
رواية غرام في العالم السفلي الفصل العشرون بقلم داليا السيد
عائلة من د مي
حصلت على الحاسوب الذي طلبته بكل مواصفاته التي رغبت بها، تعرفت على الطريقة الجديدة لمعاملة زوجة الريس، أحد منافد البيع الخاصة بمجموعة المجد تقف لمجرد وجودها بالمكان والجميع ينتظر أوامرها وهي تختبر الجهاز حتى ابتسمت لحصولها على ما أرادت
لم تستطع منع نفسها من سؤال أنس "ألا أخبار عن هندية و.. مي؟"
للحظة ظل جامدا، لم يحاول أحد فتح الحديث معه عنها، ظل يومان بعيدا عن صفوان بعد ما فعله بمي متجنبا النظر بعيونه لأنه لم يستطع تجاوز الأمر بسهولة حتى بعد مواجهة الزعيم
الآن وقد مر الكثير على ما حدث يمكنه التحدث بالأمر وإقرار ما نما داخله تجاه مي، لا مشاعر.. حالة من الجمود لا حب ولا كره
"لا"
الاختصار منحها بداية غير جيدة وملامحه كذلك جعلتها ترغب بالتراجع لكنها لم تفعل "أنت تعلم أنه كان غاضب.."
قاطعها بحزم "وهي تستحق"
صمتت، لحظة إدراك أنه يتفهم الوضع أكثر مما ظنت جعلتها تتراجع
"هي لم تدرك مكانتك جيدا ليال وهو لم يكن ليتركها وأنت زوجته من أهانتها"
تفهمه للأمر جعلها تحترمه أكثر ولكن ما زالت تندهش من موقفه، هل أحبها يوما؟
"لم تحاول رؤيتها؟"
كان ينتبه للطريق والأمر لم يعد مؤلما كما كان، تقريبا شفى من الوهم الذي كان يعيش به "لا، مي انتهت بالنسبة لي ليال وصدقيني لم أشعر بالأسى عليها، كانت وهم وأنا سعيد أني نجيت منه"
أبعدت وجهها وهي تدرك ما يقول ومع ذلك تمنت لو رأته سعيد بحياته هو وكل الرجال الذين عرفتهم وعاشت بينهم "أنت تستحق الأفضل"
ابتسم ناظرا لها بامتنان، كلهم أحبوها كما أحبها زعيمهم ليس لأنه فعل بل لأنها تستحق "أنت تنحازين لي زوجة أخي"
منحته نظرة صادقة تحمل كل ما بداخلها تجاهه "بل أنا جادة أنس، مي تنظر لطريق آخر لم يكن يناسبك لذا أنت حقا تستحق الأفضل وهو ليس معها، ما رأيك بأسما؟"
نظراته لها امتلأت بالدهشة والذهول، هل حقا تسأله عن امرأة أخرى بتلك المرحلة، هو أغلق أبواب قلبه ووضع لافتة بالخط العريض ممنوع الإزعاج
"أنا، أقصد هي فتاة جيدة وطيبة جدا ووالدها موظف بسيط"
كان عليه إيقافها، منحها موجز عن أنباء قلبه بالأيام الأخيرة "لا ليال، لن أخوض أي تجربة جديدة الآن"
لمحت الجدية بنظراته وكلماته ولكنها تحاول "هي فتاة بسيطة أنس وترغب بحياة هادئة ورجل يمنحها الاستقرار"
أبعد وجهه للطريق وهو يستوعب كل شيء ولا مجال حتى بالتفكير بالأمر "ليال مي كانت ترى أني دون المستوى، دكتورة ورجل من عالم سفلي ملوث بالأسود وصديقتك ستراني هكذا ولن نعيد الأمر مرة أخرى، مهندسة ورجل عصابات"
للحظة دارت كلماته برأسها لكن لديها أوجه كثيرة للاعتراض خاصة وأنها زوجة لرجل من نفس العالم ولا اعتراض عندها بل سعيدة معه جدا
"أنس أنت لست رجل عصابات، لا أنت ولا هارون ولا أحد من رجاله وأسما ليست مي"
تفهم اندفاعها بالرد متحيزة له، ولزوجها لكن ليس كل النساء هي "نعم ولكن ليس كل النساء أنت، ليتني أجد امرأة تحبني كما تحبين الريس"
تورد وجهها لذكر مشاعرها، هل الجميع يرى حبها هكذا؟ هي لا تخجل من ذلك وتتمنى لو تمنحه أكثر وأكثر
"ستجد أنا واثقة"
رجل الأمن فتح لها الباب، الجميع يعرف سيارة الريس وأنس بالطبع، ترك السيارة للحاجب وتحرك خلفها وهي تدخل، موظف الاستقبال لم يرى أنس الذي توقف لمنح أحدهم أوامره
"أمرك آنسة"
لم تعرف ماذا تقول أو تفعل، تاهت نظراتها أمام الموظف، هل تخبره أنها أتت لتعمل هنا؟
"الباش مهندسة ليال زوجة الريس، أين مكتبها الجديد؟"
كلمات أنس جعلت الرجل يرتبك، وجهه فقد لونه ونظراته تبعثرت بينها وبين أنس "آسف سيدتي، لم أعرفك، آسف سيد أنس، الممر التالي المكتب الثالث"
ما أن تحركت حتى ضحكت والتفت لوجه أنس الجامد "أنت أصبته بالفزع"
لم تتبدل ملامحه، رجل الريس الثاني لديه نفس جديته، لا يبتسم ولا يمزح لكنها تنزع الضحك منهم جميعا "عليهم أن يعرفوا من أنت"
