رواية سفينة نوح
الفصل السابع 7
بقلم سلمي خالد ابراهيم
صلوا على الحبيب🤎🌻
( صفعة الحقيقة)
أبي عزيزي..
بالرغم مما تفعله بيّ إلا أنني أنتظر كلمة حنونة منك تمحي ندوبي، لا أعلم هل بإمكاني أن أنال ضمة صغيرة منك أم لا، ولكن اليوم حصلت على إجابتي منك، فهي لا وألف لا.
لقد ظلمت شقيقتي من أجل أن يصلني ظلمك بأبشع الصور، فكيف لعقلي السذاج أن يخلق مشهد صغير لم ولن يحدث مادامت الحياة بيننا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضع يده على وجهه يخفي ملامحه المجهدة، يلامس عظم وجهه البارز بشدة أثر رفض لتناول الطعام فقط يكتفي ببضع لقيمات التي تقيده بهذه الحياة، أرهف حسه واستمع لصوت خطواتٍ تتقدم نحوه، علت بسمة ساخرة على شفتيه ثم رفع بصره ينظر نحو هذا الصهيوني الدنيء ينتظر سماع صوته الذي لطالما كرهه، يرى ملامحه التي تبتسم بشرٍ وتلذذ لسماع أخبار الدمار بالوطن العربي، أنحنى قليلًا يقرب أنفاسه به حتى شعر الأخر بالاختناق وكأن أنفاسه غاز سم يقتله!
_ أتعلم لقد أشتقت للعب مع المصريين، مضى سنوات كثيرة لم ألعابهم هؤلاء الثعالب الماكرة.
أشاح بوجهه بعيدًا ينظر لجهاز الحاسوب أمامه، بينما عاد الأخر يسترسل بتلذذ وهو يرى الأضطراب واضح على معالمه:
_ تلك المرة ليس شخصًا عادي بل المقدم نوح نصار.. ذلك الثعلب الماكر.. حقًا ظننت أنه ترك اللعب ولكن يبدو أنه استعاد حيويته والغريب أنه اجتمع مع فتاة لم أحبذ أن يراها ولكن ماذا نفعل بالقدر..
صمت يوقف كلماته قليلًا يزيد من اضطراب هذا القابع أمامه، وبالفعل استدار له ينظر بأعينٍ مضطربة، ملامحه تتجعد بخوفٍ من نطق اسم الفتاة، ابتسم بخبثٍ يشعر بانتشاء لوصوله لتلك الحالة ليعلق باسمها:
_ ذكريات نادر الشرنوبي.
انتفض من مقعده بخوفٍ يحرك رأسه برفضٍ، يردد بنبرة مرتجفة:
_ أرجوك أتركه.. لا تفعل بها شيء!
حرك كتفيه بالامبالاة يجيبه بمكرٍ يمتلكه ببراعة:
_ صدقني يا عزيزي أنا لم أحبذ الإقتراب منها ولكن كل الظروف تجتمع ضدها.. والدها.. وأنت.. والمقدم نوح نصار.. جميعكم تدفعوني لمقابلة تلك الفتاة العربية.. إلى اللقاء يا عزيزي.
استدار يغادر الغرفة يغلق الباب باحكام، بينما تيبس جسد الأخرى بشدة، يشعر بتجمد الدماء بعروقه، لابُد من حماية ذكرى وإلا سيضيع كل ما فعله ليصل أمر القضية إلى نوح فبدونها لن يكملوا تلك القضية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ ليه؟
نط فكها بعدما تحرر من جمودها بثلاثة حروف متشابكة تنهي ما يبحث عقلها عنه، لعل سببه يشفع له، أرادت إجابة عن سؤالٍ لطالما كان أكبر علامة استفهام بحياتها المريرة، رفعت حدقيته تتأمل ملامحه، ثم ارتسمت سخرية على وجهها وهي ترى الشبه بينهما، ربما للحظة ظنت أنها ليست ابنته! فأي أب يفعل يتبرى من ابنته بتلك الطريقة المهينة!
تجمدت خلاياه ينظر لملامحها المتعطشة للإجابة، ترتخي قبضته عن حجابها ببطءٍ وكأنها ضغطت على زر أخرج شيءٍ من صندوقه الأسود، عادت ذكرى تسترسل بنبرة مختنقة تحمل مرارة سنوات ذاقت جفاؤه معها:
_ ليه بتعملي فيا كده؟ إيه الذنب اللي من وأنا لحمة حمرا عملته يخليك نابذني بالشكل دا!!
