان بالذكرى، تتذكر ذاك الرجل غريب الأطوار الذي صاح باسمها فور أن وقعت عيناه فوقها، ترتجف بداخلها كلما تذكرت نظرته المستنكرة وكأنه عثر على أحد رجال الدولة المهمين لتوه!!
اقشعر بدنها باندهاش وهي تتذكر إجابته عليها حينما سألته إن كان يعرفها فكان صوته متوترًا تائها وهو يجبها:
- لأ اسمك مكتوب على الأوردر
تلعن غبائها الآن والذي لم يمكنها من نفي حديثه ورميه بالكذب، فهي لم تخبر أحدًا باسمها قط، بل كان اسم والدها هو ما تدونه دائما على كل طلب تطلبه.
انتهت من تفحص الكتب التي بين يديها بملل وعقلها لا يفكر سوى بنقطة واحدة، عند ذاك الرجل!
وضعت الكتب جانبًا والتي كان معظمها من كتب التنمية البشرية وبعض الروايات التاريخية الخالية من الرومانسية، فقط تعهدت لنفسها بألا تطأ الروايات الرومانسية عيناها إلى الأبد، فيكفيها ما حدث لها من خلف قراءة الروايات تلك، ولن تقدر على تحمل المزيد، فيكفي ما عانت بسبب من حسبته بطلًا كأبطال تلك الروايات؛ حتى تمسكت به وعادت الجميع لأجله فجعلته زوجًا تتمنى لو تدفع أغلى ما تملك لتمحي من ذاكرتها أثره
لملمت الكتب مرة ثانية، وقرأت البيانات المدونة فوق الكيس البلاستيكي الرمادي لعل شيئاً يوصلها لسبب معرفة ذلك الرجل بها إلا أنها لم تجد وعقلها يدور حول ذات النقطة؛ من أين يعرفها هذا الرجل؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يلمح لها أثرًا منذ ما حدث من والدته، يكاد عقله يجن من فرط قلقه، ودَّ لو اتصل بها واطمأن قليلًا، ولكن كرامته المهانة تحت قدميها توسلته ألا تفعل فاستجاب لها، ولكن لم يقدر أن يمتنع عن محادثة شقيقتها التي طمأنته عنها وعن حالها. ينقم على والدته لأفعالها بتلك الليلة، لن ينسى كيف كان وجهها منتصرًا حينما عاد إليها بذاك اليوم يعاتبها بحدة لا تليق بابن مع أمه:
- ليه يا أمي.. وصلت بيكِ إنك تأذي؟ دا كله ليه؟
ليأتيه صوتها القوي وهي تجيبه بتجبر لا يليق بأمه التي يعرفها:
- عشان أفوقها وأفوقك.. لو فضلت كدا أنت كمان هتفضل طول حياتك معلق نفسك عشانها.. هي اللي خربت بيتها بإيدها هي اللي غلطت من البداية يبقى متجيش تندم.
ليباغتها بسؤاله:
- مين قالك إنها هي اللي غلطت يا أمي؟
اضطربت نظراتها وتلعثمت وهي تجيبه بغير دراية حقيقية:
- هي اللي مرضيتش ترجع لك..
لينفعل وهو يبوح للمرة الأولى دفاعًا عنها:
- أدام مرضيتش ترجع يبقى غلطي كان كبير.. أنا معملتش غير اللي أبوها كان بيعمله معاهم يا أمي.
شهقت بصدمة كبيرة لتقترب منه وتسأله بعدم تصديق:
- ضربتها؟!