الممر خاص بأماكن الموظفين وهو سار بجوارها حتى وصلا وفتح لها باب الغرفة لترى الغرفة وبها ثلاث أماكن لثلاث أشخاص بأجهزة مغلقة فتراجعت وهي لا تفهم أين مكانها
"والآن ماذا؟"
بالطبع أنس أيضا لم يعجبه الأمر فأخرج هاتفه "شوقي يخبرنا"
اتخذت مكانها خلف المكتب المعد لها ثم نظمت الأمر واختارت اثنان من الموظفين اختبرت قدراتهم على الأجهزة ووضعت جهازها الجديد وبدأت العمل
****
"أرجوك يا بابا توقف"
خلصت أسما نفسها من يد والدها وهو كان يقيدها ليضربها كعادته وهي لا تمنحه المال، لم يعد لديها ما تمنحه له ولكنه لا يصدق أو لا يهتم كلما يريد.. الزجاجة
ابتعدت تبعد شعرها المتناثر عن وجهها الملطخ بالدموع وأصابعه تترك أثر على وجنتها وجسدها يرتجف من كل ما يفعله بها
"ليس قبل أن تمنحيني ما أريد"
وهجم عليها مرة أخرى وهي تحتمي بالمائدة وتلف وهو يحاول إيقافها والإدمان عدو لا يقهر من ضعيفي الإرادة كوالدها
"ليس لدي أي أموال لماذا لا تصدقني؟ أنت أخذت كل ما أملك أنا لا أعرف كيف سنكمل باقي الشهر بلا مال؟"
هجم مرة أخرى ولكنها أسقطت المقعد بطريقه وهي تفر للباب متعلقة بحقيبتها وكأنها حبل النجاة وعلق هو بالمقعد ولم يمكنه اللحاق بها صارخا باسمها وهي تصفع الباب خلفها وتنزل السلم بأسرع ما تملك والنظرات بالأسفل تسقط عليها
المعلم صبحي صاحب القهوة اصطدم بها "اهدئي يا باش مهندسة، لن يمسك بسوء"
الدموع صاحبتها وهي تحدق به والفزع غيمة تمر على عيونها بالضبط مثل الغيمة السوداء التي صنعها إدمان والدها للخمور
"أنا تعبت"
لمعت نظرات الرجل عليها.. الفضائح كل يوم تعلو هنا وهناك والجميع لم يعرف كيف يساعدها..
"أعلم يا باش مهندسة، تعالي واجلسي"
اهتزاز رأسها كان بلا وعي ويداها مضمومة أمام صدرها "لا، لدي عمل، أحتاج عمل آخر"
لمعت عيونه مرة أخرى لفتاة تعاني بسبب رجل فقد عقله بسبب الخمر وترغب بطوق نجاة
"أنت بالفعل تعملين عملان فأين الوقت؟"
الرجل كان يهتم بها، ليس لأنها مثل ابنته وحالها يثير شفقته وإنما لغرض آخر، رجل يطمع بامرأة صغيرة وجميلة وبحاجة للمال وهو لديه المال وزوجتين وأربع أولاد والبحر يحب المزيد
انتبهت لاقترابه وهما وسط الشارع والمارة من حولهم فتراجعت تستعيد وعيها وتمسح دموعها "أنا لابد أن أذهب"
وقبل أن يوقفها تحركت مبتعدة لتخرج من شارعهم الضيق وتصل للشارع العمومي باحثة عن سيارة الأجرة وقفزت بها بجوار أحد الركاب
من بين صداع يدق برأسها وألم بعيونها أخرجت هاتفها لتجيب الرنين، مديرها يخبرها بعمل بأحد الأماكن، أغمضت عيونها من التعب وهي بحاجة لمن يمنحها الراحة
عاد الهاتف للرنين، اسم كريم ظهر "نعم كريم!؟"
"أسما ألم تفعلي ما طلبته منك!؟"
عصرت رأسها لتتذكر ما رغب به ولكنها لم تذكر شيء، عقلها متوقف عن العمل، أغلق أبوابه ولافتة، مغلق حتى إشعار آخر
"وما الذي طلبته مني كريم؟ أنا لا أذكر"
صوت التذمر بدا بنبرته "العمل لدي هارون الديب زوج صديقتك، ألم تخبريها!؟"
رفعت رأسها، ليال.. هارون الديب..
أغمضت عيونها هل يمنحها الله بابا تطرقه وهو يعلم بحالها!؟
"أسما أين ذهبت!؟"
فتحت عيونها تواجه الطريق الذي يخترقه سائق الميكروباص "هنا كريم، أنا لم أهاتف ليال منذ الحفل ولا أعلم ماذا يمكنها أن تفعل لأجلك"
"فقط أخبريها أسما واتركي الأمر لها"
أغلقت الهاتف وتنفست بقوة طالبة لهواء ربما يمنحها بعض الراحة، ستهاتف ليال وتطلب منها عمل لدى هارون، عليها أن تفعل فليس هناك حل آخرا
لم تفكر وهي تهاتف ليال ولكن الأخيرة هاتفها مغلق فشعرت بالقلق يتسرب لها ولم تعرف ماذا تفعل؟
****
لم يكن ليترك عدوه هكذا بسهولة، سيحاربه ولكن ليس بطريقته الجبانة، بالوضوح وليس بالخفاء
منحه هدية صغيرة كبداية، قنبلة صغيرة فجرت محل السيارات الفاخر الذي كلفه مليارات وكان افتتاحه العام الماضي مع باقة ورد أسود لا يزرع بمصر وكلمات بسيطة
"الزعيم لا يحب الديون"
لم يمنحه مهلة ليستعيد توازنه وهو يرسل له مباحث المخدرات لتوقف شحنة تم تهريبها من جنوب سيناء ويتم القبض على الرجال وتحريز الشحنة وخسارة فادحة جديدة
انتقام الديب ..