شريط ذكريات مريع مر أمامه، يعيد إحياء ما حاول دفنه بقوةٍ، نفض رأسه ينظر لها بكراهية شديد ناطقًا بكلماتٍ لاذعة:
_ بكرهك وهفضل أكرهك..
ربما سمع صوت حطام قلبها بكل قسوة بعدما هبطت كلماته كحجرٍ حاد ليحطم هشاشة تلك القطعة الحمراء تضخ الدماء، نبذها بعيدًا ينظر لها بعدائية وكأنها عدو يحتل مكانه، يردف بفحيحٍ مخيف:
_ عمرك ما هتبقي بنتي يا ذكريات هكون أبو المرحومة ذكرى.
ابتسامة شاحبة علت شفتيها، تنظر نحوه باستسلام لازالت تفترش الأرض، جفت دموعها وبات كل شيء بارد مخيف حولها، رفع نادر مسدسه بمواجهتها يوجه فاه نحوها عقله لا يضع مبرر حتى أن تلك القابعة أمامه ليست سوى ابنته، كاد أن يطلق ولكن وقف درع حامي أمامها ينظر له بشراسة مخيفة قائلًا:
_ جاي قدام بيت نوح نصار ترفع سلاحك يا راجل..
قاطعته ذكرى تمسك بقدمه قبل أن ينطق لسُبة لاذعة تهتف بمرارةٍ:
_ أرجوك لاء.. دا نادر الشرنوبي..
نظر لها بجمود ينتظر تكملة جملتها لتهتف بنبرة مرتجفة:
_ أنا اسمي ذكريات نادر الشرنوبي.
لم تقوَ على لفظها وأخباره ( إنه والدي) لم تختبر هذا الشعور فقط عاشت اليُتم منه، زفر نوح باختناقٍ يعود بنظره نحو نادر الذي احتقن وجهه بغضبٍ من تحكم هذا الدخيل ليعود ويسترسل بنبرة قوية تحمل تهديد صربح:
_ أمشي من هنا قبل ما أنسى إنك أبوها وأتعامل على إنك مجرم جاي يهجم علينا.. ومتفتكرش إنك هتقدر تقربلها وهي معايا!
نظر بتمعنٍ فلم يشعر سوى بقدرته على التنفيذ ليعيد سلاحه مجددًا داخل جعبته يهتف بنبرة مخيفة:
_ هجيلك تاني يا.. ذكريات.
غادر تاركًا إيهما بوجوم يعتري ملامحه، بينما نظر نوح نحو ذكرى التي لا تزال تفترش الأرض وإلى جوارها بعض الكُتب المبعثرة، فهم على الفور سر حضورها، ليهتف بهدوءٍ رغم حالة الفضول التي تلبسته ليعلم سر وقوف والدها أمامها بتلك الطريقة:
_ قومي يا ذكرى عشان أروحك.
حركت رأسها برفضٍ شاحب، تنهض من الأرض سريعًا لتغادر من أمامه ولكن زجرها نوح بغضبٍ:
_أستني عندك.. أنتِ هتمشي بالمنظر دا؟؟
رفع سبابته يشير لخصلات شعرها المتمردة، لتضع يدها بتلقائية على رأسها تتبين حديثه، وسرعان ما جحظت حدقتيها بعدنا لمست خصلاتها، تهتف بارتباك محاولة إخفائها عن نظراته:
_ أنا.. أنا معرفش دا بتأكيد لـ.. لما نادر بـ.. بيه مسكني من شعري.
ابتعلت مرارة حديثها بعدما اختتمت جملتها، ليزفر نوح بانفعالٍ حاول السيطرة عليه، يشير لها بأن تصعد إلى الشقة لديه يردف بهدوءٍ حاول السيطرة عليه حتى لا يتبخر يلملم الكتب من حوله:
_ أطلعي يا ذكرى ظبطي حجابك ولمي شعرك وكده كده أنا عايز اتكلم معاكِ.