صمت، يقرّ بصمته سؤالها؛ فأدركت فداحة ما فعل، لقد كان شرط والدتها منذ البداية ألا يمس ابنتها ولو على سبيل المزاح، ربما بظروف أخرى لن يروا الضرب أمرًا كبيرًا كعائلتهم، أما هذه العائلة فقد تجرعوا الهموم وحلت الكآبة ببيتهم لأيام عديدة بسبب والد شمس الذي كان لا يكف عن ضرب والدتها، وبالطبع لم يكن الصغار أقل حظّا من والدتهم، فقد كانتا البنتان تنالا ما فيه النصيب إلى أن يأتوا إلى بيت العائلة بكدمات في وجههم جعلت الضرب مع مرور الأيام محرمًا بعرف هذه العائلة، خاصة وأن شمس كانت الأكبر والأكثر تمييزًا؛ فقد طالها الأذى وأدركت الأمر مرات عديدة إلى أن باتت كما تبدو للجميع مريضة نفسية، ترهب الزجاج، العنف، كل ما يذكرها بأفعال والدها، لقد وصفت الفتاة رهبتها من الزجاج مرة أمامهم بقولها؛ أن الأمر أشبه بذاك اليوم الذي أسقط فيه والدهم النيش فوق رأسها وهو يتشاجر مع أمها، وكم أصيبت تلك الليلة بندوب وجروح كثيرة عانى الجميع إلى أن اختفت من وجهها وجسدها بوقت قريب!! ومما زاد الأمر سوءاً؛ هروب والدها بذلك اليوم دون أن يهرع إليها لينقذها، هرع إلى أن لقى حتفه بعدها بأيام ليرسخ في عقل ابنته ذكريات ترهق عقلها وتجعل به تلفًا لا يمكن معالجته.
جلست والدة مهدي على الفراش وضرب ولدتها لتلك الفتاة أعاد على عقلها ذكرى ما مرَّ وما تناسته في السنوات السابقة، لتصيبها الآن بعض الشفقة، ويزورها قبس من بصيرة كانت قد فقدتها مع عقلها الذي كان يجن رثاء لضحكة ولدها.
نهضت من فوق فراش ولدها الذي كانت تنتظره بغرفته دون أن تنطق بشيء، تركته دون أن تعاتبه، ليخبره صمتها أنه قد خذلها بعدما كانت تثق بظلمه وبراءته، وكم آلمه حلقه الآن وهو يتجرع مرارة شعورها بالخذلان كما يفعل مع تلك التي لم تجف مرارة عتابها بعد!!
فاق من ذكريات تلك الليلة، فنهض يبحث عن جده، عقد حاجبيه باندهاش وهو يدرك عدم وجوده بالبيت أجمع لينتقل إلى والدة أواب التي كانت تطهو في المطبخ يسألها:
- فين جدي يا خالتي؟
تصنعت المرأة التوتر والتفتت تنظر في جميع الجهات في طريقة بدت إليه مضحكة، يعلم أنها بالأخص لا تخفي سرّا وبحالتها هذه تيقن من أنها تموت لتخبره بشيء فجارى ما تفعل وسألها مرة ثانية:
- جدي فين
رسمت المرأة القلق على ملامحها قبل أن تجيبه:
- أقولك ومتقولش لحد إني قلت لك؟!
أومأ بإيجاب فتابعت:
- راح عند عمتك عشان شمس جاي لها عريس وراح يستقبله..
فور انتهائها من حديثها لم ترَ له أثرًا، فقط استطاعت قراءة ملامح وجهه المكفهر قبل أن يختفي من أمامها بلمح البصر، فابتسمت بظفر سعيدة بنجاح خطتها مع حماها العجوز الذي أوصاها أن تفعل.. ذاك العجوز الماكر الذي ذهب متصنعًا لهفته لمقابلة العريس بينما يدبر الخطط ليقوم بإزاحته من طرق ملتوية.
ــــــــــــــــــ
جاء العصر ومعه قدم موعد تنفيذ الوعد وحان وقت إزالة ستار الفراق؛ فمرَّ أواب على ريهام ليأخذها، ألقى السلام على والدتها واستأذن منها للخروج برفقة زوجته فوافقت بسعادة، خرجت إليه ريهام للمرة الأولى ترتدي نقابها فاخفت وجهها بين يديها خجلة منه، نهض واقفًا واقترب منها ليسحبها بيديه ويجلسها بجواره على الأريكة الصغيرة المتواجدة في الغرفة، رفعت يديها عن وجهها لتقع عيناه عليها فتغيم عيناه سعادة بها، احتقن وجهها بشدة، لا تعلم أتخجل لأن هذه المرة الأولى التي يراها بالنقاب أم لأنها المقابلة الأولى بعد مسجل الصوت الذي بعثته تريد مدحه من خلاله!!