بعض مطاعم الطعام الخاصة به تم تسريب طعام فاسد لها ومباحث التغذية وتشميع بالشمع الأحمر
إعلان الحرب كان واضحا، بلا تراجع، استفزاز ليعيده لمواجهته لكنه لم يعود.. الكبير لم يمنح أوامره بعد
لذا لم يكن من الممكن مواجهته لوجوده خارج البلاد والكبير لم يترك له أثر كي يصل له هارون لكان سافر خلفه وقتله بيده
توقفت السيارات بالجراج بمواجهة بعضها البعض، ظل بمكانه بالخلف، لم يرغب برؤيته، ما زال غاضبا ولا يجيب اتصالاته ولا ينفذ أي أمر، أعلن التمرد ولا أحد يوقفه
لا كبير بحياته ولكن حتى الغضب له نهاية
تابعه صفوان بالمرآة وسيارة الكبير تسد عليهم الطريق "ماذا هارون!؟"
أبعد وجهه ورأسه لا يتوقف، لقد أتى الكبير له بنفسه، تمرد عليه ومع ذلك هو هنا لأجله
فتح باب السيارة ونزل وصفعه خلفه بقوة، سائق السيارة الأخرى نزل وفتح له الباب الخلفي فدخل والرجل يغلق وظل بالخارج كما كان صفوان، يقف كالصقر وعيونه الحادة تتبع رئيسه
"هل انتهيت؟"
لم ينظر للرجل الذي نفخ دخان سيجاره بقوة معلنا غضبه ليوازي غضب الزعيم الذي لم يتراجع أمامه، متمردا بلا تراجع
"من ماذا بالضبط!؟"
"لا تعبث معي هارون لقد تماديت وصبري طال عليك"
لم يهتم بنبرة الغضب ولا بالتحذير الواضح "وماذا!؟ ستخطف زوجتي وتبيع أعضائها للدكتور مرة أخرى؟"
هتاف الكبير يشبه زئير الأسد وقد سمعه رجال الحراسة بالخارج لكن ولا واحد يجرؤ على التدخل "كفى، أنت تنسى نفسك وسط غضبك ولا تعقل الأمور"
أشاح بيده والزئير لا يخيفه "أي عقل الذي تريده وأنت وهو أضعتم كل العقل بأفعالكم، هل تظن أني سأترك أحد مس امرأتي بسوء؟ سأموت قبل أن أترك ثأري فوفر كلماتك لأنها لن تفيد معي بشيء"
وكاد يفتح الباب لينهي الأمر لكن الكبير أوقفه بحزم "أنا لم أنتهي بعد هارون، لست هنا لأتلقى تهديدك"
هو يعلم تلك النبرة جيدا، ليست غضب وربما تذكير بالماضي، بما يكنه له، جمدت يده على الباب ولكنه لم يرتد والكبير يكمل "أعلم أن تصرفات جسار فاقت كل الحدود وتجاوز المسموح وغير المسموح ولكنك تفعل المثل وهذا.."
ارتد له ولمعت ثورة المحيط بعيونه، قاتمة، غاضبة، هائجة تحمل موج لا نهاية لارتفاعه "هذا أقل ما يمكنني الرد به على تصرفاته يا باشا، هو لم يكتفي بكل ما فعله بل ويسخر مني بإرسال جثث الرجال كما فعل مع عزمي ولكني لست عزمي ولن أتركه"
"أنت بالفعل لم تفعل هارون، ضربات قاضية بكل ما يخصه كلفته الكثير، انتهينا هارون، تلك الحرب لابد أن تتوقف"
الجنون يرتفع بلحظة وبلا حواجز توقفه حتى صاحبه ينقاد خلفه "لماذا لم تخبره ذلك وقت بدأها ووقت كاد يقتلها أو يبيع أعضائها؟ لماذا تركته يفعل ذلك بالأساس؟"
دهس السيجار بالمطفأة والغضب هو سيد المكان، أشعل نيران الحرب بين الرجلان وجلس مبتسما بزهو.. أنا القائد
"لم أتركه هارون، لم لا تصدق أني لم أكن هنا وقت فعلها ولم أوافق على ما فعل عندما عرفت؟ هو أنا من أوقفته عن إكمال جنونه تجاه امرأتك وأنا من نفيته كعقاب على ما فعل، هو أنا من أوقفته هارون وأنا من يأمرك بالتوقف الآن"
لم يتراجع من الكلمات، لم يرحل الغضب بل استدعى رفيقه الأول.. الشيطان، يلعب على أزرار الانتقام محركا أصحابها كما يشاء
"وتنتظر مني التوقف؟ هذا حلم يا باشا، لطالما سمعت أوامرك وكنت فتاك المطيع حتى نلت كفايتي وعرفت أن هو من ينال منك كل شيء، جيد ولكن أخرجني من اللعبة لم أعد من رجالك بعد اليوم"
قبضة الكبير قبضت على يده لتوقفه عن جنونه وعيون الكبير نسخة كربونية من عيون الزعيم وبها نفس الغضب ولكن نبرة الصوت لانت، تراجع الغضب منها واكتفى بسكن النظرات
"لم تكن فقط رجل من رجالي هارون، اهدأ وعد لعقلك، الزعيم لا يستسلم للغضب فهو يفقد الاتزان والحكمة"
ما زالت قتامة عيونه تنبض بالتمرد.. لم تكن فقط رجل من رجالي..