أومأت بموافقة سريعة للهروب من أمامه، تركض نحو العمارة بخطواتٍ مرتجفة، حتى وطأة قدمها داخل العمارة لتسيل دموعها بغزارة، تشعر بنقصٍ مريع داخلها، وضعت يدها على خصلاتها المموجة المتمردة خارج الحجاب بقهرٍ لما فعله، فأي قلبٍ يفعل بها كل هذا ويجعلها تقع تتعرى بدلًا من أن يسترها!
وصلت أخيرًا للطابق المطلوب تطرق الباب بضعفٍ بعدما خانتها قوتها، تتمالك دموعها كي لا تسيل بغزارة كما حدث ولكنها كونت طبقة طفيفة على حدقتيها مهددة بالنزول، فتحت داليدا الباب سريعًا تنظر لها بإشفاقٍ على ما حدث لها، فقد رأت هذا المشهد المريع وأيضًا تدخل نوح معها، أمسكت بكفها تسحبها للداخل ببطءٍ وحذر تخشى عليها بشدة، أغلقت الباب بهدوءٍ وهي تساعد ذكرى على الجلوس ثم مدت يدها تحاول نزع الحجاب وإعادة ترتيبه، ترى استسلامها وخضوعها التام، همست داليدا بحنوٍ بعدما غرست الدبوس بطرف الحجاب لتثبته:
_ كده بقيتي قمرين.
زحفت بسمة شاحبة لها، ثم همست ببحّة علقت بصوتها:
_ معلش تعبت حضرتك..!
عبست ملامح داليدا تأثرًا بحالتها لتردف بنبرة معاتبة:
_ تعبتني فين؟ ثم أنا طول عمري بحلم ببنت أخلفها وأعملها كل حاجة أسرح شعرها وألعبها وأخدها المطبخ سوا نعمل lunch مع بعض.
ابتسمت بمرارة تتذكر والدتها التي تركتها فريسة سهل لوالدها دون أن تبحث عنها وعن حالها، ولكن بنهاية ما بيدها ليس معها أيضًا فلا تضع اللوم عليها، جذع المشكلة منه وحده، رفعت داليدا يدها تلوح أمام وجه ذكرى تسألها بترددٍ يعتريه حنو:
_ ليه قُلتي إنك يتيمة؟
_ عشان أنا فعلًا يتيمة.. نادر بيه رماني وأنا طفلة معرفش حاجة وجدتي اللي خدتني وربتني وأمي معرفش عنها حاجة.. وكل فترة طويلة ممكن أدخل على سنة مش بسمع صوت اختي الصغيرة.. تفتكري بقى أنا كده مش يتيمة؟
إجابة صريحة تحمل حقيقة تصفعها كل يوم كلما أدركتها، بينما صمتت داليدا بعجزٍ عن الرد في مثل هذا الموقف الصعب، استمعت كلاتهما لصوت حمحمة نوح لينذر بوجوده، وبالفعل نظرت ذكرى نحوه ثم عادت تنظر لداليدا التي قالت بلُطفٍ:
_ طب أنا هروح أعمل حاجة نشربها علطول على ما نوح يخلص كلامه معاكِ.
تركتها داليدا تتجه نحو المطبخ الذي يطل معظمه نحو الردهة، بل يجلسان أسفل نظرات داليدا التي تطل بعينيها عليهما من حين لآخر، بينما وضع نوح الكتب جانبًا ثم جلس على الأريكة يهتف بهدوءٍ مبطن باهتمام:
_عاملة ايه دلوقتي؟
_ الحمدلله.
اختصرت رد طويلًا بكلمة الحمد، بينما أومأ نوح بصمتٍ، ربما كان يشعر بالضيق عندما علم بوجود والديها وكذبتها بأنها يتيمة ولكن بالحقيقة لم تكذب بل وصفت شعورها الحقيقي، لاحظ شرودها وقسمات وجهها التي تتبدل لتعاسة أكبر، عاد يحمحم مرة أخرى وما كاد أن يفتح فاه إلا أنها سبقته تردف بهدوءٍ:
_ أنا موافقة أكون معاكوا بس بشرط فُلة هتكون معايا ودا لسبب مهم هتعرف.