تأملها قليلًا قبل أن يمد يده ويفك عقدة النقاب من الخلف، راقبته باندهاش واستقرت الحمرة فوق وجهها خجلًا من اقترابه الشديد هذا، أخفضت وجهها تنظر إلى الأسفل فابتسم على حيائها الذي يأسره كلما تحلت به، مال برأسه مقبلًا جبينها فأجفلت وكادت أن تبتعد عنه ولكنه امتلك يديها بين يديه وضغط عليهما برفق مرددًا بصوت حاني:
- اهدي
استجابت لأمره الحاني فعقد هو النقاب حول رأسها وظل يحركه إلى أن ضبطه بطريقة لم تظهر من عينيها سوى ما يمكنها من الرؤية، نهضت لتتأمل نفسها في المرآه الملتصقة بالنيش لتصيح باعتراض:
- هشوف كدا إزاي؟ شكله وحش أوي
هز رأسه بالنفي غير مقتنعًا بحديثها وسألها:
- يعني أنتِ كدا مش شايفة؟
لتجيبه بتردد:
- أيوة بس مش مضبوط.. مبيبقاش كدا..
- لأ كدا.. متخليهوش واسع زي ما كنتِ عاملاه كدا..
عقدت حاجبيها بعدم اقتناع وحاولت ضبطه بطريقة مرضية لكلاهما، فابتسم مبديًا رضاه بعدما أخفت عيناها بقدر كبير، ربما هناك مراجل من الغيرة تشتعل بصدره، ذاك الشق الضيق الذي يظهر بياض بشرتها يجعل الجحيم يحرقه رغمًا عنه، ولكنه لن يخيفها ويخنقها، على الأقل الآن لن يفعل، فيكفيها هذا القدر الذي أبداه لها.
خرج برفقتها وجلسا منعزلين في أحد المطاعم يبثها حبه ويكرمها بحديثه إلى أن غادرًا إلى مقهى مخصص للعصائر والحلوى، أكلا ما بإمكانهما وشاركها محاولتها للمرة الأولى وتجاربها لتناول الطعام والشراب دون أن تتلف لباسها.
بعد دقائق دق هاتفه ليخبره أحد العاملين معه بضرورة ذهابه إلى المحل لتوقف أحد الأمور عليه.
أخذها وذهب، فكانا بالفعل قد انتهيا من تناول ما يريداه، أجلسها على المكتب الصغير البعيد نسبيًا عن العيون وبدأ في مباشرة عمله يخطف النظرات بين الدقيقة والأخرى، بينما العاملين يعملون حوله ويحملون البضائع ليضعونها في المخازن.
كانت عينا ريهام تتابعانه، مظهره وهو يعمل عقد لسانها وأوقف عقلها عن العمل، هذا الحازم الصارم في عمله بعيد كل البعد عن ذاك الحنون الذي كان يغرقها ببحور حنانه قبل دقائق، ربما يتحلى باللين والاحترام في معاملة الصبيان، إلا أنه لين ممزوج بحزم وشدة جعلتها ترتجف داخليًا وتقرّ بأنه يملك هيبة تجعل ما يتعامل معه يحترمه ويهاب غضبه.
بذات الوقت رأت اقتراب إحدى الفتيات منه، فتاة شابة يبدو أنها عروس جاءت لاقتناء متطلبات لجهازها، راقبته وهو يرفع عيناه لتقع على الفتاة؛ فانصدمت معالم وجهه وأخفض رأسه سريعًا بعدما رمقها هي بنظرة لن تنساها أبدًا، تعجبت ريهام لمَ يتهرب من الفتاة وينظر إليها هي، وسرعان ما شهقت بصدمة وصوت الفتاة يصل إليها بسفور دون حياء، بينما عيناها تتبجحان وتتابعانه دون خجل:
-مبروك يا أواب.. قدرت تنساني؟!
لتجده يعقد حاجبيه مندهشًا قبل أن يجيب باستنكار وهو ينصرف مغادرًا الفتاة مقبلًا تجاهها هي:
- هو أنا كنت فاكرك أصلًا عشان أنساكي؟!