أبعد وجهه غير راغب بمواجهة من نوع آخر، نوع يعرفه ولا يرغب به الآن، الضعف لا مكان له بحياته وليس الآن
"أنا لا أنكر تجاوزه كما أخبرتك لكني أوقفته، أوقفته لأني أهتم هارون"
لف وجهه له فالتقى بالصدق بنظراته، حنان طل أخيرا من مقلتين تبرقان ببريق أزرق يشع بالصدق "أهتم بك وبزوجتك وحياتك واستقرارك، أهتم بألا يصيبك أي ضرر، أنت تعلم مكانتك عندي وأنا لا أكذب هارون"
إلى متى ستظل تلك الكلمات توقفه عن جنونه؟ كلمات تدفعه للماضي، لذكريات لا يرغب بها، يدسها بصندوق متهالك لا قيمة له مغلقا بقفل محكم ألقى مفتاحه بمكان غير معروف حتى له ولا يرغب باستعادته كما ألقى بالصندوق بالمحيط ليغرق بأعماقه ويعلم أنه لن يجده لكنه لم يدرك أن الصندوق جره معه بنفس الحبل
أبعد وجهه رافضا الهدوء جاذبا يده من قبضة الرجل "فقط أوقف غضبك وعد لحياتك وأنا أعدك أنه لن يتجاوز مرة أخرى"
ظل يحدق بزجاج السيارة دون أن يرى شيء، هو يعلم أن صراعاته مع جسار لم ولن تتوقف وهو ما قاله "لو توقفت أنا فهو لن يتوقف"
"وقتها لن أمنعك عنه"
التفت له "وقتها ضربته ستكون قاضية يا باشا"
"أضع رقابة مشددة عليه وعندما تنتهي عقوبته سأخبرك قبلها لتأخذ حذرك ولا أظن أنه سيعيد الأمر"
"هو لم ولن يتراجع، تعلم كم يكرهني رغم أنك تمنحه كل شيء"
لانت ملامح الرجل وتبدلت نبرته "رغبت بمنحك كل شيء ولكنك رفضت بني"
تجهم وجهه وتبدلت نظراته لظلام حالك لا مجال للنور فيها، أبعد وجهه مرة أخرى غير راغب بتلك المواجهة فكم من مرة تمت وانتهت للا شيء
"أنا لا أرغب بشيء"
"أعلم، لكن أنا أرغب بشيء"
ظلت ملامحه جامدة، أنفاسه تعالت، عضلاته شدت كوتر الكمان، شفتاه زمت كخط مستقيم ارتسم بوجهه معلنا وقف الحديث
"متى ستمنحه لي هارون؟"
لف وجهه ليلتقي بعيون حزينة، وجه اسود من الألم، شفاه ترتجف من الكلمات التي تقف على عتبتها ولا تخرج
"لا مكان لهذا الشيء بعالمنا يا باشا" وصمت قليلا قبل أن يكمل "فات الأوان"
وفتح الباب ونزل ولم يغلقه حتى خلفه كما هي العلاقة بينهم، مفتوحة ولم تغلق حتى اليوم، لم يضع أحد النهاية ولا يظن أنها ستوضع أبدا
أغلق عيونه بمجرد دخول السيارة وتنفس بقوة مسندا رأسه على مسند المقعد الخلفي، صفوان قاد ونظراته عليه والقلق سكن قلبه "هل أنت بخير؟"
لحظة مرت احتاج فيها أن يجذب الهدوء لقلبه والسكينة لعقله قبل أن يفتح عيونه لصفوان "نعم"
هاتفه يهتز فأخرجه ليرى اسمها، يحتاج فعلا لسماع صوتها بل ولضمة ذراعيها والنوم بين أحضانها
"أين أنت!؟"
كانت بالمكتب، العمل أخذها بالفترة السابقة وهي تعيد تنظيم كل الانظمة الخاصة بشركاته وفنادقه ولكنها لم تتغاضى عن ابتعاده هو وكأنه مل منها
"ماذا بك حبيبي!؟"
عاد يغمض عيونه وكلمة حبيبي تمنحه راحة هو بحاجة له، الحب عملة نادرة لم يحصل عليها بحياته سوى منها ولم يكتفي منها بعد، لم تعوضه سنواته الماضية، لم تبدل قسوة كل من حوله معه
"لا شيء، هل أنهيت عملك؟"
"ليس بعد، أحتاج لموظفين جدد هارون فهل أفعل؟"
لف وجهه للبحر وقال "بالطبع ملاكي، اختاري وبلغي أنس كي يجري استعلامه عنهم"
صمت لاح بينهم حتى قالت "أفتقدك هارون"
استعاد وعيه لكلماتها "أنا معك صغيرتي"
لا أنت لست معي حبيبي، أنت مع عملك ودنياك الخاصة ونسيتني بالمنتصف وأنا أفتقدك حبيبي
نبرتها حملت الكثير وهو فهمه "نعم، سأتركك لعملك، هل سأراك على العشاء؟"
أغمض عيونه مستوعبا ما كان منه بالأيام السابقة، منذ وصلت دورتها الشهرية ابتعد وانشغل بالانتقام وتركها و..
"نعم ملاكي"
أغلقت وهي تتراجع بالمقعد تحبس دموعها، لم يكن معها منذ أخبرته بوصول دورتها وانشغل كما قال ولم يسأل متى انتهت أيامها ولم يهتم لدرجة أنها ظنت انه لم يعد يرغب بها..
دقات الباب أعادتها للواقع..
"صديقتك ترغب برؤيتك"
حدقت بأنس بلا فهم "صديقتي من؟"
"أسما"
تراجعت وهتفت "لتدخل أنس"
*****
ألا تعرف أن ما تفعله جنون؟
بل هو أنت الجنون ذاته، امرأتك وأبيك؟ أين العقل فيما تقول؟
تخسرها بدلا من أن تجذبها لتمتعك أكثر وأكثر وها هي تمنحك الجائزة الكبرى
تزيد كرهي لك..