_ إيه السبب؟
سألها بهدوءٍ مماثل، لتبتسم بسخرية واضحة تجيبه بتهكمٍ:
_ دا على أساس بقى حضرتك معملتش تحرياتك عني وعرفت؟؟
ابتسم بثقةٍ يعيد ظهره للخلف، معلقًا بدهاء على حديثها:
_ عملت..بس مش كل المكتوب زي اللي بيتقال..فحابب أسمع منك إيه السبب؟
شعرت بالإنزعاج من جعلها تواجه الحقيقة مرة أخرى، هي تعلمها وتشعر بها كل يوم، والآن كانت بمواجهة مع والدها لأجل هذا الأمر، يكفي مواجهة إلى الآن، صمتت بملامح مكفهرة، بينما أسترسل نوح بصوتٍ رخيم:
_ عشان القلم؟
ازدردت لعابها بصعوبةٍ، هناك أشواك علقت بحلقها جعلتها ترفع كفها تربت على عنقها من فوق الحجاب، ربما تخفف حدة هذه الآلام، أغمضت عينيها تحاول كبح دموعها، تهمس باختناقٍ:
_ مش ضروري تقولي حاجة عرفها طالما عرفتها خلاص كنت سكت.
ربما أحاديثه الفلسفية ستساعده الآن، ليعلق بنبرة فلسفية غريبة لم تسمعها من قبل:
_ أرسطو في مرة قال..
" قول الحقيقة ليس صعبًا بل تقبلها هو الصعب"
أنتِ لسه مش متقبلة الفكرة يا ذكرى عشان كده مش قابلة الحقيقة تتقال قدامك وكل دا عشان سبب.
نظرت له بعدم فهم، تحاول الوصول لمنطق مفيد لما قاله، ولكن لم يدع لها فرصة يسترسل بهدوءٍ يوضح حديثه:
_ كل اللي فيه دلوقتي هو بسبب السبب، أنتِ مش عارفة ليه يعمل كده وعشان كده عقلك مش قادر يدرك حقيقة اللي أنتِ عيشاها...
تعمد عدم قول ما تمر به مرة أخرى حتى لا يقسو عليها، بينما فطنت حديثه بسرعة لقد أحضر الجذور التي تعاني منها بحديثه، لتهمس بمرارةٍ مختنقة:
_ سألته عشان أعرف بس مقالش.. مش عايز يقول ليه بيعمل كده على الأقل السبب هيشفعله!
_ غلط.. هسألك سؤال دلوقتي.. أنتِ تعرفي كل حاجة في الكون ولا لاء؟
نظرت لسؤاله الأبلة بتعجبٍ، هو جيد جدًا في انتشالها من حالة الألم لتعجب بحديثه، أجابته عندما طال صمته بهدوءٍ:
_ أكيد معرفش.
أومأ بالإيجاب لتلك الإجابة المتوقعة، ليعود باسترسال بنبرة هادئة لحد السكينة:
_ تفتكري ليه ربنا خلى سبب القدر المؤلم اللي بتعيشيه مجهول وفي علم غياب؟
لم يشرد عقلها بهذا السؤال من قبل، دايمًا تتقبل الوضع وتتكيف عليه بصمتٍ، صمتت وعقلها يدور للإجابة على سؤاله، لماذا يخفي الله سبب قدرها؟ نظرت له بتيهٍ واضح، بينما أجاب نوح بنبرة رخيمة:
_ لُطفٌ بعباده يا ذكرى.. ربنا خبى سبب عشان أنتِ للحظة دي مش قادرة تستوعبي قسوة الحقيقة اللي عيشاها دلوقتي، والسبب دا حقيقة تانية أقسى وأشد من القدر نفسه لو عرفتيهم مع بعض مش هتتحمليها.. زي بظبط الشاب اللي عمل حادثة واستأصلوا كليته واكتشف في النهاية إن في ورم خبيث فيها لو معملش الحادثة كان انتشر في جسمه.. تعالي كده نتخيل إن عرف سبب الحادثة قبل ما يعملها.. واكتشف الورم الخبيث دا وإنه كليته هتتشال أو إن المرض انتشر في جسمه.. في جميع الحالات هينهار.. لكن ربنا رحيم ولطيف بيه فخلاه يعمل حادثة دي عشان يشكر ربنا على إنه اختارله القدر دا قبل ما يعرف السبب.. أنتِ في نعمة كبيرة ربك يختارلك ولا يُخيرك ويابخت اللي ربنا يختارله.