لمع الرمادي بعيونه ولم يسمح للظلام بامتلاكه، احتراق العسلية لا يعجبه فهل يتوقف عن إشعال نيرانها؟
"وما الجديد؟"
هتفت بجنون لم تستطيع إيقافه "الجديد أنني لم أعد أتحمل ما تفعله بي، الجديد أنني لن أقبل إهاناتك بعد اليوم"
علبة السجائر لا تفارقه، رفيقه الأول والسيجارة تشتعل لتمنحه جرعته من حرق صدره بلا رحمة "الحقيقة أصبحت إهانة؟ أنا أحضرتك من مركز الشرطة نصف عارية فهل تخبريني ماذا يمكن أن يقال عن ذلك؟"
الدموع تحارب لتأخذ مكانها بالعيون العسلية لكن الرفض كان يواجها، لا للضعف الآن، كرامتها تؤلمها، قلبها يصارع للبقاء وعقلها يخوض المعركة بشجاعة
"كذب، كنت تعلم أن كل ما كان كذب حتى الضابط لم يصدق تورطي ولكنك ترغب بتلطيخي بالدعارة كي أظل رهينة تحت سطوتك لكن لا، أنا تعبت لماذا لا تتركني؟"
اقترب وقبض على ذراعها بقوة والغضب سلعة شائعة ورخيصة تكاد تكون بلا ثمن
الغضب سيتركني أنا الآن غاضبا مني.. بكم تشبيه جعلته يبدو؟
"لأنك ملك لي، زوجتي والورقة تثبت ذلك ولن تذهبي لأي مكان إلا بأمر مني هل تفهمي؟"
نفضت قبضته بقوة مكتسبة من كثرة الألم الذي نالها منه "لا، لا أفهم ولن أفهم، طالما تراني تلك العاهرة، سارقة الرجال فلماذا أحضرتني هنا؟ لماذا تبقيني زوجة وأنت لا تثق بي؟ لماذا تبقي الورقة وأنت ترى أنك لا تملأ عيوني وقد أرى رجلا أكثر كفاءة منك"
ارتدت للخلف قبل أن تسقط يده بالهواء وتفلت وجهها من صفعة كادت تسقطها "إياك أن تفعل وإلا أقسم أن أخبر والدك كل شيء ولن أهتم بالنتيجة"
الدموع هزمتها وفرت على وجنتيها وهو يقبض على ذراعها مانعا إياها من الفرار وقد نجحت بتدمير الجمود داخله وانفلت زمام الأمور منه "لو تجرأت على النطق بكلمة معه لن يكفيني فيك شيء، سألقيك لأخيك بعد أن أخبره نبذة بسيطة عن أخته العاهرة التي تم جرها عارية مع العاهرات للحبس وأنها ساومتني لأخرجها عارضة نفسها علي لولا أني أكره الحرام"
اتسعت عيونها مما يدعي ولا تصدق أنه سيفعل ذلك، تراجعت من قبضته ويدها تلمس مائدة الزينة، المقص سقط بأصابعها ولم تتردد وهي ترفعه بينهما وهتفت "وأنا لن أنتظر لتفعل، لقد تعبت من تلك الحياة ولم أعد أرغب بها"
وكادت تدفعه بقلبها لتنهي حياتها لولا أنه استوعب ما تفعله فأمسك رسغها بقبضته وهي تقاومه ليبتعد عنها ولكنه بالطبع الأقوى ولابد أن يفوز رغم محاولاتها الفاشلة حتى انتزع منها المقص وهي تسقط على الأرض من الوهن والتعب والحزن
دموع كثيرة تفجرت بعيونها وعندما لمسها نفضت يداه وصرخت به ليتركها عندما انفتح الباب وصوت أوقفهم "رشدي ماذا تفعل هنا وماذا يحدث لأحلام؟"
****
"أهلا أسما ادخلي"
جذبتها للمقاعد الجلدية وجلستا متواجهتين وملامح أسما متعبة وليال لا تلاحظ ذلك فقط سعيدة برؤية صديقتها
"ما أخبارك؟ كيف عرفت مكاني!؟"
رفعت عيونها المتعبة لها وأجابت "هاتفك كان مغلق فأتيت الفندق وموظف الاستقبال أخبرني أن لك مكتب هنا وأنس قابلني بالخارج"
كانت سعيدة وهي تنهض وتطلب عصير لهما والتفتت لها "هارون منحني عمل هنا منذ الحفل تقريبا وأنا أعيد النظام من جديد"
ظلت تنظر لها وهي تفرك أصابعها.. سعادة امرأة بزوجها وما يمنحه لها خيال لا يمكنها أن تعيشه، حلم لا يتوفر لها فلا وقت للنوم كي تحلم، منحها الإدمان قيود من حديد وتحطميها يحتاج لقوى عظمى لا تملكها
"مبروك"
دق الباب ودخل أحد الرجال بالعصير ثم خرج فتحركت لها وجلست أمامها وهي ترى لمحة ألم وحزن بعيون صديقتها "ماذا بك أسما؟"
انفجرت الدموع من عيونها وتمكن البكاء من صاحبته حتى سيطر وهيمن وتصدر الساحة وليال تهرع لها، تحيطها بذراعيها، تربت عليها، تسألها عما بها وأسما لا تعرف كيف توقف انهيارها
تناولت بعض العصير من يد صديقتها لتهدأ وجففت دموعها وليال تسأل "هل أصبحت بخير؟"
هزة خفيفة من رأسها تمنحها الرد ثم كلمات من بين الشهقات "آسفة ليال"
ربتت على كتفها بحنان "لا تفعلي أسما فقط أخبريني ماذا حدث"
بهدوء لم تخبرها عن الإدمان، العار لا يفتح أي أبواب بل يصفعها بقوة، فقط أخبرتها همومها باحتياجها لعمل لأن والدها ترك عمله، وضعت جزء مما تحمل بين أيدي صديقتها التي تصغرها ولكن ليس لديها سواها
ليال لم تبدي أي تعبيرات على وجهها وانتظرت حتى انتهت الفتاة من حكايتها تسمعها بتأني
"هذا شيء مؤسف، الاستغناء عن رجل مثل والدك شيء سيء"
حدقت بأصابعها الجافة من غسيل المواعين وأعمال البيت وعملها بالشركات، لم ترى يوم راحة حتى سقطت من التعب وتهاوت من الهزيمة
"نعم ولكن هو أصبح متعب بسبب.. المرض لذا لم يعد له مكان"
لم يمكنها إخبار صديقتها الحقيقة وخسارتها.. الحقيقة مذاقها مر وليس كل الأشخاص تبتلعها وليال ليست مختلفة
هكذا ظنت.. لكن..
الفانيليا مختلفة..
بالأساس ابنة مجرم لكنها لم تكن تعلم
قاطعتها بجدية وصدق "أنا أحتاجك أسما، غدا سينزل إعلان بالجرائد بطلب مهندسين خبرة وأنت ستكونين أفضل اختيار وما زلت أحتاج اثنان آخران"
مسحت دموعها والأمل ارتفع داخلها "حقا!؟ حقا ليال سأعمل معك؟"
ابتسمت ليال سعيدة بالأمل الذي ارتسم بوجه امرأة يائسة تحمل الألم والحزن داخلها بلا كلل لأن سببه أب لا تملك سواه ولا يمكنها حسابه على أخطائه
نهضت ليال لمكتبها تمسك هاتفها "ومن الآن ولكن أرغب بأن تتفرغي لنا، امنحيني فكرة عن رواتبك وسأمنحك ثلاثة أضعاف فقط تتفرغي لنا"
رحلت ابتسامتها وليال تتحدث بالهاتف "نهى، عدلي الإعلان نرغب فقط باثنان بدل من ثلاثة لقد حصلت على واحد"
وأغلقت وأسما تنهض لتقف أمام مكتبها "أنت لن تمنحيني صدقة ليال أنا.."
أوقفتها قبل أن تتمادى بظنونها "أنت مهندسة ماهرة ولديك خبرة جيدة أنا بحاجة لها ولكي تتفرغي لي لابد من تعويضك، هذا ليس إحسان أو صدقة أسما هذا مقابل عملك وخبرتك وكل العاملين لدى الريس ينالون مرتبات عالية، اسألي لتتأكدي"
عادت دموعها تبكي عزة نفسها وتركتها ليال كي لا تؤكد شعورها بالشفقة بل قالت "سنبدأ من الغد صباحا، مكتبك بالغرفة المجاورة لي هل ترغبين بجزء مقدم من الراتب حتى تنتظم أمورك؟"
ليال تتحدث بطريقة عملية أكبر من عمرها، هل اكتسبت ذلك بمدة قصيرة أم أنها موهوبة بالفطرة حتى بالعمل؟
"ربما جزء من .."
لم تنتظر وهي ترفع الهاتف مرة أخرى "أخبري الحسابات منح الآنسة أسما مبلغ.. من راتبها فهي تم تعينها معنا"
اتسعت عيونها من المبلغ وارتجف لسانها وهي تردده "ليال هذا كثير"
ابتسمت بصدق، هي تعرف معنى الاحتياج، معنى أب قاسي يفكر بنفسه فقط، الفارق أنها كانت صغيرة ولا تعرف ماذا كان سيحدث لو ظلت تحت سيطرته ولكنها نجت بفضل هارون
"وأنا أعلم أنك ستمنحينني ما يوازيه وأكثر"
هزت رأسها ودموعها لا تنتهي ثم خرجت وأنس يدخل ونظراته عليها ثم ارتد لها "ماذا بها؟"
عادت له وقلبها ممزق من أجل الفتاة وربما لمستها الذكريات بلمحة ألم وذكرى أب خرج من السجن ورأته مرة عابرة واختفى ولا ترغب بتكرار الأمر
"لديها مشاكلها الخاصة أنس، هل نذهب؟ ما رأيك ببيتزا للغداء؟"
نهضت معه وهو يقول "تعلمين أني لا أحبها، خذي البيتزا وسآخذ البرجر خاصتي"
لم ترد وهي تتحرك معه للخارج والرجال تتبعها والجميع أصبح يعرفها وينتبهون لحركتها لكن ما أن فتح لها رجل الأمن الباب الزجاجي لتخرج حتى رأت سيارته تندفع تجاها لتقف أمامها
لم ينتظر صفوان ليفتح له بل نزل وهي جامدة مكانها، لم تتخيل رؤيته الآن، هل أتى لعمل؟ بالطبع، لن يمنحها وقت..
"ما رأيك بالغداء بأي مكان ترغبين به صغيرتي!؟"
لم تصدق ما قاله وعندما استوعبته نفضت العقل وعادت للصغيرة التي تعشق منقذها وأسرعت له تلقي نفسها بأحضانه بلا اهتمام بالرجال من حولهم ولا النزلاء من هنا وهناك
فقط هو.. حبيبها.. منقذها.. أميرها على الفرس الأبيض
تراجع خطوة من قوة اندفاعها لكنه لفها بذراعيه بقوة وشعرها غطى وجهها ومنحه الفانيليا فأغمض عيونه سعيدا بعبق العطر المفضل
هل أهملها لهذا الحد؟
أبعدها ليرى دموعها فهمس "الريس غفل عن صغيرته فهل له بالسماح؟"
ابتسمت من بين دموعها "الريس أكبر من أن يطلب السماح، الريس يأمر وصغيرته تنفذ"
وضع قبلة على جبينها وهي لا تعرف كيف رقص قلبها من سعادته ولا كيف نافسه عقلها بالهتاف معلنا البهجة
استكانت تحت ذراعه وصفوان يدخل السيارة والريس يأمره "الأنفوشي صفوان، أرغب بالسمك، ما رأيك ملاكي؟"
لمعت عيونه لها، تألقت بنظرة تعرفها يمنحها لها وهي بين أحضانه وهما ملتحمين كجسد واحد "ما تريده هو ما أريده هارون!؟"
الطعام كان شهي بالفعل وكالعادة شهيتها مفتوحة طالما معه وهو يظل جالسا بمقعده مشاهدا صغيرته وهي تلتهم طبقه..
"هل أطلب المزيد صغيرتي؟"
لم تنظر له وهي تنهي الطبق "لا، لقد امتلأت، الطعام رائع، معك أتناول خروف دون أن أشبع هارون"
ابتسامة الزعيم لأنثاه فقط.. ابتسم
السير على كورنيش البحر متعة من نوع خاص، رغم ازدحام الشاطئ بالمصطافين والكورنيش بكبار السن ممن يضعون مقاعد بلاستيكية ويمضون وقتا سعيدا وأكواب الشاي تشاركهم جلستهم
يده تقبض على يدها سارا معا والشمس تستعد للرحيل عندما وجدا مكانا فارغا من الناس وقفا جنبا إلى جنب والشمس تستريح على صفحة المياه وقتها رفع ذراعه وأحاطها وهي لفت ذراعها حول جسده
لم يشعرا إلا بأنهما وحدهما ولا أحد يشاركهم لحظتهم، انتهت الشمس والتقى بعيونها الحالمة وهي رأت انعكاس البحر بعيونه تمنحها أجمل نظرة رأتها وهمست له هو وحده "تحبك صغيرتك"
ابتسم كما تحب، تعشق ابتسامته، نظرات الحب بعيونه، أحضانه، تعشق كل لحظة معه، وضع قبلة على جبينها وضمها له حتى سكن النهار ببيته نائما بأحضان الليل الذي فرد ذراعيه على الدنيا والقمر احتفل به باسطا ضوئه من بين سماء صافية تلمع بها نجوم ضاحكة فرحة بالعاشقين..