حديثه أطفأ نيران ألمها من جهل السبب وحقيقة التي تدفع والدها ليعاملها مثل تلك المعاملة، ربما لو أخبرها بالسبب لماتت من قسوتها، فالتدع قدرها بيدي الله، زفرت بصوتٍ مسموح تهدأ ملامحها المختنقة قليلًا بارتخاء، ولكن عقلها مشغول الآن بذلك النوح! فكيف له أن يقنعها وهي لا تشعر سوى بالضيق منه، أتت داليدا لتجلس معهم بعدما أحضرت المشروب لها تقدمه بلُطفٍ ولكن هتفت ذكرى بحرجٍ:
_ لا يا طنط أنا آسفة بس مش هقدر لزمًا أمشي.
رمقتها بنظرة عابسة، بينما أرتفع صوت نوح قائلًا بهدوء:
_ بس أنتِ مش هتمشي من هنا يا ذكرى هتفضلي عايشة هنا.
أتسعت عينيها بصدمةٍ من حديثه، تنتفض من مكانها كمن لدغها عقرب تردد بغضبٍ:
_ وأنت مين إن شاء الله عشان تقولي أقعد ومقعدش.
ابتسم ببرودٍ يمسك بقدح القهوة يرتشف منه ببطءٍ ثم قال لوالدته:
_ تسلم إيدك دا أحلى فنجان قهوة شربته.
رفعت داليدا حاجبيها وعلى ثغرها بسمة متعجبة، بينما استنشطت ذكرى غضبًا من بروده، لتصرخ به متعصبة:
_ لا بقولك إيه مش عشان سمعت منك كلمتين تفتكر ليك كلمة عليا.. أنا ماشية يعني ماشية..
عاد نوح يرتشف مرة أخرى ليعلق بإعجاب:
_ الله.. تسلم إيدك يا ست الكل فعلًا.
صكت على أسنانها بغضبٍ تنظر له بشرزٍ يتطاير من عينيها، تحاول كبح لجام غضبها حتى لا تغضب والدته ولكن هو يخرج أسوأ ما بها، لم تتحمل رؤيته يرتشف للمرة الثالثة لتمد يدها تسحب هذا الفنجان الصغيرة منه قائلة بعصبية مفرطة:
_ لا بقى ما أنت مش هتطفحها إلا لما ترد عليا.
نظر لها بتسلية من رؤيتها غاضبة، ليردف بعبوس زائف أسفل نظرات داليدا الملتمعة:
_ هاتي القهوة دا فاضل أحلى بوق في القهوة.
شعرت ذكرى بالإنزعاج من بروده، لترفع القدح تشرب أخر جزء بالقهوة دفعة واحدة قائلة بعندٍ:
_ أدي أخر بوق هتموت عليه يا أستاذ نوح.
رفع حاجبيه بابتسامة واسعة، ينهض من مقعده واضعًا يده بجيب سرواله، يحرك فكيه ولا تزال بسمته عالقة على شفتيه:
_ قولي بقى إنك طمعانة في أي حاجة تخصني.
شهقت بصدمةٍ من فكرته، لترتجف يديها بقوةٍ تشعر بتخابط الأفكار داخله، لتسرع داليدا بإمساك الفنجان عنها قبل أن يسقط، في حين علقت ذكرى بحرجٍ منزعج:
_ إيه اللي أنت بتقوله دا!! أنت اللي قُلت مش هتمشيني.
أومأ بإيجابٍ، يؤكد حديثها قائلًا:
_ حصل.
نفد صبرها من طريقتها، لتنظر له بعبوسٍ واضح، ملامحها تتهجم بشدةٍ، بينما نظر نوح بساعة يده ليهتف بتسليةٍ يغمز بعينيه:
_ وصلوا المفروض.
تحرك نحو الباب عندما علت دقاته، ليرى حميدة وفُلة وسعدي أمامه، أشار لهم بالدلوف أسفل نظرات ذكرى المندهشة بشدة، ليعلو صوت نوح بتوضيح:
_ كده بقى أقول اللي عندي بدل ما أعيد الكلام مرتين.. وزي ما بيقول المثل لو صبر القاتل على المقتول كان مات لوحده.. صح ولا إيه يا ذكرى أنا عارف إنك شاطرة في الأمثلة أوي.
نظر لذكرى بمكرٍ يحاول كبح ضحكته بعدما رأى تهجم وجهها بضيقٍ، فلو أخبرها لانتهى الأمر ولكن كيف وهو نوح نصار الرجل الغامض، استرسل نوح بنبرة جدية بعيدة تمامًا عن حديثه المرح مع ذكرى:
_ بعد ضرب النار اللي حصل أو اللعبة اللي عملوها كان لزمًا نأمن على كل معارفنا وعشان كده ذكرى وفُلة ومدام حميدة هيعيشوا مع والدتي داليدا هانم، وأنا وسعدي وسفيان هنعيش في الشقة اللي في الوش ودا لإن المكان متأمن كويس..
كادت أن تعترض ولكن أوقفها نوح يردف بهدوءٍ:
_ قبل أي اعتراض من حد كل واحد فيكم اتعرف شكله وبقى نقطة ضغط علينا وللأسف لحد دلوقتي الشخص اللي بيعمل كل دا مش معروف وعشان كده مضطر نتجمع عندي لإن دا أأمن مكان لينا ولحد ما نأمنكم كويس هتفضلوا هنا.
زفرت ذكرى بضيقٍ، بينما ربتت فُلة على يدها بحنوٍ لتزيح قليلًا من همها، نظر نوح نحو سعدي قائلًا بجدية:
_ يلا بينا نسيبهم براحتهم.
أومأ سعدي بموافقة ثم تحرك مع نوح ليغادرا الشقة، بينما نهضت حميدة تتجه نحو داليدا قائلة ببسمة متسعة:
_ أنتِ أم نوح؟
تعجبت داليدا من نعتها بأم نوح، ولكن نوعًا ما أعجبها الاسم، لتومئ ببسمة صغيرة تزين ثغرها، ولكن شهقت بصدمة عندما ضمتها حميدة سريعًا تردد بحماسٍ:
_ أيوة كده عايزة أعمل حزب لينا ونقعد نرغي بدل ما وشي في وشي الغدنفر بتاعي.
_ sorry مين غندنفر دا?
سألتها ببلاهة واضحة، لتجيبها حميدة بفخرٍ:
_ سعدي ابني.
اتسعت عين داليدا عندما علمت هويته، ثم أطلقت ضحكة رنانة على تعليقها، بينما ابتسمت كلًا من ذكرى وفُلة على طريقة حميدة وسرعتها في صنع هذه الأجواء اللطيف، تأملا شكلها وهي تهتف بنبرةٍ جادة:
_ بينا بقى على المطبخ أنتوا التلاتة نعمل غدا حلو ولا إيه يا أم نوح؟
أومأت داليدا بإيجاب تردف بلُطفٍ:
_ absolutely.
عقدت حميدة ما بين حاجبيها تسألها بتعجب:
_ مين باسك؟؟
فرغ فاه داليدا بعجزٍ عن الرد، بينما أسرعت ذكرى تترجم لها سريعًا:
_ لالا يا خالتي هي قصدها بالتأكيد بس هي بتتكلم انجليزي شوية.
أومأت حميدة بفهمٍ ولكن لم تكترث للأمر، ثم أنطلقوا جميعًا نحو المطبخ ليبدأوا بإعداد طعام العشاء.
***************
حالة من الضياع أصابتها، هل كانت ابنة مقصرة لتلك الدرجة فلم تستطع لفت انتباه والديها أو حتى تعويضهما؟ ألهذه الدرجة كانت نكرة لا يحق لها الحديث؟ بالطبع هي السبب فلو كانت ابنة جيدة لَمَ وقعت والدتها هكذا في ضحية لشعورها بالنقص..!
مد سفيان يده بعلبة العصير لعلها تهدأ بعدما كسر باب الشقة ووجدها بحالة إنهيار تام إلى جوار والدتها فحمل جميلة منطلقًا بها للمشفى، علق ببسمة هادئة:
_ أتفضلي يا آنسة هند.
نظرت له بضياع حقيقي، تحدق بعلبة العصير ثم قالت بشيءٍ من الضياع:
_ هو أنا السبب صح؟ أنا اللي مكنتش بنت كويسة تعوضها؟
يا الله لوم الذات هذا قاتل!، ارتفع صوت سفيان يلفت انتباهها قبل أن تغرق بافكارها مميتة:
_ لا أبدًا مش كل حاجة ضرور...