غرفتهم ضمتهم باقي الليل وهو يحاول منحها تعويض عن الأيام السابقة
جذبها لأحضانه بعد أن أشبع نفسه من الفانيليا ووضع قبلة على جبينها "انا أيضا صغيرتي.."
لم تفهم وهي ترفع وجهها له والتساؤل اخترق نظراتها "أنت ماذا حبيبي!؟"
سقطت الزرقاء الصافية على ملامحها البريئة التي لم يعشق سواها، سكون الليل بعيونها يمنحه راحة لم يعرفها، هدوء وسكينة بعد خوض عاصفة هوجاء اقتلعته من جذوره وهي من أعادته لها..
السكن..
الوطن..
الاستقرار
"افتقدتك جدا ملاكي، هل غفرت لي صغيرتي؟"
قبلت صدره برقة تملأ قلبه بالهواء النقي، تمنحه أنفاس تزيده حياة فوق حياته "غفرت لك صغيرتك"
عاد ووضع قبلة على جبينها والصمت منحهم لحظة سكينة، الحب ليس بحاجة لكلمات، يكفي همس القلوب
"متى موعد دورتك القادمة ليال؟"
اندهشت من السؤال، ما زال الوقت بعيد سيمكنهم الاستمتاع معا كثيرا "بنهاية الشهر هارون"
ورفعت وجهها له ولم ينظر لها، كان يرى صورة أخرى، صورة حية له ولزوجته بالحديقة وطفلان، ثلاثة أو حتى أربعة بالعيون الزرقاء أو السوداء يمرحون حولهم
عائلة، عائلته هو من دمه، جزء منه ينتمون له وينتمي لهم وهي بجواره، بين أحضانه لا يفرقهم سوى الموت
"ماذا لو لم تأتي ليال!؟"
ظلت تحدق به بلا فهم، أو ربما لم تفكر كما يفكر هو "لا أفهم هارون"
وضعها على الفراش وارتفع بجوارها مداعبا خصلات شعرها وما زالت يداها على صدره وسلسلته تتدلى من عنقه "الحمل ليال، أن تكوني حامل، ألا ترغبي بأولاد مني؟"
يدها ثبتت على صدره، بالطبع فكرت وبكت يوم رأت دورتها ولكنها لم تظن أنه يفكر مثلها، كتمت أحزانها داخلها ولم تخبره بشيء خاصة وأنه ابتعد وظنت أنه سعيد لذلك..
"لا توجد امرأة لا ترغب بأن تكون أم هارون هو أنت من لم تهتم وقت عرفت أنني لست حامل فظننت أنك.."
وضع إصبعه على فمها ليوقف الكلمات قبل أن تخرج "كل ما أتمناه إكمال الحلم ليال، الحلم بدأ وأنا بالعشرين، الزعامة وعائلة، عائلة من رجال كلهم إخوة لي ثم رأيتك ونما الحلم لعائلة من نوع آخر، عائلة من دمي، زوجة هي أنت وأولاد منك"
سقطت دمعة على وسادتها من كلماته التي لمست قلبها، تؤلمها.. وتسعدها
راحتها ملأت وجهه وعيونه تمنحها نظراته المحببة لقلبها "كيف يمكن لشخصان أن يحلما نفس الحلم ولم يعرفا بعضهما هارون؟ لقد حلمت نفس الحلم ورغبت بنفس العائلة ومعك وأولاد منك، أريد أولاد كثيرة هارون، أولاد لا تعرف الوحدة والخوف وبرودة الليل، أولاد تنمو بين حنانك، قوتك وأمانك، ينالون حب الأب وحنان الأم، أولادنا"
قبلة طويلة كانت توقيع الاتفاق، تحويل الحلم لحقيقة، مشاركة شيء تشاركاه بالمجهول والآن يشاركاه معا بالواقع..
"لنجعله واقع صغيرتي، بكل مرة من الآن سندعو أن تكون بذرتي بأول مولود لنا"
ولم ترد لأنه لا يحتاج رد منها لتكون له بل لمسة واحدة منه يجعلها امرأة راغبة به وليس لها رغبة سواه وهو منحها كل ما يمكن لرجل أن يمنحه لامرأته وهي ليست أي امرأة، هي
صغيرته، حبيبته، ملاكه..
هي الفانيليا..
****
هل يمكن الوصول للقمة بزهو وانتصار وبلحظة يتهاوى كل شيء محطما بالقاع
سقوط جماعي، ضربة موفقة من لاعب احترافي فقد احترافيته بلحظة تهور بسبب العسلية
"لماذا لا يجيب أحد!؟"
جامد الملامح لا يزحزحه شيء والعسلية ذابت من حرارة ألم الإهانة، بكائها ملأ الغرفة والأرض احتوتها واليأس فتح ذراعيه لها ونظرات علي لم تتركه وهو لا يفهم شيء
نبرة الغضب فقط هي كل ما رن صداها بالمكان مجاورا لصوت بكائها والعابث يبحث عن ثغرة كي يفر من دفاع الخصم ويسدد هدفة بنجاح لكن الدفاع قوي تلك المرة ولا يمكن اختراقه
هو والده.. الرجل الذي استعاده بعد فترة طويلة من الضياع ولن يفقده مرة أخرى
بلحظة كان أمامه "بابا ما الذي أحضرك!؟ كيف تركت فراشك!؟"
قتامة العيون تتحدث عن دواخل أصحابها، ترك نظرات العابث وتحركت عيونه للضائعة الملقاة على الأرض مستسلمة لبكاء هستيري لا يتوقف
"صوتك وصوتها وصلا غرفتي والجرس لا يعمل، ما الذي بينك وبينها يجعلها تطالبك بأن تتركها؟"
تجهم العابث ولا مجال للعبث الآن، المواجهة حادة وقوية والدفاع يجب أن يكون مقنعا وقاطعا لأي شك
"لا شيء بابا لا تشغل بالك بالأمر"
دفعه الرجل بيده ولم يتوقع رشدي تحرك والده تجاها وهو يحيطها بيداه مساعدا إياها على النهوض وهي لا ترى أحد، دموع أغرقت وجهها وغشت الرؤيا أمامها وصدى صوت يأمرها بترك كل شيء والفرار لمكان لا يراها به أحد
ولكن..