قاطع حديثه صوت غليظ خشن، يحمل قسوة مريبة:
_ جميلة حصلها إيه أنطقي؟ ومين كسر باب الشقة!
نظرت له هند بخوفٍ، يرتجف جسدها بوضوح، تحاول تكوين جملة صغيرة ولكن خانتها الكلمات وهربت من بطشة أبيها، زجرها نادر بحدةٍ يصرخ بها بنبرة منفعلة:
_ أخلصي مين اللي كسر الباب!
نظر سفيان لما يحدث بصمتٍ، فطريقة نادر ليست طبيعية، لو أحد مكانه لأظهر قلقه أولًا!، زفر بصوتٍ مسموع ثم قال قبل أن يصرخ نادر مجددًا:
_ أنا يا فندم.. شوفت الأنسة من البلكونة بتستنجد بحد وطلعت كسرت باب الشقة وجبت مدام جميلة هنا.
نظر له بحدة مخيفة، يبتسم كاشفًا عن أنيابه، فقد أخبره أحد رجاله الذي يراقب العمارة بوجود شاب يصعد بهرواله للعمارة وكأنه يعلم من بداخلها ولكن لم يتبِن من هو، علق بفحيحٍ مخيف:
_ شايفني برياله عشان أصدق البوقين دول؟ مش أنت اللي جيت بالعربية جري بعد ما ال*** دي رنت عليك..
تقدم نحو سفيان بطريقة همجية ثم رفع قبضته ولكمه بقوةٍ في وجهه، تراجع سفيان واضعًا يده على فمه بألمٍ يرى بقع دماء تلوث يده، ليهتف بألمٍ:
_ آه يابن الشرنوبي.
رفع بصره بوجه نادر ثم تحرك بعيدًا عنه ليغادر المشفى، بينما أدار نادر وجهه نحوها قائلًا ببسمة مريبة:
_ حسبنا في البيت.
ارتعد جسدها بل وخانتها دموعها عندما رأت عينيه، لن يرحمه سيفرغ غضبه بها، لابد أن تفر منه، بدأت تتراجع للخلف شيءٍ فشيء حتى ابتعدت عنه ولكن ارتفع صوته يناديها لتزيد من ركضها بقوةٍ نحو الخارج لا تريد الجلوس معه فوالدتها لو لم تكن على قيد الحياة لكان نادر قد قتلها منذ زمن، خرجت من المبنى بأكمل تتخطى البوابة الرئيسية دون أن تعي أن هذا الطريق مليء بالسيارات ولا بُد من النظر جيدًا حولها قبل أن تتخطاه، فـ هيهات والذعر تلبسها وكأن هناك وحش مخيف يركض خلفها، ركضت تعبر الطريق ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن ليحتضن جسدها الصغير سيارة بقوةٍ ثم يندفع بعيدًا حتى اصطدمت بالرصيف أصدرت صرخة أخيرة قبل أن تختفي الرؤية وتفر هاربة من هذا الوقع المخيف!!!
************
غادر الطبيب الغرفة التي تقبع بها جميلة، تتجعد ملامحه بآسى على حال تلك السيدة، فقد رأى دموعها تسيل ولكن تأبى النهوض، قابله نادر ينظر له بجمود قائلًا:
_ مراتي عاملة ايه؟
نظر الطبيب بتقيم ثم قال بحيادية:
_ المدام دخلت في غيبوبة لكن في الغالب مش سكر دي نفسية رافضة ترجع للواقع تاني.
أظلمت عين نادر بقوةٍ، هي الوحيدة السبب بما حدث لجميلة زوجته، لن يتهاون معها سيعذبها كما حدث معه، سينهال بالضرب عليها، أصبحت جميع خلاياه ترسم اسم ذكريات وما سيفعله بها، ولكن أولًا لابُد من أن يزيح هذا الدخيل من طريقه، أمسك هاتفه يتحدث بنبرة قاسية:
_ تروح دلوقتي تقدم بلاغ في اللي اسمه نوح نصار إنه خاطف ذكريات نادر الشرنوبي أنا عايز أرجع بنتي لحضني تاني!