لا مكان لديها لتذهب له.. لا أموال.. لا أوراق شخصية ولا أي شيء
هي أصبحت لا شيء..
كادت تسقط من العجوز فانتبه واستعاد إدراكه فتحرك لها نازعا إياها من يد والده وحملها للفراش والتفت ليرى والده يمسك ببعض الماء فتجمد لاهتمام الرجل
"ماذا بك رشدي؟ امنح الفتاة بعض الماء لتستعيد بعض الهدوء"
نبرة الرجل أيقظت داخله العقل الذي سقط تحت وطأة شيء لم يفهمه منذ رآها قريبة من العجوز..
بالفعل منحها الماء، كعادتها.. تنهار بسرعة وتسترد نفسها بمذاق العصير أو بعض الماء.. وبكل مرة العابث هو قائدها
"أحلام هل تسمعيني!؟"
الوسائد خلفها منحتها نصف جلسة وهي تستعيد نفسها وتراه منحنيا عليها ونظراته الجامدة لا تعني أي شيء
أبعدت وجهها ولم ترى العجوز الواقف خلفه وهي تقول "ابتعد عني، لا أريد أن أسمعك أو أراك"
قبل أن يبدي أي رد فعل صوت والده ذكره بوجوده "كيف تخاطبك بتلك اللهجة؟ ماذا فعلت لها لتتحدث معك هكذا رشدي؟"
انتبهت للرجل واعتدل هو ونظراته على والده بلا رد، الآن مواجهة مبكرة كان عليه وضعها باعتباره يوم أحضرها هنا..
هل يخبر والده أنه تزوج من فتاة لا أصل لها ولا فصل، عرفي؟
هل يخبره أنه أحضرها هنا بدلا من أن يمزق ورقتها ويرسلها بعيدا وقد انتهى منها؟ لكنه لم ينتهي ولا يستطيع إرسالها بعيدا
ما زال يريد العسلية.. التحلية
"بابا هل تعود غرفتك ولا تشغل بالك بها؟"
ضاقت نظرات الرجل على ابنه، شهقاتها جعلته يتحرك ليظهر أمامها ويلتقي بنظراتها الشاردة "ماذا فعل بك؟"
ارتجاف جسدها كان دليل على الخوف، الحيرة والضياع.. توقفت كل وظائفها العقلية عن العمل.. لحظة تيه تفقدها الرؤية والتفكير لكن نظرات الرجل تعيدها للصواب..
مريض قلب.. جراحة لم تتخطى مرحلة الخطر بعد، زواج عرفي قد ينسف كل شيء
"لا شيء حضرتك، هو لا يوافق على الراتب الذي أحتاج له"
زاد تجهم وجهه، ارتفعت أنفاسه.. أكلها بالرمادية وهي لا تهتم.. هل تتراجع رغم كل ما فعله بها؟
كان يمكنها إخبار والده كل شيء وتحقق فرصتها بالذهاب فلن يبقيها هنا يوما لو أخبرته
صمت الرجل لفه بالحيرة.. ماذا يعني صمته!؟
"امنحها ما ترغب به رشدي فهي تستحق"
وارتفع الرأس لمواجهة الابن الضال ومحاولة استعادته.. منحه أول الطريق الصواب وتركه يهرول إليه
"هل تترك لي الأمر وتعود غرفتك؟ أنت بحاجة للراحة"
الهدوء سمة العظماء فقط.. من يمكنهم التحكم بالغضب والتهور والعجوز اكتسب خبرة لا بأس بها من سنوات عمره لذا اقترب من ابنه، واجه نظراته، جموده وحتى الجدية المناقضة للقب العابث
"وأنت بحاجة لإجادة التفكير بعيدا عن العبث، ثلاثة وثلاثين عاما تجعلك تدرك أن العبث لم يعد طريق جيد وإنما الجدية وتقرير المصير أولى"
وتحرك خارجا ورشدي لا يتبعه حتى بنظراته وهي انكمشت بالفراش غير مهتمة بحديثهم، رأفت بالرجل المريض فلو علم بالعرفي وقصتهم لسقط منتهيا وهو لا يستحق منها ذلك
صوت الولاعة لم يجذبها ولا رائحة احتراق التبغ فقط كلماته "من الجيد أنك لم تحكمي على نفسك بالضياع"
لم تنظر له وكلماته لا تعني شيء "لأني بالفعل ضائعة"
نفخ الدخان، ولم يحرك يده بل جمد، كلماتها صفعات متتالية وهو لا يتراجع "ووجودك هنا هو النجاة ولو أصابه شيء.."
هل يصدق ما يقول؟
"وهل تهتم بأحد غير نفسك؟"
أنت الجنون يا امرأة، الممر المظلم بحياتي ولا أعرف كيف أتجاوزه ولا كيف أجذب الضوء له..
"شيء لا يخصك؟"
التفتت، دموعها لم تهزه أمامها.. شحوب وجهها أتعبه لكنه الجامد الذي لا يلين "معك حق، أنا بالأساس لا أهتم، فقط والدك لا يستحق مني ذلك.. لا يستحق أن يعرف أن ابنه استغل أزمة فتاة بريئة معرضة لقضية دعارة وساومها لتوافق على الزواج العرفي ونجح، أجبرتني على العرفي وأنت تعلم أني أكرهك وسأظل أكرهك"
كلماتها ترددت لكن بصوت آخر، صوت رجولي واهن، مصدوم، جعلت كلاهم يلتفت لمصدر الصوت والعجوز يقف ممسكا بمقبض الباب ووجه أبيض برحيل الدماء منه
قبل أن يصل له الاثنان عندما وضع يده على صدره واتسعت عيونه ولم يلحق رشدي بجسد الرجل الذي تهاوى على الأرض